30‏/03‏/2024

تدوين التاريخ الكوردي

 الترجمة عن السويدية: سامي الحاج*

لا يوجد أرشيف مركزي للتاريخ الكوردي، بل إن المواد مبعثرة وذات جودة متفاوتة. كانت المناطق الكوردية تقع على أطراف الإمبراطوريات الكبيرة، وكانت أيضاً مدمجة مع هذه الإمبراطوريات، لذلك فقد كُتب التاريخ من قبل المنتصـرين والحكام، وليس من قبل الكورد أنفسهم. ولهذا السبب أيضاً فإن المصادر القليلة المتاحة أيضاً قد اتسمت بهذا؛ من خلال معلومات ملتبسة، وفي كثير من الأحيان متضاربة.

حتى بين المؤرخين الكورد، يبدو أن معرفتهم بالحضارات التي اختفت، أكبر من معرفتهم بتاريخهم الخاص، وكان تدوين التاريخ الكوردي منشغلاً في المقام الأول بدراسة فترات معينة في التاريخ ذات صلة بالكورد. وقد تألف هذا أساساً من إشارات وتنويهات إلى الشعوب التي لها أسماء ذات تشابه اشتقاقي Etymologi مع الكورد، والذين أصبحوا بالتالي يُعتبرون أسلافاً.

ويذكر السومريون، والبابليون، وحتى الآشوريون، بالفعل، في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد، شعباً في جبال زاغروس الوسطى والشمالية الشـرقية، أطلقوا عليه اسم گوتي أو كورتي. وهو شعب ينتمي إلى أرض تدعى گوتيوم، أو أيضاً: كارداكا.

تعود أصول الگوتيين (حوالي 2200-2100 ق.م) إلى الجبال الإيرانية، وتولوا السيادة على أجزاء كبيرة من بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا). وقد جاء في ألواح الكتابات المسمارية أنهم كانوا يعيشون مبعثرين في مستوطنات نائية. وتشير أيضاً إلى ثروة أراضيهم، وفي الوقت نفسه ملوكهم المخيفين. يعرب (سرجون الأول) الأكدي، الذي أسس مملكة كبيرة في بلاد ما بين النهرين (حوالي عام 2350 ق.م)، عن فخره بهزيمة گوتيوم. ويؤكد أحد خلفائه (نارامسيب)، على وجه الخصوص، أنه تمكن من إخماد ثورة بين شعوب الجبال، على الرغم من أنه هو نفسه عانى من الهزيمة في القتال ضد الگوتيين. بعد ألف عام، أشاد الملك الآشوري (تيگلات پيلسار الأول) (1114-1076ق.م) بنجاحاته العسكرية على الگوتيين، المنتشرين على نطاق واسع.

ويُعتقد أنهم كانوا منظمين في قبائل، ولكن لغتهم وديانتهم غير معروفة. ونظراً لوجود بعض المعرفة والدراية القليلة حول الگوتيين، بفضل هذه المصادر الآشورية والسومرية، فقد أصبحوا - أي الگوتيين - مرشحين مرحبٍ بهم كأسلاف للكورد. كما أن التشابه الاشتقاقي بين كلمتي الگوتيين والكورد، يُساق كدليل إضافي إلى حقيقة أخرى، وهي أن جغرافيا مملكة الگوتيين تتوافق إلى حد كبير مع المناطق التي يسكنها الكورد اليوم.

لعب كتاب (أناباسيس)، للجنرال والمؤلف اليوناني (زينفون) - وهو ما يشبه السيرة الذاتية – أيضاً، دوراً كبيراً في المدونات التاريخية الكوردية. يخبرنا الجنرال (زينفون) هنا عن انسحاب الجيش اليوناني عام (400 ق.م)، عبر المناطق الكوردية المعروفة اليوم، بعد حملة عسكرية فاشلة إلى بلاد فارس. عندما وصل الجيش إلى (جبال زاغروس)، سأل (زينفون) مرافقه الفارسي عن الشعب الذي يعيش هناك، فسمع منه أن هناك شعباً يعيش حياة البراري، شعب محاربٌ يدعى كاردوخي، لم يكن من رعايا أي ملك أبداً، ذات مرة حاول ملك فارسي احتلال أرضهم، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، وخسر 100000 جندي.

قرر (زينفون) الاستمرار بأقصـى درجات الحذر، لكن جنوده بدأوا على الفور في نهب وحرق القرى الكاردوخية التي كانت في طريقهم. عندما رأى الكاردوخيون ذلك، أشعلوا النيران على قمم الجبال والتلال، لإخطار المنطقة بأكملها بأن هناك دخيلاً في الطريق إليهم. وبعد ذلك شرعوا بحرب عصابات ضد اليونانيين. في النهاية، قرر (زينفون) التفاوض مع الكاردوخيين، ليتمكن من اجتياز الجبال. وجد شخصاً يتحدث لغتهم، وطلب منه أن يسألهم لماذا يقاتلونه؟ وكان الجواب: أنتم قاتلتمونا، لقد غزوتم بلادنا، وأحرقتم قرانا ومنازلنا.

لذلك، عندما وعد (زينفون) بأن قواته ستتوقف عن أعمال السلب والنهب، سمحوا له بالمرور دون أي صعوبة تذكر. لقد مارس الكاردوخيون حقهم الطبيعي في مقاومة الاحتلال والقمع، وحماية استقلالهم الذاتي، وأسلوب حياتهم. كان إشعال النيران على قمم الجبال، كما في أسطورة كاوا، وسيلة الاتصال، وإشارة بدء المقاومة.

نظرية أخرى، كان لها ظهورٌ في كتب ومنشورات التاريخ في الدول الغربية، هي أن الكورد هم أحفاد مباشرون للميديين القدماء، ولكن دون أن يكون هذا قابلاً للإثبات بدلائل. تم ذكر الميديين لأول مرة في المصادر الآشورية، في القرن التاسع قبل الميلاد. وكانوا، مثل الكورد، بلغة إيرانية شمالية غربية. وبعد سقوط الدولة الميدية، اندمجوا تدريجياً في المجموعة العرقية الفارسية، ولا يوجد دليل أو إثبات تاريخي على أن الميديين قد بقوا كشعب منفصل وخاص، من شأنه أن يشكل أسلاف كورد اليوم. إن الفرضيات المطروحة بهذا الشأن يمكن وصفها بالواهية، مثل أن الكلمة التي تشير إلى أكبر لهجة كوردية (الكرمانجية)، هي تحويل وتركيب من كلمتي: كُورد ومانجي، أي الميديين. ومع ذلك، لا تزال هذه النظرية حية، وقد تم طرحها قبل كل شيء من قبل الرحالة الأوروبيين والأمريكيين، الذين سافروا إلى المناطق الكوردية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

البعض الآخر حدد تاريخ الكورد بالأراضي التي تشكل المنطقة الكوردية اليوم.

من أوائل المتبنّين لهذه الأطروحة هو (مهرداد إيزادي)، وهو مؤرخ كوردي يعمل في قسم لغات وحضارات الشـرق الأدنى في (جامعة هارفارد). ففي كتابه (الكورد.. دليل موجز)، الذي نشـر في عام 1992، يعيد التاريخ الكوردي إلى ما قبل 50000 عام، ويعتبر اكتشافات إنسان النياندرتال منذ ذلك الوقت، نقطة البداية للثقافة الكوردية.

فرضيته هي:

"ككورد، أعتبرُ كذلك جميعَ المجموعات العرقية التي عاشت في وقتٍ ما في الأراضي الكوردية، والتي لم تحتفظ بهوية مميزة حتى يومنا هذا، والتي - يقيناً - لا ترتبط بأمّة أخرى محدّدة الهوية، تعيش أو عاشت خارج المنطقة الكوردية. وهذا يتفق مع الإجماع الذي ينطبق على تحديد هوية قدماء المصـريين، واليونانيين، وعلاقة القربى التي تربطهم بالمصريين واليونانيين المعاصرين".

من خلال هذه الأطروحة، يمكن للكورد أن يزعموا أنهم هم الذين اخترعوا الزراعة، وتدجين الحيوانات، وفن صناعة الفخار، وفن صناعة المنسوجات، والكتابة المسمارية، والتكوينات الحضـرية الأولى. وبدلاً من أن يذوبوا بين أفراد الشعوب المهاجرة، نجح الكورد - بدلاً من ذلك - في استيعاب ودمج كل هؤلاء عبر آلاف السنين!

يقول إيزادي:

"امتدت الهيمنة السياسية الكوردية من اليونان إلى مضيق هرمز، في القرن الأول قبل الميلاد، وذلك بعد أن تخلصوا من الحكم الآخي، والسلوقي".

وهكذا يحتكر (إيزادي)، وأمثاله، تاريخ المنطقة باعتباره تاريخ الكورد، وبالتالي يواصلون كتابة تاريخٍ أصبح صورة طبق الأصل للتوجهات القومية التركية، التي بموجبها تدعي أن جميع الشعوب التي عاشت في منطقة الأناضول، حتى الحيثيين، أنها شعوب تركية، على الرغم من الحقيقة القائلة أن الأتراك جاءوا إلى المنطقة بداية في القرن الحادي عشر بعد الميلاد.

لم يتمكن البابليون، ولا الآشوريون، ولا غيرهم من الشعوب الفاتحة، من السيطرة على المناطق التي يسكنها الكورد اليوم، لكنها أصبحت بدلاً من ذلك هدفاً لموجات مختلفة من الهجرة. بالفعل في الألفية الثانية قبل الميلاد، جاءت العديد من القبائل الهندوأوروبية إلى المنطقة، مثل الميتانيين، واتخذت اللغة الهندوجرمانية خطوة أخرى إلى الأمام عندما وصل الميديون إلى هناك حوالي عام 1000 قبل الميلاد.

مؤرخون آخرون، مثل المستشـرق الروسي (مينورسكي)، المتخصص بالشأن الكوردي، يذهبون إلى القول إن كورد اليوم يتألفون من اندماج هذه الشعوب وغيرها، وحتى، على سبيل المثال، السكيثيون الهندوجرمانيين، والكيميريون، الذين أسسوا في 700 و600 قبل الميلاد مملكة قوية عند سواحل البحر الأسود، ساهموا في ظهور شعب كوردي.

جغرافياً، عاش الكورد وأجدادهم، في منطقة استراتيجية كانت دائماً هدفاً للأطماع التوسعية للقوى العظمى، التي اصطدمت ببعضها عبر التاريخ. بعد أن غزا (الإسكندر الأكبر) آسيا الصغرى، وطرد الملك الفارسي (داريوس)، أصبحت المناطق الكوردية تحت السيطرة اليونانية غير المستقرة إلى حد ما، حتى غزا الملك الأرمني (تيغرانيس)، في عام 80 قبل الميلاد، هذه المناطق، التي استُعمِرَت بعد ذلك من قبل الرومان. تبع ذلك صراعات بين الإمبراطورية الرومانية الشـرقية، والامبراطورية الفرثية، القوة العظمى الجديدة في الشـرق، والتي استمرت حتى اجتاحت القوات تحت راية النبي محمد المناطق الكوردية.

الكورد بعد الفتح الإسلامي:

يذكر (أردشير بن بابك)، مؤسس السلالة الساسانية الفارسية في عام 226 بعد الميلاد، اسم (ماديگ)، ملك الكورد، كأحد خصومه الرئيسيين. لكن تاريخ الكورد يأخذ ملامح أوضح مع الانتقال إلى الإسلام. وكان أول اتصال كوردي مع الجيوش العربية، قد حدث أثناء غزو بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) عام 637 ميلادي. في البداية دعمت القبائل الكوردية الإمبراطورية الساسانية الحاكمة، وشاركت بقواتها في الدفاع عن أراضي الإمبراطورية، في السنوات 639-644. وعندما أصبح من الواضح أن هذه المعركة أصبحت خاسرة وبلا طائل، غيروا ولاءهم، وذهبوا واحداً تلو الآخر إلى المعسكر المعارض، وتحولوا إلى الإسلام. ومع ذلك، فقد كانت هذه التحولات - في كثير من الأحيان - اسمية فقط، وتغيير الدين كان وسيلة لضمان استمرار نوع من الاستقلالية لأنفسهم.

كان للفتح الإسلامي، بالأحرى، طابع أقرب إلى الحملات العسكرية. لم يكن لدى القوات المنتصـرة مصلحة في البقاء لفترة طويلة في ذلك العالم الغريب، وغير المألوف جغرافياً ومناخياً، الذي شكلته الجبال الكوردية. لم يكن العرب يشعرون بأنهم في وطنهم في هذه المنطقة، وربما ظهرت منذ ذلك الحين تلك المقولتان اللتان لا يزال من الممكن سماعهما حتى اليوم في العراق: (ابتلى الله البشـرية بثلاث مصائب: الجرذان والجنادب والكورد)، و(الجمل ليس حيواناً، والعربي ليس كائناً بشرياً).

كانت السيطرة الدائمة تتطلب موارد عسكرية كبيرة، بالمقارنة مع القيمة الاقتصادية لهذه المناطق ذات الطبيعة القاسية. لذلك كان كل من الحكام الأمويين في دمشق (661-750)، وبعدهم الخلفاء العباسيين في بغداد (750-1258)، راضين إذا دفع الكورد الضرائب التي كان على زعماء القبائل تسليمها إلى خزينة الدولة.

لذلك أثّر الفتح الإسلامي على الحياة التقليدية، التي كانت قائمة على الاقتصاد البدوي، بشكل هامشـي فقط. ومن جانبهم، فقد تعهد حتى الحكام الجدد بعدم تعكير صفو أنماط الهجرة والارتحال. الجغرافيون العرب، الذين كتبوا، في القرن التاسع والعاشر الميلادي، عن هذه المناطق، يذكرون قبائل من البدو، وشبه البدو، باسم الكورد. ويقال إنهم منشغلون مع قطعانهم من الأغنام والماعز، "على شاكلة البدو، والبحث المستمر عن مراعٍ جديدة". وعلاوة على ذلك، كانت لديهم خيول، واعتادوا أيضاً استخدام الثيران للنقل والتنقل. البيانات المتعلقة بالظروف الاجتماعية شحيحة جداً، ولكن لا أحد كتَبَ عن انتشار الفقر، ويبدو أن الفروق الاجتماعية كانت قليلة. في هذه الكتابات لا يوجد سوى معلومات حول تشكيل دولة، جنوب غرب بحيرة أورمية. يكتب الجغرافي والمؤرخ اليعقوبي (توفي عام 897) عن "المناطق المجدبة، والخام، والمغطاة بالثلوج، حيث يعيش الكورد ذوو القلوب الجلدة".

من غير الواضح كيف تقدمت عملية الأسلمة في المناطق الكوردية، وما هي نسب المكونات السكانية، التي كانت تضم الزرادشتيين واليهود والمسيحيين وأتباع الديانات الطبيعية المختلفة الأخرى. تشير حقيقة أن جماعات غير مسلمة تمكنت من البقاء والعيش في المناطق الكوردية حتى يومنا هذا، إلى أن عمليات التحول كانت محصورة في مناطق معينة، وربما شملت - في كثير من الأحيان - الطبقة الحاكمة فقط.

لذلك، بالنسبة لمعظم الكورد، كانت الاتصالات مع الحكام الجدد تعني فقط أسلمة سطحية، وفرصة لخلط العقيدة الجديدة مع المفاهيم المتأصلة بالفعل. وهو أمر يشمل أيضاً الفرس والأتراك، الذين اتسمت معتقداتهم قبل الإسلام، بقوة، بـ(الشامانية)، القادمة من آسيا الوسطى.

منذ منتصف القرن الثامن أصبح مركز السلطة بيد الخلفاء العباسيين في بغداد، ولكن نفوذهم كان محدوداً في المناطق الكوردية، التي يتعذر الوصول إليها، ولم يتمكنوا من منع أو وقف الانتفاضات المتكررة، التي كانت تنبع من السخط على الضـرائب، أو كانت لها حوافز دينية. في منتصف القرن العاشر، على سبيل المثال، قاد الكوردي (دَيْسَم بن إبراهيم) انتفاضة قبائل الخوارج ضد الحكم السني في بغداد. (كان الخوارج طائفة منشقة متشددة، قاتلت السنة والشيعة على حد سواء).

من وقت لآخر، تمكن زعماء القبائل الكوردية من إنشاء إمارات مستقلة طويلة العمر إلى حدٍ ما، والتي غالباً ما كانت تدخل في تحالفات مع بعضها البعض لمحاربة عدو مشترك. وقد عبرت هذه التحالفات أيضاً الحدود المذهبية.

أضعفت هذه القوى - التي يمكن تشبيهها بقوة الطرد المركزي - السلطة المركزية في بغداد، وأدت إلى أن يتمكن البويهيون، وهم سلالة حاكمة إيرانية شيعية، من الاستيلاء على السلطة هناك لأكثر من مائة عام (945-1050). تمكن البويهيون من استعادة السيطرة على المناطق في الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين، ولكن إلى الشمال في أقصـى شمال أذربيجان، تمكنت سلالة كوردية حاكمة تدعى (الشداديين)، من جعل أنفسهم سادة مدينة (گَنجة)، والمناطق المحيطة بها. وقد لجأ السكان هناك، الذين يفتقرون إلى قوات خاصة بهم، إلى القبائل الكوردية، لمساعدتهم في الحفاظ على القانون والنظام.

في الوقت نفسه، تمكن زعيم قبلي آخر، يدعى (باز)، من غزو المنطقة الواقعة بين الموصل وديار بكر ونصيبين، ووضع حجر الأساس لسلالة كوردية حاكمة، هي (المروانيين)، الذين حكموا هناك لأكثر من مائة عام بقليل، واتخذوا مدينة (ديار بكر) كمركز لحكمهم. عندما كانت هذه السلالة في ذروة قوتها، تحت حكم ناصر الدولة، امتد نفوذها من (أورفا)، في الغرب، إلى بحيرة (وان)، في الشـرق. ومع ذلك، لم يحكم المروانيون دولة كوردية. ومما لا ريب فيه، أن القوات العسكرية تألفت أساساً من المحاربين القبليين الكورد، إلا أن غالبية السكان كانوا يتألفون من المسلمين غير الكورد، والمسيحيين، واليهود. خلال فترة حكم (ناصر الدولة) الطويلة (1011-1061)، عاشت هذه المنطقة في استقرار نسبي وهدوء، واكتسب المروانيون أيضاً سمعة كرعاة كرماء للشعراء والعلماء.

وعلى أي حال، فقد واجهت السلالة مصيرها عندما اخترقت القبائل التركية البدوية من آسيا الوسطى المنطقة، وبدأت في التنافس على أراضي الرعي. وهكذا في عام 1054 أُجبر (ناصر الدولة) على الاعتراف بسيادة السلاجقة الأتراك.

في عام 1071 اشتبك السلطان السلجوقي (ألب أرسلان)، مع الإمبراطور البيزنطي (رومانوس الرابع - ديوجين)، في (ملازكرد)، على أراضي المروانيين، بالقرب من بحيرة (وان)، وبدأت عملية طويلة من أسلمة وتتريك آسيا الصغرى. أسس السلاجقة، الذين انضم العديد من الكورد إلى جيشهم، ما يسمى بالدولة السلجوقية الكبرى. عندما انحلت هذه الدولة، في نهاية القرن الحادي عشـر، ظهرت سلسلة من الممالك الصغيرة. واحدة من أهمها كانت (خراسان)، ومركزها في (نيسابور)، وخلال الحكم الطويل للسلطان (سنجر) (1097-1157)، ظهرت - لأول مرة في التاريخ - كلمة (كوردستان) كمفهوم سياسي، وذلك عندما كانت هناك منطقة إدارية في الجزء الشرقي من هذه المملكة، بالقرب من (همدان)، تسمى (كوردستان).

أشهر السلالات الحاكمة ذات الخلفية الكوردية، هم الأيوبيون، الذين حكموا حوالي مائة عام، من منتصف القرن الثاني عشـر، على منطقة تمتد من سوريا، وأجزاء من بلاد ما بين النهرين، إلى مصـر واليمن. أصبح الأيوبيون مشهورين، على الأقل من خلال زعيمهم صلاح الدين يوسف (1138-1193)، المعروف باسم صلاح الدين الأيوبي. في معركة (حطين) الأسطورية، خارج القدس، عام 1187، هزم صلاح الدين جيشاً ضخماً من حملة الصليب قوامه 60000 رجل، واستعاد المدينة المقدسة. عن ذلك كتب مؤرخ عربي: "سيطر الخوف والرعب على قلوب المسيحيين، وتوسلوا طلباً للرحمة. ولقد وهبهم صلاح الدين الحياة والحرية".

بالنسبة للعديد من القوميين الكورد، يبرز حكم صلاح الدين كرمز لحلم دولة كوردية مستقلة، لكنه - أي الحكم - بطبيعته كان أقرب إلى رابطة لفروع مختلفة من عائلة حاكمة، لم يكن لأفرادها دائماً التطلعات نفسها. كان عدد الكورد وفيراً في الإدارة والجيش، لكن غالبية القوات كانت من الأتراك. غير أن المؤرخين العرب نسبوا (الكوردية) إلى دولة صلاح الدين الأيوبي، من حيث إنهم وصفوا الأيوبيين بأنهم (كوردعلى عكس خلفائهم المماليك، الذين يشار إليهم باسم الأتراك.

ومع ذلك، فإن مركز الثقل لهذه الإمبراطورية لم يكن في المناطق الكوردية. والد صلاح الدين (أيوب)، الذي منح السلالة هذا الاسم، ينحدر من منطقة (يريفان)، في (أرمينيا)، وكان نشطاً كجندي مرتزق، في المناطق التي تشكل العراق الحديث. وهناك في (تكريت) ولد صلاح الدين، والتي هي أيضاً بالمناسبة مسقط رأس صدام حسين، الذي ألمح إلى هذه المسألة، عندما أعلن نفسه مقاتلا ً ضد الصليبيين في عصـرنا الحديث.

بدأت مرحلة جديدة في التاريخ الكوردي، عندما نجح المغول في هزيمة وتفكيك الإمبراطورية السلجوقية. وخلال ما يسمى بالموجات المغولية، فر الكثير من الأتراك إلى المناطق التي يسكنها الكورد في الأناضول، وغزا المغول أنفسهم أجزاء كبيرة من المناطق الكوردية. قبل أن يستولي (هولاكو) على بغداد، ويدمرها في عام 1257، أرسل أولاً قواته للاستيلاء على مدينة (أربيل)، التي هي اليوم عاصمة الجزء الكوردي من العراق المتمتع بالحكم الذاتي. وبعد حصار طويل، وقتال عنيف، تم إبادة سكان المدينة، وفي السنوات التالية تم تدمير عدد من المدن الكوردية الأخرى. على سبيل المثال، نُهبت (ديار بكر) ثلاث مرات، وفي محافظة هكاري، جنوب شرق تركيا اليوم، قتل جميع الكورد تقريباً. وفرت قبيلة تلو الأخرى من أوطانها، وشق اثنان من هذه القبائل طريقهما في رحلة الفرار هذه وصولاً إلى (الجزائر)، حيث لا يزال أحفاد تلك القبيلتين يعيشون هناك حتى اليوم.

عندما انسحب المغول فجأة، استولت القبائل التركمانية على المناطق الكوردية، حيث وقفت سلالتان حاكمتان، هما (الخروف الأبيض) و(الخروف الأسود)، في صراعٍ ضد بعضهما البعض. اتبعت سلالة الخروف الأبيض سياسة إبادة منهجية تجاه القبائل الكوردية، المتهمة بالتواطؤ مع سلالة الخروف الأسود المنافسة.

أصبحت حياة الكورد الآن تتميز بالتناقضات بين قوتين عظميين ناشئتين، من ناحية الإمبراطورية العثمانية السنية، ومن ناحية أخرى: السلالة الصفوية الشيعية، التي أرست الأساس للإمبراطورية الفارسية.

ففي عام 1514، وبمساعدة الكورد السنة، تمكن العثمانيون من الانتصار في معركة حاسمة في (چالديران)، شمال شرق بحيرة (وان)، ضد الصفويين، وحلفائهم الكورد الشيعة.

تم تقسيم المناطق التي تم فتحها، وفقاً للتقليد العثماني السائد، إلى ثلاث مقاطعات: بكلربكليك، أو الولاية التي يحكمها بكلربك (أو الوالي)، وهي ديار بكر، الرقة (أصبحت عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا المعروفة اليوم)، والموصل، في شمال العراق الحديث.

وهذه بدورها تم تقسيمها إلى حوالي عشـرين منطقة (سانجاق)، يحكم كل منها (بك)، والذي كان عادة زعيماً قبلياً كوردياً، يُنتظر منه أن يدفع الضـرائب إلى الباب العالي في (اسطنبول)، ويصطف مع القوات العثمانية في أوقات الاضطرابات.

في المناطق النائية، حصل زعماء القبائل المحلية فيها على استقلال شبه كامل، دون أي مسؤولية ضريبية، أو أي التزامات عسكرية، مثل حكومات كوردية (كورد حكومتي)، مقابل اعترافهم بالسيادة العثمانية الرسمية. وفي سرد عن الوقائع التاريخية للكورد (تاريخ الكورد) كُتب ما يلي عن مدينة (بتليس): "كانت مدينة مليئة بالقصور والمدارس والمساجد والقلاع، ومركزاً للتجارة والتعليم، وهناك عاش أيضاً الكتاب والشعراء".

شكّلت الإمارات الكوردية الصغيرة الآن، مناطق حدودية بين العثمانيين والصفويين. وعندما اتفقت الدولتان، بموجب (معاهدة زهاب)، عام 1639، على خط الحدود، الذي لا يزال سارياً حتى اليوم بين تركيا وإيران، تم رسم خط فاصل مباشرة عبر الأراضي الكوردية.

ومن المؤكد أن اتفاقية الحدود قد أدّت بالفعل إلى تقسيم المناطق الأساسية الكوردية، ولكنها في الوقت نفسه أعطت الحكام المحليين، وزعماء القبائل، مساحة للمناورة سياسياً. فمن خلال الاعتراف رسمياً بسيادة سلطتي المملكتين، تمكن هؤلاء الحكام من الحصول على درجة عالية من الاستقلال، مقابل وعود بعدم الذهاب إلى خدمة السلطة الأخرى.

وفي مقابل وضع مستقل نسبياً، وعدوا بتوفير القوات، ووضعها تحت التصرف، إذا لزم الأمر، والحفاظ على الهدوء على الحدود. ظلت بعض القبائل وفية وموالية للمملكتين المعنيتين، بينما لعبت قبائل أخرى دوراً نشطاً في النزاعات الحدودية التي نشأت. وقد كانت القبائل التي عاشت بالقرب من الحدود، أكثر انتهازية في اختيارها للولاء، الذي تغير وفقاً للظروف السياسية.

وهكذا، مثلما لم تكن هناك كوردستان غير مقسمة، قبل هذه المعاهدة، فقد ظهرت الآن حدود وطنية جديدة. استمر البدو في عبور الحدود الجديدة بحثاً عن المراعي، ولم تكن هناك مراقبة حدودية تستحق الذكر في هذه المناطق الجبلية التي يتعذر الوصول إليها. حددت المعاهدة - إلى حد كبير - فقط المناطق التي سيتم تعيينها على أنها عثمانية وصفوية، على التوالي. وبداية في عام 1913 رسمت لجنة بريطانية- فارسية- روسية- تركية مشتركة، خطاً دقيقاً لترسيم الحدود.

 

* النص مستل من كتاب لإنغمار كارلسون، الكاتب والديبلوماسي السويدي، تحت عنوان (لا أصدقاء سوى الجبال)، قمت بترجمته من السويدية. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه أول بحثٍ في تاريخ الكورد وقضيتهم بقلم كاتب سويدي عمل في السلك الدبلوماسي في سوريا وتركيا، وكان قريباً من موقع الأحداث لفترة طويلة. وقد ضمّنَ الكتاب هنا وهناك بعض آرائه الخاصة التي، على الأرجح، لا نتفق معه حول بعضها، ولكنني نقلتها كما هي دون تعديل.

 ولد (إنغمار كارلسون) عام 1942 في السويد. حاصل على شهادات في الاقتصاد والسياسة من جامعة يوتوبوري السويدية. تولى عدة مناصب دبلوماسية منذ عام 1967، وعمل في سفارات بلاده لدى كولومبيا والنمسا وسوريا والصين وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وكان آخرها منصب القنصل العام في السفارة السويدية بإسطنبول (2001- 2008). له العديد من المؤلفات، يُدرس بعضها في الجامعات والمعاهد في السويد.

يعمل استاذاً محاضراً في (جامعة لوند) السويدية، منذ عام 2009. (المترجم)

·           تنويه: بالرغم من أن المقالات والأبحاث المنشورة في المجلة تعبر عن آراء أصحابها، وهذه هي سياسة المجلة المعلنة، ولكن يقتضـي التنوية إلى أن هذا المقال المترجم يحمل العديد من الآراء التي قد لا نتفق معها، إلا أننا نشـرنا المقال عملاً بحرية الرأي، وللتعرّف على وجهة نظر كاتب غربي سويدي عن الشعب الكوردي ونضاله وتاريخه (الحوار).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق