01‏/07‏/2018

العنف.. مقاربة أولية


د. علي رسول حسن الربيعي
يصعب تقديم تعريف جامع مانع لظاهرة العنف، لكن يمكننا القول إن العنف هو ضرر وأذى فيزيائي مادي يُصيب البشر والممتلكات. ويصاغ مفهومياً كدرجة من درجات الصراع، وغالباً ما يتفجر العنف عندما تصل حرارة الصراع إلى درجة معينة. وفي معظم الأحيان يؤدي المستوى العالي من الصراع إلى مستوى عالٍ من العنف. لذلك فالعنف نوع من الصراع، ولو أنه ليس من السهل قياسه كمياً، لأنه يتعلق بالكيف والنوع؛ فللعنف ديناميكيته الخاصة، وتحول الصراع إلى عنف هو تغيير في طور ودور ودرجة الصراع.
قد  يُـنظر إلى العنف بوصفه انحرافاً عن ما هو طبيعي أو سوي. إنه فعل ملموس وواقعي، ولكنه متقطع وعرضي، ويظهر كاستثناء للقاعدة، ولكن مع ذلك له ديناميكيته الخاصة، والقدرة على التحول من شكل إلى آخر. العنف هو تمثل فيزيائي للقوة والإكراه، أو بعبارة أدق: فعل مادي يسبب الألم والجرح والقتل للآخرين. إنه إیذاء
مرئي ومقصود تجاه الآخرين.
ولا بد من التمييز هنا بين العنف والعدوان غير المسبوق باستفزار يبرّره. فبينما يستمد  العدوان حافزه من الرغبة في إنزال الأذى بالآخرين كهدف بذاته، لا يتوقف العنف عند هذا الهدف فقط، فله هدف آخر وهو إيصال رسالة للآخرين.
وقد يرى بعض الباحثين أن اختصار العنف على الفعل تضييق لمفهومه، فهو يشمل - على سبيل المثال -: الاغتصاب، والتهجم على كرامة وقيم الضحايا، وغيرها. وأن الأبعاد الاجتماعية والثقافية تضفي على العنف قوته ومعناه.
وللعنف أنواع عديدة، منها مثلاً العنف السياسي، الديني، الكولونيالي، البنيوي، الرمزي، والقانوني، وما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي (بورديو) بـ (العنف الرمزي). وعلى كل حال، فما يعتبر عنفاً قد يختلف من زمن لآخر، ومن مكان لآخر. فتحدد الأنظمة السياسية مثلاً، ما هو عنف شرعي، وما هو غير ذلك. وتضفي علاقات القوة بعداً سياسياً على أشكال محددة من العنف، وتلغي عن عنف آخر هذا البعد.
 وثمة تفسيرات مختلفة لظاهرة العنف، ونظريات عديدة، طبقاً لترجيح أحد الأسباب المنتجة للعنف على حساب الأخرى. فقد تختلف أو تتكامل مع بعضها. ويمكن بناء مركب نظري، أو أنموذج نظري، لتفسير ظاهرة العنف.
 ودراسة العنف ليست فرعاً معرفياً، إنه ظاهرة اجتماعية معقدة، يمكن أن تُفهم وتُفسر فقط من خلال مقاربة تتداخل فيها فروع معرفية متعددة. وما أريد الإشارة إليه هنا هو ما يجمع بين المقاربات المختلفة إجمالاً من ناحية الموقف والمنهج في تناولها ظاهرة العنف. أي سأشير إلى المواقف الأنطولوجية والأبستمولوجية، والتي تنطلق من سؤالين هما: لماذا يحدث هذا العنف؟ وكيف يكون ذلك ممكناً؟ يتعلق الأول بالباعث أو الحافز، بينما يتصل الـثاني بالنظام والتنظيم. تعبّر النظريات التي تؤكد على الفرد، أو النظريات الفردية، والأخرى البنيوية، عن الموقف الأنطولوجي، بينما تعبّر نظريات (التفسير) و(الفهم) عن الموقف الإبستمولوجي.
المجموعة الأولى، الأنطولوجية، يتم صوغ النظريات فيها من موقفين حول ما يعبئ الناس ابتداء، فهناك تقسيم أنطولوجي أساسي في العلوم الاجتماعية بين مقاربتين تحاولان تقديم وصف وأسباب للفعل البشري من خلال الرجوع إلى الحركة/ التعبيئة التي تقوم بها البنية الاجتماعية. ومقاربة أخرى تأخذ الفعل الفردي كمادة محركة للتاريخ، وتعتبر البنية نتيجة للأفعال الفردية.
لذا هل البنية ابتداءً هي التي تحدد أفعال الأفراد، أم إن أفعال الأفراد هي التي تحدد البنية؟ أي هل نأخذ أفعال الأفراد نقطة البداية في التحليل، أم نختار التأكيد على البنى التي تجبرهم على الكيفية التي يقومون بها في أفعالهم الاجتماعية، والتي تتعلق بالعنف هنا طبعاً بوصفه مدار حديثنا؟ هل يبدأ العنف، أو الصـراع المفضـي إلى العنف، بسبب الضغط البنيوي، أم هو ناتج عن تخطيط وتوافق الأفعال الفردية؟ وهل تعبّر هاتان المقاربتان عن موقفين مختلفين جذرياً، أم يمكن أن يكون أحدهما مكملاً للآخر لتفسير الصراع والعنف؟
ترى المقاربة الفردية أن مصدر العنف والصراع يقع على مستوى الفعل الفردي، بينما ترى المقاربة البنيوية أن مصدر العنف يتعلق بالنظام الاجتماعي، وتفهم العنف بوصفه ناتجاً عن التوتر والتناقض، الذي يصدر بدوره عن الطريقة التي يـُبنى فيها النظام الاجتماعي.
لنأخذ مثالاً توضيحياً، وهو انعدام الأمن. تهتم النظريات الفردية بالكيفية والأشكال التي يسلك فيها الناس في حالة انعدام الأمن ( مثل: الهوية، الاقتصاد، الأمن المادي، وغيرها)، وكيف تترجم تلك السلوكيات والأفعال في الصراع. بينما تركز النظريات البنيوية على أسباب انعدام الأمن: كيف ينتج عن عدم توازن (مجاعة، ظلم، تهميش) مـعيّن، بنيوياً.
 وإجمالاً يدافع الموقف الأنطولوجي الفردي عن فكرة هي أن الوحدة الأساسية في الحياة الاجتماعية هي الفرد. ولكي نفسـّر المؤسسات الاجتماعية والتغيّرات الاجتماعية، علينا أن نكشف كيف تنشأ هذه كنتيجة لفعل الأفراد وتفاعلهم.
 بالمقابل تركز الأنطولوجيا البنيوية على قوة البنى التي تكمن في المؤسسات ذاتها، وهي أبعد من نطاق سيطرة الأفراد. فـتُبنى أفعال الناس من خلال قواعد تخبرهم أو تُحدد لهم غالباً كيف يمارسون حياتهم الاجتماعية. بالتأكيد يبقى الموقف الانطولوجي مجرد دوغما إذا لم يرتبط بالموقف الإبستيمولوجي. لذا لا بد من الإشارة إلى هذا الموقف.
ينقسم الموقف الإبستيمولوجي في العلوم الاجتماعية أساساً إلى قسمين: قسم أول يرى أن أفضل طريقة فحص للعالم الاجتماعي تكون من الخارج، أيْ: التفسير. بينما هناك موقف آخر يرى أن أفضل طريقة لدراسة العالم الاجتماعي هي من الداخل، أي: الفهم.
ينطلق الأول، أي التفسري، من فكرة أنه يمكن تحديد الفعل البشري والتنبوء به. بالمقابل تزعم الإبستيمولوجيا التأويلية (الفهم) أنه بدلاً من النظر في أسباب السلوك، علينا البحث عن معنى الفعل، فالأفعال تستمد معناها من الأفكار المشتركة وقواعد الحياة الاجتماعية، وأن بنية المعنى تحدد تاريخياً وثقافياً، ويمكن دراستها من خلال سياقها، ومن خلال دمج منظورات الوعي الذاتي للناس، والمعلومات التي يقدمونها عن أنفسهم. (أنا مع وضع نسيج واحد يربط الموقفين الإبستمولوجيين مع الموقف الأنطولوجي الأول، ولكن لهذا تفصيل آخر).
وليس ثمة تلازم ثابت وحتمي، ولا يمكن تغييره أبداً، بين العنف والسلوك البشـري، فالعلاقة بين الطبيعة البشرية والاجتماعية والعنف، علاقة جوهرانية ومتـأصلة في صلب البنية العضوية للنفس البشرية وطبيعة الاجتماع البشري، وبالتالي لا فكاك بينهما مطلقاً، أيّ إن السلوك البشري لا بد أن يكون عنيفاً. وحتى إذا أخذنا بنظر الاعتبار قول (فرويد): إن العنف يرتكز على غريزة الكراهية والتدمير والعدوانية، وهي نوازع قوية متجّذرة في نفوس البشر، ويمكن استثارتها في أوقات الاضطرابات الجماعية. لكنه قال أيضاً إنه يمكن العمل على تجنبها من خلال تصريفها في غير قنوات العنف.
 أما إذا دار الحديث عن هل هناك أسباب سيكولوجية للعنف، فبالتأكيد هناك أسباب، ولها تفسيرات عديدة من قبل مذاهب علم النفس والتحليل النفسي.
والآن لنسأل: ما الذي يكّون الجماعة الدينية – المذهبية أو العرقية (ولنطلق على هذه الهوية الجماعية اسم الهوية الطوائفية)؟ كيف ولماذا تلجأ جماعة إلى العنف، وأكثر تحديداً: لماذا يكون الأفراد من البشـر مستعدين للقتال والموت دفاعاً عن انتمائاتهم الدينية والعرقية؟ كيف ولماذا تتوقف الجماعة أو لا تتوقف عن العنف، وما الذي يحفز الأفراد ليقاتلوا جيرانهم، وأعضاء في مدنهم، عاشوا معهم في سلام لعقود طويلة، وكيف يتحول الجيران إلى أعداء؟
إن الجواب عن السؤال: ما الذي يكّون الجماعة، ليس سهلاً، فهناك مثلا الإيمان بالأصل المشترك، أو التدين، والطقوس المشتركة، والذاكرة المشتركة. وغالباً ما تكون هناك حاجة عند أفراد الجماعات للانتماء إلى هوية اجتماعية متمايزة. هناك شواهد وأدلة مقنعة أن الهوية الاجتماعية تصنع، وأن العنف نفسه يمكن أن يلعب دوراً مهما كرابطة شعورية مثبته ومعززة للهوية الاجتماعية.
يمكننا القول إن بعض الجماعات تمتلك ثقافة عدائية، فقد ترمز نصوصها الدينية وأساطيرها إلى الافتراس والإضرار بالآخرين، فتشتغل الثقافة هنا، وهي تشمل الدين أيضاً، كما تشتغل أو تفعل الأشياء المادية.
 ومن ناحية أخرى، يمكننا أيضاً فهم العنف الطوائفي في ما يقوم به من دور وظيفي كاستراتيجية سياسية ووسيلة لاكتساب القوة والحصول على السلطة، فتنشأ الجماعة الطوائفية من عملية اجتماعية سياسية لرسم حدود الجماعة والمحافظة عليها والدفاع عنها. فيكون العنف عملاً مقصوداً ومنسقاً ومفتاحاً رئيساً لرسم حدود الجماعة. ويتم التحريض عليه من قبل نخبة نهابة سلابة تبحث عن الإمساك بالسلطة في سياق تفاعل ديناميكي لمستويات عديدة ومعقدة.  فطالما أن هذا العنف وظيفي، فإن هذه النخبة تهدف إلى اكتساب السلطة، وتحقق هذه النخبة أهدافها كلما كانت الجماعة التي تدعي تمثيلها سلبية ومطيعة لادعائها في أنها المحافظة على كيان الجماعة ومصالحها.

  العنف ظاهرة جديدة
كان يتم تناول العنف، والصراع عموماً، حتى عام 1990، من وجهة نظر العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، مثل الحرب العالمية الأولى، والثانية، والحرب الباردة. وكان ينظر إلى الحروب الصغيرة، والصراعات المنخفضة الشدة، كنتيجة للاستقطاب الثنائي للحرب الباردة. لكن أصبح هناك بعد عام 1990 زيادة في منسوب الحروب التي تجري في داخل الدول، ولم يعد النموذج الذي ينظر لها، بوصفها حروباً بالوكالة، كافياً لتفسير طبيعة هذه الحروب، والعنف المتفجر عنها. فنهاية الحرب الباردة، والاحتفاء بانتصار النموذج الليبرالي، لم يأت بنهاية التاريخ. إذ أصبحت الحرب، والعنف، سائداً ومهيمناً على الأوضاع الداخلية، وله ديناميكياته الخاصة.
وأحدثت الصراعات المحلية تحولاً مهماً في حقل دراسات الصراع والعنف. فقد أصبحت نظريات العلاقات الدولية، والدراسات الاستراتيجية، عاجزة عن الإمساك بديناميكيات وتعقيدات هذه الحروب الجديدة. وعندها بدأ التركيز على العوامل والسياقات المحلية، أيْ على تشكّل الهويات، ديناميكيات الجماعات الأثنية والطائفية، المظالم الجماعية، وغيرها.
تختلف هذه الحروب الجديدة، وعنفها، عن الحروب بين الدول، والصراعات التقليدية، من عدة وجوه:
أولاً، ليس لها بداية أو نهاية محددة. فهي لا تبدأ بإعلان حرب، أو في حملة عسكرية، وليس لها نهاية رسمية.
ثانياً، تتصف هذه الحروب بأنها طويلة الأمد، وقد تستمر لعقود، وقد تحدث فيها حلقات من القتال الشرس، تتخللها أوقات سلم نسبي، وغالباً ما تكون حدود الحرب/ السلام غير واضحة في الزمان والمكان.
ثالثاً، هناك اختلاف في نمط أو شكل هذه الحروب: فقد تشترك بها قوات نظامية، وجماعات غير نظامية، ومتمردون، ومدنيون، وزعماء حرب محليون. فهي ليست حرباً بين قوتين عسكريتين تقليديتين، منفصلتين بشكل واضح.
رابعاً، التدخلات الأجنبية في الحروب المحلية. حيث يأتي مقاتلون من أصقاع عديدة من العالم، أو تأتي قوات مرتزقة، أو احتلال من قبل قوات أجنبية، فتشكل هذه التدخلات جزءاً من ديناميكية هذه الحروب.
خامسـاً، يتم تمويل هذه الحروب بطريقة مختلفة عن الحروب التقليدية بين الدول، إذ تأتي مصادر تمويلها من خلال التجارة الدولية، فيما يعرف بالاقتصاد الموازي، مثل تهريب النفط، وتجارة المخدرات، والماس، وغسيل الأموال، وتهريب البشـر، والمتاجرة بالأعضاء البشرية، والسطو المسلح، وغيرها.
سادساً، الأثر الكبير للثورة التكنولوجية في الاتصالات على هذه الحروب، من خلال دورها في تسهيل التواصل بين شبكة التنظيمات والخلايا وقياداتها. إذ يمكن أن تتخذ القرارات بمرونة وبسرعة عبر التواصل حول العالم، باستعمال هذه التكنولوجيا المتقدمة.
وأخيراً، تقع المنظمات والزعامات التي تدّعي تمثيل هوية الجماعات (أثنية، دينية، ثقافية) في قلب العوامل المفجّرة للعنف.
 ولا يمكن الادعاء بالطبع بأن تاريخ الإنسانية هو تاريخ عنف وحرب وقتل وصراع، وإلا كيف تشكلت وتطورت كل تلك الحضارات حتى وصلنا إلى الحضارة المعاصرة! نعم هناك عنف في التاريخ، وهناك تاريخ للعنف، ولهذا العنف أشكال وتجليات مختلفة، وله أيضاً أسباب عديدة، قد تكون منها سياسية أو دينية أو اقتصادية، أو كل تلك الأسباب المتداخلة في مراحل تاريخ العنف، ولكن تاريخ الإنسانية ليس تاريخ عنف. يبقى العنف - مهما كان مرافقاً لوجودنا - هو الاستثناء بكل الأحوال، مهما طال وتكرر في التاريخ.
لقد كان العنف مرافقاً لنا طوال التاريخ، ويستمر ملازماً لنا. وإحدى تجلياته المبكرة والكبرى في التاريخ جاءت بعد الثورة الدينية التوحيدية، حيث هيمن على الوعي البشري  -بشكل كبير - فكرة أن هناك حقيقة دينية واحدة، وتعتقد كل جماعة أنها أمسكت بها وتعبّر عنها. وتحت هذه الأوضاع والشروط يتحول إمكان العنف الديني إلى عنف بالفعل.
تعلمنا الذاكرة التاريخية أن كمون العنف، حتى ولو كان لفترات طويلة نسبياً في التاريخ، فإنه يمكن أن يعود كعنف مكبوت. والقول إن هناك تنويراً نهائياً ومكتملاً يضع نهاية للعنف، هو في الحقيقة، قول مضلل، بل إنه تضليل خطير، لأن المهمة الحقيقية للتنوير هي أن يستمر في مهمته ضد العنف، أو يساهم في خفض منسوب العنف إلى أدنى حد ممكن.
كان هناك طوال التاريخ دورات من تفجّر العنف، وتأرجح بين العنف والسلم، وتكرّر هذا في التاريخ دائماً، وقد تم تصويره بطريقة دراماتيكية في المسـرح، منذ التراجيديا الأغريقية. ويكشف التاريخ السياسي أيضاً عن العنف المتفجّر نتيجة لعلاقات العداء، وكيف تحوّل عداء محدود إلى عداء مطلق، على رأي (كارل شمت). أي عندما يتحول قصد طرف من هزيمة خصمه، إلى تدميره ومحقه بالكامل.
هناك أشكال مختلفة من العنف في التاريخ، ويمكن أن يأخذ العنف أشكالاً جديدة أيضاً. فلا يمكننا أن نحدّد، بشكل مسبق، مظاهر العنف التي ستبرز في مسيرة التاريخ القادم. فالعنف يتخفى ويتنكر ثم ينفجر بيننا. لذلك من التحديات الصعبة والمستمرة التي تواجهننا هي الوعي بالأشكال الجديدة من العنف، وفهم بنية هذا العنف وديناميكيته، وكشف تلك الأشكال أمام الوعي الاجتماعي. يمكننا أن نستجيب بجدية لوقف العنف عندما نقوم ابتدءاً بتحليله وفهمه.
 
 العلاقة بين العنف والمعنى
عندما قال (دريدا) في (الكتابة والاختلاف): "إن العنف مطمور في جذور المعنى"، وقال (جين نانسي) في (المجتمع عديم التأثير): "إن العنف يخلق الحقيقة"، بدا هذا القول صادماً. فأحد أوجه التغيير في العالم، نتيجة للعلاقة بين العنف والمعنى. والمقصود بالمعنى هنا ما يرتبط بذات الشخص، الطريقة التي يعي ويتدبر بها تجربته وخبراته، مساره، وموقفه، لا الموقف وحالاته وتحولاته بذاتها.
وهنا تطرح حالة الخيبة والإحباط التي يشعر بها الشخص، فتكون من مسببات العنف، ولكن هذا قد يختزل العنف كردّ فعل من قبل الشخص الذي يقوم بذلك من أجل إرجاع التوازن لصالحه. لذا من الأهمية أيضاً أن نلتفت إلى حالة النظام؛ أي السياق السياسي، والأبعاد الاقتصادية، والأحوال الاجتماعية، التي يعيش في وسطها الشخص ويعمل. وأيضاً التحولات التي تخضع لذلك النظام. فلا يمكن قصـر ديناميكيات العنف على ما يتعلق بمسعى الشخص وقدراته على تحديد موقفه داخل هذا النوع أو ذاك من العلاقات، إذ يندرج العنف أيضاً داخل استمرارية ثقافية، ويرتبط بمستوى أو حقل التعليم.
وأريد أن أضيف أيضاً: يحتاج الشخص إلى تبرير العنف أمام نفسه وأمام الآخرين، وبهذه الحالة لا يكون العنف بلا معنى، بل العكس قد يبدو مفرط المعنى، ممتلئ المعنى، وكامل المعنى. أي إذا كان العنف بذاته يعبّر عن فقدان أو عجز في المعنى، فإنه ليس كذلك بالنسبة لمرتكبه. فعلى الرغم من فقدان المعنى، غالباً ما يترافق العنف الجماعي مع سرديات متنوعة، تملأ أيّ عجز في المعنى، تتمثل أبرزها في الوعي الأسطوري، والأيديولوجيا، والدين.
يظهر العنف عندما يجد الشخص أو الجماعة صعوبة في التوفيق في الممارسة بين عناصر المعنى، التي ليس هي بعيدة عن الواقع فقط، ولكن يثبت أكثر فأكثر أنها مناقضة له. فيصبح العنف والحالة هذه تعبيراً ملموساً عن الوعي الأسطوري، هذا الوعي الذي يسمح باندماج التمثلات والتخيلات والمعاني المتعارضة، والمتضاربة، والمتناقضة، وعندها يظهر هذا الوعي والعنف وجهان لعملة واحدة. أيّ يقدم هذا الوعي تمثلاً خيالياً ليوّفق بين عناصر لا يمكن أن تندمج في الواقع التاريخي، أو العالم الاجتماعي، وهذا ينطبق تماماً على تجليات الوعي الأيديولوجي كفكرة خاطئة، بالمعنى الذي أشار إليه (دوركهايم).
ويمكن للاعتقاد الديني أن يتحول إلى عنف متطرف، وغير مقيد أيضاً، من خلال إضفاء معنى على الفعل، معنى لا يقتصر على العالم الواقعي كما هو موجود، ولكنه يوحّد آمال وقناعات لهذا العالم والعالم الآخر. ولهذه الآمال والقناعات أهمية كبيرة في توقع العنف السياسي. فامتلاء المعنى الذي يوفره الاعتقاد الديني، يمنح الفاعل قوة وشرعية غير محدودة، بوصفها صادرة عن "حكم غير أرضي".
علينا أن ندرك أن الأكثر احتمالاً في ظهور العنف، عندما يبدو الفعل الطبيعي السلمي صعباً في أوضاع غياب العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، التي تتراجع أمام هيمنة منطق القطيعة والتمزق وفقدان المعنى، وعندما تنهار بنية العلاقات أمام فرط وامتلاء المعاني ما بعد السياسية.
ليس العنف منتجاً للمجتمع، ولكنه تعبير عن نقص وعجز وانحطاط المجتمع. العنف ينتج الشر، والسؤال الكبير ما إذا كان يمكن مقاتلته بالخير أم لا، وكيف نفعل ذلك؟

العنف والسياسة
لقد بنى الفلاسفة، من (أفلاطون)، إلى (هوبز)، (ميكافيلي)، (سورل)، (كلاوزفتز)، فهمهم للسياسة على رأي أنه لا يمكن تجاوز علاقتها بالعنف. وكذلك أكد راهناً كلاً من (سلافوك جيجك)، و(شانتال موف)، على أنه لا يمكن إزالة العنف من ميدان السياسة. لكني أريد القول إن العنف ليس متأصلاً في قلب السياسة، وإن العلاقة بين العنف والسياسة ليست علاقة تلازم جوهري، أي لا انفكاك بينهما. فالعلاقة مترابطة في أغلب مراحل تاريخ البشرية، ولكن التفكير في الأمر من منظور السياسة فهي احتمالية، ممكنة، إذ ليس العنف جزء لا يمكن إزالته من السياسة. لكن  هناك مسـافة بين الممكن والحاصل دائماً.
وعموماً يتطلب فكّ العلاقة التلازمية بين العنف والسياسة أن نضع بين قوسين كل ما يتعلق بالاعتقادات المسبقة الإيجابية والسلبية حول الطبيعة البشرية أولاً، وثانياً، يتطلب إعادة تصور معنى العنف والسياسة راهناً، وبالتالي طبيعة العلاقة بينهما. لكن لا يعني القول بإمكانية إزالة العنف من السياسة، أن السياسة هي ميدان انسجام الوعي العقلاني دائماً.
إن التسـاؤلات والنقاشات الراهنة تقع بين وجهة نظر ترى السياسة ميداناً للصراع، وأن هذا الصراع يفضي إلى العنف، فيقع في قلب السياسة، وأخرى ترى في السياسة ميداناً للتشاور والتحاور، إذ يعتبرها (جون راولز) و(يورغن هابرماز)، مثلاً، بحثاً عن الإجماع. أرى أن الصراع الفعلي الدموي في السياسة لا ينشأ أو يستمد من عدوان وخصام وكراهية متأصلة في الطبيعة البشرية، ولكن من مظاهر الإقصاء والإلغاء والهيمنة، ومن ثقل تأثير موازين القوى الحاملة لتلك المظاهر على أرض الواقع. بعبارة أخرى، نحن نعيش في مجتمع صراع وتوتر، لأن الفضاء الاجتماعي ميدان سيطرة تأويلات وقيـم، وليس لأنه متكون من أفراد؛ العنف متأصل فيهم طبعاً وطبيعة.
يحدد جواب السؤال ما إذا كانت العلاقة بين العنف والسياسة تلازمية بشكل ضروري وجوهري ولا يمكن إزالتها، أو ما إذا كانت علاقة عرضية، احتمالية، ويمكن حلها، طبيعة أيّ نقد أو فعل ضد الأشكال الراهنة من العنف السياسي. والقبول بأن العلاقة بينهما لا يمكن التخلص منها، سيكون علامة على نهاية كل نقد راديكالي للعنف.
 إن السؤال المهم بالنسبة لنا يتعلق بالظروف الممكنة لتصريف العنف، والشروط التي تتعلق بأشكال ومناسبات شرعيته، وحدود قبول نطاقه.
هناك رأي يقول إن السياسة لها جوهر، ويوجد في العنف. ينطلق هذا الرأي من أن العنف سمة ثابته للسياسة. بالتأكيد هذا رأي مقلق ومزعج.
بالمقابل هناك من لديهم دوافع قوية للاعتراض على هذا الرأي، ويجدون عزاءهم في وجهة نظر مطمئنة تؤكد على أن السياسة الحديثة ضد البربرية، وأن التاريخ يتقدم بمستوى غير مسبوق نحو المدنية وضد العنف والبؤس والتدمير، وأن من المثير للارتياح هو أن الديمقراطيات تتقدم في العالم، وهذا ضد تفجّر العنف السياسي، وأن المجتمعات تتقدم أيضاً في تنظيمها، وهذا ما يجعل العنف السياسي فيها ينخفض.
 ولكن بقدر ما كانت وجهة النظر الأولى مقلقة، فإن وجهة النظر الثانية هذه بقدر ما هي شائعة بقدر ما هي خاطئة. فنظرة في تاريخ القرن العشرين، والعقدين اللاحقين من القرن الواحد والعشرين، تروي وحشية وفظاعة العنف في (هيروشيما والغولاغ وكمبوديا ويوغسلافيا وروندا وأفغانستان والعراق وسوريا وغيرها)، وتبدد أيّ وهم وتضليل حول تأثير تلك السياسة الحديثة. فقد كان القرن العشـرين عصـر الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وغرف الغاز، والتعذيب الوحشـي، والاغتصاب الممنهج في الحروب، والتفجير النووي، والأسلحة الكيمياوية، والإرهاب ضد الدول، وإرهاب الدول نفسها، والنتيجة قتل أكثر من 150 مليون إنسان، من بينهم 62 مليون مدني.
 وعليه، هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن القرن الواحد والعشرين سيكون ملطخاً بالدم، كما هو القرن السالف. حيث تشير كل الأدلة التجريبية إلى حقيقة أنّ العنف سيكون سمة ثابته للشأن السياسي، رغم أني أرى أن العنف ليس جزءأً ضرورياً لا تنفصل عنه السياسة من ناحية الإمكان.  
إن السياسيين والزعماء يمارسون في المجال الاجتماعي السياسي، الذي لا يدار ديمقراطياً، دوراً فاعلاً ومؤثراً في الصـراعات والعنف. فالعنف بالنسبة لهؤلاء السياسيين، الذين يمارسون السياسة بغير أدواتها، يؤدي دوراً وظيفياً في الصـراعات.
 أي إن العنف الطوائفي (الإثني أو الديني) مثلاً، هنا، ليس نتيجة لثوران غير عقلاني أو عفوي لكتل غاضبة محبطة تشعر بالخيبة، بقدر ما هو تعبير عن فعل قصدي ومتعمد وبتخطيط، من قبل نخب وزعامات سياسية أو دينية متحالفة مع السياسية. تعمل هذه النخب على تنشيط الهويات والخصومات الكامنة، التي تقسم الناس إلى (نحن) و (هم)، من خلال وسائل عديدة، منها العنف.
تقوم هذه النخب بالتحريض وإثارة العنف باستراتيجة هدفها خلق وتثبيت الحدود المادية والحواجز والنفسية بين الجماعات. إنها تثير الكراهيات التي تفجّر العنف. ولدينا شواهد كثيرة على هذا، منها على سبيل المثال: العراق، روندا، أفريقيا الوسطى، السودان، يوغسلافيا السابقة، وغيرها.
ولأن العنف، والخوف من العنف، يلعب دوراً فعالاً في تكوين الجماعات، ولأنه حالماً يـُسـتهدف الناس بسبب هوياتهم المزعومة، يبدأون بالشعور والسلوك جمعيّاً، يقوم هؤلاء (السياسيون) بتقديم أنفسهم بوصفهم زعامات تمثل مصالح الجماعات، وأنها الحامية لها. والخلاصة: إن العنف هو استراتيجية لتشكيل الجماعات والدفاع عن حدودها، ولكسب الولاء السياسي أيضاً. إنه استراتيجية (سياسية) تستعمل لاكتساب القوة والهيمنة.



العنف والقانون
يسبق العنف وجود القانون، ويمثل تحدياً له. مهمة القانون والنظرية القانونية هي التأكيد على الفرق بين الإكراه الذي يستعمله القانون، وبين ذلك الإكراه القسـري الجامح الذي يتجاوز حدود القانون. وبما أن العنف سبب أساسي لنشوء القانون، فإنه يُلقي بظلاله على القانون بشكل مستمر.
يطلب العنف منا أن نسأل كيف يختلف إكراه القانون عن ذلك الإكراه الذي يستدعي وجود القانون من أجل الضبط والتنظيم، بالإضافة إلى ما إذا كان يمكن للقانون أن يستوعب العنف، ويسيطر عليه، دون أن يصبح أسيرًا لغريزة العنف ذاتها. ففي حين يوفر التهديد باستعمال الإكراه تبريرًا دائمًا ودفاعًا عن القانون، فهو تذكير دائم أيضاً بما هو القانون حقاً.
هناك وجه آخر لعلاقة القانون بالعنف، لخّصها (بنيامين)، وهو من الفلاسفة البارزين الذين تناولوا هذه العلاقة. فإذا كانت النظريتان التقليديتان في القانون: القانون الطبيعي، والآخر الوضعي، يفصلان بين الغايات العادلة والوسائل المبررة، ويتفقان على إمكان التوافق بينهما؛ نجد أن (بنيامين) ركز على الوسائل التي تسبب العنف، على المراسيم والقرارات التي تسببه، وتلك التي تحدّ منه. يرى (بنيامين) أن العنف كوسيلة ينتج من سنّ القانون، أي ما يتطلبه تشريع القانون، ومن حماية القانون، أي العنف الصادر من فرض القانون.
فبينما نعتقد أن القانون، وحكمه، يحمي المواطن من العنف غيرر المبرر. يكشف (بنيامين) لنا عن الجانب المظلم من حكم القانون، وكيف أن القانون نفسه يصبح، في أوقات الأزمات، وسيلة للعنف. كما ويكشف لنا عن إشكالية وتعقيد محاولة التمييز بين العنف (الشرعي) والاستعمال  (غير الشرعي) له.
 وفي بصيرة نافذة يبيّن لنا (جاك دريدا)، في قراءته لمقالة (بنيامين)، مدى التضليل لأيّ ادعاء بإمكان أن تكون هناك معايير محددة، أو قواعد ثابته، للتمييز بين العنف المقبول وذاك غير المقبول.
يربط (بنيامين) بين القانون والعنف بطريقة نكون بها، حتى مع فكرة العقد التي تقع في قلب النظرية السياسية والقانونية الحديثة، غير قادرين على الإفلات من إمكان العنف الذي يحمله القانون؛ وهو بهذا يضعنا أمام مفارقة، فإذا كان هناك تلازم جوهري بين العنف والقانون، فإن السؤال هو: هل من الممكن أن يكون هناك حل سلمي للصراعات؟ يرى (بنيامين) من الممكن أن يكون هناك اتفاق بعيداً عن العنف، كلما تم السماح للنظرة المتحضرة التي تتضمن الشـروط المسبقة لمثل هذا الاتفاق، وهي: الاحترام، الكياسة، المشاركة الوجدانية، المسالمة، والثقة. فتكون هناك مساحة لاتفاق إنساني يمدد به نطاق اللاعنف.

الفلسفة وظاهرة العنف
إذا كانت الفلسفة تجليّاً للعقل في التاريخ، فهي بهذا الوصف نقيض للعنف الوحشـي الوصف. وحتى لا يبقى الكلام متّسماً بالعمومية والكلام المرسل، أود أن أشير بهذه المناسبة إلى كيفية تفسير الفلسفة للعنف، وبصورة أكثر تحديداً رأي الفلاسفة أو المفكرين المعاصرين، الذين قلبوا النظر طويلاً في ظاهرة العنف.
ولا يمكن لأيّ تناول جاد لظاهرة العنف أن يغض النظر عن طروحاتهم، اتفاقاً أو اختلافاً، في تفسيرهم لهذه الظاهرة. ومن بين أهم من تناولها بعمق وجدية، هم: (كارل شمت، حنة أرنديت، وفرانز فانون).
لقد عبر أولئك المفكرون عن مقاربات مختلفة في تناولهم لظاهرة العنف، فقد ناقش (كارل شمت)، في كتابيه المشهورين: (مفهوم السياسة)، و(اللاهوت السياسي)، العنف من خلال تمييزه بين أشكال الحروب المعاصرة والقديمة بين الدول. الحروب التي تهدف إلى هزيمة العدو، والأخرى التي تريد القضاء عليه وتدميره تماماً.
 تعمّق (شمت) في دراسة ظاهرة العنف المُتولد من كيفية تحول العدو، والذي من المفترض أن يُحصر في أضيق نطاق، إلى عدو مطلق في القرن العشرين، وكيف تصبح الحرب المحدودة حرباً شاملة لا تقف عند هزيمة العدو، ولكن تحاول إبادته.
وقامت (أرنديت)، من جانبها، بتحليل العنف المتمثّل في وجه النظام التوتاليتاري في القرن العشرين، وكشفت عن النزعة الخفية في التاريخ، والتي تبلورت في هذا النظام. فكما وصفت أنواع عديدة من ممارسات العنف الذي تقوم به أنظمة حكم في الحاضر، مشابه لتلك التي وجدت في الماضي. فهناك تاريخ طويل من المذابح، التعذيب، والإبادة البشرية، ولكنها ترى أنه مع التوتاليتارية ظهر شكل جديد من العنف. والهدف النهائي من هذا العنف هو أن يجعل الوجود البشري أقل إنسانية، ويزيل التعددية الإنسانية والعفوية.
أما (فانون)، فقد تناول ما اعتبره العنف المتأصل في النظام الكولونالي. إنه عنف خانق وقاس وشرير، لذا فإن التفاوض والتوافق مع الكولونالية لا يُنهي العنف، بل على العكس إنه يعزز النظام الكولونالي. كما أن الاستقلال وحده لا يعني أن التحرر قد تم إنجازه، فهناك خطر القادة الجدد، الذين يحاكون ويقلّدون الوجه الأسوأ من النظام الكولونالي، إذ يستمرون بممارسة العنف نفسه، بالإضافة إلى النكوص إلى عنف أثني أو ديني.
ناقش (فانون) مسألة متى يكون العنف مبرراً، والظروف الخاصة والمناسبات الاستثنائية لهذا التبرير. وهو بهذا يشابه ما أشار إليه (بنيامين) و(أرنديت) في ما يتعلق بالأوضاع الاستثنائية التي يمكن تسويغ العنف فيها.
إذن هناك أنواع عديدة من العنف، فقد كشف (كارل شمت) -على سبيل المثال- عن العنف في التاريخ السياسي، الذي تركز على ثنائية العدو / الصديق، والعنف القانوني، الذي حلله (بنيامين)، والذي أشرنا إليه سابقاً، والعنف البنيوي، الذي ناقشه (فانون) من خلال تفسير عمل النظام الكولونالي، وهناك العنف التوتاليتاري، الذي وصفته (أرنديت) بالشر الجذري.
هناك إغراء دائم لمواجهة العنف بالعنف. هناك مثلاً العنف الذي يُنظر إليه على أنه لا عقلاني، وانفعالي، وهو الذي يأتي  كرّد فعل ناتج عن غضب الضحايا الذين تعرضوا للوحشية والإذلال. فيمكن أن يكون هذا العنف تعبيراً عن موقف شخصـي، أو معنى سياسي، أو ناشئاً عن دوافع (أخلاقية). لقد تم النظر إليه تقليدياً كانفعال سلبي مطلوب الرد عليه؛ ولكن يمكننا أن نميز بين الأشكال الباثولوجية من الاستياء والغضب، وتلك التي تظهر كرّد فعل للظلم السياسي من أجل علاج الأشخاص، أو حتى الجماعة التي تعاني من تلك الانفعالات بوصفهم كانوا ضحايا، وتم تجريدهم من صفاتهم الإنسانية، على رأي (أرنديت).
ولكن حتى إذا تعرفنا على وظيفة الغضب العفوي والعنف، نحتاج إلى حصافة تمييز حاسمة بهذا الصدد، وبدون إنكار معاناة الأفراد والجماعات التي كانت سبباً مباشراً للانفعالات الشديدة والغضب والعنف. ولا بد أيضاً أن نتخذ الخطوات التي تمنع من إغراء الاحتفاء بالعنف وتمجيده. وهذا من الأدوار المهمة التي تقوم بها الفلسفة في هذا السياق.
ومن ناحية أخرى، بما أن العنف تدميري بطبيعته، فلا يمكن أن يـُعد خلّاقاً؛ لهذا  أدانت (أرنديت) بقوة زعم (سارتر)، في مقاله التقديمي لـ(فانون)، من أن العنف وروح الانتقام يمكن أن تحرر الإنسان. وأنا أتفق معها تماماً في هذا.
 وكذلك - كما أشرنا - وعى (فانون) بضرورة وضع حدود للعنف، لذلك أكّد كثيراً على أن تكون القيادات السياسية متعلمة، مثقفة، ولديها حسن الإصغاء، إذ بهذه الحالة يتحول العنف إلى وسيلة لمؤازرة النضال المسلح ضد الكولونيالية. فلا يحرر العنف العفوي الإنسان، أنه يدمر بالكامل الجدية والرغبة في النضال من أجل التحرر.
إن أهم درس نتعلمه من (فانون) هو فشل العنف العفوي، أي الذي يأتي كرّد فعل. فمهما يكن دور العنف في هزيمة الأنظمة القمعية، فإنه ليس كافياً لخلق ما يدعوه (فانون) بالتحرر، وما تسميه (أرنديت) الحرية.
إن الصعوبة التي نواجهها اليوم هي كيف نـُبقي فكرة وممارسة الحرية حيًة وملموسة، في ظل توسّع العولمة، حيث هناك إغراءات كثيرة تدفع نحو العنف.
هناك حجج قوية ومعتبرة لالتزام أخلاقي وسياسي باللاعنف. إن أكثر ما يواجههنا في العالم المعاصر هو (تضخم السلطة)، فإذا قبلنا بنظام الأمر/ الطاعة في علاقات السلطة، كطريقة لفرض السيطرة، سيكون من الصعوبة إلغاء النتيجة التي تترتب عليها، وهي أن كل سياسة ليست إلا كفاحاً من أجل السلطة، وأن الغاية والطبيعة القصوى لهذه السلطة هي العنف.
لا أعتقد أنه من الممكن أن نتنبأ متى وأين سوف تظهر وتتنامى هذه السلطة وعنفها، وأيّ حوادث تحفزّها على الحركة من جهة. لكن، من جهة أخرى، عندما نفحص بعناية تلك الحركات غير العنيفة التي نجحت في إنجاز أهدافها، نكـتشف أن هناك دائماً من هم على استعداد للعمل بهذه الطريقة السلمية.
ما هو جوهري هو أن نـُبقي فكرة السلطة غير العنيفة حيـّة، وأنها ممكن أن تُنجز وتتحقق. وفي الوقت نفسه أن نـعي حدود قوة أو سلطة اللاعنف، والأسباب التي تؤدي إلى تقويضها؛ وكل هذا من مهام الفلسفة. لذلك علينا دائما مواجهة السؤال عن متى وكيف يمكن أن  يُـبرّر العنف. إن مثل هذا التبرير مفتوح أمامنا كتحدٍّ يتطلب النقاش دائماً. فأنا أشك بإمكانية تأسيس مبادئ أو معايير كلية وكونية تمكننا من أن نقرر متى يُـبرر العنف أو لا يُـبرر. فكل المبادئ العامة، بما فيها حق الدفاع عن النفس، يمكن أن  يساء استعمالها.
لا يمكننا أن نحدّد، بشكل مسبق، كيف ومتى سينفجر العنف بيننا. فلا يظهر العنف في العالم، غالباً، بشكل واضح كعنف. إنه يتنكر ويتخفّى ويقدّم نفسه على أنه بريء وطاهر، ضروري، ومبرر، وشرعي.
لذلك، إن مهمة الكشف عن ما يغذّيه ويديمه، مهمة صعبة ومعقدة. وهي ليست مهمة نظرية من أجل الفهم فقط، ولكنها عملية أيضاً. فمن المهام التي على الفلسفة النهوض بها هي تطوير المفاهيم وأشكال الوصف وأنماط التحليل، التي تمكننا من إدراك لماذا تقدم هذه الظاهرة نفسها مقبولة وطبيعية، في حين إنها في الواقع عنف ووحشية. يبقى هذا العمل الفكري لا جدوى منه ما لم نقم بمحاولة جادة على مستوى التعليم وتحفيز المجتمع، أو تهيئة الشروط التي يستجيب فيها المجتمع ضد العنف، ويكون مسؤولاً بالوقوف بوجهه .
سيكون من التضليل الاعتقاد أن مشكلة العنف تقتصر على أشكال جديدة من العنف فقط، فغالباً ما نعمى عن رؤية العنف الذي يحيط بنا. فهناك أشكال من العنف ليست جديدة، ولكنها لم تكن تعتبر عنفاً في الماضي. إنها مهمة صعبة – وهي من مهام الفلسفة - تلك التي تتعلق بتحديد وكشف العنف، وكبحه، ولو أنه غالباً ما تفشل هذه المهمة أكثر مما تنجح.
قد يكون من الُمغري تبنّي خط متصلّب ضد العنف، والدفاع عن مواقف لا تقبل التسوية، وهي أنه لا يمكن تبرير العنف تحت أيّ ظرف، حتى لو كان بقصد طلب العدالة، أو تثبيتاً لها.
تنطلق  وجهة النظر هذه من أن هناك دائماً بديل عن العنف؛ وهو اللاعنف، وأن لهذا البديل نموذج قوي وقد تم التعبير عنه من قبل مفكرين وسياسيين بارزين، مثل: تولستوي، غاندي، مارتن لوثر كنج.
نعم يمكن تبريره، لكن بصعوبة شديدة جداً، وإلى أبعد حد من الاستثنائية، يمكن تبريره عمليًا وفعلياً وواقعياً انطلاقا من المبدأ الذي لا يمكن أن نحيد عنه، وهو أن حياة وسلامة كل الأفراد البشر لا بد أن تُحترم، وفي كل الأوقات، وكذلك يحترم حق الدفاع عن النفس، وحق العمل، وإحراز الثروة. فالأغلبية المطلقة من أعمال العنف لا تمتلك أيّ أرضية أو سند لحقانيتها، وبالتالي لا يمكن أبداً اغتفارها، ولا سيما القتل، إذ لا يمكن تبريره أبداً، ما عدا في ظروف استثنائية جداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق