07‏/02‏/2014

مدخل إلى قراءة في الاشكالية الحضارية


محمد رشدي عبيد
على سبيل النكتة لا نجد أحداً سمى بنتاً له باسم (حضارة) أو (ثقافة) أو (ذوق)، بينما نجد في سنة 1792 أنجب نائب فرنسي طفلة فأطلق عليها من باب التفاؤل اسم (حضارة)، وهناك "161" تعريفاً للحضارة جمعها الأنثروبولوجي الألماني الأمريكي (ألفريد كروبر)، ومنهم من يراها ترجمة موافقة للكلمة الفرنسية civilization، وأوّل من استعملها من الفرنسيين الاقتصادي (آن جاك تورغو)، بينما نجد معجماً غربياً يرى أن مضمون الحضارة غامض، وأن الحضارات مجموعات متباينة،
وكل حضارة تنقسم إلى عدد مرتفع من الحضارات.
الحضارة لغوياً بمعنى الحضور، ولها علاقة بسكنى المدن والحضر، وهي تعني مجمل إنجازات الإنسان المادية والمعنوية في إطار ثقافةٍ ما، بينما يرى (مالك بن نبـي) أنها هذه الإنجازات التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد جميع الضمانات اللازمة لتطوره. ويرى (نصر عارف) بأن كل حضارة لا بد لها من عناصر خمسة: نسق عقدي، وبنية فكرية وسلوكية، ومنظومة قيم، ونمط مادي مجسم، وطريقة للتعامل مع العالم والكون، وأسلوب للتعامل مع الآخر وحضارته، بينما نجد تعريفاً غربياً ساقه (فرنان بروديل) يؤكّد - في هذا الصدد - علوم الإنسان والتاريخ والجغرافية وعلم الإجتماع والاقتصاد وعلم النفس الجماعي، وكذلك المعطيات الطبيعية، مثل: الفضاءات والأراضي والتضاريس والمناخات والنباتات والأجناس الحيوانية والمنافع المعطاة أو المكتسبة، في كتابه "قواعد لغة الحضارات"، المطبوع سنة 2009. وقد ذهب (توينبـي) إلى أن هناك 26 حضارة.
وبعض الحضاريين يؤكّدون أن تعريف (الحضارة)، والمفاضلة بين الحضارات، أكثر تعقيداً مِمَّا نتصوّر، لتعدد مستويات القراءة ومناهج التحليل. بينما (المدنية) معاييرها نفعية دقيقة أقرب إلى المادية والتقانة، ولا تغني عن الحداثة العقلية والفكرية. لذا حسب هذه الرؤية، فنحن مدنيون لا حضاريون، حين نكتفي بنقل بعض أسباب المدنية والتقدُّم، مع إهمال كثير من وجوه التقدم الحضاري أدباً، أو فكراً، أو فلسفة، أو معماراً، مِمَّا يُناسب حداثتنا، أو ننقل نقلاً استنساخياً عن الآخر، كأن نهمل البناء الأفقي معمارياً، مع كونه أكثر مناسبة لذوقنا، وأكثر رحابة وجمالية وحرية. أمّا هذه الكلمة culture فتعني ثقافة، كما هو معلوم، أي الحذق والفطنة والصقل والارتقاء المعنوي، وفي الإنجليزية لها الجذر نفسه تقريباً، والفرق بين (الحضارة) و(الثقافة)، هي أن الحضارة تحيل إلى المكان والحاضرة، أما الثقافة فتحيل إلى الزمان والذاكرة، والحضارة تقنية وأداة، والثقافة قيمة ومعيار، والحضارة سوق ومبادلة، والثقافة إنتاج للرموز والنصوص، والحضارة تنتج المجانسة والمشاكلة، في حين أن الثقافة تخلق التنوع والغنى والفرادة. 
تعاريف أخرى للحضارة والثقافة من زوايا عدة تركز على الرأسمال الرمزي للإنسان، بشرط أن يتسم بنقلات إبداعية، وتنويعات ذكية، في بنية الفكر، وكيفية التعامل مع العالم، فيها روح الإنجاز المعرفي، يضاف إليها الظرافة والرقة والجمال في التعامل الاجتماعي والفن. وليس صدفة أن تحتوي الطبيعة على ألوان وأشكال من الزينة، لإدخال البهجة وروح التفاؤل في وجدان الإنسان، وصقله ذوقياً، وكان قدراً أن يذكر في نص نقدسه: المسك، والريحان، والجمال، والزينة، والحسن، لتنمية الحس الحضاريّ، وكذلك التصنيع، والعمران، والفضاء، والزراعة، والسدود، والمحاريب، والتماثيل، والأقلام، والبحور، والشجر، والمدن، وغير ذلك من التركيبات الحضارية. كما أعطي، في الفضاء الثقافي لحضارة هذا النص، هدف غائي لوجود الإنسان، وهي ما أسماه (أرسطو) بـ(العلة الغائية)، وكان من شعاراتها: إنقاذ الإنسان من سلبيات غياب الإيمان، وتغوُّل السلطة والكهنوت، واغتيال العقل، ولولا سوء التفاهم أحياناً، والحزازات، ومبدأ صراع الحضارات، وتراجع بعض المبادئ والأولويات، والحتميات التاريخية، لتأخر سقوطها. 
وقد بدأ تفاعلنا الحضاري مع العالم، منذ دراسة (البيروني) لأديان الهند، و(ابن مسكويه) لحكمة الفرس، كما أثرت الحضارات التاريخية في تشكيل رؤية الإنسان في شرقنا، وتفاعلت مع الحضارة الإسلامية، وبقيت بعض آثارها ومعالمها وشواخصه في الشخصية الثقافية والاجتماعية لإنساننا، ومنه (الحضارة الحثية) في (تركيا)، و(الأخمينية) و(البارثية) و(الساسانية) و(الميدية)، التي توسم بالسمة الكردية، وكانت لها إنجازات مادية ومعنوية، بقي من رموزها الأسد، والحضارات البابلية والآشورية والسومرية والمصرية والفينيقية.
ثم تتابعت الترجمات الفلسفية، وحدث الاحتكاك عبر الحروب الصليبية، والأندلس، وبعدها ظهر توصيف (ابن خلدون) للفرنجة، فلقد كان لحضارات المنطقة قصب السبق تاريخياً، وهذا لا يعني أنها لم تنتفع من الآخر، عن طريق الترجمة، وتؤثر في أوروبا، عن طريق الحروب الصليبية، والتثاقف في الأندلس، وعن طريق التلاقح الفكري. ويكفي الإشارة إلى كتاب "العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية" لـلدكتور (جورج صليبا)، أو "تراث الإسلام" لـ(شاخت) الألماني، وغيرهما، لإلقاء نظرة على ذلك الإنجاز وذلك التأثر. والبعض مثل (كارل بوير)، يرى أن مواجهة (بلاط الشهداء) سنة 732، حيث صدَّّ فيها (شارل مارتل) التموُّج الإسلامي، وقضى على (عبد الرحمن الغافقي) في هذه الواقعة، كان من أسباب تأخر الحضارة 8 قرون، إذ كانت (أوروبا) تدرس العلوم التي طورتها حضارة المنطقة 6 قرون، ثم تتابعت (الحملات الصليبية) في ثمان حملات، وغزا (المغول) عالمنا، وسقطت (بغداد) سنة 656، السنة التي قال فيها الشاعر الشيرازي (سعدي): درين مدت كمارا وقتي خوش بو زهجرت 656 بو..
ثم لما علم بهذا السقوط، ومآسيه البشرية والعلمية والحضارية، أنشأ قصيدة في رثائها، ثم دخل (نابليون) (مصر)، فكان ذلك عداً تنازلياً للحضارة الشرق أوسطية، وبعد قرونٍ من المآسي والتفكك والجمود والتقليد، كانت صدمة التماس مع (الغرب)، عبر التوغل الحداثي المعاصر، كما هو معلوم، ثم اليقظة وحركات الإصلاح، بعد تأسيس الدول الحديثة، وإرسال البعثات، أعقبتها الترجمات للفكر والأدب العالمي، ثم التردد والإشارة إلى ثغرات في البنية الحضارية الغربية.
كما تشكّلت في حوض المتوسط حضارة امتدت قروناً طويلة، وذلك بإجراءات، منها ما أشار إليها (ول ديورانت) في قصة الحضارة:
(1) تنظيم حركة المال، وتداوله.
(2) ضبط النشاط الجنسي، وتحديده، لحفظ العائلة، والنظام الاجتماعي.
(3) توجيه غريزة المشاكسة.
(4) إطلاق الإبداع الفكري والفني والفلسفي والأخلاقي.
(5) تطوير نظام الحكم.
توصيفات عدة لبعث حضاري منهجي، تركّزت على مفهومات معرفية، قدمها كتاب عديدون:
(ابن خلدون) عرف (الحضارة) بالتفنن في الترف، والصناعة، والتأنق في عالم الرفاه المادي، مع الإشارة إلى قيام العمران على عصبية القوة والصراع الداخلي مع ربطها بالدين... وفي العصر الحديث كان مشروع (مالك بن نبـي) الجزائري، الذي تأثر بأجواء (فرنسا) الثقافية، يركز على الجانب الإنساني والمادي والفكري والزمني، حسب هذه المعادلة: (إنسان + تراب + وقت = حضارة)، ووضع شروطاً للنهضة، مركِّزاً على تجاوز نقطة ضعف بشرية، وهي القابلية للخنوع،كما أكّد دور التحديات الخارجية الطبيعية والبشرية في صنع حضارةٍ ما، بينما أكّد (د.حسين مؤنس) نفعية الحضارة وتحسينها لظروف الحياة الواقعية لأهلها.
و(الندوي) الهندي، تأسَّف للمشهد الآسي الذي عانته شعوب حضارتنا، ورتَّب في تعريفه منظومة فكرية، تستوعب بقدر ثقافة الكاتب، الجهود التقدمية للإنسان، مُركِّزاً على البعد الإيماني والأخلاقي، في كتابه (بين الدين والمدنية)، وتحت ضغط سلبيات الاحتكاك بالحضارات الأخرى، رأى أن الحضارتين الإسلامية والغربية كشجرتين مختلفتين في الثمار! وحلّل - حسب توجهه الفكري - أسباب سقوط الحضارات تحليلاً معنوياً، وقدَّم رؤيةً درامية للجانب السلبـيّ التاريخيّ للحضارات الأُخرى، في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"؟ نذكرها مع الاستدراك عليها والملاحظات، فـ(الحضارة الرومانية)، التي يصفها بأنها لم تتورّع عن المتعية والوحشية، كان لها تقنين دقيق، وصحيح أن (اليونان) لم يتنزَّهوا عن الشذوذ والأسطورية والميثولوجيا، لكن كان لهم إنتاج ذهني فلسفي مؤثر، و(الحضارة الهندية) على الرغم من أنها أفرطت في احتقار الجسد والحس وتعذيب النفس، كما يقول، فقد أخرجت مفاهيم قيمية في التجاوب مع الطبيعة، وأنقذت الكثير من الفقر، وأنتجت (طاغور)، والفرس القدماء كانوا يؤلهون الملوك تقريباً، مترددين بين (مانوية) متشددة ذات نظرة تشاؤمية متنزهة عن عالم المادة محتقرة للجنس، وتساهل مزدكي في النظرة إلى الجنس، لكنها كانت حضارة لم تخل من عراقة وتقدم سياسي ومدني وعدل. وهكذا، فـ(النصرانية) يؤاخذ عليها دعوتها إلى الترهبن وهجر النعمة، لكن لها ميزتها في الدعوة إلى المحبة والتسامح، و(اليهودية) تنتقد في رؤيتها بكون أتباعها (شعب الله المختار)، وهي رغم عذاباتها في (الجيتو) الأوروبي، ومسألة (الهولوكست)، التي كثر الجدل حولها، وأزمات وجودها، تأبى على الغير الانخراط في شعبها، لكونهم (جوييم)، لكنها تعتبر من الديانات الإبراهيمية ذات الأصل التوحيدي، وقدمت –كديانة، أو هوية - قامات علمية، و(البوذية) بالرغم أن فيها تنكراً لحب الحياة ودفق الجمال، فهي تنال إعجاب بعض الغربيين بها، كما عرض (هرمان هسه) لحياة (بوذا) في روايته (سدهارتا)، لأنها تجسيد لمحاولة البشر كسر حدة الألم ونبذ الأنانية والتخلص من التشتت الفكري عن طريق التمارين المعنوية. وهكذا قل في أديان (الهند) الأسطورية، وأخلاقيات (كونفشيوس)، وروحانية (لاوتسو)، وفلسفة (التاو)، أولاها تقنيني وضعي بلا رؤية ميتافيزيقية، وثانيها تأمُّلي لا يخلو من الوعي الزائف.
وقد فصّل (الندوي) عوامل النهضة الدينية والاجتماعية من منظوره الديني، مُركِّزاً على ضرورة استعادة الريادة، وداعياً إلى الاكتفاء الذاتي للدول المنضوية في الشرق المسلم، ودعا (المودودي) في كتابه "نحن والحضارة الغربية" إلى تصور حضاري مستقل، وإلى الثقة بالمستقبل، وطرح مرجعية النص، وتمحيص التراث، وعدم الانبهار بالآخر، لكنه أيضاً من تخصصه كمحام، وسليل أسرة دينية، قدَّم رؤية معاني ومفاهيم وتقنينات فكرية وشرعية ودستورية، ومن منطلق الدفاع والبون الحضاري الراهن، أسرع إلى المقارنة بين الإسلام والحضارة الغربية، مع أن الإسلام دين، والحضارة واقع، وقدِ افترضَ أيضاً الثنائية الضدية، مُعتبراً أن الإسلام وهذه الحضارة لا يجتمعان، كمن يركب سفينتين فيتمزَّق بينهما! مع أن شرقَنا الإسلاميَّ قدِ استفادَ من حضارة الغرب، خصوصاً في الجانب التقني والقانوني والسياسي والصناعي، والتنظيم والتخطيط، والجماليات، واستخراج المعادن والطاقات الخبيئة، والاستفادة من الوقت، ونبذ القدرية والتواكُل والكسل، وعلوم الإدارة والتنمية البشرية، والعمران والخدمات، والبيئة، والصحة، وتوفير الخدمات السكنية والصحية والاقتصادية، وتحسين ظروف الحياة، وتأكيد مركزية الدنيا وعدم إهمالها تحت أيِّ ذريعة كانت، ومثاقفته عقولنا بتنظيراتها وأفكارها ومذاهبها النقدية.
وفي (تركيا) وجدنا (سعيد النورسي) في زمن صعب يؤكِّد التقاءً حضاريَّاً وتثاقفاً دينيَّاً بين الشرق والغرب، لكن غلب عليه التحذير من سلطة علاقات عدم التكافؤ بين الحضارتين...كما قرأت لواعظ وكاتب مثقف هو (فتح الله كولان) مقارباتٍ لنظرة حضارية محافظة، وقد ركّز على أن حضارة الغرب تراث إنساني مشترك، وأنه لا بد لكل حضارة من إنسان مؤهل، ودولة حرة مستقلة، ورأسمال ثمين هو الزمن، مُركِّزاً على الحوار الحضاريِّ واللاعنف، كما وجدنا له نظرة استيعابية للمدارس الثقافية والفكرية، وعرَّف الثقافة بأنها: مجموع المفاهيم المختلفة وسبل التفكير المتنوعة، وأوجه الرؤية المتعددة، والتصورات الفنية والقيم الأخلاقية المرتبطة كل منها بتفسير مختلف. وقدَّم في كتابه "ونحن نبني حضارتنا" رؤية استشفافية للحضارة، تقدِّم الفكر، وتعطيه أولوية، وكذلك الإرادة، مِمّا ذكّرَنا بكتاب (شوبنهاور): "العالم فكرة وإرادة". وقدِ التقى (البابا) وحاوره ملياً. وفي (إيران) كان (د.علي شريعتي) قد دعا إلى العودة إلى الذات بعناصرها الدينية ورؤاه المحدثة، كما دعا إلى توليفة حضارية مركّبة من حكمةِ (الشرق) وروحه، وسيف (قيصر)، وقلب (باسكال)، ومعرفة (ابن سينا)، مع المحبة والعقل، كما كانت جهود (عبد الكريم سروش) و(مصطفى ملكيان) و(شبستري) تصبُّ في مفاهيم تأويلية جديدة: الدين، والحضارة، والحداثة، تقوم على إبراز جانب الأنسنة، وتأصيل المعنى الدنيوي للعالم والعقلانية والمعنوية والهرمنيوطيقا والعرفان في الحضارة، ولا شك أن لكل من البلدين بنية حضارية مادية وتقنية مناسبة.
بينما نجد في (مصر) ودول عربية أُخرى دعواتٍ لبناءِ حضارة جديدة، تستوحي بعض المثل من الحضارة الغربية، على خلاف في درجة الأخذ بين مُقلٍ ومُكثر، ذوي اتجاهات شتَّى، ويتبنون مناهج شتى ليبرالية وعلمانية ويسارية، منهم (طه حسين)، و(رفاعة الطهطاوي). وقد أسهم كتاب عديدون في إثراء الفكر الحضاري وتأصيله، من خلال دراسات حضارية وفكرية ذات سمة توفيقية، منهم (خير الدين التونسي)، و(الأفغاني)، و(الكواكبـي)، و(عبده)، و(رشيد رضا)، وسار على دربهم كتاب مثل (د.محمد عمارة)، الذي دعا إلى مبادئ عامَّة لتأسيس الحضارة، وإعادة شهودنا الحضاري، وخلاصتها: تمحيص التراث، وأخذ العناصر العقلية والفلسفية الصالحة منه، وتفعيل المبادئ الحضارية فيه، مع التفاعُل الراشد ومن موقع الثقة بالمنهج مع الآخر الأكثر تقدُّماً، والاستمرار في التجديد لبلورة فكرٍ قادر على أن يكون هوية فكرية، وفلسفة تجديدية، تستجيب لقضايا العصر ومشكلاته وتحدياته. أمَّا (د.عماد الدين خليل) فقدِ استشرف بعثاً لحضارة المنطقة، إذا دُرست ككل، وكرؤية غنية متميزة للعالم، ودعا في سبيل ذلك إلى إعادة تشكيل العقل المسلم حضارياً، لكنَّه يكثر من الاستشهاد بمعطيات غربيَّة تبجيلية في الثناء على مُعطيات حضارة المنطقة. ودعا إلى دراستها ومتعلقاتها في الجامعات بسنواتها الأربع، وكذلك برز كتاب في (مصر)، وفي العالم العربي، والإسلامي، لتأصيل هذا التوفيق وترجمته إلى مؤسسات مدنية وتجمعات دينية.
منهم من المعاصرين عالم الاجتماع (د.علي الوردي)، الذي دعا إلى الاستفادة من الفكر الغربيّ الاجتماعيّ، وتحليله النفسي ونظرته النقدية. ثم ظهر كتاب حداثيون، مثل: (د.حسن حنفي)، و(د.الجابري)، و(د.أركون)، و(د.شحرور)، و(أبو زيد)، مستلهمين دراساتٍ ومذاهِبَ غربية لقراءة الحضارة والنهضة والنص والتاريخ والتراث، فـ(حسن حنفي) كتب مستشرفاً حضارة منطلقة بسرعة هائلة نحو الغرب، إذ دعا إلى التحرر من النقل والعقيدة والفناء الصوفي، إلى العقل والثورة والبقاء الوضعي، و(الجابري) دعا إلى عقلانية تحليلية وديمقراطية شفافة، و(أركون) طبَّق كل معطيات المذاهب الحديثة في القراءة على النص، الذي سماه مؤسساً، وإلى تاريخ مقارن للأديان وحوار الحضارتين، ولم يقدم البديل الرؤيوي والفلسفي، أو الأمثلة على المقارنة، و(شحرور) أراد أن يقرأ النص قراءة معاصرة حضارية، ولجأ إلى مقاربات لغوية ودلالات غير تقليدية، وأخطأه الاستدلال أحياناً، وكلُّ هؤلاء لقوا امتعاضاً من المحافظين، الذين لا يمانعون مبدأياً من التجدُّد، لكنهم غير مستعدين للتنازل عن الفهوم الراسخة لديهم للنصِّ المقدس، ويخشون أن يؤدي تفكيكه إلى نسفِ المنظومات المجتمعيَّة القائمة عليه. وقد كانت الردود عليهم غالباً ما كانت خطابية أو أصولية أو لغوية أو سجالية، أمَّا (د.علي حرب)، فيبدو من خطابه أنه مفكِّر وجودي، يُعلي من شأن الأنا على الموضوع، ويرى الفكر في صيرورة مستمرة وسيرورة دائمة، وهو يرى أن الحلَّ الحضاريَّ يكمُن في إنتاجنا للواقع وإنجازنا للحقيقة، لكنه يقترح الخروج مما أسماه بقوقعة الهوية والأفكار المسبقة، وأن الحضارات تتجه إلى التجانُس.
وكل هؤلاء حاولوا تأويل النص المقدس، أو تفكيكه، أو نقده، أو أنسنته، أو بحثه، أو إعادة تعريفه، وقد حلّل (أبو زيد) هذا المنحى، بأن حضارتنا تتمحور حول النص، بينما الحضارة اليونانية كانت تتمحور حول العقل، فهل من جدل وتناقض، أو اختلاف وتباين في الحضارتين، بشرط التجرُّد اللازم من الذاتية والتاريخ، أما (أبو زيد) فيدعو إلى المعرفة والحرية والعدل لبناء الحضارة، وإلى التعامل النقدي الخلاق مع الحضارات الأخرى، مع عدم تجاهل الأسس المعرفية لها.
بينما عملت المؤسسات الفقهية، ومنها (الأزهر)، إلى تداول التراث، واختراع الحلول الجزئية لمشكلاتِ الحياة اليومية للناس، وفي الاتجاه نحو المعاصرة والربط بين التوجُّه الحضاري وبين التأصيل الفقهي - كفعل الشاطبـي -، ركّزت مرجعياتٌ فقهيةٌ سنية، منهم (د.الشيخ القرضاوي) على هذه المسالة، فربط بين القضايا الجزئية والكليات، وبينها وبين المقاصد العامة، والبحث عن حكمة الشريعة، ودعا إلى عدم الغلو، وإلى وصل النصوص بواقع العصر، وتبني خط التيسير، وقد يكون ذلك لما ساد على السطح من ظهور اتجاهاتٍ مولعة بالجزئيات، مشدَّدة في قضايا الخلاف، تفكِّر بصوتٍ عالٍ، مِمَّا قد يولد النفور، ويضيع فرصة نهوضنا الحضاري. ولعلَّ فيه استلهاماً وتجديداً للتراث الشاطبـي، الذي نظّر لرؤيةٍ تميز بين نطاق الأمر والنهي والتنظير، مِمَّا سمي بـ(الضروريات)، وبين رفع الحرج والتيسير وتوسيع دائرته، لتجاوز إشكاليات الجمود والتخفيف عن المخاطب، وهو يُمارس حياته الدينية في مجتمع مختلف، وسُمِّي ذلك بـ(الحاجيات)، وكذلك التقنين لآلية التفاعل الحضاري، والاستفادة من تراث الشعوب القديمة، ومن العرف والفكر، وأطلق عليه (التحسينيات). 
وفي هذا الإقليم، وجدنا كُتّاباً مثل: (مسعود محمد)، الذي دعا إلى الاستفادة الفكرية من المناهج الغربية في التحضُّر، وكتب بنفس كردي أحياناً، وبروح عقلانية، وأكّد دور البطل في صنع التاريخ، وانتقد الفكر المادي في دياليكتيكه وتفسيره للحضارة،وبيَّن أن: تعقدات هذه الدنيا غير المحدودة، وتنوُّع المصالح القديمة، والحديثة الولادة، والنفس البشرية بطياتها ورقائقها المتراكبة، لا تفسّر بألف سبب وحافز ومعطل وجاذب، وكتب رسالة إلى (غورباتشوف) يؤطِّر فيها دوره النقدي. أما أبوه فقد تميز خطابه بتأكيدِ ضرورة التقدم المادي ضمن الأطر الدينية، مع شيء من التجديد، ناعياً على التصوُّف السلبـي، والانهماك الزائد في الثقافة المتوارثة، والخمول، والمكث في الجاهلية، وذكر المؤرخون أن الاتجاه الصحافي في فضاء الحكم العثماني تأثر باتجاه (الأفغاني) و(محمد عبده) نفسِهما، ومنهم (البدرخانيون)،كما أن في الساحة عندنا خطّاً يتبنى اتجاهاتٍ ومفاهيمَ حداثية، ويتَّسم بروحٍ نقديَّة للتراث. 

أسباب تكون الحضارات:
يرى (ول ديورانت) أن الحضاراتِ السبعةَ الكُبرى في التاريخ قدِ انبعثت بشرارة دينية. وأكّد "إشبنجلر" دور الكاريزما حين أشار إلى أن الحضارة تنشأ حين تنبعث روح عظيمة تنفخ الروح في الأحداث، وتجسِّمها في صورة متمايزة. كما أشار (ابن خلدون) إلى دور البنية الفوقية وذكائها، والبيئة الجغرافية ومناسبتها، لصنع الحضارة. أمَّا "هيجل" فقد ذهب إلى وجود الروح المطلقة التي تنقل الأفكار نحو تركيبة أفضل، وقد يعني به القدر. بينما ركّزت قراءاتٌ لفكر (ماركس) على المصالحة مع الشعور الديني، على الرغم من رؤيته المادية في تأسيس الحضارات، وقد ظهرت انتقاداتٌ على تحديديته، كما أشار (جورج طرابيشي)، و(د.علي حرب). أمَّا (د.عماد الدين خليل)، فقد أورد حُججاً عديدة، وأمثلة، على أن التاريخ والحضارات توجّه بطرق ودوافع وإيحاءات ومشاعر شتى، وأن الحسَّ الحضاريَّ، وإن كان ينشأ من إفرازاتٍ مادية، فإنه ظاهرة شديدة التعقيد والتنوع، كذلك ووُجِه المادية بالنظرية المثالية في الفيزياء، كما ظهر مفهوم القطيعة المعرفية امتداداً لهذين المفهومين نفسِهما، وذهب (توينبـي) إلى أن التوسُّع الجغرافيَّ، أو التقني وحدَه، لا يكوّن حضارة.
وقد يعترضُ البعضُ على المكوِّن الديني، ويعدونه عاملاً سلبياً في بناء الحضارة، لكن هذه المقولة لا تصحُّ في كل بنية محسوبة على الدين، بل بما لابستها الأساطير وأغناها المخيال، ويمكننا القول إن لأنبياء الشرق وحكمائه، كما لفلاسفة الغرب، دوراً في تفجير الرؤية المعنوية وخلق الدافعية الحضارية، لكونهم دعوا لتجاوز الواقع وزحزحته نحو حياة أعمق معنى أو أوسع أفقاً، ولم يكونوا مرتهنين للنظرة الأبستمولوجية والآبائية لتلك العصور. أمَّا إشكالية نسب آيات غير مألوفة لهؤلاء الأنبياء، فقد فسَّرها (النورسي) تفسيراً إشارياً يوحي للناس أنهم تجاوزوا الواقع، فهناك قوانين أُخرى وأسرار فيما وراء الحس والتجربة، بينما فسَّرها مفسِّر معاصر بأنها يجب أن تفهم ضمن سياقات وقرائن وتعليلات علمية، لا خارج العلم. 

حضارات سادت ثم بادت:
هذه الجملة عبارة عن عنوان لباب ثابت لـ(مجلة العربي)، وقد عزا (توينبـي) أسباب سقوط الحضارة لعوامل منها: فشل القوة الدافعة والمبدعة عند صفوة الأقلية، وفتور الإيمان عند الأغلبية، ومن ثم فقدان وحدة المجتمع في شموله.
وقسَّم (د.فهمي جدعان) حضارتنا زمنياً إلى أربعة مراحل: تأسيس وتأصيل، وتوازن وحفاظ على المكتسبات، ثم اختلال، يعقبه نهوض معاصر. وبعض فلاسفة الحضارة، ومنهم (ابنُ خلدون) يفترِضُون أن سقوطَ الحضارة أمرٌ حتميّ، فقد رأى أن الحضارة تمرُّ بخمسِ دورات تنتهي فيها. وقد يكون ذلك استقراءً وتوصيفاً، لا قانوناً، فهو يورث التشاؤم، وقنّن قيام الحضارة بتوفر العصبية، تضعف بضعفه، وذلك استقراءٌ تاريخيٌّ لما حوله من كيانات، لا قانون محكم، المهم أننا الآن في مخاضٍ صعب نرجو أن تتولّد منه مرحلة استئنافٌ حضاري، وإذا علمنا أسباب الفجوة بيننا وبين العالم الأول والثاني، وأدركنا عوامل سقوط حضارتنا التاريخية، تهيأنا للبناء الجديد.

وهناك أسباب وراء تخلف حضاراتنا منها:
- ظهور النظرة الترفيهيّة واللذائذيّة للحياة.
- خفوت الروح الانتشاريّة.
- غيابُ روح المغامرة.
- ضعف دوافع الإبداع.
- سيطرة فكر الشارع، كما يقول (علال الفاسي).
- إخلاد الناس إلى الرّاحة.
- تقليل أهمية رأي الآخر.
- القولبة الفكرية.
- الميل إلى التقليد، وتغييب التفكير العلمي، وظهور الخُرافة.
- نشوء الفرق الهامشيّة، والعنف في مواجهتها. 
- الانقساماتُ الداخلية، وغياب المرجعيات الكارزمية الموحدة.
- بروز منظومات إدارية لا تملك الحسَّ الحضاري، والرؤية الاستشرافية، والذوق الجمالي.
- ضعف الميل إلى التخصُّص.
- غزو الموجات البربرية لفضائنا، والتي لم تتذوّق شفافية الحضارة.
- عدم تقدير بعض المتنفذين لجهود صنّاع الحضارة، في حلقاتها التاريخية، وآثار إنجازاتهم على العالم، سلباً وإيجاباً.
- عدم دراسة بنية الحضارة، وتأصيلها المنهجي، وأسباب قيامها وسقوطها، لتفادي الكارثة، والتقصير في إدامة متطلبات البقاء والديمومة الحضارية.
- ظهور حضارات أقوى منافسة في الساحة. 
مع أسباب أخرى خاصَّة بكلِّ التلوينات الثقافيّة والمجتمعيّة داخل الجسم الحضاري .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق