رولا عبد الرؤوف حسينات
لا بد لنا من الاعتراف أن المعضلات العالقة في التجويف الزمني،
والرابضة على قوقعة الحراك السياسي العربي، قد تقلصت، وبالمجمل أسندت ملفاتها إلى سبات
عميق، قد أفاق على توسع رقعوي للوجود الإرهابي للمتطرفين.
هل اتحد هؤلاء الإرهابيون، كما اتحدت الزعامات السياسية،
فجأة دون سابق إنذار؟!
لعل اتحاد الإرهاب على فكر واحد، ما عرف قبلة الإسلام يوماً،
بل زايد دفاعاً عن شرعية الوجود المدعى، المتشبث بمشجب الإسلام، والتشديد على تمثل
الرموز الدينية كالراية السوداء، وجعل كلمة التوحيد شعاراً له، ألا ساء ما يعملون.
لقد ارتكبت هذه العصابة الإرهابية –بشذوذها، وفكرها العفن
والمريض- الفواحش والمحرمات،
وتعدت حدود الله علانية، وفق رغباتها، ضمن منهجية همجية.
نعم، أليس تدميرهم لآثار وحضارات ضاربة في التاريخ، وهدمهم
الأضرحة والمقامات والمساجد، فيه إفك عظيم؟ أي شريعة هذه التي خولت لهم العبث بإرث
الأمم، وحق الأجيال السابقة واللاحقة، وتدنيس المقدسات؟؟
إنما هي شريعتهم الشاذة.. ألم يفتح (عمرو بن العاص) (مصر)؟؟
فلما فتحت (مصر) أتى أهلُها إليه، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنَّةُ لا
يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر، عمدنا
إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون،
ثم ألقيناها في النيل، قال لهم: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان
قبله. فهمَّوا بالجلاء. فلما رأى (عمرو بن العاص) ذلك، كتب إلى (عمر) (رضي الله عنه)
بذلك. فكتب إليه (عمر): "إنك قد أصبت، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله"، وكتب
بطاقة داخل كتابه، وكتب إلى (عمرو): "إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها
في النيل"، فلما قدم كتاب (عمر) إلى (عمرو بن العاص) أخذ البطاقة، فإذا فيها:
"من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى نيل أهل مصر، أما بعد: فإن كنت إنما تجري
من قبلك، ومن أمرك، فلا تجر، فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد
القهار، وهو الذي يجريك، فنسأل الله تعالى أن يجريك"، فألقى البطاقة في النيل
قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج، لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها
إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في
ليلة واحدة، فقطع الله تلك السُّنَّةَ السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم." و(ابن العاص)
كان يبني المساجد في (مصر) القديمة بجانب الكنائس، ويهتم بالعبادات، ويرعى الحقوق والواجبات
تجاه الأديان السماوية، ولم يتجرأ على تكفير أحد، أو تحطيم الحضارة الفرعونية الماثلة
فيها. ألم يبقها كما هي، وهي آيات الله في الخلق للخلق، ليعتبروا من الأقوام التي حق
عليها العذاب؟ ألم تكن هناك جنات ونعيم وأمم أشد منكم بأسا؟! أيقيمون همجيتهم، لتسود
في أرض إرثها لله؟؟ أليس الله من يرث الأرض، ومن عليها؟ أين هم من العهدة العمرية،
ومفاتيح القدس، وكنيسة القيامة؟؟ أين هم من الخلق الإسلامي القويم في حماية أهل الذمة؟؟
أين هم من احترام الأديان؟؟ لا إكراه في الدين.. ثم ماذا؟؟
يجبر المرء على ترك دينه ليقتل.. أي شريعة التي هم أتباعها؟؟ أين هم من إسلام وعظمة القائد العظيم
(محمد الفاتح)، وفعله بـ(كنيسة آيا صوفيا) حين دخلها، وما زالت لغاية الآن مفخرة الثقافة
والحضارة الإسلامية؟؟ ألا تمثل أكبر معنى ثقافي لحوار الأديان؟ فما مرجعية هذا الفكر
الإرهابي من مرجعية (محمد الفاتح) و(عمرو بن العاص) و(محمد بن القاسم)، وحتى (الحجاج)،
وحفاظه على آثار بابل وآشور؟؟
وهذا يفسر لنا سر الفتح الإسلامي العظيم، الذي امتد خلال
ثمانين عاماً، من الصين شرقاً إلى فرنسا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى المحيط جنوباً.
أي انتحال صريح للشخصية المسلمة؟! وأي قتل لروحها العبقة..؟!
لقد استبرأت الأديان السماوية، والشرائع الأرضية، بل والمعتقدات
الفكرية، التي ترتقي بروحانية الإنسان إلى رحمة السماء، من هكذا فكر مشوه.. حسبهم انتهاكاً
لأعراض العراق وسوريا وليبيا واليمن، وغيرها من أرض الله..
لكم قتل من جبابرة على أرض دجلة والفرات، وكذا على أرض بردى
وتدمر..!!
ألم يكن الخطاب النبوي واضحاً في احترام المعتقدات، ألم يقل
(صلى الله عليه وسلم): "لا تقطعوا شجرة، لا تقتلوا بهيمة، لا تقتلوا شيخاً، ولا
امرأة، ولا طفلاً"، ويقول أيضاً: "لا تقتلوا ذرية، ولا عسيفاً"، ويقول
(صلى الله عليه وسلم): "ولا تقتلوا أصحاب الصوامع".. وفي وصية جامعة لأبي
بكر الصديق لأسامة بن زيد، وهو خارج لقتال العدو: "لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا
تغدروا، ولا تمثلوا (أي بالجثث)، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة،
ولا تقطعوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا
بعيراً، إلا لمأكله، وسوف تمرون على قوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع (أي أماكن العبادة)،
فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"، وزاد في وصية أخرى: "ولا تقاتل مجروحاً"..!!
ألم تحرر أسرى (اليرموك) لأنفة العربي المسلم عن المادية
البشرية ؟؟ فكان الفارس المسلم يأسر الرومي، فما يلبث الأخير أن يكشف عن عورته، فيتعفف
المسلم الفارس لفروسيته وكبريائه، فيعفو عن الرومي.. ألم تكن نقمتهم في (أبي غريب)..؟؟
زيف الدعوة الصهيونية في تزوير حقائق التاريخ الإسلامي، أين الإرهاب من هذه القدسية
الإلهية، التي اختص الله تعالى بها عباده..؟؟
ولتشهد صفحات التاريخ: بلاد فتحت من غير نقطة دم؟؟ أهي خيفة
من السيف، أم هو تعشق الروح المطمئنة بسماوية العقيدة؟؟
ألم يعاتب الرسول (عليه الصلاة والسلام)، أسامة بن زيد، لما
التقى بجيشه مع الكفار، فقتل أحد المشركين عدداً من المسلمين، فلما رفع أسامة سيفه
على المشرك ليقتله، قال المشرك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله،
فقتله أسامه. فأُخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فتغيّظ على أسامة، وغضب من فعله،
وأنكر عليه، وأخذ يقول صلى الله عليه وسلم: "كيف لك بلا إله إلا الله، إذا جاءت
تحاجّ عنه يوم القيامة"، فيعتذر أسامة، فيكرر عليه (صلى الله عليه وسلم) هذه الجملة،
فيقول أسامة: وددت والله أنني ما أسلمت إلا هذا اليوم، ندماً على ما فعل وفرط منه.
عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ
عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ،
وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ
مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ". رواه البخاري ( 3252
) ومسلم.
وما الخطوط العريضة التي تبيح فيها السياسات لنفسها تقويمها،
بل إزالتها، حماية للعبة الكراسي والسلطة، في محو للهوية المسلمة، من أدمغة الأطفال
على المقاعد المدرسية، وادعائهم قائم على توجيه التهمة الإرهابية للدين. فإن اتفق الإرهابيون
على اتخاذه وسيلة لمد نفوذهم على أدمغة الضعفاء، وتوجيههم لخدمتها، والطمس على القلوب
اليافعة، بمهاترات ضالة مضلة، فإن السياسات الحكومية الخاطئة للدول الإسلامية الحديثة،
مشتركة بإضعاف الدين الحقيقي المتسامح، واتهامه بالإرهاب، واقتلاعه من جذوره، ضمن مراحل منهجيه، تباينت بدرجات قوتها، على اختلاف تنفيذها
في البلاد الإسلامية، حيث تكمن المرحلة الأولى في تقليص المادة الغذائية في مادة التربية
الإسلامية، ضمن المراحل الدراسية المتعددة، التي اكتفت بذكر العقيدة، والسيرة النبوية، وحولتها إلى عرض تاريخي فارغ المضمون.
أما المرحلة الثانية، فتكمن في إلغاء التعليم الشرعي بمجمله،
على اعتبار أنه تغذية راجعة لبؤرة أي تنظيم متطرف، بتقليص حصص التربية الإسلامية إلى
الحد الأدنى، مع زيادة معدل الحصص لمادتي التربية الفنية والرياضية والموسيقى.
أما المرحلة الثالثة، فهي إلغاء التوجيه الديني، والوعظ،
في المساجد، ودور العبادة.
لكن يتبادر للذهن أسئلة: هل بهذه السياسات المغلوطة نستطيع
القضاء على منابع التنظيمات المتطرفة؟؟ أم أنها ستكون بداية للسياسات التعذيبية للمسلمين،
كما كانت (الكنيسة) في (إسبانيا)، حيث لا تغلق الأبواب، وليس للبيوت حرمات؟ هل بإلغائه
يكمن جوهر التغيير الجذري للتركيبة التكوينية للجنين؟؟ أم أن هذا عبث وتشويه للفطرة؟
أم أنه إرضاء لسياسات، نحن مجرد جزء من مصالحها ومخططاتها؟
إن ما تفعله السياسات، قصيرة النظر، فينا، هو عمل ممنهج،
يقصد به رفع سقف الحريات إلى حد الفوضى، التي لا يمكن مناقشتها بعيداً عن حرية الفكر
والتعبير الإيجابي، وإلى سلوكيات فردية سلبيه مكتسبة، والى تجهيل فكري وتوجيه ديني
مسيس، تسويقاً لسياسات استعمارية صهيونية، بل وتعزيز الصورة النجومية لممثلين ومطربين
وشخصيات مجوفة، لتحاور عقولا غضة للشباب، وغيرها من سياسات توجيهية للمرئي والمسموع..
كل هذه السلوكيات ما جاءت عبثاً، بل لغاية تقليص الدور الأسري،
والتربية البيئية، والتقويم الديني، لتحويل الشخصية المسلمة النظيفة السليمة، إلى الشخصية
الغرابية..
إن العبث بذاكره الشعوب، والرهان على جهلها، وتقزيم رموزها،
والسخرية من قيمها، واللعب على حبال الطائفية، وإثارة الفتن والنعرات النتنة.. وهذا
كله ينصهر في الشائكة الاجتماعية، على مختلف الأيدلوجيات والطبوغرافيا، لمجموعة الأفراد
المكونين للنسيج الاجتماعي.
فهل يعود الدين غريباً كما بدأ؟
وهل يكون القابض على دينه، كالقابض على جمرة؟
ولعل هذه السياسات هي الأخرى أوجدت لنفسها قاعدة ضمن الطبقات
الاجتماعية، توجهها إلى حيث تشاء لخدمتها فقط..
هذا يعني وجود طبقة اجتماعية مخالفة للتنظيم التطرفي، والتنظيم
المسيس، ليست لها ولاءات، ولا انتماءات، وهي تحمل الهم الفكري، ولكنها أغلبية صامتة..
لا يمكن معرفتها، أو تصنيفها، ببساطة. لكن يمكن للسياسة أن تقوقعها، وتقعيها منكبة
على كلاكلها، بالتلاعب بقوت يومها..
فهل يمكن أن تكون هذه الخطوط متقاطعة فيما بينها، في إشكالية
فوضوية، لا يعلم لها نهايات...؟؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق