فاتن محمد
ماجستير في الدعوة والثقافة الإسلامية
قسم العلماء الدين الإسلامي إلى ثلاثة أركان: الإسلام والإيمان
والإحسان، وقد اعتمد العلماء في هذا التقسيم على حديث جبريل: "كان النبي (صلى
الله عليه وسلم) بارزاً يوماً للناس، فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله
وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تعبد الله
ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟
قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما
المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول
رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي (صلى الله عليه
وسلم): {إن الله عنده علم الساعة} الآية، ثم أدبر، فقال: ردوه: فلم يروا شيئاً، فقال:
هذا جبريل، جاء يعلم الناس دينهم"/ صحيح البخاري.
وهناك ارتباط بين الإحسان والإيمان والإسلام، فبدون الإحسان لا
يتم للمسلم إيمان ولا إسلام، فهو الروح المنبثقة من أركان الإسلام، فإذا خليت هذه الطاعات
من الإحسان، كانت ميتة لا روح فيها. وكذلك العقيدة، إن لم تبن على أساس الإحسان، كانت
متخلخلة ناقصة. قال أحد العلماء: "أما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة
أصحابه، من الإيمان. والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه، من الإسلام. فالإحسان
يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام".
وهناك قسمين للإحسان: قسم يتعلق بالقلوب، وقسم يتعلق بالعمل. ففي
الأول، كيف يكون الإحسان، وفي القسم الثاني، كيفية ممارسة الإحسان.
أما القسم الأول، وهو ما يتعلق بالقلوب، فالمُستَنَدُ فيه هو حديث
جبريل السابق، وهو مرتبط بمعنى المراقبة، وهناك من جعلها مرتبة واحدة، وهي استشعار
مراقبة الله. وهو معنى مهم جداً، فمن استشعر مراقبة الله لن يصدر عنه إلا الإحسان.
وهناك من جعله رتبتين، وجعل المرتبة الأخف فيها هي استشعار مراقبة الله، وأنك في مراقبته
دائماً. ولكن مع استمرار المجاهدة في هذه المرتبة، ورسوخها في القلب، ينتقل الإنسان
إلى مرتبة أعلى، وهي: (كأنك تراه)، وهي أعلى من الأولى. والفرق بينها وبين الأولى،
أن الإنسان في المرتبة الأولى يتقن العمل، إما خوفاً من الله، أو رجاءً بأجره، أو حياءً
منه. لكن في المرحلة الثانية، هو يستضيء بنور الله، فهو في معية الله عند مزاولته للعمل،
وهو عاجز عن ألا يتقن. "طلب رجل من صانع عملاً فأنجزه له، وبعد عودته للمنزل رأى
أنه لم ينجزه بالقدر الصحيح من الإتقان، فقضى ليلته وهو يصنع بديلاً لذلك العمل، مع
مراعاة أن يكون على أكبر قدر من الإتقان، فلما أصبح أعطاه للرجل، وطلب منه أن يرد له
الأول، فشكره الرجل، فرد عليه الصانع: أنا لم أعمل ذلك لتشكرني عليه، بل قضاءً لحق
الصنعة، كراهة أن يظهر من عملي عمل غير متقن. فمتى قصّر الصانع في العمل، لنقص الأجرة،
فقد كفر بما علّمه الله، وربما سُلِب الإتقان".
وأما القسم الثاني، الذي يتعلق بالأعمال، والمستند فيه حديث النبـي
(صلى الله عليه وسلم): "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا
القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"/ النسائي.
ومن خلال هذا الحديث يظهر ربط النبـي لمفهوم الاحسان بالإتقان، بل إن هناك علاقة متداخلة
بينهما، مع كون الإحسان أعم من الإتقان، إذ يتعلق الإتقان فقط بالجانب التطبيقي للعمل.
ومن المهم جدا معرفة هذه النقطة، وهي صلة الإتقان بالإحسان، وأنه جزء منه. فكما أخطأ
البعض من المسلمين في تصنيف الإحسان، أخطأوا الخطأ نفسه في تصنيفهم للإتقان، فصُنِّف
على أنه من الذوقيات، وأنه يختص بالعمل الدنيوي، وأنه منفصل تماماً عن الدين. ولكن
حين نعيده إلى مكانه الصحيح، وهو أنه جزء من الإحسان، وقبله يُعاد الإحسان إلى موقعه
الصحيح، وأنه ركن الإسلام الثالث، وبالتالي تعود للإتقان مكانته الصحيحة في الإسلام،
ويكون التقصير فيه ليس مجرد ترك ذوقية من الذوقيات، إنما يكون هدماً لدينٍ بأكمله.
فإذا استشعر المسلمون هذا المعنى، لم يكن لهم خيار إلا تطبيق الإتقان في حياتهم كلها،
كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم،
فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"/
النسائي. والأمثلة التي ذكرها النبـي في الحديث، تبين مدى عموميّة معنى الإتقان، فهو
لم يضرب لنا مثلاً بأمر، يتبادر إلى الذهن فيه معنى الإتقان، كالعبادة، والعمل، و...إلخ،
بل تجاوز هذه الأمثلة كلها من تعاملات الناس اليومية، ليضرب مثلاً بشيء أبعد ما يكون
الإنسان في ممارسته له متنبِّهاً لمعنى الإتقان، ليبين لنا أنه أمر تعبديٌّ محض، دون
النظر بنتائجه، وإنما التسليم التام بتطبيقه بكل المجالات. وهو ما أيّده حديث النبـي
(صلّى الله عليه وسلّم)، حين وقف على جنازة، فعند تسوية القبر لم يتمّوا تسويته، فأمرهم
النبـي بتسويته، وقال: "أما إن هذا لا ينفع الميت، ولا يضرّه، غير أنّ الله يحب
من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه". فإن كان الأمر بالإتقان في أمور لا يكون لإتقانها
أي منفعة تذكر، فكيف بالإتقان للطبيب في عمله، وهو المسؤول عن صحة أجساد الناس؟ وكيف
به للمزارع الذي يتعلق بصنعته قوت خلق الله؟ وكيف بالتاجر المسؤول عن اقتصاد البلاد؟
وكيف بالعالم المسؤول عن تطور البلاد؟ وكيف بالمدرس والمربي المسؤولين عن عقول الأجيال؟
و...إلخ.
ويرتبط القسم الثاني من الإحسان بالقسم الأول ارتباطاً وثيقاً،
إذ إن الإنسان يكون في أكثر إتقانه حين يكون تحت مراقبة صاحب العمل، فكيف إن كانت المراقبة
من الله؟! فاستشعار المراقبة لله هو الطريق الحقيقي لإتقان العمل، ففي القصة المشهورة:
"أن عمر بن الخطاب كان يدور في الليل، زمن خلافته، فسمع امرأة تقول لابنتها: اخلطي
الحليب بالماء، كي نبيعه في الصباح، فقالت البنت لأمها: ولكن أمير المؤمنين نهى عن
خلط اللبن بالماء، فقالت الأم: ولكن أمير المؤمنين لا يرانا، فقالت الابنة: إن كان
أمير المؤمنين لا يرانا، فإن رب أمير المؤمنين يرانا"، فمع تصادم رغباتها مع الإتقان،
ومع وجود الخوف من الأم، والطمع بالربح، إلا أن استشعار مراقبة الله، وعلمها أن الإتقان
جزء من دينها، لم تجد بُدّاً من الاستسلام لأمر الله. وكان ثمرة تطبيقها للإحسان، في
الدنيا قبل الآخرة، أن زوّجها سيدنا عمر لأحد أبنائه، أي تزوجت ابن الخليفة، ابن حاكم
أكبر دولة في ذاك الزمن، بل وكانت جدة لأمير المؤمنين (عمر بن عبد العزيز)، الذي كان
هو نفسه ثمرة من ثمار إحسان جدته.. أفلا تطمع أن يجازيك الله بإتقانك للعمل، أن يجعلك
أنت، أو من يخرج من صلبك، ممن يصلحون للأمة أمر دينها، كما كان الحال مع (عمر بن عبد
العزيز)، فيجدد لها أمر دينها، ويعيد العدل بعد انتشار الظلم؟ وعلى النقيض، فما تعانيه
الأمة اليوم ما هو إلا نتيجة التخلي عن الإتقان، ففي إحدى الدول الإسلامية افتتح مصنع
لتجميع السيارات، وبعد فترة فشل المصنع، وعندما بحث الخبراء في السبب، وجدوا أن العامل
المسؤول عن تركيب البراغي، الخاصة بالهيكل الداخلي للسيارة، كان يضع نصفها، ويسرق النصف
الآخر، فكان يؤدي ذلك إلى تعطل السيارة بوقت قصير، فأدى إلى فشل المصنع، وبالتالي فشل
دولة في افتتاح مصنع لتجميع السيارات، وبالتالي خسارة العالم الإسلامي ككل، وكل ذلك
نتيجة لعدم إتقان إنسان واحد.
جملة أستوقفتني: "لولا البقية الصالحة من المحسنين، لكان الناس
في أسوأ مما هم عليه الآن". فنحن في زمن تعاني فيه الأمة من شدة ما ينزل بها:
الدماء التي تسفك، الأراضي التي تحتل، الأعراض التي تنتهك. فأرخص الأراضي أراضينا،
وأرخص الدماء دماؤنا، وأرخص الأعراض أعراضنا. التخلف الذي نعيشه، على جميع المستويات،
التناحر والتنازع والتباغض وغيرها من مصائب تعصف بالأمة. هذه الجملة طرحت في نفسي سؤالاً
مخيفاً، وهو: إن كان هذا حالنا، وهو أسوأ ما يمكن أن تصل إليه أمة من الانحطاط، أفتكون
الأمة قد خلت من المحسنين؟
سؤال تركته دون إجابة، سواء عجزا، أم فزعاً من الإجابة، فذاك لن
يغير من الحال شيئاً. ولكل أن يجيب عنه بحسب رأيه، ولكن إن كانت إجابتك نعم، انتفى
المحسنون حقاً، فكن بربك أنت المحسن..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق