02‏/04‏/2018

ابتلاء المؤمنين..


رشاد محمود
إلهي كَفَاني عِزّاً ... أنْ تكونَ لي ربّاً
وكَفَاني فخراً أنْ... أكونَ لكَ عَبْداً
أنتَ لي كما أُحِبّ... فوفِّقني إلى ما تحبّ
إنَّ الابتلاء على الإيمان أصلٌ ثابت وسنة جارية في ميزان الله، لكي يعدّ الله نفوساً صهرتها الشدائد والمصائب، وتخلّت عن شوائب القلب، لأجل أن تكون القلوب طاهرة وصافية وخالِصة لله. ولذلك، فإنَّ ابتلاء المؤمنين من طراز راقٍ، لأنه يتعامل مع روح سمت بالإيمان، وتعلّقت بالله، وأذلّت نفسَها مطيعة لأمره، ورفعت كلمة الحقّ واعتزَّت بها، فهان كلُّ شيء لديها، فـلا تحابي ولا تراهن ولا ترضى بأنصاف الحلول، ولا تلتقي مع مبادئ الجاهلية وأوثانها وشركها، لأنها عرفت الإسلام عقيدةً وتشـريعاً وسلُوكاً، ورأت الجاهلية انحرافاً وزيغاً وضلالاً وظلمات
بعضها فوق بعض.
وبالابتلاء ينكشف صنف المسلمين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وسرت العقيدة في قلوبهم سريان الدم في الجسد، فكانت دفقاتها حماساً وحُبَّاً وصخرة عاتية أمام المحن والشدائد، تجسَّدت صورتهم بعزوفهم عن مغريات الحياة وجواذب الأرض والشهوات من مالٍ ومنصب وجاه وزينة ومتاع، وعرفوا ببصيرتهم أنها فتن ليختبر الله أهلها، ليتبيَّن له من يحسن العمل في الدنيا ليستحقَّ نعيم الآخرة. قال الله تعالى: [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] (الكهف: 7)، فأصبحُوا فــي الدنيا رجال الآخرة، لا تجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يغريهم منصب ولا سُـلطان، لا يرضون بالذلّ والهوان لأنفسهم أو لإخوانهم، ولا يحنون جباههم إلاّ للّه، لأنهم عرفُوا المصير أنَّه الموت، وصدق رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه). عاشوا عزيزي النفس، لأنَّ اللّه كتب العزَّة له ولرسوله وللمؤمنين، فلماذا لا يتمسَّكون بها؟ تمسَّكوا بالحقيقة والجوهر، وابتعدوا عن القشور وسفاسف الأمور. بتلك الأرواح السامية، والهِمم العالية، كانوا يعيشون، ولا يخافون في الله لومة لائم، وقوة طاغٍ، وسلطانَ فاجر.
إنَّ المؤمنين المخلصين هم الذين يثبتون في المصائب والشدائد، وعند الفتن والابتلاء، لأنَّها سنَّة الحياة. قال تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (العنكبوت: 2-3). والمؤمن يشعرُ بالسعادة والفرح عند الابتلاء، لأنَّه يعرف حقيقة نفسه، وعظمة إيمانه بمقدار ما يفتن به. روى الترمذي عن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللّه (صلّى الله عليه وسلّم): أيّ الناس أشدّ بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثمَّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل حسب دينه، فما يبـرح البلاء بالعبد حتى يتركه وما عليه من خطيئة). ولكنّ حال أكثر المسلمين يرثى لها وهم ينصهرون في أوضاع المجتمع، وينحدرون نحو الهاوية، ويتجرّعُون مرار الجاهليّـة ولا يسيغونه.
فلننظر إلى ســيرة الصحابة والمؤمنين السابقين كيف فتنوا في دينهم في كلّ زمان، وزلزلوا، ولكن أوضاع الجاهليّة ضاقت عليهم بما رحبت، ولجأوا إلى اللّه واستفاءوا تحت ظلّ رحمته. وتلك عائلة آل ياسر، وهي تتجرَّع آلام سياط مشـركي قريش وطغاتها دون مبالاة، فيمرّ الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) فيقول: (صبراً آل ياسر، إنَّ موعدكم الجنَّة). إنّه الصبر على الفتنة، وتحمّل المشاق وطول الأناة والدأب على العمل ودوام المثابرة، لأنَّ ذلك قاموس الحياة. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200). روى عثمان عن صهيب الرومي (رضي الله عنهما): لَمّا أردت الهجرة من مكة المكرّمة إلى النبـي (صلّى الله عليه وسلّم) قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عنّي؟ فقالوا: نعم. فدفعتُ إليهم مالي فخلّوا عنّي، فخرجتُ حتى قدمت المدينة، وبلغ ذلك النبـي (صلّى الله عليه وسلّم)، فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب). إنَّه خسـر ماله، وفارق وطنه، ولكن ربح مرضاة الله، وربح الحسنات، بهجرته إلى الرسول (صلّى الله عليه وسلّم). وهذا سيدنا بلال الحبشـي يعذَّب في صحراء مكة تحت لهيب شمس الصيف، ويُلْقَى عليه الصّخر، ويقذف بأقذع السباب وبأقبح النعوت، وهو ساكن ثابـت لا يعبأ بهم ولا يلتفت إليهم، كأنَّ الأمر لا يعنيه وهو يردِّد: "أحد، أحد، والله لو أعلم كلمةً أغيظ لكم منها لقلتها". تلك صور بسيطة ترسُم لنا انتصار الإيمان على فتن الدنيا جميعاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق