17‏/11‏/2014

العلمانية المؤدلجة ومخاطرها على الديمقراطية.. (مصر) نموذجاً (5 من 5)

أبو بكر علي
ترجمة: اسو أحمد
الإبعاد من (السلطة)، يصبح حجة ومدخلاً للإبعاد من الحياة السياسية برمتها، أو الحجر في زاوية، بحيث لا يبقى أمام التيار الإسلامي أي دور، إلاّ أن يكون ديكورا سياسيا لا غير. وهذا نوع خطير من القتل السياسي، أو الموت البطيء، أو الحصر الذليل في مكان محدد، كما أنه استبداد وتضييق للفرص أمام ذلك التيار.
إذا كان كل ما تحدثنا عنه، خلال الحلقات السابقة من هذا المقال، من إفرازات أدلجة الصراعات، وتعميقها، والتي تصل إلى حد التلاعن، دونما التفات إلى الآثار السيئة التي تتركها على الثقافة الوطنية والتلاحم الداخلي للمجتمع، فإن دعوة الجيش، وإعادةَ جرّه -عديمةَ المعنى- إلى الحياة السياسية،
تدخل أيضاً ضمن هذا الإطار. فالمنافسات عندما تتحول إلى صراعات أيديولوجية، ويتم خلالها تحليل الحرمات، ويصبح إضعاف التيار المقابل، وكسره، وطرحه، الهدف الأساس والأسمى، فإن الجيش يصبح أداة لإعادة التوازنات، ويُنظر إليه وكأنه وسيلة محضة للضغط والفصل الأيديولوجي والسياسي، والتعامل معه يتم على هذا الأساس، وليس على أساس كونه مؤسسة وطنية. وهنا يظهر الاستخدام المزدوج، أو المتقابل: فالقوى السياسية العلمانية تتخذ من الجيش وسيلة في الصراع السياسي، وترى أن بقاءها واستمرارها مرهون بحرفه عن مهنيته وحياده. ومن جانب آخر، يتخذ الجيش هذه القوى مظهراً وغطاء سياسياً، لتزيين تدخله، ومنحه صورة جماهيرية، وشرعية وطنية، لإخفاء شكله البشع، وجوهره غير الديمقراطي. فالمصالح المشتركة للجانبين -القوى السياسية العلمانية، والجيش- فضلا عن اقتسام غنيمة السلطة، تكمن في محاربة عدو مشترك، وهو التيار الإسلامي، حيث تم توجيه التربية العسكرية للجيش، والحزبية للقوى العلمانية، بهذا الاتجاه، خلال السنوات الماضية!
وهنا يجدر بنا الالتفات إلى أبعاد حيادية الجيش في دول المنطقة، ومستوياته، وطبيعته.
فالجيش، لكي يكون حيادياً حتى النهاية، يجب أن يكون حيادياً من الناحية الأيديولوجية، إضافة إلى حياديته من الناحية السياسية. فالأيديولوجيا لها إفرازات وحضور سياسي على مستوى المجتمعات، ولا يتمكن الجيش من الحفاظ على حياديته إلى النهاية، في أغلب الأحوال، تجاه التيارات المختلفة في المجتمع. وما حدث في (مصر) مرتبط جزئياً بتربية الجيش وعقيدته. فتربية الجيش المصري، في الماضي، كانت تحت تأثير الأيديولوجيا القومية اليسارية العربية، وهي ذات اتجاه علماني معادٍ للإسلام. وهذا مرتبط بدوره بالصراع الطويل بين الدولة والسلطة الحديثة في (مصر) من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى. فالإسلاميون حوكموا، في ظل حالة الطوارئ، أمام المحاكم العسكرية، وصدرت بحقهم أحكام قاسية. ولكي يعود الجيش إلى حالته وموقعه الطبيعي، الذي تتطلبه طبيعة العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية، في إطار النظام الديمقراطي، يجب إخضاعه إلى إصلاحات جوهرية.
لذا، ولتصحيح موازين القوى، وإعادة التوازن إليها، يجب عليهم الاعتماد على الجيوش، بحيث أن ما لم يقم به الجيش ضد الأنظمة المستبدة السابقة، قام به ضد الإسلاميين!! فالجيش المصري يمكنه الادعاء فقط، بأنه لم يفعل ما فعله جيش الأسد وكتائب القذافي تجاه الشعبين السوري والليبي، وإلاّ فإنه لم يدافع عن المتظاهرين عندما تصدى رجال (مبارك)، وقوى الأمن الداخلي، لهم، وقتلوهم، وجرحوهم في (ميدان التحرير)، والميادين الأخرى، وفي الشوارع والطرقات. بل إن (مبارك) شكل، في أواخر أيام حكمه، مجلساً عسكرياً لتسليمه الحكم بعد تنحيه. وقد استلم الجيش السلطة بالفعل، بعد سقوط النظام، وأدارها خلال المرحلة الانتقالية، التي استغرقت عاماً، وهذا ما أدى إلى تشويه طبيعة تلك المرحلة. وما تزال الثورة والمجتمع يدفعان ضريبة ذلك. ولم يكن ثمة مؤشر بأن الجيش سيسحب ولاءه من (مبارك)، ونظامه، في حال فشل الثورة التي قامت ضده، أو أنه سيقوم بفعل ما لم تستطع أن تنجزه قوى الشعب، من الإطاحة بنظام (مبارك)، ومن ثم إعادة السلطة إلى الشعب.
الأحداث والتطورات، ومع الأسف، برهنت بأن الجيش لم يكن صادقاً في مراحل الثورة المختلفة، في مسألة تسليم الحكم إلى سلطة مدنية. فالشعب قام بالثورة، ولكن الجيش استلم الحكم، ولم يكن ذلك من حقه، وأدار الأمور بشكل سيء. وعندما انتُخب رئيس مدني، تبين –لاحقاً- أنه لم يكن صادقاً معه، بل إن (وزارة الداخلية)، وبقايا الدولة العميقة في البيروقراطية، كانت كذلك أيضاً. بحيث، وكما أشار معلق مصري، فإن (مرسي) -خلاف ما روِّج عنه بأنه منهمك في أخونة الدولة-، قد يكون هو رئيس الجمهورية الوحيد في العالم، الذي ملك ولم يحكم، كانت له السلطة، ولكنه لم يملك قوة تنفيذ سلطاته، ولم تعتبر مؤسسات الدولة -والأصح: مؤسسات نظام (مبارك)، فالدولة لا تكون هكذا- أنها مسؤولة عن تنفيذ سياساته!! وقد يكون شعور (مرسي) بهذه الحالة أحد أسباب الانقلاب عليه، عندما حاول تجاوزها، عن طريق إجراء تغييرات في بعض المواقع والمفاصل والمسؤولين في السلطة. وهذا الوضع مخالف للأوضاع الطبيعية في العالم، والدول الديمقراطية، فالمسافة بين الحكومة ومؤسسات الدولة، في ظل الديمقراطية، واضحة، ولا يمكن خلطها، ولا علاقة لمؤسسات الدولة وهيكلها البيروقراطي، بتغيير الحكومات والأحزاب والائتلافات الحاكمة. فليس مهماً لها من يكون رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة، أو المسؤول، بل المهم أن يكون قد وصل إلى منصبه بطريقة دستورية، وبصوت الشعب، وعبر صناديق الاقتراع، وأن يمارس سلطاته حسب الدستور والقوانين. وهذه هي الحالة التي يجب أن تصل إليها مختلف تيارات ومكونات أي مجتمع، وإلاّ فإن الديمقراطية لا تستقر، ولا تعطي ثمارها، ويبقى النظام دائماً محلاً للخلاف.
ما رأيناه في (مصر) يعطينا انطباعاً مختلفاً عن تلك الحالة، ويجلب الانتباه إلى أن إحدى الجذور العميقة لمشكلة (مصر)، هي المشكلة التي تواجهها (الدولة)، ووقف عليها بعض الباحثين. فما يجري حالياً باسم المحافظة على الدولة ومؤسساتها، مخالف لأسس فكرة الدولة الحديثة، كإطار روحي حضاري، وكيان سياسي قانوني، بل هو قتل للفكرة، واقتراب من حالة (اللا دولة). فاللجوء إلى العون الخارجي، من أجل حسم الصراعات الداخلية -والذي قامت به القوى العلمانية المتحالفة مع الجيش- تجاوز بذاته لسيادة الدولة، وفتح للأبواب باتجاه أقلمة الصراعات، ومن ثم تدويلها. ومساندة تلك الإرادة لم تأت من المراكز الراغبة في الديمقراطية، وانتصار ثورات المنطقة، بل من بقايا النظام العربي القديم، والتي تعض بالنواجذ على حكمها، عن طريق ملياراتها المتراكمة، وتدافع عنه، وتصرف دون وجل، من أجل الشعور بمستقبل أكثر أمناً لها، ولأنظمتها. ذلك أن اتساع حلقة التجارب الديمقراطية في المنطقة، لا شك، يضع تلك الأنماط القديمة تحت السؤال. كما أن القوى والنخب السياسية الحاكمة الجديدة، ومنها الإسلاميون، ليست مستعدة -كحال الأنظمة الحاكمة سابقاً- للتغاضي –وبسهولة- عن مساوئها وتبعيتها إلى النهاية، ومساوماتها عديمة المعنى، وتوزيع الأدوار المريبة، أمام قليل من المساندة، وحفنة من المال.
إذا كانت دعوة القوى الرجعية في المنطقة لتصبح جزءاً من الصراع، مؤشرا - في أحد الأوجه- على ضعف التيار العلماني، وقوة الإسلاميين، في هذه المرحلة على الأقل، فإنها تظهر أن هؤلاء لم يلجؤوا إلى الانقلاب والتحالف مع بعض الدول والمراكز، من أجل حرية أكثر، أو ديمقراطية أنضج، بل إنهم كانوا مستعدين ليصبحوا جزءاً من الخطة القائمة الإقليمية، والدولية إلى حد ما، من أجل إجهاض الثورات، وتحجيم موجة الديمقراطية المتوجهة إلى المنطقة، والتي أصبح الإسلاميون جزءاً مهما منها. فنوعية التعامل مع الإسلاميين، والنظرة إليهم، تظهر مدى فهم الأطراف والقوى والتيارات لمحتوى الديمقراطية، كما أسلفنا.
ومن هنا، فإن معاداة الإسلاميين، وعدم الرضا بمبادئ الديمقراطية، وبالنظر إلى مسألة الشرعية السياسية، والصعود إلى السلطة، والنزول عنها -حسب آليات الديمقراطية- تساوي معاداة الديمقراطية ذاتها. ومحاولة عزل الإسلاميين، عن طريق الآليات غير الديمقراطية، والدعم الخارجي، تعني عدم الإيمان بالشرعية الديمقراطية، وحكم الأكثرية، والتوصل إلى التوافق على مسألة الدستور والنظام السياسي. والنتيجة هي فرض حكم الأقلية، ومحاولة قمع الأكثرية. ولا يبقى لليبرالية والديمقراطية، في حالة كهذه، غير بعض المظاهر، والتي تحظى بنوع من القبول حتى من الأنظمة الدكتاتورية، خصوصاَ ما يتعلق منها بالسلوك الفردي والاجتماعي، وما يتصل بالذوق والفن وأساليب الرفاهية والعلاقة بين الجنسين، في حين لا تشكل هذه الحقوق بديلاً للحرية السياسية، بأي شكل من الأشكال، كما تفكر فيها الأنظمة الدكتاتورية، وترغب أن تكون عاملاً للإشغال والإبعاد عن السياسة والهموم السياسية. وقد تحدث (أرسطو)، وغيره من فلاسفة السياسة، في هذه المسألة.
ولا تأتي هذه الالتفاتة من فراغ، فهناك محاولة للتركيز على تلك الحريات، على حساب الحريات السياسية، في ظل القمع السياسي، وإسكات الخصوم السياسيين، في واقع (مصر) ما بعد الانقلاب العسكري، وتجري التضحية بالجانب السياسي من الليبرالية، في سبيل جانبها الاجتماعي، كما يقال. وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن بعض أنظمة الخليج، والتي تؤيد نوعاً من الرجعية المتسترة بالدين أخلاقياً واجتماعياً، التي يتجلى الجزء الأهم من مظاهرها على المرأة، إلاّ أنها، وبالعكس مما تقوم به في الداخل، تمول العديد من القنوات الفنية والترفيهية، والتي تغذي مواطنيها ومجتمعاتها عن طريقها، وعن طريق مؤسسات الاتصال والإعلام المعاصر، مما تمنع منه في الظاهر. ويوضح هذا أن المقصود ليس الله والدين، بل هو الملك والأمير والعائلة الحاكمة، والهدف الأكبر هو حماية المصادر الدينية والعرفية، التي تضفي الشرعية على سلطاتهم. كما أنهم يبغون من التوجيه غير المباشر لتلك المواد، التي يمنعونها داخلياً، تجنب الانفجار من جراء الضغوط التي قد تتجمع في ظروف الانفتاح التي نعيشها. إنهم يرومون من خلال هذا، فرض تأثيرهم على دول المنطقة، وهيمنتهم عليها، بغية تقوية مركزهم في إدارة سياسة المنطقة. لذا فمسألة التحالف بين القوى العلمانية والمدنية المصرية، وتلك الدول، ليست كلها تكتيكاً، كما أنها ليست مجرد تحالف على أساس وجود عدو مشترك، هو التيار الإسلامي والإخوان المسلمين، بل إنها تصل إلى مستوى التنسيق في المستقبل، فهم جزء من المحاولات الجارية من أجل صياغة خارطة جديدة في المنطقة، بدأ تنفيذها من (مصر)، ويراد لها الامتداد إلى (تونس) و(سوريا). فليس من الغريب أن يتعرض اللاجئون والثوار السوريون، وبعد الانقلاب مباشرة، إلى الهجوم والاعتداء، إلى أن وصل الأمر إلى حد فرض الضغوط عليهم، وتعريضهم للمهانة، والإيذاء الجسدي والنفسي. وهذا الأمر مناقض لما كان يبغيه (مرسي) في أواخر أيام حكمه، حيث اتبع نهجاً مسؤولاً تجاه نظام (بشار الأسد)، وكان بصدد طرد السفير السوري من (القاهرة)، ولكن حكام ما بعد الانقلاب تحدثوا عن إعادة العلاقات، وضرورة وقوف (مصر) على الحياد بين أطراف الصراع في (سوريا).
هذا الموقف الذي أبداه الحكام الجدد، عقب الانقلاب، لم يكن محل تعجب، فالمهم والأساس بالنسبة إليهم ليس انتصار ثورات المنطقة، والدليل خلق مشاكل للثورة القائمة عندهم، وبث النزاع بين أطرافها، كما أنهم يعرفون أن القوة الرئيسة في الثورة السورية هي الإسلاميون، ومنهم الإخوان، وانتصار الثورة، وبأي مقياس، سيجعل من الإسلاميين قوة كبرى في مرحلة ما بعد الثورة، والسلطة، التي تقوم حال سقوط النظام، من المنتظر أن يكون للإخوان، وللإسلاميين بكافة أطيافهم، دور فاعل فيها. فالطريق واضح إذن، وهو قيام سلطة مختلفة في المنطقة، يلعب فيها الإسلاميون دوراً أساسياً، وهذا خبر غير سار لهم. فهذه السلطة ستصبح سنداً للإسلاميين في بلادهم، وستتعقد المعادلة أكثر عليهم، ويحاطون بحصار أقوى، يقوده الإسلاميون بصورة عامة. لذا، وفي ظل أزمة العلمانيين في (مصر) مع القيم والديمقراطية، فإن الثورة السورية لن تحظى بأي دعم منهم، من حيث المبدأ، وما يصدر منهم ليس إلاّ مراعاة لبعض دول الخليج، فإنهم يعتبرونها في الواقع خطراً على مستقبلهم.
اللافت للانتباه أن توسع دائرة الصراع إلى المستوى الإقليمي، لا يثير حساسية وطنية عند القوى العلمانية والمدنية، ولا يعتبرونه منافياً للسيادة المصرية. في حين أن الصراعات والمشاكل الداخلية، ستؤدي بالنتيجة إلى بروز الاستقطابات. أي أن هناك دولاً ومراكز في المنطقة تكمن مصالحها في قهر الإسلاميين، ودعم الانقلاب، في حين تعتبر دول ومراكز أخرى أنفسها حليفاً لها، وراهنوا على ذلك، فيما يفكر آخرون في تقديم الدعم المادي والمعنوي للإسلاميين، من منطلق صراعاته مع بعض القوى الأخرى، وفي سبيل لعب دور مهم في المنطقة، والتكيف مع الوضع القائم فيها، والظهور في أدوار مختلفة. وقد وقف آخرون ضد الانقلاب، ولا يزالون على مواقفهم، من منطلق التعاطف الديني، والانتماء إلى نفس التيار، والاعتبارات الاقتصادية والديمقراطية، بحثاً عن حلفاء استراتيجيين وموثوقين فيهم للمستقبل، ولتقوية مواقفهم أمام بعض الأقطاب والقوى الإقليمية، وتجاوز ثقافة الانقلاب والزج بالعسكر في الحياة السياسية. وينعكس هذا في الموقف التركي.
أما (الغرب)، فهو يتعامل، بصورة عامة، من منطلق التغيرات الجارية، والاستراتيجية الجديدة لحفظ مصالحه، وقيمه، وغموض مستقبل ومآل الصراعات، وعدم استكانة التيار الإسلامي، وممانعته، وتصديه للانقلاب، والخوف من انزلاق (مصر) والمنطقة نحو العنف، وعوامل أخرى. وهو يصف الأحداث في (مصر) بـ(الانقلاب)، ويطالب بإعادة الديمقراطية إلى البلاد، ويجري لقاءات مع قادة الإخوان المعتقلين، ومنهم الدكتور (مرسي) نفسه، ويطالب بإجراء الحوار، وهذا يوصل رسالة مفادها أن الانقلاب ليس وسيلة لحماية الديمقراطية والاستقرار، ويجب إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. وتعامل دول الغرب مع الانقلاب، وفرضية إعطائها الضوء الأخضر للقيام به، لا يغير من المسألة كثيراً، فهي، ورغم مواقفها المتشددة حيال النظام، لا تزال تحتفظ بسفاراتها عنده، وتتبع في تعاملها مع الأطراف المختلفة سياسة الكيل بموازين متفاوتة.
في نهاية هذا الموضوع، ومع بقاء العديد من الأوجه دونما إثارة لها، وعدم التطرق إليها، نقول: إن ما حصل خطأ بكل المقاييس، وذلك لأن وقوع أخطاء من (مرسي)، ومن الإخوان، لا يبرره. وأخطاء القوى السياسية، في ظل الديمقراطية، تُصحَّح بالوسائل الديمقراطية، وليس بالأساليب والآليات غير الديمقراطية. والتهم الموجهة إلى (مرسي)، من قبل الحكومة والسلطة الجديدة، وكما قال السيناتور الأمريكي (جون مكين)، يوم 11/8/2013، لا تتعلق بمهام رئيس الجمهورية، ولا تبرر القيام بانقلاب عسكري ضده أبداً.
ولقد كانت المحاكم الخاصة، ومنها المحكمة الدستورية، واضحة في عدائها السياسي لحكم (مرسي)، وهذا ما دفعها للقبول بالفضيحة الكبرى، في حين كانت هي المكلفة بحماية الدستور. ولكن، وكما قال وكيل نقابة المحامين المصرية، فقد أيدت المحكمة الدستورية الانقلاب، وأدى رئيسها اليمين الدستورية لرئاسة الجمهورية بصورة مؤقتة، أمام قائد الانقلاب، الذي عطل الدستور، وأوقف العمل به، في ظرف خلقه الانقلاب والأساليب غير الديمقراطية، وقد يقل نظيره في النيل من هيبة المحكمة وكسر احترامها، والتهم الموجهة ضدها كفيلة بالاستقالة، من الناحية الدستورية.
الحل الوحيد الآن هو إعادة الاعتبار والعمل بالديمقراطية، بصورة عملية، لا شعاراتية، وكذلك تخفيف الصراع الأيديولوجي العلماني – الإسلامي. فليس هناك بديل عن الحل الديمقراطي، الذي يملك الجيش الجانب الأكبر منه، لأن الجيش هو من رفض المقاييس والأسس الديمقراطية وتخطاها، ورغب في فرض دكتاتورية جديدة بعيدة عن الديمقراطية، وهذا يقتضي إعادة الاعتبار للسياسة والدولة، اللتين وقعتا ضحية في هذا المعترك، وتعرض مفهومهما للتشويه. فإذا كان الابقاء على الحوار، والوصول إلى الحلول الوسطى للمشاكل، هما روح السياسة كنشاط مدني، وإذا كان الجزء الأهم من معنى ومفهوم الدولة يكمن في حياد مؤسساتها -كما تمت الإشارة سابقاً-، فإن هذين المفهومين تعرضا بعد الانقلاب إلى التشويه والتحريف، على مستوى واسع وخطير، مقارنة بالماضي.
الملاحَظ من أصحاب السلطة، وخاصة الفريق (السيسي)، الذي تقع بيده السلطة الحقيقية، هو عدم الرضا بالعودة إلى ما قبل 30/6 و3/7/2013، وهذا يعني فرض الضغوط على الطرف المقابل بغية القبول بشروطه، والتي تتضمن القبول بالواقع الجديد، مع بعض التغييرات الطفيفة، حتى يكون له الحق بالبقاء في هامش الحياة السياسية!! ويعني هذا للطرف المقابل، قبل الاعتراف بالهزيمة، الإقرار بجميع التهم الموجهة ضده، كما يعني القبول بواقع لا يتم التعامل معه فيه كشريك سياسي، بل كمن يبحث عن الصدقات، ويبغي الحصول على جزء من الزكاة الشرعية!! وهذا ما يضاعف من عمق الجراح وآلامها، إذ إلى جانب ذلك الشعور بالمرارة نتيجة عزل الرئيس، فإن شعوراً بالمهانة والإذلال سيظل ملازما لهم.
وأمام هذين الاتجاهين، رُفضت المقترحات، وخصوصاً من الحكام الجدد. في حين ينبغي على الطرفين أن يتحمل كل منهما جزءاً من الأضرار، والتوصل إلى حل وسط للمشاكل. وهذا يفيدنا أنه -وبالعكس تماماً مما أشار إليه قادة جبهة الانقاذ والانقلاب، وما كانوا يبررون به خطوتهم غير الدستورية وغير الديمقراطية- فإن الانقلاب لم يؤد إلى إنهاء التعقيدات والتوترات، بل إنه حتى لم يبعد (مصر) من شفا حرب أهلية، والذي كان أحد التبريرات التي تشدق بها الجيش للتدخل، إذ لم تدخل (مصر) حالة من خطر الانزلاق في جحيم الحرب الأهلية، كما هي الحال الآن! فالانقلاب لم يستطع وضع حد للقتل، بل إن القتلى وصل عددهم من أفراد إلى مئات، فيما وصل عدد الجرحى إلى الآلاف، وتخطى عدد المعتقلين الـ 1800، حسب المصادر الحقوقية! وحسب بعض المفكرين والشخصيات المصرية، كأمثال (د. محمد عمارة)، و(طارق البشري)، فإن التاريخ الحديث في (مصر) لم يشهد من قبل أن تعرض الجيش للمواطنين، كما تعرض لهم خلال قمع التظاهرات الأخيرة. ولم يتقوَّ الأمن القومي لـ(مصر) بعد الانقلاب، ولم تقل المخاطر عليه، بل إنه تضاعف بمرات، مقارنة بما كان عليه قبل الانقلاب، نتيجة المشاكل والصراعات الداخلية وإفرازات الانقلاب، إلاّ أن يكون الحكام الجدد قد تعرضوا للوهم! كما أن شهرة (مصر)، وهيبتها، كبلد ودولة وشعب، هي الأكثر انحطاطاً إقليمياً وعالمياً، وخصوصاً منذ زمن نجاح الانقلاب. ولا تزال (مصر) تعاني من أزمة الشرعية، وتحولت المسائل الفرعية فيها إلى مسائل رئيسة، فيما انقلبت الرئيسة إلى فرعية.
إذا كانت التضحية بالديمقراطية، في ظل الأنظمة الاستبدادية والفاسدة في المنطقة -ومنها نظام (مبارك)- قد تمت من أجل الاستقرار، أو بالأحرى باسمها، حيث إن مجتمعات المنطقة كانت محكومة بالاختيار المر بين الاستقرار والديمقراطية، فإن النخب السياسية والفكرية والدينية، والقوى المعتبَرة في البلاد، إن لم تتدارك الوضع، فإن المجتمع سيفقد استقراه النسبـي، دون الحصول على الديمقراطية، اي أنه يفقد كل شيء تماماً، ويصل إلى الحالة التي تسمى (الانفلات).
إن السلم الأهلي في (مصر) الراهنة مهدد، ودائرة الحقوق والحريات السياسية والمدنية، كإحدى النتائج المهمة للديمقراطية، في تضييق، والسبب في ذلك هو عدم السيطرة على البغض الأيديولوجي، والمعاداة العمياء، لجزء من الشعب المصري، وهو التيار الإسلامي، وجماهيره، وحلفاؤه.
لقد جربنا نموذجاً من الدولة، التي تحاول بلع الدين، وعلماء الدين، وفرض سيطرتها عليهم، عكس التجربة الغربية، التي هيمنت فيها السلطة الدينية على السلطة الزمنية والدولة، وظهرت العلمانية كإجراء تاريخي لفصل السلطتين عن بعضهما البعض.
إن التجربة المصرية، وتجارب دول أخرى في المنطقة، تؤكد لنا أن مَركزة العلمانية، وجعلها محورا في النضال السياسي، سيؤدي إلى شكلية ديمقراطية، وانقطاع عنها. في حين أن ما تحتاجه التنمية، حالياً، ومستقبلاً، في المنطقة، ويساعدها في إعادة بناء الدولة، والديمقراطية ذاتها، ودونما خلق حساسية من حرب أيديولوجية كبرى، ليس له مشكلة مع علمانية معتدلة، علمانية تؤمن بمبادئ المواطَنة المتساوية، وتستمد شرعيتها من المواطنين والشعب والوطن، ويخضع الكل في ظلها إلى الرقابة والمساءلة، وتُضمن فيها الحقوق والحريات، ولا تفرض الدولة أية أيديولوجيا، وتحافظ على حيادها. والإسلاميون هم التيار الذي يمكن أن يكون له دور كبير في الوصول إلى هذه الحالة، ويوفر لها مصدراً معرفياً كبيراً.
الجدير بالملاحظة أن الإسلاميين في المنطقة، وخصوصاً في دولتين مهمتين، كـ(تركيا)، و(مصر)، يأتون في طليعة القوى المطالبة بإنهاء تدخل الجيش في الحياة السياسية، وليس العلمانيون واللبراليون، ودون أن يكون لهم برنامج بحل جيش أيديولوجي بديلٍ محله، وهذا واجب ليبرالي بامتياز. وأذا ما أخذنا دور الإسلاميين بالاعتبار، في ظل غياب دور العلمانيين، في واجب دمقرطة مجتمعات المنطقة، نستطيع النظر إليهم بصورة أكثر إيجابية، ونقلل من آثار النظرة المسيئة للعلمانيين، والتي تحكمهم بعمومية وبإجحاف. ولكن هذا السلوك قد يُبعد طريق وصول الإسلاميين إلى بعض المحطات الفكرية والسياسية الحديثة، التي يجب عليهم الوصول إليها، وهذا يُبعد طريق المجتمع والعملية السياسية بصورة عامة.

هذه الأحداث، إذا لم تصل إلى نقطة التحطم الأيديولوجي والأمني الخطير، يمكن أن تكون فرصة أخرى للإسلاميين للوصول إلى مرحلة أكثر نضجاً، والذين تمكنوا، عكس الثورات، من جعل الصراعات الأيديولوجية فرعية، والشعارات والأهداف السياسية، وقيمها، ومقتضياتها، العنوان الأكبر للمرحلة. وإعادة تقوية الصراعات، وتحت أي اسم وعنوان، هي ارتداد عن روح الثورات وقيمها وشعاراتها وأهدافها، وهي غير ديمقراطية بطبيعتها. وهذا ما قامت به القوى العلمانية والمدنية بالدرجة الأولى في (مصر)، والنتيجة أننا نرى التجربة الديمقراطية ومنجزات الثورة أمام مخاطر جدية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق