خليل إبراهيم
تعد المساءلة من أبرز مرتكزات الحكم الرشيد، ودعامة أساسية في النظام الديموقراطي، وإحدى أهم القيم في المجتمعات المتقدمة الناضجة، إذ تؤدِّي دوراً كبيراً في تحقيق العدالة، وزيادة مستوى الشفافية، وفتح الأبواب أمام متابعة أعمال الحكومة وأدائها، ومراقبتها وتقييمها، ومن ثم مساءلتها .
وتاتي أهمية المساءلة في أنها تجعل الحكومة مسؤولة أمام الشعب، وتمنح المواطنين الحق في مراقبة الحكومة ومحاسبتها من خلال ممثليهم، الأمر الذي يعزز ثقتهم بأنفسهم في المشاركة الفعالة لصنع القرار، والإدارة الأمثل للموارد، وتعزيز الديموقراطية.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى ضرورة نشـر ثقافة المساءلة، وأهميتها في تصحيح مسار الحكم، وترسيخ أسس الديموقراطية، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، لرصد الفساد، ومراقبة مجالاته، ومظاهره، وكشف انتهاكات حقوق الإنسان، والتعدِّي على حرياته، كما ينبغي تطوير المؤسسات الرقابية والنزاهة، وتفعيل دورها لمحاصرة الفساد ومعاقبة الفاسدين.
إن فلسفة الإسلام، ورؤيته، في بناء الحكم الرَّشيد، وإنشاء السلطة، وإدارة الشأن العام؛ تقوم على دعائم التراضي والتعاقد، المبني على الاختيار الحر من الشعب لمن يحكمه، دون احتكار له من فئة أو طائفة أو أسرة أو عشيرة، وأن يكون له الحق في مراقبة الأداء، ومساءلة السلطة، وعزلها، وسحب الثقة منها؛ في حالة الانحراف أو العجز أو الخيانة ..
إن السلطة في المنظور الإسلامي أمانة ومسؤولية؛ ينبغي الالتزام بها وبمتطلباتها، وتحمل النتائج التي تترتب عليها أمام الجهاز الرقابي، وأدوات المساءلة. وهذا الأمر مقرّر في القرآن والسنة النبوية إزاء كل من يتسنّم منصباً عاماً، حتى لو تعلّق الأمر بالنبي أيضاً - عليه الصلاة والسلام-. قال تعالى: [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ](سورة آل عمران/161). والمسؤولية في الإسلام مركبة من المسؤولية القانونية والمسؤولية الأخلاقية الذاتية، والمسؤولية الأخروية المرتبطة بالمحاسبة والعقاب الأخروي.
ومادامت الحكومة في أصل نشأتها تنبثق من الشعب، وتمثله في إدارة الشؤون العامة، وتنوب عنه في إدارة البلد بما يحقق نهضته، ويضمن حقوقه، ويلبي احتياجاته، ويستجيب لمطالبه المشـروعة، فإن المساءلة تكون مرتكزاً أساسياً لضمان سلامة مسيرة الحكم، وتحقيق البرنامج الحكومي المتبنى. وهذا ما عبر عنه الخليفة الراشد الأول، بشكل صريح وواضح، في أول خطبة له عند توليه الخلافة، حيث قال: (أما بعد، أيها الناس؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) .
فالمساءلة حق طبيعي للمواطن، ولعموم الشعب، يمارسه لضمان عدم الجور والظلم والفساد، وعدم انتهاك الحقوق والحريات، وللحيلولة دون تحول الطبقة الحاكمة إلى أداة للقمع والمطاردة، والاحتكار، والاستئثار بالسلطة والثروة.
إن المساءلة؛ بمؤسساتها الرقابية، وأدواتها المحاسبية، وسلطة الرأي العام، وسلطة الإعلام، واللجان البرلمانية، تساهم في تجفيف منابع الفساد، وتقليل فرصه، لأنها تضع الطبقه الحاكمة أمام مسؤولياتها في إدارة الشأن العام، والإدارة الأمثل للموارد والطاقات، وتصـريف الأعمال، والإنفاق العام، على ضوء البرنامج والخطط والأهداف المرسومة..
فالمساءلة تعني - في أبسط معانيها - القدرة على تحمل المسؤولية عن كافة الأفعال والسياسات والقرارات التي يتخذها صنّاع القرار في الدولة. ولا يمكن أن تكون هناك مساءلة بدون وجود نظام محاسبة فاعل وسائد على الجميع، لوقوف الجميع عند مسؤولياته، والقيام بها بالكفاءة والفاعلية اللازمة لإنجاز الأعمال.
إذاً، تلعب المساءلة دوراً محورياً في تشكيل وتوجيه العمليات والنشاطات لأية مؤسسة، وتمثل قيمة في النسق القيمي للجميع، قبل أن تكون مجرد آليات، وترتبط أهميتها القيمية بتحقيق قيم أخرى؛ أبرزها الديمقراطية، الشفافية، والتمكين.
وتجدر الإشارة هنا إلى ذكر الأهمية البارزة للمساءلة، في النقاط التالية:
1. توجيه طاقات المؤسسة نحو الأهداف الاستراتيجية.
2. دفع الموظفين إلى التركيز على نتائج أعمالهم.
3. تحسين الأساليب المستخدمة في تسيير أمور العمل.
4. إعطاء دافعية أكبر للتطور والتقدم في العملية الإدارية.
5. المساعدة على الإبداع والابتكار.
ولكي تنضبط المساءلة، وتأخذ مسارها الصحيح، ينبغي أن تكون هناك مؤشرات لقياسها، وهي تتمثل في الإجابة عن التساؤلات التالية:
1. هل توجد وثائق منشورة واضحة تتعلق برسالة المؤسسة وفلسفة عملها، وأهدافها، واستراتيجياتها، وخططها، وموازنتها، وإيراداتها، ونفقاتها؟
2. هل تمتلك المؤسسة هيكلية تبين المسؤوليات، والصلاحيات، وأشكال وأنظمة العلاقة بين الهيئات، وآليات تواصلها؟ وهل هناك وصف وظيفي للعاملين كافة؟
3. هل تعقد المؤسسة اجتماعات دورية، وهل تقوم بأعمال تفتيشية؟
4. هل تلتزم بإعداد تقارير معينة؟ وهل هناك آليات للمساءلة في وجود مخالفات قانونية؟
واضح أن المساءلة لا تعني مجرد السؤال، بل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحاسبة، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في موضوع العقوبات.
ولكي تؤتي المساءلة ثمارها، وتحقق أهدافها، لا بد من توافر المبادئ الآتية:
1. وضوح قواعد النظام، وعواقب المخالفات.
2. المباشرة في تطبيق الجزاء، والعدالة في تطبيقه.
3. المساواة والتجانس في العقوبة، والتدرُّج فيها.
وينبغي ألّا يفوتنا هنا ذكر أن هناك مشكلات تعيق تطبيق المساءلة، وتعرقل سيرها، وهي مشكلات إدارية بنيوية تتعلق بالجهاز الإداري؛ ومنها: سيطرة المركزية الشديدة، وضعف التخطيط الشامل، وصعوبة تفعيل الرقابة، والإشراف الإداري، بسبب تضخّم الجهاز، وكثرة التغييرات في القوانين والأنظمة. هذا، فضلاً عن المشكلات الاجتماعية الثقافية؛ ومنها: هيمنة الولاءات الاجتماعية التقليدية، وانخفاض رواتب العاملين في الجهاز الإداري، مقارنة بارتفاع تكاليف المعيشة، وضعف التوعية والتدريب بما يحقّق ثقافة المساءلة، وبيان متطلباتها ومنافعها.
---
¨ مجلة الحوار ǀ العدد 186 ǀ السنة الحادية والعشرون ǀ شتاء 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق