12‏/07‏/2014

الحوار في الاسلام

عقيل سعيد ملازادة 
يعتبر الحوار، هذه القيمة الحضارية والأخلاقية، من أهم مرتكزات الازدهار والنهوض، حيث يرقى بالمجتمعات إلى أرقى درجات الكمال والتقدم. وتزداد أهمية الموضوع في وقتنا الراهن في التقليل من شق الخلافات وتقريب الآراء، خاصة في البلدان التي تحتوي على قوميات ومذاهب متعددة مثل العراق. وفي ديننا الإسلامي يعتبر الحوار ركيزة أصلية من ركائزه، وأصل من أصول هذا الدين الحنيف، وهو مطلب إنساني لا غنى عنه، كما أنه أسلوب الأنبياء (عليهم السلام) في التبليغ والدعوة، فقد انتشر الإسلام بالدعوة والحوار والكلمة الطيبة، مما أوصله إلى أقاصي الدنيا. وكثير من الشعوب دخلت في الإسلام بالحوار، وبذلك يعتبر الإسلام (دين الحوار والإقناع). لكن سرعان
ما تراجعت هذه القيمة المهمة في حياتنا وأدبياتنا وتعاملنا مع بعضنا البعض، أو مع الآخرين، لتخلق نوعاً من الاضطراب والخلل في كيان الأمة، وعلى كافة المستويات، حيث إن الكثير من مشكلاتنا الداخلية والخارجية، التي تعاني منها مجمعاتنا اليوم، يمكن الخروج منها باعتماد الحوار. وقد أثبتت تجارب الأمم والشعوب أن تقدم الأمم وازدهارها الحضاري يكمن في قوة إيمان هذه الأمم بمنطق الحوار، ومدى تهيئة السبل لانطلاقه في جميع مرافق الحياة. وتأتي أهمية الموضوع في إبرازه كمبدأ أساسي في السلم وازدهار المجتمعات، وكمنهج قرآني تبنّاه الرسول "صلى الله عليه وسلم" في عهده، والخلفاء من بعده، وهو مهم في معالجة القضايا الداخلية، حيث يمكن من خلاله تقليل شقة الخلاف، وجمع القلوب وتضييق مساحات الخلاف بين الأطراف المختلفة. 

أولاً: حول مفهوم الحوار: 

الحوار (Dialogue) في اللغة، هو مراجعة الكلام بين طرفين متخاطبين. وأصل الكلمة من "الحَور" بفتح الحاء وسكون الواو، وهو الرجوع عن الشيء، وإلى الشيء، حار إلى الشيء، وعنه حَوراً ومحاراً و مَحَارَةً وحُؤُراً: رجع عنه وإليه. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة"(1). وقد وردت هذه الصيغة في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: الأول: في قصة أصحاب الكهف: [وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً] الكهف/ 34. الثاني: في السورة نفسها: [قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا] الكهف/ 37. الثالث: في صدر سورة المجادلة، في قصة المرأة التي جاءت إلى النبـي تشتكي زوجها: [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] المجادلة/1. وفي هذه المواضع الثلاثة جاءت كلمة الحوار بالمعنى المشار إليه، وهو مراجعة ومداولة الكلام بين طرفين. أما في السنة النبوية، فقد وردت مادة (الحوار) في أكثر من حديث شريف، وكلها جاءت مطابقة لمعناها اللغوي، منه قوله: "ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه .."(2). قال النووي في شرح هذا الجديث: "حار عليه، وهو معنى: رجعت عليه، أي: رجع عليه بالكفر، فباء وحار ورجع بمعنى واحد"(3). خلاصة القول: إن الحوار والمحاورة في اللغة يستعملان لمعنى واحد، وهو مراجعة الكلام بين طرفين، والتجاوب والمرادة بينهما بواسطة الكلام، وبهذا يستوعب المصطلح كل معاني التخاطب والسؤال والجواب. 
أما الحوار اصطلاحاً، فهو تبادل الكلام بين طرفين، بهدف الوصول إلى نقاط الالتقاء، في أجواء يغلب عليها طابع الهدوء والاتزان. يقول الشيخ عبدالرحمن النحلاوي: الحوار "هو أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر، عن طريق السؤال والجواب، بشرط وجدة الموضوع أو الهدف، فيتبادلان النقاش حول أمر معين، وقد يصلان إلى نتيجة، وقد لا يقنع أحدهما الآخر، ولكن السامع يأخذ العبرة، ويكّون لنفسه موقفاً"(4).

الجدل وعلاقته بالحوار: 
الجدل أو الجدال، أصله من لفظ "جدل"، ويعني: "المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله: جدلتُ الحبل، أي: أحكمت فتله، ومنه: الجديل"(5). وعند علماء اللغة يطلق الجدل على معان عدة، أهمها: الصراع والغلبة، والخصومة، والاتقان والإحسان(6). يقول الإمام الغزالي في (الإحياء): "المجادلة عبارة عن قصد إقحام الغير وتعجيزه وتنقيضه، بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه"(7). وقد وردت مادة (الجدل) في تسعة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم، كلها جاءت بالمعنى المذموم، إلا في أربعة مواضع هي: 1- [فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ] هود: ٧٤. 2- [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] النحل: ١٢٥. 3- [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] العنكبوت: ٤٦. 4- [قدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير] المجادلة: ١. أما بقية المواضع في القرآن، فجاءت كلمة الجدل في سياق عدم الذم، أو عدم جداوه. ويتضح من ذلك، أن القرآن الكريم يذكر الجدل في مواضع على أنه منهج عقيم، لا يصدر عنه حق وصواب، وفي مواضع أخرى يأمر به كضرورة لها ما يقتضيها، ولكن بشرط أن يكون منهجياً، خالياً من إثارة الأحقاد والفتن. أما عن علاقة الجدل بالحوار فإن كلاهما يلتقيان في أنهما حديث بين طرفين، ولكنهما يفترقان في أن الجدل غالباً ما ينحو منحى الخصومة، والشدة في الكلام، والتمسك بالموقف، وينحو منحى الإملاء على الطرف الآخر. أما الحوار فهو مجرد مراجعة الكلام بين طرفين، دون أن يكون بين هذين الطرفين ما يدل على خصومة بالضرورة، ويغلب عليه عادة طابع الهدوء والاتزان. ولهذا نلاحظ أن الجدل في القرآن الكريم جاء غالباً بالمعنى المذموم، وفي المواضع التي جاءت بمعنى غير ذلك، جاءت قريبة من معنى الحوار، كما في قوله تعالى: [قدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير] المجادلة: ١. 



ثانياً: أهمية الحوار في القرآن الكريم:

 كتابُ الله الذي لا تنقضي عجائبه، أنزله ليهدي البشرية إلى أفضل غاية، وأقوم طريق: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] الإسراء: ٩، فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المطلوب دراسته وتأمله بوعي وبصيرة، وكذلك الاحتكام إليه في كل القضايا التي تواجه المسلم في كل زمان ومكان. وأسلوب القرآن بكل تفاصيله ذو طابع خاص خالد، حيث لا يمكن أن يقاس عليه أنواع الكلام وأساليب التأليف، مما جعله فريداً وحافلاً بكنوز المعرفة من كل لون وفن، ومن هذه الأساليب أسلوب الحوار الذي أعتمد عليه القرآن الكريم في "توضيح المواقف، وجلاء الحقائق، وهداية العقل، وتحريك الوجدان، واستجاشة الضمير، وفتح المسالك التي تؤدي إلى حسن التلقي والاستجابة، والتدرج بالحجة، احتراماً لكرامة الإنسان، وإعلاءً لشأن عقله، الذي ينبغي أن يقتنع على بيّنةٍ ونور"(8). هذا الأسلوب الذي نفتقره في حياتنا اليومية، وعلى أكثر من صعيد. فكثير من المشكلات والمصائب التي أصابت الأمة، وشتت طاقتها، وأخرتها عن موقع الصدارة، كان من الممكن أن نتجنبها، أو على الأقل أن نقلل من آثارها، لو لجأنا إلى هذا الأسلوب والمبدأ القرآني المهمم، الذي نجد له مساحات واسعة في كتاب الله العزيز، حيث ترشدنا آيات كثيرة إلى هذه الحقيقة ... وقد قدم القرآن الكريم نماذج من الحوارات مع المخالفين، في مختلف العصور والبيئات، بطرق مختلفة، ومع أطراف مختلفة. وفي كل الأحوال كان الله قادراً على أن يسكت الأطراف، لكنه (سبحانه وتعالى) أراد أن يرسي هذا المبدأ الحضاري: أنه لا سبيل إلى حل قضايا الاختلاف، والتعامل مع المخالفين، إلا بالحوار والجدال بالتي هي أحسن، لأنه السبيل الوحيد لإيصال القناعات، وفتح قنوات الاتصال مع الآخرين، في سبيل هدايتهم وإرشادهم، لأن القوة هي عقوبة للمصرين على الباطل بعد سطوع الحق، لتكون وسيلة لإعادتهم إلى الحق وإلى مائدة الحوار. 
وهكذا كان أسلوب الأنبياء، في دعوة أقوامهم، كما يقصه القرآن الكريم، مثل حوارات إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه ومع قومه، وحوار نوح (عليه السلام) مع قومه، وشعيب (عليه السلام) مع قومه، وموسى وعيسى (عليهما السلام) مع أقوامهم، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين. فالنص القرآني نص حواري يعترف بالآخر، ويفسح المجال له لكي يختلف ويعبر عن نفسه، حيث سجل القرآن الكريم أقوال المعارضين وشبهاتهم الفاسدة من الأمم الخالية حول دعوة الله (عز وجل)، وعلى مختلف الأصعدة، سواء مواقفهم العقدية من إنكار الغيب وعبادة الأوثان، أو مواقفهم من الأنبياء (عليهم السلام). ودليل على حوارية النص القرآني هو ذلك الحضور الهائل لمادة (قل) ومشتقاتها، فمادة (ق ول) تتكرر في القرآن الكريم أكثر من ألف وسبعمائة مرة، وتوزعت على أكثر من أربعين تصريفاً واشتقاقاً. وهذا يعني أن القرآن بأسلوبه المعجز قد احتوى أقوال المخالفين وشبهاتهم حول كافة القضايا والأمور، والتي تتوزع على كل أطراف المقام من متكلم ومخاطب، ومذكر ومؤنث، وحاضر وغائب. وعند تأمل ودراسة هذا الحضور الهائل لمادة (ق – و – ل)، ومشتقاتها، يتبين لنا أن القرآن الكريم كتاب ذو طبيعة حوارية عالية، حيث أن هذه المادة (ق – و – ل)، وكما يقول (محمد سيد طنطاوي): "أوضح الألفاظ الدالة على المحاورة والمراجعة".(9).


ثالثاً: دور الحوار في النهوض الحضاري:

 أولاً: حول مفهوم الحضارة. 
الحضارة: جاءت هذه الكلمة في اللغة بمعنيين: الأول: بمعنى الحضور، وهو نقيض المغيب والغيبة، وجاء هذا اللفظ في القرآن مرادفاً للفظ (شهد)، قال تعالى: [فمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه] البقرة: ١٨٥، أي: حضر. الثاني: بمعنى الحَضَر، وهو خلاف البدو والبادية، فالحضارة بهذا المعنى هي: الإقامة في الحضر، والحاضرة والحاضر: الحي العظيم، وهذا المعنى يتوافق مع ما طرحه ابن خلدون في مقدمته(10). فإذا كانت الحضارة بالمعنى الأول، أي: الحضور، فهي تعطي الدلالات والمعاني التالية:
 بمعنى: القدرة على الحضور، وهذه القدرة من شروطها التطور المستمر، والتجديد المتواصل، حتى تمكن الأمة من أن يكون لها حضورها في كل مرحلة وكل زمن وكل عصر. بمعنى: مواكبة المتغيرات والتحولات على الأصعدة المختلفة، الداخلية والخارجية، وهذا يعني أن يكون الإنسان والأمة في مستوى العصر، وما وصل إليه من تطور وتقدم، الذي يعطي معنى الحضور دلالته الفعلية. بمعنى: الانفتاح والتفاعل والتواصل، فالحضارات لا تبنى في ظروف الانغلاق أو الجمود أو الانكماش. بمعنى: المسؤولية وتحملها على مستوى العصر ومقتضياته ومتطلباته، وهذا مصداق قوله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون] آل عمران: ١٠٤. بمعنى: المشاركة والتعاون في كل ما يرتبط بشؤون العصر في قضايا وأحداث ومواقف وتطورات(11).
 أما إذا أخذت الحضارة بالمعنى الثاني: أي: بمعنى خلاف البداوة، فهذا المعنى أيضاً قريب من المعنى الأول، لأن البدو ليس لهم حضور بالمعنى المعنوي، فهم في ترحال دائم بحثاً عن الماء والكلأ، إضافة إلى أن مجتمعات البدو من المجتمعات المغلقة والمقطوعة، فالصحراء تحيط بها كل الجهات، وهي بذلك ليس لها تواصل وتفاعل مع الآخرين (12). وعليه فإن الحضارة الإسلامية لديها مجموعة من القيم والمرتكزات التي تنبع من الإسلام، والتي تكون بمثابة مؤشرات وحوافز تضبط السلوك الإنساني للفرد المسلم والجماعة المسلمة، وفي مقدمة هذه القيم يأتي الحوار بوصفه قيمة حضارية مهمة في حياة الأمة، لأن مركب (الحضارة) هو (التعارف)، والذي يتجسد في الحوار والتواصل والتفاعل، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] الحجرات: ١٣. 
ثانياَ : مقومات الحضارة ودور الحوار فيه:
1- الاستقرار السياسي: 
تعرف السياسة: بأنها طرائق انتخاب السلطات الحاكمة وتغييرها، ونظام القيم للمجموعات المشاركة للحكم(13). ويعد هذا البعد واحداً من أهم المهمات الأساسية للأمة الإسلامية وحضارتها، حيث من طبيعة الإسلام، أنه نظام شامل للحياة، وأنه دين ودولة، ولم يخرج عن هذا التصور أحد ممن اطلع على تعاليم هذا الدين، وتجربته التاريخية، فليس في الإسلام فصل للدين عن الدولة، كما هو في الغرب العلماني. فالسياسة، في مفهومها الحضاري، لها ضوابطها ومفهومها الخاص، الذي يختلف عن كل المفاهيم والخبرات الأخرى، فهي: رعاية وتدبير كل ما يتعلق بأمور الناس، وتدبير مصالحهم في أمور الدين والدنيا، وذلك بإرشادهم وتوجيهم إلى خيرهم ونفعهم (14). فالسياسة، في هذا التصور، وسيلة لرسم الطرق، التي ترشد الجميع، إلى ما فيه خير الدين والدنيا. ومن أهم مبادئ وأهداف الحكم الإسلامي وخصائصه: تفعيل دور الأمة في المشاركة، وإبداء الرأي، عن طريق مبدأ الشورى، الذي يعتبر من أعظم مبادئ الإسلام وقيمه التي تجعل (الحوار) وممارسته، بين الفرقاء والمختلفين، أمراً لا مناص منه، فعن طريقة يتم تجسيدها. والشورى كأساس في نظام الحكم الإسلامي واجبة شرعاً، لأنها حظيت بتأكيدات القرآن وتزكيته، حيث لم يخل كتاب من الكتب التي ألفها علماء المسلمين، من تلك التي تبحث في أمور الحكم والولاية، في أي عصر، من التحدث عن الشورى، والتنويه بفضائلها، ومحاولة إقامة الأدلة على وجوب اتباعها، والدعوة لأن تكون هي القاعدة في كل حكم إسلامي(15). هذه الأهمية للشورى في الإسلام تأتي من أنها سبيل لمعرفة الرأي الصواب، كما أن فيها تذكيراً للأمة بأنها صاحبة السلطان، وتذكيراً لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة السلطان، وفي هذا عصمة من الطغيان، الذي هو من صفات الإنسان. إذن يظهر مما سبق، أنه لإقامة الحكم الإسلامي، الذي هو واجب الأمة، لا بد من تأصيل فقه الحوار والمشاورة بين جميع طبقات المجتمع، لأن أهل الشورى - بالمعنى العام - هم جمهور الأمة، رجالاً ونساء، فالخطاب القرآني في "سورة الشورى" عام، والضمير للجميع، وعلى هذا فالمبادرة بإقامة الشورى وتنظيمها يجب أن تأتي من أفراد الأمة وعامتها، ولا يكفي أن ينتظروا من الحكام أن يقوموا من جانبهم بذلك. فالشورى مسؤولية مشتركة لجميع أفراد المجتمع، وإثم تعطيلها يقع على الأمة كلها، وبذلك تؤدي الدولة مهمتها في الإصلاح والعمران، ولن يتحقق هذا إلاّ إذا كان الحوار قائماً بين أفراد المجتمع.
2- التربية والتعليم: من المبادئ والمهمات الأخرى الأساسية للإسلام وحضارته هي مهمة التربية والتعليم، حيث بواسطتهما يمكن بناء بنيان راسخ وقوي للأمة. فالتربية تنمية سلوك الفرد وترقيته نحو القيم العليا، حيث إن الإنسان كائن فذ، يتميز عن سائر المخلوقات الأخرى بما لديه من الميول والدوافع، لذا لا بد من توجيه طاقاته وميوله بما يخدم الحضارة الإنسانية وتقدمها. وللتربية أساليب وطرق يتم فيها مخاطبة الإنسان، وتوجيه ميوله ودوافعه نحو الأهداف والغايات الحميدة. وقد أرشدنا الإسلام إلى عدة طرق لتربية الإنسان، منها: التربية بالحوار، ومداولة الأفكار بالأساليب الجميلة، حيث إن هذا الأسلوب للتربية كثيراً ما جسده القرآن الكريم، في حوارات الأنبياء مع أقوامهم، وذلك في طريق الهداية والإرشاد إلى مبادئ العدل والتوحيد، وذلك واضح في حوارات الأنبياء (عليهم السلام) مع أقوامهم. وهذا الأسلوب "يعتمد على مقابلة الرأي بالرأي، ومقارعة الحجة بالحجة، بقصد تغيير رأي المعارض، وجعله يقتنع بما يراه من الحقائق. ومع أنه قلما تخلو قصة في القرآن الكريم من عرض الحوار بين أشخاصها، حتى يخيل إلى القارئ أنه ينظر إلى أحداث قصة تقع أمام عَينَيه ويستمع إلى أشخاص، وهم يتحاورون ويتجادلون، مما يعطيها صفة الحيوية، ويجعلها أكثر مُتعة، وأشدّ تأثيراً على النفس. مع ذلك، فإنَّ الجدل والحوار يعتبر أسلوباً متميزاً من أساليب التربية، ونراه بارزاً في كثير من آي الذكر الحكيم"(16). ولا شك أن إحدى وسائل التعلم هو طرح الأسئلة والمعضلات، وهذا يؤدي بدوره إلى التذاكر والتواصل، بهدف الوصول إلى الإقناع والنتائج المرجوة، ومن هنا تأتي أهمية الحوار، باعتباره وسيلة مهمة من وسائل التعلُّم والتعليم. وكان لهذا الأسلوب قديماً دوره في التقدم الحضاري والعلمي لدى المسلمين، حيث إن "أسلوب الحوار والمناقشة والمراجعة كان هو الأسلوب الأكثر انتشاراً في الحلقات العلمية، والفقه الحنفي بشكل خاص، شهدت بلورته الأولى محاورات واسعة جداً بين الإمام أبي حنيفة وباقي أصحابه، بل إن العودة إلى ما قبل ذلك، إلى عهد النبـي، توقفنا على أن كثيراً من أحاديثه تفيض بمراجعة أصحابه، رجالاً ونساء، مستفسرين عن معنى كلمة، أو مستوضحين عن مسألة. وحين تراجعت جذوة المعرفة في نفوس المسلمين، ودخلوا في عصور التقهقر، ساد أسلوب التلقين، وصارت عملية الاتصال الدعوي تقوم على طرف واحد، هو: الداعية، أو الخطيب، أو المعلم"(17). وفي عصرنا الحديث نجد أن الحوار يعتبر من أهم الوسائل، وأكثرها انتشاراً في مجال التعلُّم، واكتساب الخبرات والمهارات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق