د. هادي علي
لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم..؟! سؤال قديم وجديد،
أجاب عليه في حينه الأمير (شكيب أرسلان)، ومنذ ذلك الحين ولا يزال فإن مسألة تأخر المسلمين
وتخلفهم الحضاري وتقدم الأمم الغربية في المقابل، أصبح التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمين
في التاريخ الحديث. وقد حاول رواد الإصلاح والمفكرون، كل من وجهه نظره، أن يجيب على
هذا السؤال الصعب، وقدموا في هذا المجال رؤى وأفكارا متنوعة ومتعددة، غير أن أحد أهم
الأسباب والعوامل، الذي له تأثير كبير وعميق على تأخر المسلمين وتخلفهم الحضاري، يتعلق
بكيفية فهمهم ونظرتهم إلى التاريخ وحركته، وإلى كيفية تعاملهم مع تاريخهم بالذات، وأحداثه،
وما تركه السابقون من التراث الفكري والفقهي والسياسي، في المراحل المختلفة من ذلك
التاريخ..
لا زالوا يعيشون تاريخهم، ويتمنون العودة إلى ذلك الماضي الغابر، أو بالعكس..
صحيح كذلك أن تاريخ المسلمين، خاصة في صدره الأول، وفي صفوف
صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، والتابعين لهم بأحسان من بعدهم، وفي المراحل
المختلفة من ذلك التاريخ، مليئة بنماذج رفيعة وعظيمة، وعلى جميع المستويات، ويمكن اعتبارهم
مفخرة وقدوة ليس للمسلمين فقط، بل للإنسانية جمعاء. غير أن هذا لا يعني، ولا يبرر،
أن يتعامل المسلمون، في هذا العصر، مع التاريخ الإسلامي، بصورة عامة، بنفس المنظار،
ويعتبرونه قمة التقدم والتطور، ويعملوا على إعادة إنتاجه واستنساخه، كواجب ديني وشرعي.
إذ إن المسلمين في جميع الأحوال، بما في ذلك مسلمو القرون الأولى، هم ناس كغيرهم، وهم
معرضون لما يتعرض له جميع البشر من الأخطاء والخطايا، وعوامل النقص الأخرى، وأنهم عاشوا
لزمانهم، لا للأزمنة اللاحقة..
نظرة المسلمين إلى حركة التاريخ
ومن جانب آخر، فإن هناك معضلة جوهرية في نظرة المسلمين إلى
حركة التاريخ بشكل عام، حيث أن حركة التاريخ في نظر المسلمين وتصورهم، ليست حركة تكاملية
تقدمية إلى الأمام، بل هي حركة تناقصية وتنازلية، تبدأ قمتها بعصرصدر الإسلام، ثم تبدأ
بالنزول والهبوط نحو الحضيض، ثم تقوم الساعة، وتكون نهاية هذه الدنيا.
هذه النظرة السلبية التشائمية إلى حركة التاريخ، كانت حاضرة
وبقوة في حياة المسلمين في عصورهم الأولى، بحيث كانوا يتصورون أن عمر هذه الدنيا لا
يتجاوز قرونا معدودة، ثم تقوم القيامة. وبناءاً على هذا التصورالخاطئ، فإنه لا يليق
بالمسلمين أن يهتموا كثيراً بهذه الدنيا، بل عليهم أن يتركوا هذه الدنيا الفانية جانباً،
ويستعدوا لما بعد الموت. هذه النظرة السلبية إلى التاريخ الإسلامي، وإلى حركة التاريخ،
جعلت المسلمين، وعلى مدار الأجيال، ينظرون بشيء من القداسة إلى التاريخ الإسلامي، بالأخص
القرون الأولى من حياة المسلمين، ويعتقدون أن الأسلاف بلغوا قمة العلم والتقدم، وأنهم
لم يتركوا شيئاً لم يتناولوه بالبحث والاجتهاد، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الدينية، مما
جعلهم يعتقدون أن حلول جميع المشاكل والقضايا على مدار الزمان موجودة فيما تركه السابقون،
وما عليهم في العصور اللاحقة إلا أن يبحثوا في تراثهم الفكري والفقهي، ويعملوا على
إعادة إنتاجه واستنساخه.. هذا الفهم الناقص، وهذه النظرة غير المنطقية لدى المسلمين
إلى التاريخ، جعلهم يعيشون في شيخوخة الفهم للإسلام وللحياة.
وبناءاً على هذا، نستطيع القول، بل يجب علينا أن نعترف بتلك
الحقيقة المرة: إن السبب الرئيسي لتخلف المسلمين، وتأخرهم عن مواكبة الأمم المتقدمة،
ومصدر كثير من الأزمات المعقدة، التي تعاني منها الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وفي
الوقت الحاضر بالذات، يرجع بالأساس إلى تلك النظرة غير الصحيحة إلى التاريخ الإسلامي،
بالإضافة إلى عدم وجود الجرأة والقناعة الفكرية اللازمة للتعامل العلمي والصحيح مع
التراث الفكري والفقهي، خاصة في جانبه السياسي، وعدم الاستعداد لتجاوز المحطات السلبية
من ذلك التاريخ، والعمل على تمييز الصحيح من السقيم، والمناسب عن غير المتناسب مع روح
العصر وحاجاته. وهذا بخلاف الأمم المتقدمة، الذين استطاعوا أن يتجاوزوا الماضي، وأن
يعملوا على تصحيح مسار حركة تاريخهم من أجل بناء حاضرهم، والوصول إلى مستقبل جديد ومزدهر.
ونحن في تحليلنا هذا لتاريخ المسلمين، وكيفية فهمه والتعامل
معه، لا ندعو إلى القطيعة مع التاريخ، بأي شكل من الأشكال، بل ندعو إلى تجاوز أخطاء
وسلبيات الماضي، وأن يعيش المسلمون عصرهم وزمانهم، ويستلهموا من تجارب التاريخ ونماذجه
الرفيعة، ويعملوا على إيجاد حلول معاصرة للخروج
من الأزمات المعقدة للواقع الراهن، التي ترجع جذورها إلى التاريخ، وكيفية التعامل
معه..
ومن أبرز تلك المشاكل والأزمات التي تعاني منها الشعوب الإسلامية
بصورة عامة، والعربية منها بصورة خاصة، والتي تتغذى من الماضي، وتؤثر بشكل سلبـي على
الأوضاع الراهنة، التي تمر بها المنطقة، هي:
أولاً/ الاستبداد السياسي:
ونقصد به استمرار أسلوب تفرد الحاكم في ممارسة الحكم
في التاريخ الإسلامي، والذي ظل جاثماً على صدر الشعوب الإسلامية منذ قرون عديدة، وما
يزال، والذي يعتبر امتداداً للواقع السياسي السيئ لأنظمة الحكم السلطانية المتتالية،
في العصر الأموي والعباسي والعثماني، والتي بقيت متوارثة جيلاً بعد جيل، وإلى يومنا
هذا، في كثير من البلدان الإسلامية. والأخطر من ذلك كله، فأن الفقه السياسي الإسلامي
في خطه العام، قد أسبغ الشرعية على تلك الأنظمة، وأوجب الطاعة على الأمة، ورفض كل معارضة
لها، أو خروج عليها، وذلك درءاَ للفتنة - حسب زعمهم- وحفاظاً على وحدة الأمة، متناسياً
أو متجاهلاً أن الاستبداد والتفرد في الحكم، وإلغاء مبدأ الشورى، بل وأشد من كل ذلك:
إعطاء الشرعية للمتغلب والمستولي على الحكم بالقوة، الذي يشبه الانقلابات العسكرية
في هذا العصر، هي الفتنة الكبرى التي أصابت الأمة الإسلامية في الصميم، ومنذ وقت مبكر
من تاريخ المسلمين.
ثانياً/التطرف والغلو:
السبب الرئيسي وراء نشوء وانتشار ظاهرة التطرف والغلو
في الدين- بالإضافة إلى الأسباب الموضوعية، ليست هذه المقالة مجال شرحها- يعود بالدرجة
الأولى إلى الفهم السقيم وغير الصحيح لبعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والروايات
التاريخية، خاصة القسم المتعلق بكيفية تنفيذ أحكام الجهاد، المرتبط بفترة الفتوحات
تاريخياً، بالإضافة إلى الفتاوى القديمة والحديثة في هذا المجال، وفي مجال كيفية التعامل
مع غير المسلمين، وبعض ممارسات دولة الخلافة، التي هي تجربة بشرية وتاريخية صرفة، لأن
الخلافة نفسها ظهرت بعد وفاة النبـي-صل الله عليه وسلم- واكتمال الدين وانقطاع الوحي.
فهي إذا ليست جزءاً من الدين، وممارساتها ليست ملزمة للمسلين في هذا العصر. بل إن كثيراً
من ممارساتها، خاصة بعد مرحلة الخلافة الراشدة، كانت خاطئة، أو غير مناسبة حتى لعصرها،
فكيف بهذا العصر، مع كل هذه التغيرات والتطورات الهائلة التي حدثت في حياة الناس، وفي
مجال العلاقات الدولية. إلا أنها، مع الأسف الشديد، أصبحـت مـرجعاً ومـصـدراً للجـماعـات
والحركات المتطرفة والإرهابية في هذا العصر، وعلى رأسها تنظيم
الدولة الإسلامية أو ما يسمى اختصاراً بـ(داعش)، وذلك لإسباغ الشرعية على تصرفاتها
وجرائمها، والتي باتت تشكل أخطر تهديد لكثير من البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر.
ثالثاً/الطائفية:
وهي في الأساس كانت خلافاً على السلطة، أو على الإمامة، ترجع
جذورها إلى صدر الإسلام، إلا أنها - وبمرور الزمن - تطورت إلى مصدر أساسي لنشوء الفرق
والطوائف المختلفة في التاريخ الإسلامي، وذلك بسبب السياسات الخاظئة لدولة الخلافة،
بعد الخلفاء الراشدين، ضد المعارضين بصورة عامة. إذ تحولت الخلافة إلى عامل القمع والفرقة
والاقتتال الداخلي بين طوائف الأمة، بدلاً من التوحيد والاتحاد، كما هو شائع لدى المسلمين
اليوم، كما يصف أبو الفتح بن محمد الشهرستاني (المتوفى سنة 548هجري) في كتابه (الملل
والنحل) تلك المرحلة بقوله: "أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف
في الإسلام على قاعدة دينية، مثلما سل على الإمامة في كل زمان".
هذه الطائفية البغيضة التي هي إحدى إفرازات تحول الخلافة
من الشورى إلى الملك العضوض والجبرية، أصبحت
اليوم أحد الأسباب الرئيسية لحالة الفوضى والأزمات المعقدة بين السنة والشيعة، التي
تشعل بعض المجتمعات الإسلامية في العراق وسوريا واليمن وغيرها.. وقد حذر القرآن الكريم
المسلمين في العصور المختلفة، مبكراً، من مغبة الانشغال بقضايا وخلافات السابقين، وأكد
أنهم غير مسؤولين عن تلك الخلافات والمشاكل،
في قوله تعالى: [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ
وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]. وقد تكررت هذه الآية الكريمة مرتين
في سورة البقرة في الآيتين:(134،141) حتى لا يقف المسلمون كثيراً على الخلافات والقضايا
والأحداث الماضية، ولا يجعلوها ذريعة للفرقة بينهم، بل عليهم أن يتجاوزوا تلك الخلافات
والقضايا وملابساتها، ويعملوا جهدهم لإدارة حياتهم، وزمانهم، وبناء مستقبلهم.
هذه الظواهر الثلاث، أي: الاستبداد السياسي، والتطرف الديني،
والطائفية البغيضة، التي هي الوجه الآخر للتطرف، والتي تمتد جذورها إلى التاريخ، تشكل
بمجموعها الثالوث المدمر، التي تخرب حياة المسلمين
في هذه العصر، والعامل الرئيسي لتخلفهم الحضاري، وتأخرهم عن سائر الأمم. والأحداث والمشاكل
المعقدة، والأزمات الخانقة، التي تعيشها كثير من البلاد الإسلامية والعربية اليوم،
كلها نتائج وإفرازات كارثية لتلك الظواهر الثلاث مجتمعة، والتي أشرنا إليها بإيجاز
شديد، وهي بحاجة إلى بحوث ودراسات أكاديمية معمقة، من قبل الباحثين والمختصين..
ومن هذا المنظور، ولهذه الأسباب، يرى كثير من المفكرين ورواد
الإصلاح في العالم الإسلامي، ضرورة إحداث عملية تجديد شاملة وجذرية للتراث التاريخي،
الفكري والفقهي، وتنقيته من المواضيع والفتاوى الخاصة بعصور الجمود والتخلف والانحطاط،
التي تغذي الاستبداد والتطرف والطائفية المقيتة، مع ضرورة إعطاء دور لائق "لعقل
اجتهادي نقدي"، على حد قول المفكر المغربي (محمد عابد الجابري)، والعمل على ابتكار
حلول معاصرة للمشاكل والأزمات المعاصرة، التي تعصف بالمنطقة عموماً. إذ إن لكل عصر
ومرحلة تاريخية، هناك قضايا وأزمات خاصة بها، وتحتاج إلى حلول ومعالجات جديدة، ومناسبة
لروح العصر.
واستناداً إلى هذه الحقيقة، التي لا جدال فيها، يرى العلامة
المجدد الشيخ (سعيد النورسي) -رحمه الله- الذي كتب (رسائل النور)، أنه لو كان يعيش
في عصر مولانا (جلال الدين الرومي)، لكان عليه أن يكتب (المثنوي)، وأن مولانا الرومي
لو كان يعيش في هذا العصر، أي عصر النورسي، لكان عليه أن يكتب (رسائل النور)، وذلك
بالاستلهام من الوحي مباشرة، لا من الفقه، كما يقول المفكر الإسلامي العراقي (د. محسن
عبدالحميد).
وجدير بالملاحظة في هذا المجال، أن ترتيب السور والآيات القرآنية،
بشكله الحالي، في المصحف المتداول بين أيدي المسلمين، لم يراع فيها ترتيب تاريخ وزمان
النزول.. وفي هذا إشارة واضحة أن لكل عصر مشاكله وقضاياه، التي تختلف عن المشاكل والقضايا
الخاصة بعصر نزول القرآن الكريم.. وأن على المفكرين والعلماء أن يرجعوا مباشرة إلى
القرآن الكريم، وينهلوا منه الحلول والأجوبة المعاصرة، في ضوء مقاصد الإسلام الكبرى،
التي تدور حول قيم العدالة، والوسطية، وضمان حرية العبادة للجميع، وحفظ الكرامة الإنسانية،
ورفع الظلم، لا أن يظلوا عالة على الماضي، ويعملوا على استنساخه بصورة مشوهة، واجتراره
أو تقليده تقليداً أعمى، كما هو حال المسلمين اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق