مازال الخطاب
النسوي في كوردستان في بداية الطريق، يرسم خطوطه العريضة تجاه المتغيرات الحالية في
ساحة الأدب الكوردي بعد مرحلة السقوط. وهذا القول يفسر مدى الصعوبات التي تعترض سبيل
الكاتبة، التي ترفض الوقوع في شرك الصورة النمطية المرسومة لها من قبل المجتمع الذكوري،
ذلك المجتمع المحكوم بأعراف وتقاليد موروثة ما زالت قائمة، وتجد نفسها محكومة أيضا
بأدوار وقوالب بحكم انتمائها الأنثوي. وهذا يتطلب وجود منظمات جادة وقوية، نسوية، مدعومة
من قبل طبقة المثقفين، الذين يؤمنون بعدالة القضية (1). والاتجاه النسوي الثقافي المعاصر
في كوردستان، يختلف تماما عن الاتجاه العام السابق، إبان حكم الدكتاتورية، بعد
بروز
منظمات المجتمع المدني النسوية، ودورها في بناء العراق الجديد، والتنمية التي تدعم
المجتمع. ورغم هذا، ففي مجال الأدب، فإن المرأة الكوردية قطعت شوطا لا بأس به في مجال
الإبداع، مثل القصة والرواية والشعر. وإذا كان الأدب الكوردي عموما يفتقر إلى مدرسة
نقدية،
فإن الأدب
النسوي هو الآخر يعاني من هذه الإشكالية، خاصة في قضايا السرد الأدبي(2). وإذا كنا
نستخدم مصطلح الأدب النسوي، فإنه ما زال هناك حالة عدم اتفاق بين الكتاب والأدباء والمثقفين
في كوردستان بوجود هكذا أدب، على أساس أنه يشكل خلخلة في الثقافة الذكورية المهيمنة،
وعدم وجود مرجعيات فكرية أو ثقافية تعمل عليها
المرأة، ومازال هناك خطوط حمراء لم تتجاوزها المرأة، بسبب التسلط الذكوري عليها،
وهناك رؤية نسوية خاصة أدت إلى تكوين مرحلة لاحقة بأسلوب نسوي، فظهرت كتابات لها صفات
ومميزات تختلف عن الكتابة الذكورية في الكثير من الاتجاهات التي اقتحمت تفاصيل الحياة.
والصورة التي تسعى إليها في هذا المقام هو تشخيص أنماط المرأة في الأعمال الأدبية،
كالرواية والشعر، وكيفية التعامل مع موضوعات أو تجارب أنثوية بحتة، لا يتعرض لها الرجال،
وما زال الأدب النسوي يعاني من عدم وجود قارئات نسويات، أي أن المتلقي ما زال غائبا(3).
أما المهم الآخر، فهو إثبات وجود تجارب نسائية مستقلة، ومتميزة، في أنماط التفكير،
والشعور، والتعبير، والإحساس بالذات. والكتابة النسوية أيضاًً، لها لغة مميزة في مجال
السرد القصصي، والروائي. وهذا الأسلوب النسوي له دلالاته الخاصة في صياغة الصور والكتابات،
وهذ الميزة منحت بعض الكاتبات فرصة للولوج إلى عالم الإبداع، رغم أن النقاد في مجال
الأدب يعتقدون أنه لا يرقى إلى مستوى الأدب الذكوري، ولا حاجة إلى وجود نقد أدبي أنثوي،
وهذا يعود إلى شحة النتاج النسوي في كوردستان، مقارنةً بعطاء الرجل، والسبب يعود إلى
كون المرأة لم تمنح لها الفرصة لكي تمارس حقها في الحياة الثقافية. ولكن رغم ذلك، برزت
أسماء نسوية أثبتت جدارتها، وأصالة منجزها الثقافي الإبداعي. ففي المجال الروائي، هناك
عدد من المبدعات، مثل الكاتبات: (كلاويز صالح)، (كليزار أنور)، (شيرين كمال)، (هيرو
عبدالله كوران). كما في الشعر، مثل: (جنار نامق)، (مهاباد قرداغي)، على سبيل المثال.
وهناك أسماء أخرى كثيرة في مختلف المجالات، أبدعت فيها المرأة، وروايات أصبحت لها شهرة
خارج كوردستان، مثل الروايات المترجمة للروائية (كلاويز صالح فتاح)، التي ترجمت إلى
اللغات الأجنبية، وكاتبات لهن شأن في مجال الترجمة، بالإضافة إلى أدب المرأة في المهجر.
إن حالة عدم الاستقرار السياسي، وفقدان الأمن،
مدى نصف قرن في العراق، أدى إلى ندرة التجليات الإبداعية البارزة في الوسط النسوي،
في مجال الأدب والفن(4). إضافة إلى ذلك، فإن نمط الحياة الأسرية، بعد زواج المرأة،
لعب دورا كبيرا في إحباط تلك التصورات الإبداعية، كما أشارت (شيرين طاهر) على هامش
(مهرجان كلاويز العاشر) بأن هناك أدبا نسويا، وأن المرحلة الحاضرة هي بمثابة انبعاث
هذا الأدب، وخاصة في مجال الشعر. والمستقبل، كما أضافت (شيرين) سوف يشهد ولادة نساء
يكتبن بجرأة عن كل ما يجول في دواخلهن، رغم أن الصحافة لا تهتم بالأصوات النسائية،
وأن الشعر النسوي، على سبيل المثال، لم يصل بعد إلى مستوى يخوله لأن يصبح صوتا أو ظاهرة.
فالمرأة حتى الآن لم تستطع الوصول إلى مستوى يخولها في أن تصبح ظاهرة بحد ذاتها، كما
أن الوصول إلى ذلك الجذر مهم لكتابة قصيدة شعرية لدى المرأة الكوردية، وأن لغة الشعر
النسائية باهتة، تصف معاناة المرأة في المجتمع برومانسيتها. وتقول (سلمى جبو) إنه من
المؤمل، بعد أحداث 9/ نيسان/2003، أن تتغير حياة المرأة نحو الأحسن، لكن التخلف الاجتماعي
والثقافي هو من أهم المعوقات في هذا المجال. وتقول (كوثر دهام)، وهي الناشطة في مجال
حقوق المرأة: بعد السقوط تغير دافع المرأة، بل إنه انقسم إلى اتجاهين، فمن جهة كان
هناك حرص على حصولها على أكبر قدر ممكن من حقوقها، وفي الاتجاه الثاني أو المعاكس:
فإن المرأة تعرضت إلى الكثير من الاضطهاد والعنف.
وما حققته
النساء في كوردستان، بتعديل (قانون الأحوال الشخصية)، قد أثر على نتاجات المرأة في
كل المجالات، كما أن أغلب النتاجات التي كانت تكتبها النساء، من الرائدات في هذا المجال،
ممن اكتسبن خبرة في إتقان الصنعة الأدبية في ميدان الأدب، بمختلف أجناسه، أو في مجال
الفكر والفن، كانت ترتبط بتجارب التحدي في الواقع الاحتياطي الذي يدعو إلى التحرر،
وهو مجال مفتوح على فضاءات واسعة، وانبثق من مخاضات حالات الاستبعاد والظلم. على أن
النسوية الداعية إلى حرب الجبهات قد أفل نجمها، وهناك أمثلة على ذلك، ففي قصص (بئر
البنفسج)، للقاصة (كليزار أنور)، نجد نسمات عراقية خالصة، تتسم بالورع والتسامح والصدق
والبراءة والفضيلة والحق والخير والالتزام المذهل والمتعب، بما يدعم مشروعها المتواصل
لتقديس الأنثى، والحياة، عبر السرد، وعبر السلوك الحياتي(5). و(الصندوق الأسود)، روايتها
الثانية، التي لم تر النور بعد، لكن نورها الإنساني يبرق واضحاً أمام أعين الكثيرين،
حيث الحياة الإنسانية الحالمة، والحافلة بآلام الإنسان، بل بأفراحه، وأحزانه، وهواجسه،
وشكوكه، وإيمانه، وقلقه، وإشراقته. وما يقال عن ثيمات الورع والخشوع والصدق الإنساني،
ورسم حركة الشخوص، بما تحمله من عوالم وفضاءات مفتوحة، وصور الإبداع، التي احتوت مساحتها
البيضاء مئات الذوات المبدعة، وقد حملته الكاتبة على أزميل السرد الهادئ الصادق، وهي
ترسم على جدار القص لترسم لها اسماً وصورة في سماء القصة.
وفي قصص
(عنقود الكهرمان)، نجد أن الكاتبة تعي الواقع الاجتماعي، حيث تلامس همومه وأوجاعه.
وهذه المجموعة القصصية التي فازت بجائزة مسابقة الشباب الأدبية، وهي تتناول الهم الإنساني،
ورسم عوالمه، وشخوصه، وصولاً إلى شاطئ الأمان.
وفي قصة (البيت القديم)، وهي القصة الفائزة على (جائزة أور) الإبداعية لعام 1999، تتناول
الكاتبة موضوع الرحيل عن الوطن، إذ تخبرنا بطلة القصة عن شريط ذكرياتها، الذي يأخذها
إلى البيت القديم، ويسقطها في ألم هذه الذكريات. وفي قصة (على عجل)، تعود بنا (كليزار
أنور) إلى تلك الحرب اللعينة، في عام 1991. بينما نجدها في قصة (ذكريات للبيع) تعود
بنا إلى زمن الحصار، حيث كان معظم الكتاب يبيعون كتبهم، التي طالما كانت عزيزة على
قلوبهم، من أجل لقمة العيش. وهكذا نجد في قصص (كليزار) الحنين إلى الماضي، وهيمنة الذكريات.
وأهم ما يميز هذه المجموعة، أنها مكتوبة من زوايا متعددة، وأسلوب رفيع (6).
وفي روايتها
(عجلة النار)، هناك مدلولات وعلاقات نبيلة، وطنياً وإنسانيا، تتسع شخصية الكاتبة (كليزار
أنور) هويتها القومية، ونتاجها القصصي، لمحمولات ترمز وتشير على الدوام إلى وحدة الانتماء
الوطني والحضاري والإنساني. وهي وإن كانت لا
تشكل في هذا السياق فرادة لوحدها، إلا أنها متميزة في جدل رؤيتها الممتدة عميقا وسحيقا
في التاريخ الحضاري للبلاد والمنطقة، وبناء عليه فهي رمز للتآلف الحضاري والوطني، عبر
مضامين الرواية الإنسانية.
ورغم ندرة
التجليات الإبداعية البارزة في الوسط النسوي
الكوردي، في مجال الأدب والفنون المختلفة، وهو أمر يثير التساؤل، لأن الحضور
الإبداعي للمرأة في هذه المجالات، لا يحتاج إلى ما يحتاجه في مجالات السياسة والاقتصاد
والتسلط الاجتماعي. وكأن المرأة قد اكتفت في عالم الأدب والفنون، بدور الملهمة للأدباء
أو الفنانين. ويبدو أن لنمط الحياة الأسرية في المجتمع العراقي، وكذلك في المجتمع الكوردي،
بعد الزواج، دوراً كبيراً وأساسياً في إحباط التطلعات الإبداعية لديها في هذه المجالات،
وإجهاض الاهتمامات الواعدة الناشئة لديها قبل الزواج. ولكن أسماء مثل (كلاويز صالح
فتاح)، (هيرو عبدالله كوران)، (كليزار أنور)، لها وقع خاص.
إن الرواية
النسوية في كوردستان وضعتنا أمام نماذج إنسانية مسحوقة ومغلوبة على أمرها، أما الخطوة
الأكثر تطوراً، والتي يمكن أن نعدها قفزة في الانتصار لقضايا المرأة المنافسة، ومناقشة
وضعها التاريخي داخل بنى المجتمع، فإننا نجدها في روايات وقصص (كلاويز صالح فتاح)،
و(هيرو عبدالله كوران)، و(شيرين كمال)، و(سوزان سامانجي)، و(سحر سليمان)، و(هيفاء زنكنة)،
وغيرهن.
ومنذ القرأة
الأولى لقصص (هيرو عبدالله)، ومجموعتها (حافات الموت – حافات الحياة)، تتبين هويتها الكوردية بوضوح تام في فضاءات يتجاوز فيها الموت
مع النقيض، الذي يتمثل بالرغبة في الحياة، والبحث عن الهوية الكوردية، والدفاع عن الأرض
والوجود معاً. ويمكن تصنيف قصصها على أنها تمثل أدب المقاومة، مثل قصص: (غزو)، (مرور)،
(قرية)، (جمهورية)، (تضحية)، وغيرها، واستذكار لتلك الصور التي ناضل فيها الشعب ضد
أدوات القهر والاستلاب، وحقيقة تبعث من هذه القصص كانبعاث طائر العنقاء من وسط الدمار
والحرائق وأهرامات الجثث التي اغتالها الطغاة في مختلف العقود.
إن هذه القصص
قد غلب عليها توضيف الموروث التاريخي الكوردي في مجال القصة الكوردية المعاصرة، ففي قصة (مرور) تصور أحداثاً
وقعت في كوردستان في القرن الرابع ق.م، إبان مرور (زينفون) اليوناني، القائد العسكري،
عبر الأراضي الكوردية، لمواجهة الجيش الفارسي. وفي قصة (غزو) هنالك أحداث وقعت في القرن
الثامن ق.م، تصور غزو (آشور بانيبال) الأراضي الكوردية، ومقاومة الكورد في (مضيق بازيان).
ونعود إلى قصة (الجمهورية)، التي تقع أحداثها في منتصف القرن العشرين، حيث تطارد الطائرات
جموع الأكراد البارزانيين، الذين انطلق بهم قائدهم الخالد (مصطفى البارزاني)، هرباً
من بطش الدول الثلاث المتاخمة: إيران والعراق وتركيا. أما قصة (التضحية)، التي تقرأ
فيها أحداث نهاية القرن العشرين، حيث تقدم مجموعة الشبان الأكراد، تتقدمهم امرأة، لتقديم
مذكرة احتجاج إلى (الأمم المتحدة)، من خلال ممثلية لها في إحدى المدن الكوردية، حول إغارة جيش إحدى الدول المجاورة على
حدود كوردستان، والقصف المتواصل للمناطق الحدودية، مما أدى إلى هرب معظم سكان القرى
الحدودية. من هنا نجد أن طروحات (هيرو عبدالله) على أرض الواقع الكوردي، من خلال توظيف الموروث التاريخي، هو أساساً
لتحطيم كل عوامل الإحباط، وبناء حياة ملؤها الأمل والتفاؤل والرغبة في ازدهار الحياة
في ربوع كوردستان، وبناء مؤسسات الدولة، والعيش ضمن ملاذ آمن (7).
في قصة
(تلك المرأة)، لـ(شيرين كمال)، تضع المرأة في كل عيد نوروز باقة من النرجس أمام الصورة
الكبيرة. حيث اعتمدت القصة على تداخل الأزمنة: من الزمن الحاضر، ثم العودة إلى الماضي،
بعدها الانتقال إلى المستقبل. وقد أضفت نزعة الحداثة على الأسلوب السردي للقصة، وإضافة
عنصر الحوار، والعلاقة المتداخلة بين صوت الراوي وصوت البطل، بحيث تعطي المجال للقارئ
لتفسير تداعيات الأحداث.
وفي قصة
(الحبيبة الآتية من حلبجة)، للقاصة (سوزان سامانجي)، فهي تحكي قصة هروب فتاة كوردية إلى المناطق الحدودية، تخلصاً من ظلم النظام الفاشي.
وتعطي القاصة كل حدود التفاصيل الدقيقة، من أزمنة وأمكنة وشخوص وأحداث، توضح فيها حياة
البيشمركة، والعوائل الكوردية، التي لجأت إلى المناطق الجبلية النائية، أملاً في النجاة
من بطش القوات النظامية للنظام السابق.
وتتوضح مسيرة
الحب في قصة (سحر سليمان): (الهجرة من القدر)، ذلك الحب الذي كان محرماً في الفترات
السابقة، بسبب عنف التقاليد العشائرية البالية، والتي قيدت المرأة بسلاسل حديدية، لا
تستطيع الفكاك منها. بينما نجد في قصة (حياة معلبة)، للقاصة (هيفاء زنكنة)، تلك الإشكاليات
التي حدثت تباعاً بعد الزواج. وتصف حالة المعاناة الواقعية، التي يعيشها الفرد في مواجهة
تداعيات الحرية، والانطلاق نحو آفاق مفتوحة ورحبة (8).
إن كتابة
المرأة الإبداعية في كوردستان يمكن أن تتطور إلى خصائص وسمات ظلت مغيبة طوال الفترة
التي انفرد فيها الرجل بكتابة النصوص الأدبية. فهل يمكن أن يتغير هذا الأمر، وأن تشاهد
ولادة جديدة للأدب النسوي في كوردستان، بعيداً عن السيطرة الذكورية؟. نقول إن المرأة
الكوردية، ومنذ الأزل، تتوافر فيها الإمكانات الإبداعية، وإن الاعتراف بهذه الحقيقة
يقودنا إلى تبديد الكثير من المفاهيم التي ترافق الحالة المعاصرة، والجدالات المتصلة
بالمرأة في مجالات متعددة ومتنوعة، والتي ظلت
مطمورة بسبب شروط اجتماعية معينة، أو نتيجة فهم محدد لموضوع الإبداع، والتعبير عن القيم
الحياتية، تتعدى السياق الآني (9).
ومنذ فترة السبعينيات، عندما برزت أقلام نسائية في
كوردستان، في مجالات الشعر والقصة، اتخذ النقاش في هذه الظاهرة الإبداعية المكتوبة،
ومع المسافة الزمنية نقترب اليوم أكثر فأكثر نحو ترسيخ مفهوم إبداعات المرأة الكوردية،
في مجالات الأدب، كما في المجالات الأخرى (10).
ومجموعة
(هيرو عبدالله كوران) الأخرى، وهي بعنوان (صفحات من الشرق)، تتضمن القصص الآتية: الثأر،
عربة بحصانين، ثلاث فصول، الخريف، الشتاء، التقاعد، لن يصبح ابنه أبداً، الصرخة المزدوجة،
حبات القرنفل، شمس الظهيرة، المجابهة، صفحات من الكتاب، امرأة، الليرة، وماذا بعد،
ليالي الشتاء، البحث عن القصة. وهي قصص بمجموعها تبحث عن الهموم الإنسانية، والعلاقات
الاجتماعية، وتداعيات البحث عن الملاذ الآمن في النفق الطويل المظلم، حيث كوابيس الماضي،
وإفرازات الحاضر، وهي قصص تدعو المتلقي إلى التعاطف، مع معاناة تلك الشخصيات، التي
رسمت بحذر شديد، وهي مواقف مختلفة تصب في النهاية إلى التوق نحو الحرية والقيم النبيلة
والولوج نحو سبل السعادة والطمأنينة. وصوت المرأة الإبداعي هو قطيعة من ماض طويل، لم
تكن شروطه المادية، وعلاقته الاجتماعية، تتيح للمرأة أن تمارس الإبداع. والكاتبة هنا
تستبطن تجاربها الحياتية في واقع معاش، تجعلها تتخلص من القيم الذكورية. كتابة المرأة
هنا تحرث في أرض شاسعة، وهي تضيء مناطق وفضاءات مغيبة لفترة طويلة.
وهذا ما
يدعونا إلى القول إن هذه التحولات في كتابات المرأة الكوردية، إنما تحاول هدم الكثير
من الأحكام المسبقة تجاه المرأة، يأخذ طابع الإلحاح والضرورة، باعتبارها خصوصية اجتماعية
وتاريخية، تضمن لها أن تكتب باتجاه أفق مغاير، يستنطق، ويستوحي، ويشكل عوالم طالما
لفها النسيان والصمت(11) .
إذا كانت
المرأة الكوردية محاصرة ذهنياً وعملياً، بهذا
الكم الهائل، الذي يتدفق من كل صوب، من المفاهيم والمعايير الجديدة والمستجدة عليها،
فهي لا تنكر أنها ضحية نقص معرفي شديد متعمد، إضافة إلى بقية النواقص المعروفة، التي
تنهش استحقاقاتها الإنسانية.
وفي رواية
(كنة آته خان)، للكاتبة (كلاويز صالح فتاح)، يتأسس السرد على الجزء الملحوظ، المستند
على قاعدة الابتعاد عن التصريح المباشر، والاكتفاء بالتلويح، بما فيه من تجليات فكرية
وجمالية. وما نقصده هنا أن الرواية ليست تلك الثيمة الفكرية وحدها: علاقة الحماة الكوردية
مع كنتها الإنكليزية، وإنما هناك ثيمات لم يأت الإعلان عنها، باستخدام الضجيج الذي
يحوّل النص الأدبي إلى نوع من التعبير يمارس فيه العسف، الذي يتم عن طريقة تحويل النص
إلى الحافة السياسية التي لا طائل من ورائها. وفي الوقت الذي نتفق مع من يرى بأن الرواية
فيها من التقريرية والوصف ما يمكن أن يعد عبئاً عليها، إلا أننا نقول إن الكاتبة تتعقب
الحقيقة، كما لو كان يعمل الباحث الأركيولوجي في الموجودات في المكان الذي يبحث فيه،
مع ما فيها من مقاربات إبداعية تقول إنها عبارة ثنائيات الشرق والغرب، فهي تدعو إلى
التحرر، إلى جانب ما تفضح عنه في المجال الواقعي، التي تصور فيه عالمين متناقضين بين
المرأة الكوردية، وهي شرقية، وبين الإنكليزية
الغربية، وما يصاحب ذلك من تناقض في الحياة، والمعيشة، والتعايش، والعلاقات الاجتماعية،
وما فيها من صراع الأضداد(12).
ويقول رأي
آخر، بأن الرواية محاولة جريئة للتأمل في السرد الكوردي، القادر على جمع عناصر التراثية
والشعبية لأمة تنتمي، وبقوة، إلى المكان الذي تتفتح فيه الحرية. وقابلية الكاتبة في
تحويل السرد إلى واقع، والواقع إلى عمل فني، في نقطة مشتركة تجمع هذه الثيمات. إنها
عكست صورة عالمنا الكوردي، بعمق وصدق. وإن هذه الرواية تمثل أفضل نموذج للواقعية الاجتماعية.
وهو نص قائم على تواصل الحوادث، وتبادل المنافع، والمعلومات، كنوع من الاحترام للإنسان،
والعقل، والحرية، في عالم تسوده العدالة والمساواة، ورسم صورة الإنسان والواقع والحياة.
هذا ما ترنو إليه الكاتبة في طروحاتها الروائية، وهي تحاول توفيق الموروث الحكائي التاريخي،
بعناصره الحيوية، وتراكماته على مستوى التاريخ، والإحساس بالفواجع والكوارث، على اعتبار
أن المعرفة في الأساس هي البحث عن الحقيقة (13).
ولاشك أن
مسارات الرواية تشهد تحولاً هاماً في إعادة وصف الحياة، وتحولاتها الجوهرية، وبإمكانها
الدخول في التفاصيل الحياتية الدقيقة، بطريقة جمالية وإنسانية. لقد تخلصت الرواية من
ترهلاتها وتعقيداتها، ودخلت مباشرة في موضوعاتها، خاصة تلك التي كتبتها النساء، وهي
الكاتبة التي يتجسد فيها فعل التوازن، بين الصوت الداخلي الذي يحاول أن يفتح داخل المرأة
المكبوت، نتيجة لعالم القسوة والخوف، يضيء مثل الشمعة داخل قلبها، غاصت فيه حتى الأعماق،
وحاولت أن تمازج بين ما هو ذاتي وأنثوي في بنى سردية متباينة، تعبر عن قسوة التجربة
التي تعيشها المرأة.
ولعل رصد النتاج النسوي الأدبي في كوردستان، وإبداعاته،
يمكن رصده من خلال تلك الخصائص التي تميز بين أدب المرأة وأدب الرجل، في ظل ثقافة ذكورية،
كانت سائدة لقرون طويلة في كوردستان. فإبداع المرأة لا يتطور بمعزل عن السياقات الثقافية
المختلفة (14).
إن فعل الكتابة
لدى المرأة، سواء أكانت معنية بقضايا وجودية نضالية، أم منغمسة في كتابة ذاتها. هذا
الفعل هو تحقيق لرؤية حال المثقف، حيث نرى أن المثقف، رجلاً كان أم امرأة، إنسان مستقل
عن مركز السلطة، معارض لها، يريد تحطيم الأفكار التي تختزل الإنسان في صفة واحدة، فللمثقف
القدرة على تمثيل ذاته، وتمثيل العالم في خطاباته وكتاباته (15).
تبقى الروائية
(كلاويز صالح فتاح) مخلصة للوقائع والأحداث التي شهدها التاريخ الكوردي، وكفاحه السياسي، منذ بدايات القرن
العشرين، وحتى قيام الانتفاضة في آذار 1991، مسجلة بذلك موقف المرأة، والتضحيات التي
قدمتها في تلك الفترة. ولطالما عرفت في رواياتها العشرة المنشورة، والتي ترجم العديد
منها إلى اللغة العربية، بأثر تلك الذكريات التي اختزنتها في ذاكرتها خلال سني حياتها
التي قضتها في الجبال والكهوف، وفي المنافي وبلاد الغربة، لتقدمها بعد ذلك في مقتطفات
في الندوات الأدبية والسياسية في (لندن). وذلك ما يجعل نتاجاتها متألفة مع قارئها،
بأسلوب تضفي عليه الواقعية النقدية(16).
إنها تتحدث
عن تلك الذكريات بوصفها شهادة عن أمكنة وأحداث وشخوص مرت بها الأسر الكوردية، في السليمانية
وأربيل وكركوك وبغداد، وفي مراحل تاريخية صعبة مر بها الشعب الكوردي في تاريخه الحديث. ففي قصتها الطويلة (عابر
سبيل هائمة)، تمجد الروائية (كلاويز صالح) الدور الإنساني والبطولي الذي لعبه عدد من
المناضلين الكورد، وبأسماء شتى، في مناطق مختلفة في العراق، سواء في كوردستان، أو في
مدن العراق الأخرى. فنجد الشخصية المحورية في القصة: (وةنةوشة) التي تهرب من المجهول،
هربها المباغت من منزل خالتها، هذه الخالة الطيبة في ظل زوج متعاون مع السلطة الفاشية.
وأن تركها لخالتها، بسبب عمالة زوجها للنظام ليس إلا. والقصة تسرد أحداثاً تقود أبطالها
إلى مصائر مجهولة، في ظل نظام سياسي لا يعترف بالقيم الأخلاقية والإنسانية، ولا يتفاهم
إلا بلغة الحديد والنار مع شعبه، لغة الإبادة والمقابر الجماعية، والأسلحة الكيمياوية،
والقمع(17).
على أن أول
رواية كتبتها (كلاويز) كانت (نحو كهف المقدامين)، في ظل ظروف عاشتها مع البيشمركة في
المناطق الجبلية، وهي تقع في 500 صفحة، وطبعت في أوروبا في عام 1988، وترجمت إلى اللغة
الفارسية باسم (جمهورية في الجبال)، وإلى اللغة
الإنكليزية بعد ذلك (18).
تنتمي رواية
(الأم والابن) للكاتبة (كلاويز)، إلى تيار الواقعية النقدية، وتعكس الصورة الحقيقية
لواقع الشعب الكوردي، إبان حقبة الخمسينيات
في القرن العشرين، وهي تتمثل في حس نقدي واضح تجاه الأحداث السياسية التي شهدها العراق
في تلك الفترة . وفيها من العناصر والمواد الروائية، وأزمنة وأمكنة وأحداث وشخصيات
ترتقي إلى الحدث الروائي، حيث تدور الأحداث حول شخصية كوردية مناضلة، قضت سنوات طويلة
في سجون كركوك والموصل. ليعود بطل الرواية (كاكه حمة) أخيراً إلى بيته في السليمانية،
بعد إذاعة بيان رقم واحد، وسقوط النظام الملكي في العراق عام 1985(19).
وفي روايتها
(العالم غابة)، تقارن الروائية (كلاويز) بين حياتين: حياة ملؤها البذح واللامبالاة،
وحياة السذاجة والحقيقة المرة، في العالم الكوردي
المعاصر. حياة الكوردي البسيطة بكل تداعياتها
ومفارقاتها في قصص أولئك الشخوص، الذين يعيشون على هامش الحياة. وهنالك تشابه بين رواية
(العالم غابة)، وبين رواية (حيدر حيدر): (الزمن الموحش)، حيث مرارة الحياة في مجتمعات
تحكمها قوانين وشرائع ملغاة أساساً، فالرواية تغص بالأحداث المؤلمة، من خلال أسرة،
وواقع شعب، وذلك في لغة جميلة وممتعة (20).
والروائية
(كلاويز) تظهر هنا وهي تحمل فكرا إبداعيا، ومتمسكة بصيغ جمالية في طرحها، وهي تبحث في مضمون الضغوط التي
تعيشها، وتأخذ بهامة الشموخ لحياة المرأة، التي شقت صلب الحياة، والواقع الذي تقع بين
ثناياه. في وصف كامل عن المكان والحدث، والسرد يدخل في مجمل تجربتها، كمؤلفة روائية
تعمدت إبراز الجانب الإبداعي في وصف حركة الأفراد الذين يتحركون ضمن الحدث الروائي،
وتنسج شخوص روايتها من عوالم متعددة. فالأحداث تجري في شكلها التعبيري عن المرأة، أضفت
شيئاً من القلق في عنصر التشويق، ومشاكسة المدرك من الخيال، بل رسمت بانوراما دقيقة
فيما يصاحب شخوصها والحالات النفسية التي تعيشها من الداخل، وتعتمدها من الخارج، دلالاتها
الظاهرية تتغذى على ما يحوك في أساليب حياتية تدخل في شكل البيئة و مرجعياتها الموروثة،
والمحكي عن الحياة الكوردية. مما يوحي للقارئ
أنها في رواياتها تثبت صورة واضحة لأسس الإبداع في الثقافة الكوردية، كنوع من السيرة، ليس فقط داخل الإقليم،
بل داخل عموم الحياة المحيطة، معتمدة على ذاكرتها التوثيقية لتاريخ شعب امتزج مع ثقافات
مختلفة في توثيق متشابك بالثقافة الإنسانية، مع وجود النضج في التجربة، محملة روايتها
السرد الواقعي لحبكة فيها سارد ممسك بتيار شعور أبطال الرواية. وهذا ما يؤكد رؤية الكاتبة
في امتلاك الوعي الزماني والمكاني، المدرك الوصفي، وعملية الحبك، وهيكلية جسم الرواية
المناسب، بثقة كاملة على جسد الأدب الروائي،
واضعة في حساباتها أن المرأة لا يفهم همومها غير المرأة. وبذلك نقول إن (كلاويز
صالح فتاح) هي إحدى أبرز الروائيات الكورديات،
حيث صدر لها رواية (كهف الشيطان) بأجزائها الثلاثة، ورواية (أجنحة طائر الرخ)، وأوراق
من السيرة الذاتية، كما لها قصص خاصة بالأطفال (21).
سرفراز النقشبندي |
ولا بد من
أن نشير إلى الروائية الكوردية المغتربة (سرفراز
علي شيخ النقشبندي)، وهي أول امرأة تصبح رئيسة تحرير، وصاحبة امتياز، لصحيفة في كوردستان
(جريدة ولات)، ومثلت كامرأة وكاتبة كوردية في نادي الكتاب العالميين لأربعة أعوام،
وشاركت في المؤتمرات العالمية، وتعيش حالياً في (برلين). ومن أعمالها : (بةلين)، وهي
نصوص فلكلورية 1986، ومجموعة قصص باللغة الكوردية:
(ئةز هةبووم وتو نه)، ومجموعة قصصية بالعربية، هي (الرهان)، ومجموعة قصصية أخرى بعنوان
(بروقالا)، ورواية طويلة بعنوان (لغم في الاحتساء)، في 600 صفحة. ولها كتاب: (حوا الأدب
الشعبـي)، مطبوع في (برلين)، وآخر حول أدب الأطفال بين التراث والحداثة. وهي تعمل حالياُ
في كتابة رواية، بعنوان (أمة دامعة القضية)، تحكي الحياة الاجتماعية والسياسية لمنطقة
بهدينان، وبالأخص منطقة (بامرني)، وما فيها من أحداث تاريخية(22).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
والهوامش
1- ثريا
برزنجي: النسوية العراقية والفوضى الثقافية: الآخر هو مكمل. التآخي، العدد 4973 في
1/3/2007.
2- كازيوه
صالح: هل تستطيع المرأة الكوردية جعل قضيتها
عالمية في ظل نظام العولمة؟ التآخي، في
25/7/2004.
3- الكاتبة
كقضية والذات كوسيط: اتجاهات ثقافية، بقلم
إبراهيم جاد الله، العدد 303 في 23/12/2006.
4- هويدا
صالح: مقاربة نقدية لأعماق الأنثى المنسية، اتجاهات ثقافية، العدد 309، في
10/2/2007.
5- علي حسين
عبيد: قداسة السرد الإنساني في قصص كليزار أنور، الاتحاد، العدد 2138 في 4/6/2009.
6- عنقود
الكهرمان: كليزار أنور . طريق الشعب في 14/3/2007. وينظر أيضاً مقال (هدية حسين)، وهو
بعنوان: هيمنة الذكريات في قصص كليزار أنور، الصباح الجديد، العدد 847 في
9/4/2007.
وينظر أيضا:
فخري أمين، قراءة في رواية (عجلة النار) لكليزار أنور، التآخي، العدد 4692، في
16/12/2006. ومقال كاظم حسوني، حول (عنقود الكهرمان)، في جريدة الزمان، العدد 2484
في 24/8/2006.
7- يوسف
يوسف. فضاءات الموت والحياة.. قصص الحافات. الاتحاد، العدد 1695 في 5/11/2007.
8- هاوزين
عبدالخالق: قراءة في مجموعة قصص نسوية كوردية، سردم العربي، العدد 14 في 2006.
9- بختيار
علي، هل بدأ عصر الرواية الكوردية، الصباح
الجديد، العدد 1276 في 13/10/2008.
10- عبد
الرضا جبارة، الملامح النقدية في الأدب الكوردي،
التآخي، 4348 في 4/11/2004.
11- هيرو
عبدالله كوران، صفحات من الشرق، مجموعة قصصية، السليمانية، 2006.
12- يوسف
يوسف، طبقات السرد والمقترب التأويلي، الاتحاد، 2053 في 22/2/2009.
13- لقمان
محمود، الروائية كةلاويز صالح فتاح في كنة آتة خان، الاتحاد، العدد 1959 في
18/10/2008.
14- الملا
أبو بكر، كنة آتة خان، قصة كوردية طويلة عن إعادة وصف الحياة وتحولاتها، الاتحاد، العدد
1955 في 13/10/2008.
15- فتح
الله الحسيني، تعدد الأمكنة والزمن الأوحد في قصة كنة آتة خان للقاصة كلاويز، الاتحاد،
العدد 1967 في 27/10/2008.
16- لقاء
مع الروائية كلاويز، أجرته كزال أحمد في فضائية كوردسات، ونشرته جريدة الاتحاد، ترجمة عبدالكريم شيخاني، عن كوردستاني نوي. الاتحاد، العدد
1284 في 10/9/2006.
17- نفس
المصدر السابق، كزال أحمد.
18- نفس
المصدر السابق، كزال أحمد. وينظر أيضاً مقال بعنوان: الروائية الرائدة كلاويز صالح
فتاح، إبداع من أجل الحياة والحرية والتاريخ، المدى الثقافي، العدد 1360 السنة السادسة 4/6/2006.
19- الأم
والابن: رواية الكورد المضطهدين في العراق، بقلم: عدنان حسين أحمد، الاتحاد، العدد
1965 في 12/5/2008.
20- فتح
الله الحسيني، الأسى الكوردي الطافح في رواية (العلم غابة) للروائية كلاويز، الاتحاد،
العدد الصادر في 12/5/2008.
21- رحاب
حسين الصانع، قراءة تحليلية نقدية لرواية العالم غابة للكاتبة الروائية كلاويز، جريدة
الأمة العراقية، العدد 255 في 15/9/2008.
22- حوار
مع الباحثة والروائية سرفراز النقشبندي أجراه عباس عبدالله يوسف. التآخي العدد
4298 في 26/8/2004.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نوري بطرس
عطو
- عضو البرلمان
العراقي سابقاً.
- عضو نقابة
صحفيي كوردستان.
- عضو اتحاد
الأدباء والكتاب في العراق.
- عضو اتحاد
الأدباء والكتاب السريان في العراق.
- عضو اتحاد
برلمانيي كوردستان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق