16‏/10‏/2010

جدلية الثقافة والمعرفة الغربية
وموقف الفكر الإسلامي منهما





د. سعد سعيد الديوه جي



 
1-    مقدمة
مما لاشك فيه بأن تعريف الثقافة تعريفاً محدداً صارماً، أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، وهذا الأمر ينسحب على كل مقوماتها وأسسها والمصطلحات المتداخلة فيها.والتداخل بين مفهومي الحضارة والثقافة وهو أمر حتمي زاد من تعقيد الأمور، في عالم أصبح فيه الحصول على المعرفة المطلوبة لا يستغرق إلا دقائق معدودة .وفي هذا المجال سنحاول الوقوف على رؤية الثقافة أو المعرفة كانعكاس في سلوك الأمة ومنهاجاً لها نابعاً من معتقدات دينية أو عقائد إيديولوجية وما يتبعها من عادات وسلوك وتطلعات مشتركة، وهي وسائل وطرق ما يسمى بالتصرفات الحضارية واختلافها من أمة إلى أمة أو من شعب إلى شعب، حتى أن هينتنتغون في مؤلفه ذائع الصيت "صدام الحضارات" يقول: "ولعل من الأفضل الآن تصنيف الدول ليس من خلال أنظمتها السياسية والاقتصادية أو شروط تطورها الاقتصادي بل من خلال شروط ثقافتها وحضارتها" ثم يعرف الحضارة "بأنها هوية ثقافية" .لقد كان هينتنتغون صريحاً جداً في التعبير عن المكنون الغربي الحقيقي لباقي الأمم، وسد الطريق أمام من يضعون التطور الاقتصادي كمقياس للتفاضل الحضاري، وكان أكثر صراحة في تقسيماته عندما جعل الإسلام كعامل فاصل وحاد في تحديد الثقافة، وما ذلك إلا انعكاساً واضحاً للادرك الغربي لمكنون الثقافة الإسلامية الذي عبر عنه سمث بقوله "كان الإسلام من فجره أكثر من دين في المفهوم العقائدي والأصل السلوكي وهو جوهرياً نظام سياسي واجتماعي شامل فيه أمور الدنيا ليست بأقل أهمية من شؤون الحياة الأخرى وفي مسرى تاريخه استطاع أن يخلق مدينة كاملة خالدة" .وتأتي هذه النظرة من الذين درسوا الإسلام بعناية ويدركون تكامل الثقافة الإسلامية بإيمانها بالتوحيد الكامل وإقرارها باستمرار الحياة ما بعد الموت وعلى أساس الجزاء من جنس العمل .وأما الزاوية الأخرى التي سندخلها فهي مقدار الاتساع المعرفي للأشخاص أو الأمم لا على أساس كمية الصحف أو الكتب أو المجلات المقروءة اعتياديا أو الكترونياً أو عبر الانترنيت أو الأفلام والمسرحيات المعروضة وحفلات الرقص والغناء وعروض الأزياء ... الخ، فمقياس الكم لوحده لا يكفي للمقارنة إذا تم إهمال النوع وباقي العوامل الموضوعية كالمستوى المعاشي للأمة ونسبة الأمية والجو السياسي العام، كل هذه العوامل وغيرها يتم إهمالها تماماً بصورة غير علمية عندما تتم مقارنة المستويات الثقافية للأمم بالأرقام المجردة .ويشير المرحوم علي عزت بكوفتش في كتابه القيم "الإسلام بين الشرق والغرب"، إلى نقطة نادراً لم يلتفت إليها منظرو الثقافة، وهي علاقة الفن بها، فالفن كعامل من عوامل الثقافة خارج عن الزمن وخارج عن التاريخ، حيث دلت كثيراً من التجارب التاريخية بأنه في فترة الهبوط الحضاري يرتفع الفن إلى قمته، حيث يؤكد رحمه الله بأنه إذا كانت أفريقيا متخلفة من وجهة نظر العالم والتكنولوجيا، فإنها ليست كذلك في حقل الفن على الإطلاق! علماً أن الثقافة الأفريقية تتخذ كنموذج للتندر وكمثال للثقافة البدائية الهابطة .من هذه المفاهيم المتباينة والمتداخلة والتي تجعل من تاريخ الثقافة أمراً متناقضاً، نستطيع إعطاء تصوراً إسلامياً للثقافة كسلوك فردي واجتماعي يمكن توظيفه لخدمة المجتمع الإنساني في جانب أخلاقي مواز للجانب المعرفي، وانطلاقاً من مفهوم الثقافة – الحكمة – أي الأخلاق، بقوله تعالى {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}البقرة وقوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} 125 النحل "وهي دعوة لإقامة الجسور الثقافية بالحوار والهدوء والأخلاق الحسنة وهي سنام الثقافة وقمتها!
ونستطيع في نفس الوقت تقديم تصوراً سريعاً للثقافة الغربية التي تستمد جذورها من التعاليم اليهودية – المسيحية، والمتأثرة بصورة حادة بالثقافة اليونانية والرومانية الوثنية، ومن هذه المنطلقات صارت الثقافة الغربية منبعاً لنظريات القوة النيتشوية والشيوعية والصهيونية والنازية وكلها مبادئ تقوم على الإلحاد أو وحدة الوجود وإرادة القوة وتمجيد الذات القومية والبقاء للأقوى، وعدم الإقرار إلا بالماديات على أساس أن الغيبيات لا يدركها العقل المحسوس، وبذلك تم إلغاء الآخر لا شعوريا من حيث الإحساس بالتفوق، وهو تفوق مرحلي لا يشكل نهاية للتاريخ .
    2- مفترق الطريق
كل ما ذكرناه آنفاً كان كلاماً عمومياً لا يقترب كثيراً من نقطة مهمة هي خصوصية الثقافة، وفي هذه النقطة يحصل الافتراق الفعلي بين ما هو شرقي عموماً وإسلامي خصوصاً؛ والغربي ذي الصبغة المسيحية بذي الصبغة المسيحية بجذورها الوثنية – اليونانية والرومانية، والممزوجة بالتعاليم اليهودية التوراتية القائمة على تمجيد العنصرية .والغرب يدرك هذه المسألة قبل الشرق وبعمق؛ وقد عبر عنها في أدبياته كثيراً، فقد قال رود يارد كيبلنغ شاعر الإمبراطورية البريطانية عام 1865م "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً". وفي هذا العصر عبر عن هذا الاتجاه بيرنارد لويس صاحب مصطلح "صدام الحضارات"، والذي استعاره منه تلميذه الراحل المتعصب صموئيل هنتنغتون في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، عندما قال "بأن التراث الإسلامي شيء والتراث اليهودي – المسيحي شيء آخر ولا يمكن أن يلتقيا أبداً ... !.والثقافة الغربية في الوقت الحاضر ذات سمات استقلالية واستخفاف بالآخر كنتيجة حتمية للتفوق المادي والمدني والعسكري والاقتصادي، وهي مجالات لا تدخل في المفهوم الأخلاقي للثقافة، ولذلك فمن غير المستغرب أن يدلي ريتشارد بيرل محاضرة على مستوى مستشاري وزارة الدفاع الأمريكية عن "تخلف" الثقافة الإسلامية وضرورة إنهاء الالتفاف الإسلامي حول مكة المكرمة باعتبارها نواة تجمع العالم الإسلامي يجب تدميرها! ولا مانع حتى من ضربها بقنبلة نووية إذا اقتضى الأمر ... !.
وثقافة الإنسان الخارق "السوبر" موجودة في صلب الثقافة وخصوصياً الأمريكية، وهو ما نلاحظه بدون عناء في أفلامهم ومسلسلاتهم ومجلاتهم، وهو خط مستمد من النيتشوية والأفكار التوراتية عن المنتظر الموعود الذي سينتقم من أعداء إسرائيل في نهاية الزمان ويقيم مملكة الرب الموعود على الأرض .ولذلك لم يتردد جورج ستيفانيو لوس كبير مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون في كتابة مقال في النيوزويك في كانون الأول 1996م، وصف فيه سفك الدماء من أجل أمريكا وحلفائها بأنه عمل نبيل وأن القتل أحياناً عمل إنساني ... ! وتزداد الهوة يوماً بعد يوم في انتشار ظواهر العنف والقتل والإباحية في الحياة الثقافية الغربية وانتشار الإلحاد، وفي هذا الخضم ظهرت مصطلحات عجيبة غريبة مثل "اسلاموفوبيا"، وهو الخوف من الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية في تماسكها وبساطتها وطرحها لفكرة التوحيد الخالص البسيطة، والتي تقف حجر عثرة أمام الإلحاد، عكس الثقافة الغربية – المسيحية والتي تعاني من الاضطراب الشديد في مسألة تفسير الإلوهية والعلاقة الجدلية بين الخالق والمخلوق، فابتعدت عن التقدم العلمي والمدني الذي اقترن بصورة مطلقة بالابتعاد عن الدين والكنيسة، وفي ذلك فهو على عكس الفكر الإسلامي المواكب للعلوم الحديثة ولكل ما هو منطقي وعقلاني .
والعواقب الوخيمة التي تواجه الفكر الغربي عموماً وعلى المدى الطويل هي ضبابية فكرة الإلوهية أو تجاهل وجود الله، والاعتداد بالفكر المادي المحدد بالحواس وتقديم كل المصطلحات بإطار الموقع المتناقض للدين وخصوصاً العلمانية التي نشأت في أوروبا بعد التخلص من سطوة الكنيسة وهو ما لا ينطبق تماماً على نفس المفهوم من وجهة نظر إسلامية، وما لم يحدث خلال التاريخ الإسلامي .
وغرق الثقافة الغربية وبشكل متعمد في الاعتداد بالنفس جعلها تتبنى مصطلحات مبهمة مثل الليبرالية، وسار في ذلك من سار من أهل الشرق خلفهم، ثم وضعوها من خلال أجهزة إعلامهم في موقع المدعي العام، وكل ما هو ديني – روحاني، في موضع الاتهام، حتى صار التمسك بالقيم والأخلاق التي أقرتها الأديان السماوية قاطبة موضع استهزاء وسخرية، إن لم تكن قسم منها قد اختفت تماماً من الحياة الغربية كالحياء والخجل والاحترام العائلي، ثم صارت العائلة شيئاً نادراً بقيمها وأخلاقها وتماسكها، وهذا المنحى في الثقافة الغربية يعتبر على المقياس الإسلامي، أسوأ ما وصلت إليه هذه الثقافة من انحطاط على مدى التاريخ، وهنا يحصل افتراق لا مثيل له بين توجهين لن يلتقيا على هذا الصعيد مطلقاً . لقد بات المثقفون المسلمون على علم ودراية بأن المدنية والتقدم العلمي والتقني شيء؛ وان الحضارة بصورتها الأخلاقية شيء آخر، فبعد الثورة الصناعية وما أعقبها من ثورة الكترونية إلى ثورة المعلوماتية وتقنياتها، الثقافة الغربية المنفلتة قد زادت متاعبها وازدادت فيها الحروب حتى أفرزت عن حربين عالميتين استخدمت فيها أشد الأسلحة فتكاً ودماراً وخرابا في بيئة الأرض نتج عن كوارث طبيعية حادة وانقراض جزء كبير من الحياة البرية بشقيها الحيواني والنباتي، حتى بات الهاجس البيئي يقلق مضاجع البشرية جمعاء .وقد يدافع أحدهم بأن هذا التقدم هو الذي قدم وسائل الراحة للإنسانية في مجالات شتى والأمر صحيح جداً، ولكن لم يقدم متوازناً مع صاحب الأمر من شقاء روحي مدمر سنقف على بعض أوجهه من خلال الأرقام والحقائق الدامغة، وكأن البشرية صارت تدفع ضريبة المدنية من رصيد أخلاقها وروحها .نقطة أخرى من نقاط الافتراق الحتمي تتعلق بثقافة القرآن وتفرده وخصوصيته في الحياة الثقافية الإسلامية وفي بساطته ومخاطبته للفطرة وحتى في خصوصية ترتيله، بينما فقد الكتاب المقدس هالته المقدسة من خلال تناقضاته واضطرابه، وهو برأينا هذا كان دافعاً مباشراً في الغرب نحو معظم الظواهر الشاذة من الإلحاد والقسوة وارتفاع الفكرة النيتشوية وغيرها من الأفكار الشاذة التي ذكرناها آنفاً؛ وهناك نقطة افتراق أخرى خطيرة جداً وهي مسألة مفصلية وحادة ألا وهي مسألة الانفلات الجنسي المفرط وهو أحد العوامل المهمة في تحديد توجهات الثقافة الغربية وتحديد مساراتها .لقد نتج عن هذه المسألة – ثقافة الإباحية – إنسانا يقترب في بعض خواص شخصيته من الحيوانية الجنسية المنفلتة ويتعامل بنفس الوقت مع أفراد مجتمعه بآلية منتظمة وبمستوى علمي راق خال من القيم والروحانيات ولذلك طغت صفات القلق والتوتر العصبي والقسوة واستفحال استعمال المخدرات والمسكرات إلى مستويات مذهلة .
3- جدلية المقارنة بين الثقافتين
مما لاشك فيه أن المقارنة بين الثقافتين لو قامت على أسس الكم من المطبوع والمنتج من أعمال فنية ودرامية، لكانت الثقافة الشرقية – الإسلامية في موقع خاسر لا جدال حوله؛ ولكن هل المقارنة على أساس الكم هي مقارنة صحيحة بعيداً عن العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتطور التاريخي لذلك المجتمع وتداخل الثقافة بالتجارة ومدى فعالية تجارة الثقافة والقراءة ؟!. وسنتناول هذا الجانب من زوايا معينة منها جهلهم بثقافات الأمم وخصوصاً الثقافة الإسلامية، حتى أن إحدى الدراسات الجادة مؤخراً أقرت بأن أكثر من 80% من الأمريكان لا يعرفون شيئاً عن الإسلام؛ وان مادلين أولبرايت وكانت وزيرة خارجية أمريكا قد اعترفت في مقابلة تلفزيونية وفي برنامج (VIEW POINT) بتاريخ 5/6/2006م بأن معلوماتنا عن الإسلام قليلة جداً ويجب أن نفهم الإسلام "ومع هذا لا يفتئون عن مهاجمة ما لا يفهمونه ثم يدعون الموضوعية! .اذاً ماذا يعرف المثقف الغربي، انه يعرف بالتأكيد الكثير عن ثقافة "الفم والفرج" طالما دخلت بالثقافة كمادة تجارية؛ حتى صار شرب الكوكا كولا وتناول الوجبات السريعة جزءاً من الثقافة الجديدة، والاهتمام بحياة النجوم من ممثلين ومغنيين وراقصين وألوان فساتينهم وأثمانها وأنواع أحذيتهم تأخذ حيزاً كبيراً من هذه الثقافة الشوهاء ثم انتقلت العدوى إلينا، وهذا الأمر لا يبرره إلا الخواء الفكري الذي بات يشتكي منه مفكرون كثيرون، فصارت مواقع الانترنت مجالاً لنشر الغسيل الوسخ لكل شخص مهما كانت خصوصيته .وإذا رجعنا إلى الكم والعدد، فإننا لا نستغرب بأن الدول العشرة في استضافة المواقع الإباحية، والتي يقضي ملايين الشباب جل وقتهم في مشاهدتها هي دول غربية تأتي في المقدمة ألمانيا بعشرة ملايين موقع، تليها بريطانيا بثمانية ملايين موقع، فاستراليا بخمسة ملايين ... الخ .وهذه الثقافة هي ثقافة دغدغة المشاعر الجنسية إلى مستويات خارجة عن كل القيم التي لم يعد لها مفهوم في قيمة عموم الثقافة الغربية .وفي عرضنا هذا فإننا لا نبخس قيمة عموم الثقافة الغربية الأعمال العظيمة للأدب الغربي، والتي بدأت تختفي رويداً رويداً خلف سحابة الانفلات والدعارة وهي المولود المسخ للثقافة الإباحية، حتى صارت تجارة الدعارة ثالث أكبر مصدر للجريمة المنظمة بعد المخدرات والقمار، وكل هذه الأمور تمثل انحطاطاً للقيم والفطرة لا مثيل له، ويزداد الأمر سوءاً كلما تقدمت ثورة المعلوماتية وزادت سهولة تقديم المعلومة من خلال الانترنت .وتشير إحدى الدراسات الجادة إلى أن دخل المواد الإباحية يبلغ حوالي 14 مليار دولار في الولايات المتحدة فقط، وينفق المستخدم العالمي 3075دولار كل ثانية على المواد الإباحية، كما وصلت نسبة الحلقات التي يتم تحميلها عبر الانترنت إلى 35% من جملة ما يتم تحميله، وهذا يعني بأن ثلث المواد الثقافية لهذا النظام المعلوماتي يذهب للإباحية الجنسية وثقافتها المتدنية الساقطة!.ويقف "تجار الثقافة" والمؤسسات التي تخطط لقيادة هذه المجتمعات خلف هذا المنحى وباسم الديمقراطية والليبرالية وحرية التعبير، ناسين أو متناسين بأن البشرية بمعناها المطلوب هي أسمى من هذا الانفلات الحيواني، وكمثال واحد لهذا المنحى من ألوف الأمثلة ما قام به الملياردير اليهودي الأمريكي الجنسية روبرت مودوخ والذي يملك شركات هائلة في مجال الإعلام والثقافة عندما اشترى صحيفة (The sun) البريطانية في بدايات ثمانينات القرن الماضي، ووضع في كل عدد على الصفحة الثانية صورة فتاة عارية تماماًًً لترتفع مبيعات الجريدة من مئات الألوف إلى ستة ملايين نسخة يومياً. والثقافة المفتوحة بدون خجل ولا وجل صارت السمة الأبرز لبرامج الفضائيات ومواقع الانترنت، والتي بدأت تحتل مكان الكتاب يوماً بعد يوم وذلك لسهولة التعامل معها، حتى أن فتاة عمرها (16سنة)  ومن أبوين مطلقين، اعترفت في برنامج شعبي أمريكي وأمام الملايين بأنها عاشرت (22) رجلاً فقط، ولم تشعر بالسعادة إلا مع ثلاثة فقط، رغم تعاطيها للمخدرات بانتظام!.هذه الإباحية المفرطة صارت جزءاً من الثقافة الغربية و "ديناً " جديداً يستتر خلف الصليب زوراً وبهتاناً، وبتشجيع رسمي علني، كما حدث أخيراً في حفلة عامة في شوارع أمستردام للزواج المثلي شارك فيه أفراد من القوات العسكرية!.وعلى هذا النسق فان النقص في الكم الثقافي ليس عيباً ثقيلاً، لأنه ليس هو المقياس الحقيقي للمعنى الأخلاقي لثقافة الأمم والشعوب، وهذا التركيز من جانبنا على هذا الجانب من الثقافة الغربية لا يعني أنها مسخ أو لا يجب التعامل معها ونسيان بعض عيوبنا؛ كالتعلق المفرط بالماضي، وإهمال التفكير المستقبلي، وعدم توظيف الذات توظيفاً ناجحاً، والانسياق نحو التبعية الفكرية وعبادة الأنا، وتقديس الرموز البشرية تقديساًَ مفرطاً، ولكن موروثنا الروحي هو السمة الأبرز لشخصيتنا يجب أن لا نفرّط به تحت وطأة أسطورة الثورة المعلوماتية أو غيرها من المسميات، لان ما نحن عليه يضفي على وجودنا حتى لو لم يكن بالمستوى المطلوب بعداً روحياً وسعادة روحية يفتقدها غيرنا .
4- الطريق الجديد والنتائج
  في هذه النوعية من الثقافة والتي صارت ديناً جديداً كما نوهنا لذلك، يحق للمرء أن يتساءل أين ستصل البشرية ونحو أي طريق، خصوصاً بعد أن صار إجراءا قمعياً بدل أن يكون حافزاً أخلاقياً، وكما يقول علي عزت بيجوفيتش رحمه الله بأن الخوف من العقاب هو بداية الأخلاق، كما أن خوف الله هو بداية لحب الله، بينما تصور الثقافة الغربية هذه الناحية في الإسلام بأنه "دين خوف" في حين أن المسلم يفتخر بخوفه من خالقه وبارئه ومصوره والذي يتوجه إليه دائماً بمخاطبته وفي هذا الدين الجديد صار الإنسان المتعلم والذي يحسن التعامل مع كل وسائل الحياة الحديثة هو الإنسان المتحضر، حتى لو لم يمتلك ذرة واحدة من حسن الخلق، ناسين او متناسين أن العرف السائد يعرف الإنسان المتحضر بذلك الإنسان الذي يتعامل بتسامح وإنسانية وشفافية مع كل بني البشر حتى لو لم يكن يحسن القراءة والكتابة .
وهذا النهج تجاوز على فطرة الإنسان إلى دين جديد بإباحية مفرطة لم تعرف لها البشرية مثيلاً وبأخلاق تعزل الفرد تدريجياً عن العائلة إن لم تكن العائلة نفسها صارت أمراً يصعب تحديد هويتها على ضوء الترويج والاعتراف بما يسمى بالزواج المثلي، وهكذا صارت هذه الأخلاق ديناً آخر لا يمت لمفهوم الدين المتعارف عليه بصلة، وهو كما نوهنا سابقاً بأنه يعني الأخلاق والثوابت؛ وان الشخصيات المثالية من الأنبياء والصالحين يجب أن لا تغيب تحت وطأة التقدم المدني السريع ، فالمثل هي المثل؛ والأخلاق القائمة على الفطرة هي التي ترتفع بالإنسان نحو الإنسانية التي خلق عليها وارتفع بها عن مستوى الحيوانات والبهائم. والبشرية عموماً والمجتمع الغربي خصوصاً خرج بعد الحربين العالميتين وهو منهك ثقافياً من هذه الأيديولوجيات التي تبحث عن القتل والدمار تحت مسميات شتى، فزادت نسبة الجرائم بشكل مذهل، في الأدب والسينما والتلفزيون، حتى أن إحدى الدراسات تشير إلى أن الطفل الأمريكي العادي يشاهد ما يقارب 20 ألف جريمة قتل على التلفزيون قبل أن ينهي دراسته الثانوية! وعلى هذا المنوال فقد صار نزلاء العقلية يمثلون النسبة الأعلى بين النزلاء في مستشفيات أوربا وأمريكا وهذه نتيجة الثقافة المادية القائمة على القوة والمادة فخرجت علينا هذه الأجيال الهاربة نحو المخدرات والمنكرات والغرق بفلسفة العبث؛ ويمكن للقارئ الكريم أن يرجع لمواقع الانترنت المتخصصة في هذا المجال ليحصل على أرقام مذهلة بهذا الشأن .ومن غريب الأمور بأن السويد تنفرد بالرقم القياسي في عدد حالات الانتحار ومدمني المخدرات والأمراض العقلية، وفي نفس الوقت فهي تقف على قمة الهرم العالمي بنسبة أمية تكاد تقترب من الصفر وبمعدل دخل لا مثيل، كل ذلك مواز لأسوأ نظام عالمي منها على مستوى العالم فماذا نستنتج من هذا غير الفراغ الروحي القاتل لهذه الأمم .ويشير المرحوم علي عزت بيجوفيتش الى مسألة غاية في النباهة، حيث يشير إلى أن عدد حالات الانتحار في الجامعات البريطانية العتيدة أكبر ست مرات عن المتوسط القومي، لترتفع هذه النسبة في جامعة كمبريدج إلى عشر مرات من عدد حالات الانتحار بين الشباب البريطاني من السن نفسه، وهذا المثال يعد نموذجاً صارخاً للثقافة المشوهة والتي كلما ارتفع مريدوها زادت عندهم حالات القلق والكآبة والوحدانية! وهذه الثقافة القلقة يزداد اضطرابها بازدياد مساحتها، وهي على العكس تماماً من الثقافة الإسلامية التي تزدهر بين أوساط الطبقات المتعلمة والمتخصصة في مجال العلوم والإنسانيات.ومع استخدامنا لتعبير الثقافة الغربية، فان هذا التعبير ينطبق على بعض الدول الشرقية مثل اليابان التي تخلت عن ثقافتها الى حد ما وراحت في طريق التغريب وبدأت هذه الآفات تفتك بهذا المجتمع المتطور إلى أقصى الحدود .وأخيراً فان ثقافتنا ليست نابعة كلها من المادة التي خلق منها الإنسان على ما أعتقد بها فلاسفة المادة، فالإنسان لا يصلح بحواسه فقط، ولكن روحه تصلحه نحو بشريته والروح لا تسمو الا بالأخلاق كما جاء بها الرسل والأنبياء .ونرجو أن لا تكون طروحاتنا هنا دعوة لنبذ الاستزادة من المعرفة والحكمة، فهذا هو الهراء بعينه، ولكنها دعوة لكي لا يكون الكم على حساب النوع الذي افتقدناه، وهذا النوع هو تلك الروحانيات التي تمتلئ بها ثقافتنا والتي تعيد للإنسان إنسانيته من خلال تأملاته وإيمانه بالله وقدرته والتسليم له بكل شيء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق