أ. م. د. محمد علي صالح الويس
كلية
الآداب /جامعة الموصل قسم التاريخ
المدينة المنورة إحدى أبرز مدن الحجاز، تبعد عن
مكة حوالي 300 كم شمالاً، وهي هضبة من
الأرض تنحدر بهدوء على شكل سهل نحو الشمال، وتبلغ مساحة هذا السهل زهاء اثني عشر
ميلاً، توفّرت فيه التربة الخصبة والمياه التي أوجدت سبل الحياة في هذه المدينة([1]).
ويعتبر
العرب واليهود هم سكان المدينة (يثرب)؛ أمّا العرب منهم فمن قبائل الأزد اليمنية
التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، فاستقرّ الأوس والخزرج في يثرب، فسكن
الأوس العوالي، وسكن الخزرج سافلة المدينة. وكان ما يميّز العلاقة بين الأوس
والخزرج هي الحروب التي كانت تدور بينهم، بدفع من اليهود، الذين كانوا
يحاولون إذكاء
العدوان بين الأوس والخزرج، وآخر تلك الحروب يوم بعاث([2]). ويرى أحد الباحثين أن
لهجتهم، وأسماء أعلامهم، وكثيراً من مظاهر ثقافتهم، عند ظهور الإسلام، كانت لا
تختلف غالباً عمّا لغيرهم في الحجاز وبقية مناطق شمال الجزيرة العربية([3]).
أمّا
اليهود، فهم العنصر الثاني لسكان المدينة المنورة، قبل الهجرة النبوية، ويرجع
تاريخ وجودهم في المدينة إلى القرن الأوّل الهجري، حين هاجروا من فلسطين بعد سنة
70م، إثر طردهم منها على يد الرومان([4]).. بينما يرى الدكتور عبد
العزيز الدوري أن وجودهم في الجزيرة العربية لم يكن قد جاء دفعة واحدة، بتاريخ
واحد، بل إن هجرتهم جاءت تباعاً عبر طريق التجارة في غربي الجزيرة، ونزلت جماعات
منهم في (تيماء)، و(خيبر)، و(وادي القرى)، و(يثرب)، حيث اختلطوا بالعرب، وتأثروا
بعاداتهم، وتنظيماتهم القبلية([5]).
أمّا
أبرز قبائل اليهود، فهي بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وكان لهم العديد من
الآطام، التي كانت عبارة عن حصون لمواليهم.. وقد مارسوا الزراعة والتجارة، وعرفوا
وامتازوا بالتعامل بالربا، كذلك عملوا بالصاغة، وصناعة السيوف والدروع، وكانو
يرجعون في شؤونهم السياسية والاجتماعية لرؤسائهم وسادتهم أصحاب الحصون والآطام، وأما
في الأمور الدينية، فكانوا يرجعون إلى رجال دينهم الأحبار([6]).
وبعد
بيعة العقبة الثانية بدأت الهجرة إلى المدينة المنورة، وبذلك برز عنصـر سكاني جديد
في المدينة، هم المسلمون، الذين يتكونون من المهاجرين من قريش، وممن اعتنق الإسلام
من الأوس والخزرج، الذين أصبحوا يعرفون بالأنصار، وبذلك تكون المدينة المنورة فيها
ثلاث جماعات رئيسية تعيش فيها.. وبعد استقرار الرسول في المدينة، بدأ بسلسلة من
التنظيمات التي تساعد على إقامة مجتمع يتّسع للجميع؛ من مسلمين، وعرب مشـركين،
ويهود، وأبرز تلك الأعمال هي إعلان الصحيفة، التي اعتبرت أهم المرتكزات التي نظّمت
العلاقة بين مكوّنات المجتمع المدني، وسعت إلى إنشاء مجتمع متسامح، يعيش فيه
الجميع عارفاً حقوقه، وما عليه من واجبات تجاه المجتمع.
وقبل في أن نبحث في الصحيفة، وميّزات التسامح على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا بدّ من معرفة مرتكزات التعايش السلمي في الإسلام..
هناك
العديد من المرتكزات للتعايش السلمي التي أوضحهما الإسلام، حيث أكدت العديد من الآيات
القرآنية، والأحاديث النبوية، على حفظ العلاقات مع غير المسلمين، بكونهم ينتمون إلى
بني آدم، وأهمّ هذه المرتكزات:
1- الكرامة
الإنسانية، نظر الإسلام إلى الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض، وأن الله - سبحانه
وتعالى- سخّر له ما في الكون، وجعله تحت سلطته، ولم يكن هذا التكريم خاصّاً بجنس
دون جنس: {وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ}([7]).
2- الحرية،
والحرية هي الأساس الثاني لبناء الشخصية الإنسانية، سواء كانت للأفراد أو للجماعة.
لذلك كفل الإسلام الحرية للإنسان؛ في الفكر، والعمل، والتنقّل. ومن أهم ما ركّز
عليه الإسلام: الحرية الدينية، أو حرية التديّن؛ إذ احترم الإسلام حرية العقيدة
احتراماً كاملاً، فمنع الإكراه في الدين، إذ نفى القرآن الكريم – بالنصّ - أن يكون
الإكراه طريقاً للدين، ومنع المؤمنين أن يكرهوا أحداً على الدين، وخوطب النبي (صلى
الله عليه وسلم) بنص رائع: {ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}([8]).
3- العدالة،
أقام الإسلام العلاقات بين الناس على العدل، واعتبر الناس جميعاً سواء، وإن كان
ثمة تفاضل فبالأعمال، والجزاء عليها: إنْ خيراً فخير، وإنْ شـراً فشـرّ، والعدالة
حقّ للأعداء، كما هي حقّ للأولياء. وقد نصّ القرآن الكريم أنه لا يصح أن تحمل
العداوة على عدم العدل مع الأعداء، وأن العدل هو الأساس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}([9]).
وإذا
كان لكل دين سمة يتّسم بها، فسمة الإسلام العدل، وحتى في الحرب يكون الباعث على
الحرب العدالة، عندما أذن الله سبحانه وتعالى المسلمين بأن لا يحاربوا إلا عندما
يقع الظلم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ
إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}([10])، ومع أن هذا النص يكشف
السبب المباشر في الإذن للمسلمين بالقتال، فإن بقيّته تبيّن حكماً عاماً في
مشروعية القتال، وغاية الله من نصـر من ينصـرهم فيه، وذلك هو ضمان حرية العقيدة
للمسلمين وغير المسلمين، وتحقيق الخير في الأرض والصلاح([11]).
4- الوفاء
بالعهد، وهو من ركائز التعايش السلمي الأخرى، من أجل إدامة السلام بين الأجناس والأديان.
إن السبيل لاستقرار السلام هو معاهدات الأمان وعدم الاعتداء، وإن المعاهدات لا
تستمد قوتها من نصوصها، بل من حرص وعزيمة الموقعين عليها على الوفاء، لذلك اعتبر
الوفاء بالعهد من أهم ما أكّد الإسلام على توكيده، والحفاظ عليه: {وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ
مَا تَفْعَلُونَ}([12]).
ومن
الجوانب المهمة الأخرى في التعايش السلمي، الذي وضع قواعده الإسلام، وخاصة مع أهل
الكتاب. وكما قدّمنا سابقاً أن اليهود هم أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون مع
المسلمين في المدينة المنورة، لذلك كان لا بدّ من قبول ما تقتضيه المشاركة في
الدار أو الوطن، بتعبيرنا العصـري، فكل ما يحقّق مصالح المشتركين معاً فيه جاز،
وكل ما أهدرها فهو بالإهدار أولى([13]).
ولقد
وردت العديد من الآيات القرآنية التي توضّح العلاقة القائمة على الإحسان والتعايش
السلمي بين المسلمين وغيرهم في مجتمع واحد، {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة:
8). وهذه الآيات تشمل غير المسلمين، أيّاً كان دينهم. ولقد وضع القرآن الكريم أحكاماً
أكثر تفصيلاً لما يليق بهم من البرّ، وما يجوز، بل يندب القرآن إليه؛ من أكل
طعامهم، ونكاح نسائهم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ، إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي
أَخْدَانٍ}(المائدة: 5). فعندما يتزوج المسلم الكتابية فهو مؤمن بدينها، مصدّق
بكتابها، موقّر لنبيها، لا يتمّ إيمانه إلا بذلك كلّه. ونصّت الآية على العديد من
الضوابط الشرعية للتعامل مع أهل الكتاب، فقال تعالى: {ولَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا
وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت: 46).
وبما
أن اليهود ومشركي العرب من الأوس والخزرج كانوا المشاركين للمسلمين في المدينة
المنورة، نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بادر بالتعامل الإيجابي
والمتسامح معهم. إذ نجده - صلى الله عليه وسلم - لم يفرض الإسلام على أي من سكان
المدينة المنورة، وفقاً لمبدأ حرية التديّن، حيث نجد العديد من بطون الأوس والخزرج
لم تدخل الإسلام إلى ما بعد معركة الخندق. قال ابن إسحاق: "لم تبق دار من دور
الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف،
وتلك أوس، وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، واسمه
صيفي... وكان شاعراً، لهم قائداً، يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، حتى
كان بعد الخندق"([14]).
وحدث
مقدم الرسول إلى المدينة المنورة نجده (صلى الله عليه وسلم) يمدّ يد التسامح
والمشاركة إلى يهود المدينة. ويرى أحد الباحثين أن موقف الإسلام من اليهود وأهل
الكتاب قد تطوّر تبعاً لتطوّر مواقفهم، فقد اتّخذ في المراحل الأولى مواقف معتدلة،
وطلب من المسلمين أن يظهروا عناصر الاتّصال بين الأديان الموحدة([15])، وأن يدعوهم بالتي هي أحسن
{قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ، فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(سورة البقرة، 64). {ولَا تُجَادِلُوا
أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(سورة العنكبوت: 46).
وتعتبر
الصحيفة، أو وثيقة المدينة، القانون أو الدستور الأول الذي وضع في الإسلام. وبما أنه
الدستور الأول، فقد حفظ حقوق جميع أعضاء المجتمع المدني (مجتمع المدينة المنورة)،
سواء كانوا مسلمين أو مشركين أو يهود. وقد نظمّت الصحيفة جميع الحقوق، وحدّدت جميع
الواجبات والالتزامات التي وضعت على أعضاء المجتمع، كي يرتقي المجتمع إلى مستوى
التعايش السلمي الذي يضمن حرية الاعتقاد، وكافة الجوانب التي ترتبط بحياة الناس في
المدينة المنورة .
وقد
نوقشت الصحيفة من عدة جوانب؛ من حيث تاريخها، ومن حيث كونها وثيقة موثقة، وضّحت حقّاً
من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم). وأبرز من ناقش مدى صحتها، الدكتور أكرم
العمري، في كتابه (السيرة النبوية الصحيحة)([16])، حيث عالجها من عدة أوجه:
الأوّل: طرق ورود الوثيقة، ووصل إلى أنها لا ترقى إلى الأحاديث الصحيحة، وأن الحكم
عليها بأنها موضوعة مجازفة كبيرة، بل هي تصلح أساساً للدراسة التاريخية، التي لا
تتطلّب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، خاصة أن الوثيقة وردت من طرق
عديدة تتضافر في إكسابها القوة. وكذلك أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها، "فنصوصها
مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة من عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم قلّ
استعمالها فيما بعد"([17]).
أما
عن تاريخ كتابة الوثيقة، فقد اختلف فيه، لأن ابن اسحاق لم يذكر تاريخ تدوينها حين
ذكرها، بل الرأي الأغلب أنها كتبت قبل معركة بدر، في الأشهر الأولى من الهجرة إلى
المدينة المنورة([18])،
بل جزم (البلادري) أن الصحيفة كتبت قبل أن يرسل الرسول أيّ سرية، "قالوا وكان
رسول الله عند قدومه المدينة وادع يهودها، وكتب بينه وبينهم كتاباً، واشترط عليهم أن
لا يمالئوا عدوّه"([19]).
وتتكون
الصحيفة من حوالي سبعة وأربعين فقرة، شملت جميع أعضاء المجتمع؛ من المسلمين - من
قريش، ومن الأوس والخزرج-، ومشركي العرب، واليهود.. والذي يهمنا من بنود الوثيقة
تلك التي أوضحت حقوق غير المسلمين في المدينة المنورة، فيرى الدكتور صالح العلي، أن
عبارة: (من تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم)، تعني الأفراد والعشائر التي لم تعتنق
الدين الإسلامي من أهل المدينة، وبذلك أدخلهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ضمن هذه
الأحكام الأساسية، دون أن يجبرهم على اعتناق الإسلام. ولا بد من أن شمول هولاء بأحكام
العدالة، يجعلهم يدركون دور الإسلام في الاستقرار، مما يكون دافعاً إلى إسلامهم([20]).
أمّا
عن البنود التي خصّت اليهود، فكانت حوالي ثلاثة وعشرين فقرة أو بنداً، من أصل سبعة
وأربعين بنداً. كان أوّلها (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ما داموا محاربين)([21]). ورغم هذا النص الواضح،
فلم يكن هناك أي رواية صحيحة تؤكد مشاركة اليهود في مواجهة الأخطار الخارجية التي
داهمت المدينة، وبرغم ذلك لم يعاقبوا على هذا الأمر، رغم وجود بند واضح يؤكّد على أن
اليهود يجب عليهم الدفاع عن المدينة، إذا ما دهمها داهم: (وأن بينهم النصر على من
حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم)([22]). وهذا الأمر قد وقع فعلاً،
حينما قدمت قريش لمحاربة المسلمين في (أحد)، تريد استئصال المسلمين، ولم يشارك
اليهود في المعركة، أي يهود بنو النضير، وبنو قريظة.
ومن
الفقرات المهمة الأخرى، التي حفظت حقوق اليهود الدينية، وكفلت حرية العبادة: (وأن
لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، أموالهم وأنفسهم، إلا من ظلم نفسه وأثم، فإنه لا
يوتغ إلا نفسه وأهل بيته)([23])، وهو ما يدل على رغبة
المسلمين في التعاون الصادق، وعلى معاملة أهل
الكتاب على أساس حرية المعتقد، ممّا يدحض كل مقالة تتهم
المسلمين باضطهاد أهل الكتاب، إلا إذا خرج هؤلاء على الأصول والأنظمة والمواثيق .
ومن
البنود الأخرى المهمة، التي بيّنت حقوق اليهود: (وأنه من تبعنا من يهود، فإن له
النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم)([24])، وبذلك يمكن القول إن
اليهود أصبحوا شركاء للمسلمين، ولهم حقوقهم التي نصّت الصحيفة عليها، من غير أن
يقع عليهم ظلم، وأن الظالم لا يهلك إلا نفسه، ولا يؤاخذ قومه بجريرته.
وبما أن اليهود أصبحوا
خاضعين لسلطة المدينة، وبموجب البند الذي فيه: (وأن ما كان بين هذه أهل هذه
الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله
(صلى الله عليه وسلم). وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة، وأبرّه)([25])، وبذلك حقّق لليهود
العدالة في الأمور القضائية، إذ نفس السلطة القضائية التي تحكم للمسلمين، تحكم لهم،
ألا وهو نبيّ الرحمة، الرسول (صلى الله عليه وسلم). رغم ذلك فلم يلزموا بالرجوع إلى
القضاء الإسلامي دائماً، بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين
المسلمين، أمّا في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية، فهم يحتكمون إلى (التوراة)،
وقد خيّر القرآن الكريم النبي (صلى الله عليه وسلم) بين قبول الحكم فيهم، أو ردّه([26]). ولم يشمل العدل والتسامح
في الصحيفة اليهود فقط، بل شمل حلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة
على كل طرف مصالحة حلفاء الطرف الآخر، لكن المسلمون استثنوا قريشاً.
ولا
بدّ من الإشارة إلى أن الإسلام، تماشياً مع طبيعته العالمية، قد احتضن الرسالات
والديانات كلّها من قبله، وقرّر مع وحدة الإله، وحده العقيدة، ووحدة الدين الذي أرسل
الله به رسله جميعاً؛ فكل الرسل جاءوا بدين واحد وهو إسلام القلب لله وحده بلا
شريك. ومن هذا الموقف نظر الإسلام إلى الديانات السماوية الأخرى، وأصبح الإسلام هو
الدين الجامع للأصول الثابتة من الرسالات قبله {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن
يقبل منه}(آل عمران: 85)، ولكن القبول وعدم القبول إنما هو مسألة بين الرب والعبد([27])، ولا يعني بأي حال إكراه
غير المسلمين على الإسلام، لذلك نفهم المعاملة الحسنة التي حضـي بها أهل الكتاب من
قبل المسلمين، بل ونجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- رغم ما قام به اليهود من
العداء، ونقض العهود، يعامل اليهود معاملة حسنة. وأروع الأمثلة على ذلك زواجه - صلى
الله عليه وسلم-، وهو الأسوة الحسنة للمسلمين، من أمّ المؤمنين (زينب بنت حيي بن أخطب)([28]).
ومن
أجل إبراز الحقائق التاريخية، لا بد من ذكر الأسباب التي أدّت إلى إخراج اليهود وإجلائهم
عن المدينة المنورة، رغم ما كتب بينهم وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) من عهود، إذ
قاموا بنقضها، ولم يكتفوا بعدم الالتزام ببنود الصحيفة، بل وصل الأمر بهم إلى تحدّي
المسلمين، ومحاولة اغتيال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وارتكابهم خيانة كبرى في
الوقوف مع أعداء الدعوة الإسلامية في محاولة القضاء على المسلمين .
وأوّل
من أجلي من المدينة المنورة هم يهود بنو قينقاع، الذين كانوا من الموقّعين، أو من
الذين شملهم العهد الذي كتبه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بين سكان المدينة
المنورة. وقد أكّد (البلاذري) أن يهود بنو قينقاع كانوا من الذين وادعوا النبي
(صلى الله عليه وسلم): "ثم غزا بني قينقاع، من يهود، في شوال سنة اثنين، وكان
سببها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لمّا قدم المدينة، وادعته يهود كلّها،
وكتب بينه وبينها كتاباً، فلمّا أصاب صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر، وقدم المدينة
غانماً موفوراً، بغت، وقطعت العهد"([29]). وقدّمت المصادر
التاريخية تحدّيهم للرسول، بأنهم أهل الحرب والحلقة، وأظهروا الخيانة، فأجلاهم
الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المدينة([30]).
ولم
يقف الأمر عند بني قينقاع، بل إن بني النضير كذلك نقضت عهدها مع الرسول (صلى الله
عليه وسلم). وقد أخرج الحافظ ابن حجر رواية عن طريق ابن مردويه، فيها تفاصيل إضافية
لما أورده أصحاب السير والمغازي: قال ابن حجر: "روى ابن مردويه قصة بني
النضير بإسناد صحيح إلى معمر عن الزهري، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك عن رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال: كتب كفار قريش إلى عبد
الله بن أبيّ، وغيره، ممّن يعبد الأوثان، قبل بدر، يهددونهم بإيوائهم النبي (صلى
الله عليه وسلم)، وأصحابه، ويتوعّدونهم أن يغزوهم بجميع العرب. فهمّ ابن ابيّ، ومن
معه، بقتال المسلمين، فأتاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: ما كادكم أحد بمثل
ما كادتكم قريش، يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم، فلمّا سمعوا ذلك، عرفوا الحقّ، فتفرّقوا.
فلمّا كانت وقعة بدر، كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون،
يتهدّدونهم، فأجمع بنو النضير على القدر، فأرسلوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أخرج
إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتّبعناك، ففعل،
فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار
مسلم؛ تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يصل إليهم،
فرجع، وصبّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه"([31]).
وبهذا
يتبين أن بني النضير حاولوا اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم) بأمر من قريش، وهذا
ما يخالف ما تعاهد عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) واليهود في الصحيفة. وفي رواية
ابن اسحاق أنهم أرادوا رمي حجر عليه (صلى الله عليه وسلم)، لما جاء إليهم يطلب أن
يعينوه في دية الرجلين قتيلي عمر بن أمية الضمري([32])، فأجلاهم عن المدينة
المنورة .
أما
بنو قريظة، فقد كانوا عاهدوا النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو وافقوا على بنود
الصحيفة. وفي رواية ابن حجر المتقدمة، من حديث ابن مردويه: أن الرسول (صلى الله
عليه وسلم) لما حاصر بني النضير، غدا إليهم، فجدّدوا العهد معه، "ثم غدا على
بني قريظة، فحاصرهم، فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير"([33])، ولهذا يكون لبني قريظة
عهدين مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، ألا أنهم ورغم ما أصاب إخوانهم من نكثهم
للعهود وخيانة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إلا أن عداوة يهود للإسلام وللرسول،
دفعتهم مرة أخرى إلى الرضوخ لأوامر زعماء بني النضير، من غزوة الخندق، فنكثوا
عهدهم مع الرسول، وحاربوا المسلمين، وحالفوا قريش والأحزاب في وقت حرج وخطير
بالنسبة للمسلمين، الذين كان يحاصرهم عشرة آلاف مقاتل. وبعد هزيمة الأحزاب، توجّه
الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى بني قريظة، وحاصرهم، فلما اشتد الحصار، أرادوا
الاستسلام، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، الذي حكم بهم أن يقتل الرجال، وهذا هو
مصير من عرّض حياة المسلمين وأموالهم ونسائهم، في أحلك الظروف، للخطر([34]).
ولم
يقتصر التسامح الذي كان عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) على اليهود فقط، بل شمل
على عناصر أخرى في مجتمع المدينة المنورة، وهم المنافقون الذين كانوا يؤذون
الرسول(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين في أكثر من موقف. ولقد أخرج ابن اسحاق رواية
تبيّن كيف كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصبر على الأذى، ويتحمّل ما يقوم به
كبيرهم عبد الله بن أبيّ، فبعد ما حصل في غزوة بني المصطلق أتى عبد الله بن عبد
الله ابن أبيّ إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: (يارسول الله: إنه بلغني أنك
تريد عبد الله ابن أبي، فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمر لي به، فأنا أحمل إليك
رأسه... فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): بل نترفق به، ونحسن صحبته، ما بقي
معنا)([35]).
ومن
علامات التسامح التي كانت في المدينة المنورة على عهد النبي، كثرة الوفود التي
كانت تفد إلى المدينة المنورة، والذين كانوا يلقون المعاملة الحسنة أثناء إقامتهم
فيها، مثل: وفد نجران([36])، ووفد ثقيف، حين أتوا إلى
الرسول (صلى الله عليه وسلم) فأحسن إليهم، وبنى لهم خيمة في إحدى جوانب المسجد،
حتى أسلموا([37]) r
([16]) السيرة النبوية الصحيحة، جـ
1، 272، أوردها ابن اسحاق، ينظر ابن هشام السيرة النبوية، جـ2، ص 368-370، وابن
كثير: إسماعيل بن عمر الدمشقي، السيرة النبوية /ط2 حققه محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية، بيروت:
2007، ص 225. ومن الذين ناقشوها الدكتور صالح أحمد العلي في بحثه: تنظيمات الرسول
الإدارية في المدينة، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السابع عشر، سنة 1969- ص
961- 1005 .
ما شاء الله تبارك الله دكتورنا الفذ محمد علي صالح الويس، دائما ما تتحفنا بأفكار علمية فذة تستقيها من سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ردحذف