د. محمد علي صالح الويس
جامعة
الموصل /جمهورية العراق
المقدمة
يقدم
هذا البحث رؤية لموقف الدكتور (عماد الدين خليل) عن الاستشراق. والدكتور (عماد)
ليس بحاجة إلى تعريف، بل هو علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وله العديد من
المؤلفات التي تناولت المعطيات الاستشراقية نقداً وتفنيداً، لمظان السلب في هذا
الموروث، في خمسة كتب، وثمانية أخرى، ترصد وتحلل الشهادات والاستنتاجات والمعطيات
الإيجابية في الموروث الاستشراقي..
لذلك كان اختيار هذا الموضوع لكونه أخذ جهداً
كبيراً ونصيباً واسعاً من جهد مفكرنا الكبير.
وجاء
الجزء الأخير من البحث لبيان موقف الدكتور (عماد الدين خليل)، المنطلق من موقف
المسلم الذي يضع العدل والإنصاف في تعامله مع معطيات الآخر، وهو الجهد الذي نال
اهتمام الدكتور (عماد) في ثمانية كتب، كما تقدم.
يبدأ الدكتور (عماد الدين خليل) القول حول الاستشراق بالتأكيد على خبرته الطويلة في التعامل مع الاستشراق، التي قاربت خمسين عاماً، وعبر مراحل زمنية متقاربة حيناً، ومتباعدة أحياناً، تعامل مع الاستشراق قراءة وتدريساً وتأليفاً([1]).
ألّف الدكتور (عماد الدين خليل) العديد من الكتب التي
تناولت الاستشراق والفكر الغربي، جاء البعض منها كاملاً لنقد الاستشراق والفكر
الغربي، وخصص بعضها الآخر مقاطع وفصولاً عن هذا الفكر، بلغ عددها ثلاثة عشر
كتاباً. واتّخذت هذهِ المؤلفات اتجاهين في الكتابة: مضى أحدهما لكي ينقد ويفند
المعطيات الاستشراقية: (دراسة في السيرة، ابن خلدون إسلامياً، حول إعادة كتابة
التاريخ الإسلامي، دراسة مقارنة في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتكمري وات،
مدخل إلى التاريخ الإسلامي)، ومضى الآخر يتبنى ويحلل الجوانب الموضوعية المضيئة من
تلك المعطيات: (قالوا عن الإسلام، الإسلام والوجه الآخر للفكر الغربي، مدخل إلى
الحضارة الإسلامية، حول تشكيل العقل المسلم، نظرة الغرب إلى حاضر الإسلام
ومستقبله، المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي، القرآن الكريم من منظور غربي،
الفن والعقيدة) ([2]).
أولاً
: موقف النقد والتفنيد لمعطيات الاستشراق
واختلف موقف الدكتور (عماد الدين خليل) من الاستشراق:
ففي البداية كان يميل إلى اعتبار الموروث الاستشراقي بشكل عام سيئاً، بما كان
ينطوي عليه من تحامل على الإسلام مكشوف حيناً، ومغطى بخبث حيناً آخر. ويرى الدكتور
(عماد) أن عدداً غير قليل من الأوربيين أنفسهم أدانوا رفاقهم، بسبب من إلحاحهم في
التحامل على الإسلام: قرآناً ونبياً، وعقيدة وشريعة، وحضارة وتاريخاً([3]).
ويُرجع الأسباب التي أدّت به إلى هذا الموقف من
الاستشراق، إلى عوامل عديدة، ترجع إلى التكوين الثقافي للفكر الغربي، الذي يصفه
بأقلام المنصفين من المفكرين الغربيين، الذين بيّنوا عوامل الانحراف المتجذر في
الثقافة الغربية، حول الإسلام: ديناً ورسولاً، وحضارةً وتاريخاً.
ويستشهد الدكتور (عماد) حول ذلك عن المفكر النمساوي
(ليوبولد فايس) (= محمد أسد) حين يقول: "لقد مال المفكرون والمؤرخون
الأوربيون، منذ عهد اليونان والرومان، إلى أن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر
التاريخ الأوربي والتجارب الثقافية الغربية وحدها. أما المدنيات غير الغربية، فلا
يعرض لها إلا من حيث إن لوجودها، أو الحركات الخاصة فيها، تأثيراً مباشراً في
مصائر الإنسان الغربي، وهكذا فإن تاريخ العالم، وثقافاته العديدة، لا يعدو أن يكون
في أعين الغربيين تاريخاً موسعاً للغرب. وطبيعي إن النظر من هذهِ الزاوية الضيقة
لا بد أن يوقع العين على مشهد مشوه غير سليم"([4]).
وينقل الدكتور (عماد) عن (محمد أسد)،مرة أخرى، واصفاً
قوله بالدقيق، حول الاحتقار التقليدي الذي أخذ يتسلل في شكل غير معقول إلى بحوثهم
العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربا والعالم الإسلامي منذ
الحروب الصليبية غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسياً من
التفكير الأوربي.. والواقع أن المستشرقين الأول، في الأعصر الحديثة، كانوا مبشرين
نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم
الإسلام، وتاريخه، مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيين من الوثنيين،
غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر، مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ
التبشير، ولم يبق لعلوم الاستشراق هذهِ عذر في توجيههامن جهة دينية، أو بواعث
أيديولوجية. أما تحامل المستشرقين على الإسلام فهو غريزة موروثة، وخاصّة طبيعية،
تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من ذيول في عقول
الأوربيين([5]).
وعن مناهج الاستشراق، يقول الدكتور إن المنهج الاستشراقي
يختلف حسب اختلاف المنظور، فيقول: "فإذا نظرنا إلى المادة الاستشراقية بوصفها
تعاملاً رؤيوياً غربياً من الشرق، قلنا بأن هناك منهجاً استشراقياً واحداً، فها
نحن هنا بإزاء ثنائيات أساسية تتضمن البعد الحضاري الديني، الجغرافي القاري، حيث
يصير النشاط الاستشراقي محاولة للاكتشاف في بيئة أخرى، تنطوي على تغاير عميق مع
بيئة المكتشف أو الباحث. ولكننا إذا نظرنا إلى المادة الاستشراقية من زاوية رؤيتها
المتميزة – داخل العقل الغربي نفسه – أمكننا القول إن هناك مناهج شتى؛ وعلى سبيل
المثال، إن المنهج الذي يعتمده رجل لاهوت مثل (لامانس)، يختلف عن المنهج الذي
يعتمده (بلاييف)، المفسّر المادي للتاريخ، أو الذي يعتمده مستشرق ذو توجه
إسرائيلي، أو الذي يعتمده (مونتغمري وات)، الذي يحرص على الأكاديمية. "وهاهنا
نجد تنوعاً في سياق المنهجية، أو بعبارة أدق نجد قاسماً مشتركاً أعظم يتحرك بموجبه
مستشرقو المذاهب المذكورة كافة، ونجد تغايراً يجعل كل مذهب يصوغ منهجه الخاص
المتميز الذي ينسجم وقناعاته الفكرية، ولكنه يلتقي في نهاية التحليل بالخطوط
العريضة للمنظور الاستشراقي الشامل، بوصفه تعاملاً غربياً مع الشرق"([6]).
ومن أهم القواعد المنهجية التي يركز عليها الدكتور (عماد
الدين) حول التعامل مع المعطيات الاستشراقية التي تناولت السيرة النبوية والتاريخ
الإسلامي.. فعن السيرة النبوية يقول: "وثمة فارق مثلاً بين التعامل الاستشراقي
مع السيرة النبوية المتجذرة في الغيب، والممثلة بجوهر الخبرة الإسلامية كمنظور
عقدي للعالم. وبين تعامله مع هذا النظام الإداري أو ذلك، مثل الوزارة أو الديوان
أو الجيش، في عصر أموي أو عباسي متأخر.. وفارق كبير أيضاً بينهم، وهم يتحدثون عن
الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين y، والتي تجيء امتداداً لسياسات الرسول (صلى
الله عليه وسلم)، وبينهم وهم يتحدثون عن صراع المغول مع المماليك في الجزيرة
والشام، على سبيل المثال"([7]).
ويمضي الدكتور (عماد الدين) مبيّناً أهم نقاط الضعف في
المناهج الاستشراقية، في تعاملها مع التاريخ والحضارة الإسلامية، قائلاً:
"وكذا الحال إزاء التعامل مع كل خبرة تاريخية إسلامية ترتبط بعمقها العقدي،
أو تنفصل عنه. ففي الحالة الأولى، ينعكس انحياز المنهج الاستشراقي بوضوح... وفي
الحالة الثانية... يجد المستشرق نفسه يسعى إلى المنهج، وتوظيف تقنياته المتفق
عليها عالمياً، والتي يعمل بها المستشرقون أنفسهم... ومهما يكن من أمر، فإن مناهج
البحث الاستشراقي، لا يمكنها في الغالب أن تقدم تفسيراً موضوعياً للمراحل والخبرات
ذات الجذور العقيدة من تاريخنا الإسلامي، ذلك أنها لا تقوم على أساس متوازن ينظر
إلى القيم الروحية والمادية كعوامل فعالة مشتركة في صنع الواقعة التاريخية، بل
إنها تسعى إلى ترجيح الدافع المادي، وتقليص مساحة الدوافع الروحية في حركة
التاريخ، وربما طمسها وإنكارها أساساً"([8]).
ويضيف الدكتور (عماد الدين) أسباباً أخرى حول قصور
المناهج الاستشراقية في تعاملها مع التاريخ والحضارة الإسلامية، كون هذهِ المناهج
تتحكم فيها عصبيات شتى، ورواسب نفسية، وضغوط ثقافية تاريخية، وأطماع سياسية
واقتصادية، وتحزّبات دينية ومذهبية وأيديولوجية وعرقية، لكونها تبلورت في القرن
الذي بلغت فيه حركة الاستعمار لعالم الإسلام ذروتها([9]).
أ- السيرة النبوية:
لقيت
معطيات الاستشراق حول السيرة النبوية اهتماماً كبيراً من الدكتور (عماد الدين
خليل). تناولها بالنقد والتفنيد في كتاب (دراسة في السيرة)، وفي كتاب (المستشرقون
والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغمري وات).
يضع
الدكتور (عماد) قاعدة ثابتة في التعامل مع المعطى الغربي حول السيرة النبوية،
فيقول: "إن الدين والروح، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها.. وليس بمقدور الحس
أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلا بمقدار.. وتبقى المساحات الأكثر عمقاً
وامتداداً، بعيدة عن حدود عمل الحواس وتخيلات العقل والمنطق.. إننا ونحن نناقش هذا
المستشرق أو ذلك في حقل السيرة النبوية، يجب أن ننتبه إلى هاتين النقطتين مهما كان
المستشرق ملتزماً بقواعد البحث التاريخي وأصوله. إنه من خلال رؤيته الخارجية
وتغربه، يمارس نوعاً من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها، فيصدم الحس
الديني، ويرتطم بالبداهات الثابتة، وهو من خلال منظوره العقلي والوضعي يسعى إلى
فصل الروح عن جسد السيرة، ويعاملها كما لو كانت حقلاً مادياً للتجارب والاستنتاجات
وإثبات القدرة على الجدل، وهو في كلا الحالتين لا يمكن أن يخدم الموقف الإسلامي
الجاد من سيرة رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)، أو يحتل موقفاً جاداً منها، بوجه من
الوجوه"([10]).
ويحدد
الدكتور (عماد الدين خليل) العديد من الأخطاء والثغرات المنهجية في البحوث
الاستشراقية. ويركز على ثلاث ثغرات أساسية:
أولاً:
المبالغة في الشك، والافتراض، والنقل الكيفي، واعتماد الضعيف الشاذ.
ثانياً:
إسقاط الرؤية الوضعية، العلمانية، والتأثيرات البيئية المعاصرة، على الواقع
التاريخي.
ويصف
الدكتور (عماد) خلاصة تجربته مع المستشرق (وات)، الذي يعد من أكثر المستشرقين
اعتدالاً، وقد انزلق في العديد من استنتاجاته عن جادة الصواب، ووصل في استنتاجات
أخرى إلى طرق مسدودة، وهو يتعامل مع سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ورغم
أن (وات) يقول في مقدمة كتابه (محمد في مكة): "فيما يتعلق بالمسائل الفقهية
التي أثيرت بين المسيحية والإسلام، فقد جهدت في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد
معرفة ما إذا كان القرآن كلام الله، أو ليس كلامه، امتنعت عن استعمال تعبير مثل:
(قال تعالى)، أو (قال محمد)، في كل مرة استشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة:
(يقول القرآن)... وأقول لقرائي المسلمين شيئاً مماثلاً: فقد ألزمت نفسي... أن لا
أقول أي شيء يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام الأساسية"([12]).
ورغم
ذلك، فإن الدكتور (عماد) يقول: "فقد خلصت، بعد دراسة الكتاب، إلى أن المحصلة
النهائية التي يمكن أن نصل إليها من خلال التعامل مع دراسات المستشرقين، أياً كان
موقعهم، إنه لا يمكن لهذهِ الدراسات على الإطلاق، وبالتأكيد العقلي غير الانفعالي
على هذهِ العبارة الأخيرة، أن ترقى إلى مستوى السيرة، فتكون قديرة على التعامل
معها، والتوغل في نسيجها، وإدراك بنيتها بعمق، ورسم الصورة الموضوعية العادلة لها.
ذلك أن هناك أكثر من خلل في منهج العمل، ولن يتمخض هذا الخلل إلا عن حشود من نقاط
سوء الفهم والأخطاء على مستوى الموضوع. والأخطاء التي تنتشر كالبثور على جسد
السيرة، المتـرع صحة وتماسكاً وعافية، فتشوّهه"([13]).
ويعترف الدكتور (عماد) أن هناك فرقاً بين مستشرق وآخر،
ويقول: "ونحن إذا قارنا (وات) بـ (لامانس) مثلاً، أو حتى بـ(فلهاوزن)، وجدنا
هوة واسعة تفصل بين الرجلين: يقترب أولهما ويقترب حتى ليبدوأشد إخلاصاً لمقولات
السيرة من أبناء المسلمين أنفسهم، ويبعد ثانيهما ويبعد حتى ليبدو شتّامّاً
لعّانّاً، وليس باحثاً جاداً يستحق الاحترام"([14]).
ويصف الدكتور (عماد الدين) جهد (وات) بأنه أفضل كثيراً،
من حيث الدرجة وليس النوع، عن غيره من المستشرقين، إلا إنه يضع يده على العديد من
جوانب الخلل في منهج العمل في حقل السيرة: نزعة نقدية مبالغ فيها، تصل حد النفي
الكيفي وإثارة الشك حتى في بعض المسلمات، تقابلها نزعة افتراضية تثبت بصيغ الجزم
والتأكيد ما هو مشكوك بوقوعه أساساً، وإسقاط للتأثيرات البيئية المعاصرة، وإعمال
للمنطق الوضعي في واقعة تكاد تستعصي على مقولات البيئة وتعليلات العقل الخالص([15]).
ويضيف الدكتور (عماد الدين خليل) العديد من مغالطات
ومعطيات الاستشراق المنهجية في كتاب (دراسة في السيرة)، ومنها أسلوب الاستشراق
الانتقائي في إعداد الأفكار المسبقة حول الإسلام، والذي يقوم على تناول الوقائع
التاريخية انتقائياً، للتدليل على فكرة مسبقة أو اتجاه محدد سلفاً([16]).
ويقول الدكتور حول هذا المنهج الانتقائي: "ونحن
نستطيع أن نحصل على عشرات، بل مئات، من هذا الانتقاء الكيفي أو التفسير الاختياري
للنصوص التاريخية، في كثير من كتب المستشرقين، ونجاح أجيالهم الأولى، مثل
(بروكلمان)، الذي لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة، ولا إلى
نقض (بني قريظة) عهدها مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أشد ساعات محنته"([17]).
ولم يتوقف المنهج الانتقائي للمستشرقين على أحداث
التاريخ، بل وصل إلى القرآن الكريم، حيث عمد العديد من المستشرقين، كـ(وات)،
و(شبرنجر)، و(ولفنسون)، وغيرهم، إلى التعامل مع القرآن الكريم وكأنّه كتاب تاريخي
خاص بتفاصيل حياة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهذا مكّنهم من عملية انتقاء مغرضة،
ذات طابع سلبـي معاكس، وهي التشكيك ورفض كل رواية لا ترد مؤيداتها في القرآن
الكريم، إذا كان في الرواية تمجيد للنبـي (صلى الله عليه وسلم)، أو إذا كان في
نفيها تأكيد لإحدى وجهات النظر الاستشراقية، مثل أن اسم النبـي(صلى الله عليه
وسلم) ورد في أربع سور من القرآن الكريم، وهي: آل عمران، والأحزاب، ومحمد، والفتح،
وكلها سور مدنية، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم للرسول (صلى الله عليه
وسلم) قبل الهجرة، وإنما اتخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتصاله بالنصارى. وفي هذا
المجال يرى (ولفنسون) أن مهاجمة يهود بني النضير، حسب قول مؤرخي العرب، الذين
يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب... هو محاولاتهم اغتيال الرسول (صلى الله عليه
وسلم). يقول (ولفنسون): والمستشرقين ينكرون صحة الرواية، ويستدلون على كذبها بعدم
وجود ذكر لها في (سورة الحشر)، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير([18]).
وهذهِ المسألة، هي قاعدة في المنهج الاستشراقي الغربي في
دراسة السيرة، من خلال تبني فكرة مسبقة، ثم ينتقلون إلى وقائع التاريخ، لكي يستلوا
منها ما يؤيد فكرتهم. وهو في الأصل نقد الدكتور (جواد علي) للمستشرق الإيطالي
(كيتاني): "إذ رأى فكرة وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها،
فلما شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويها، وتمسك بها كلها،
ولا سيما ما يلائم رأيه، ولم يبال بالخبر الضعيف، بل قواه وسندهُ، وعدّه حجة، وبنى
حكمه عليه"([19]).
ويرجع الدكتور (عماد الدين خليل) أسباب الاعوجاج والأخطاء
التي وقع بها المستشرقون، وهي تعاملهم العلماني الوضعي الذي ساد وطغى على مناهجهم
وهم يتعاملون مع تاريخنا، ومنها السيرة النبوية، وأن خطوات النبـي (صلى الله عليه
وسلم)، وأعماله، كانت توحي بها الظروف الراهنة ومتطلباتها ولوازمها، ومن ذلك على
سبيل المثال ما ذكره (فلهاوزن)، وعدد من رفاقه، حول قومية الحركة الإسلامية في
عصرها المكي، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة العالمية -في العصر المدني – إلا بعد أن
أتاحت لها الظروف ذلك([20]).
ومما يميز الدكتور (عماد) في منهجه في نقد المعطى
الاستشراقي، اعتماده على البعض من الباحثين الذين سبقوه وعينوا نقاط الضعف
والتهافت في كتابات الغربيين حول السيرة النبوية، ويأتي في طليعتهم المؤرخ والباحث
العراقي (جواد علي)، الذي "أخذ على بعض المستشرقين تسرعهم في إصدار الأحكام
في تاريخ الإسلام، وتأثرهم بعواطفهم لأخذهم بالخبر الضعيف في بعض الأحيان، وحكمهم
بموجبه، ولإصدارهم أحكاماً بنيت على الألفاظ المشتركة أو التشابه، مع قولهم بوجوب
النقد... وآية ذلك أن معظم المستشرقين من النصارى هم طبقة رجال الدين، أو من
المتخرجين من كليات اللاهوت، وأنهم تطرقوا إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام، وحاولوا
جهد إمكانهم ردها إلى أصل نصراني. وطائفة من المستشرقين من اليهود، يجهدون أنفسهم
لرد كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي.. وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان
العواطف والأهواء"([21]). وينقل عن الدكتور (صالح أحمد العلي) حول الحركة
الاستشراقية، ومواقفها الظنية والعاطفية من حياة الرسول، وكيف قد جانبت العلم
كثيراً، ثم بدأت تعتدل شيئاً فشيئاً: "ولاشك أن التعصب والتحامل كانا يطغيان
على كتابات المستشرقين القدامى، نظراً لتأثرهم بروح التعصب الديني، الذي كان
مسيطراً ومتبلوراً بتأثير الحروب الصليبية"([22]).
كما يعتمد الدكتور (عماد الدين) على المنصفين من
المستشرقين في نقد المعطى الاستشراقي حول السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، من
أمثال (آتين دينيه) و(درمنغم)، الذين اتصفوا بالجدية والموضوعية في البحث العلمي..
فينقل عن (آتين دينيه) أهم الأخطاء التي مارسها مفكرو الغرب في دراستهم للسيرة
النبوية، وخاصة الدوافع التي تكمن وراء مواقفهم المحتشدة المتراكمة في اللاشعور:
"إن من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم
وبيئتهم ونزاعاتهم المختلفة، وإنهم لذلك بلغ تحريفهم لسيرة النبـي (صلى الله عليه وسلم)
والصحابة y مبلغاً يغشى على صورتها الحقيقية، من شدة
التحريف فيها"([23]).
وينقل عن (درمنغم): "ومن المؤسف حقاً أن غالى بعض
هؤلاء المتخصصين في النقد أحياناً، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص... ومن
المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة... ومن دواعي
الأسف أن كان الأب (لامنس)، الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين، من أشدهم
تعصباً، وأنه شوه كتبه الرائعة الدقيقة، وأفسدها، بكرهه للإسلام ونبـي
الإسلام"([24]).
ويشدد الدكتور (عماد الدين خليل) على المسار الصحيح الذي
يجب أن تنهجه الدراسات التي تتناول السيرة النبوية، قائلاً: "إن فهم السيرة
لا يمكن أن يتم إلا وفق نظرة شمولية تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل
مرسوم في علم الله U، ومحدد في قرآنه، وإن الرسول (صلى الله عليه
وسلم) لم يكن سوى منفذ لهذا البرنامج، بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيته وذكائه
وإمكانياته الفذة في التخطيط والتنفيذ... ومن ثم، فإن الظروف الراهنة ليست الحتمية
المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام، وخطى رسوله، إنما هناك الهدف الذي يفرض أحياناً
(وقفة) ضد الأعراف، وتمرداً عليها، وانقلاباً شاملاً على مواضعاتها. وهذا يبدو
واضحاً منذ أول لحظة في شعار لا إله إلا الله"([25]).
ويضيف قائلاً: "ولا نطالب من الغربيين هنا أن يؤمنوا أن القرآن منزل من
السماء، وأن محمداً(صلى الله عليه وسلم)
رسول الله، وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرداً وموضوعيةً، فينظروا إلى سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كوحدة
عضوية متكاملة، وإلى القرآن الكريم كبرنامج مترابط، تعلو معطياته على الظروف،
زماناً ومكاناً، رغم ملائمتها اليومية المباشرة للوقائع الزمانية والمكانية، ولكن
الملائمة التي تنبثق عنها قيم ودلالات ذات طابع شمولي، ما كان للمستشرقين أن
يغفلوا عن أبعادها"([26]).
ويصل الدكتور (عماد الدين خليل) إلى أن الأخطاء المنهجية
للمستشرقين طرحت الكثير من المعطيات الخاطئة، وهذا أمر طبيعي.. ويورد العديد من
الشواهد لما كتبوه عن حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو حصاد يحمل في ثناياه
عناصر تناقضه، وأخطر ما به خروجه عن البحث المنهجي الدقيق([27]).. كأقوال (بروكلمان) في علاقة النبـي (صلى الله عليه
وسلم) مع اليهود: "وكان على محمد أن يعوض خسارة (أحد)، التي أصابت مجده
العسكري، من طريق آخر، ففكر في القضاء على اليهود، فهاجم بني النضير لسببٍ
واهٍ"([28]). وفي سنة 7هـ حاول النبـي أن يعوض فشله الظاهري في (الحديبية)،
فقاد المسلمين في حملة على المستعمرة اليهودية الغنية في خيبر"([29]).
ب- التاريخ الإسلامي:
ويعتبر كتاب (حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي) من أولى
الدعوات التي قدمها الدكتور (عماد الدين خليل) لمواجهة وإعادة النظر في المنهج والمعطى
الاستشراقي. ويعزو إلى الغرب، ومناهجهم، سبباً يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ،
فيقول: "السبق الزمني الذي مارسه الغربيون في أعقاب الانقطاع، فأخذوا بذلك
زمام المبادرة في التعامل مع تاريخنا الإسلامي، كشفاً وإضاءةً وتحقيقاً ونقداً
وتركيباً.. ولكن بمنهاجهم وأساليبهم وطرائقهم التي ألحقت بمعطياتنا التاريخية
كسوراً وشروخاً وتناقضات ليس من السهولة إزالة آثارها المدمرة"([30]).
ويعيد الدكتور عماد في كتابه (إعادة كتابة التاريخ)
التركيز على الأخطاء المنهجية للغربيين، ويشدد على ضرورة عدم الوقوع فيها، ومنها:
"ضرورة الاعتماد في بناء البحث التاريخي على الواقعة نفسها، دون الوقوع في
مظنة اعتماد هياكل مرسومة مسبقاً، ووجهات نظر مصنوعة سلفاً... مما نجده واضحاً –
على سبيل المثال- في الدراسات التي تنطلق من المفهوم المادي في تفسير التاريخ،
الأمر الذي أوقعها في حشد من الأخطاء والتناقضات"([31]).
ويدعو الدكتور (عماد الدين خليل) إلى اتخاذ موقف علمي
تجاه معطيات المستشرقين على مستوى المنهج والموضوع، وعدم التسليم المطلق بها، أو
تجاوزها كلية، لأن هذهِ المعطيات تتضمن الجيد والرديء، الأبيض والأسود.. والموقف
الجاد هو الذي يعرف كيف يفيد مما تقدمه الحركة الاستشراقية، دون الوقوع في أسرها،
على حساب الحقيقية التاريخية([32]).
ويركز الدكتور (عماد) على أهم أسباب فشل المناهج والمعطى
الاستشراقي، ويعزوها إلى ثلاث نقاط أساسية:
أولاً:
إن مناهج البحث الغربية (نصرانية ومادية) لا يمكنها بحال أن تقدم تفسيراً معقولاً
شاملاً لتاريخنا. ذلك أنها مناهج لا تقوم على أساس (متوازن)، ينظر إلى القيم
الروحية والمادية كعوامل فعالة مشتركة في صنع التاريخ.
ثانياً:إن
المناهج الغربية تقدم أوربا على أنها مركز للعالم، تدور حول قطبه كل المساحات
الأخرى في الأرض.
ثالثاً:
تحكم المناهج الغربية عصبيات شتى،وتحزبات دينية ومذهبية وأيديولوجية، ومخلفات
ثقافية، وأطماع سياسية واقتصادية([33]).
أما
في كتابه (مدخل إلى التاريخ الإسلامي)، فنجد أن العديد مما يطرحه الدكتور (عماد)
قد أورده في كتابيه (المستشرقون والإسلام)، و(حول إعادة كتابة التاريخ)، إلا إن
التركيز الشديد من قبل الدكتور (عماد) ينصب على حتمية نقد معطيات الحركة
الاستشراقية بأجنحتها كافة، وتحديد المساحات التي يمكن الإفادة منها، وتلك التي
يجب تجنبها، مع تبيان أبعادها اللاموضوعية([34]).
ويدعو إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام، ويقول:
"لقد قيل وكتب الكثير عن الاستشراق منهجاً وفكراً، وثمة في هذا الكثير سياقان:
السياق الأول يتمثل في الرفض المقفل لمعطيات الحركة الاستشراقية كافة، والسياق
الثاني يتمثل في التقبل المستسلم لهذهِ المعطيات. والمنهج العدل يمضي لكي يتعامل
مع المادة الاستشراقية دون أن يتقبلها بالكلية، أو يلغيها من الحساب.. فعن طريق
التبصر الواعي بهذهِ المادة، وفي ضوء التمحيص العلمي المتأني الدقيق، يمكن الأخذ
والرفض، ذلك أن معطيات المستشرقين ليست شراً كلها، كما أنها ليست خيراً كلها. وقد
علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الحكمة ضالة المؤمن، وأنه أحق بها أنى
وجدها... فمن يجرؤ على القول بأن هذهِ المعطياتلا تتضمن قدراً من الحكمة
والصواب؟"([35]).
ويرى الدكتور (عماد الدين) أن من أكثر الأخطاء التي
مارسها الكثير من الباحثين في التاريخ الإسلامي، عبر القرنين الأخيرين، وبخاصة في
دوائر الفكر الاستشراقي، والغربي عموماً، المنهج المعكوس في التعامل مع هذا
التاريخ، منهجاً ينطوي على محاولة متعمدة، أو غير متعمدة، لفك الارتباط بين
الإسلام والتاريخ. بل إن بعض المحاولات، التي تبلغ أقصى حدتها في الاستشراق
اللاهوتي،ثم الماركسي، أرادت لمفردات التاريخ الإسلامي أن تبحر
باتجاه مضاد للمطالب الإسلامية، وأن تتخذ موقفاً نقيضاً لمعطيات هذا الدين وثوابته([36]).
وتعد تجربة الدكتور (عماد الدين خليل) في كتابه (ابن
خلدون إسلامياً)، نقداً لمعطيات الفكر الغربي الاستشراقي الذي يريد سلب ابن خلدون
من بيئته الإسلامية، حين يزعم البعض منهم "أن ابن خلدون لم يكن للدين
الإسلامي أي دور في تكوينه وعطائه، وإن الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية،
بقدر ما أثرت الأرسطوطاليسية الأفلاطونية. ويشير باحث آخر أن ابن خلدون إذا كان
يذكر خلال بحثه كثيراً من آيات القرآن، فليس لذكرها علاقة جوهرية بتدليله، ولعله
يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن. ويقول آخر:إن
ابن خلدون قد تحرّر من أصفاد التقاليد الإسلامية في درس شؤون الدولة والإدارة
وغيرهما، وأنه حرّر ذهنه ـ كذلك ـ من القيود الفكرية، التي ارتبطت في عصره
بالعقائد العربية الصحيحة "([37]).
أثارت هذهِ المقولات الدكتور (عماد الدين خليل)، فقدم
عملاً نقدياً تحليلياً لمقدمة ابن خلدون، أثبت فيه أن الرجل لم
يكن كما يزعم المعطى الغربي الذي يريد أن يبرز ابن خلدون كما لو لم تكن لمعطياته
أية علاقة بالأرضية الدينية: منهجاً وموضوعاً.. بل وبسبب تشنجها المذهبـي، وجزئية
رؤيتها ونسبيتها، تسعى لإخراج ابن خلدون من الدائرة الطبيعية التي عاش فيها، وتحرك
خلالها، وتلقى
علمه من مواردها، وبنى قدراته ونزعاته في بيئتها، وتقذف به بعيداً إلى أجواء غريبة
ما كان يعرف عنها شيئاً، وما خطرت له على بال.. وإن بعضاً من هذهِ الأبحاث في أقصى
مدتها، جعلته مفسراً مادياً للتاريخ، لا يحسب للمؤثرات اللامادية، غيبية وروحية،
أيما حساب([38]).
ويرد الدكتور (عماد) على المقولات الغربية رداً يوضح
مكانة (ابن خلدون) في كونه ابن الإسلام، وليد البيئة الإسلامية الشرعي، وتبقى
مقدمته، على مستوى الفكر ومستوى الحياة، ثمرة ناضجة من ثمارها المترعة.. ومن وراء
هذا وذاك يبقى كتاب الله I، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، المؤشران
الأبديان اللذان يصوغان البيئات، ويبعثان الرجال.. كما تبقى مسألة الانفصام
الموهوم تلك، كإسقاط الأجنة من أرحامها التي تؤويها وتغذيها وتكون شخصيتها، عملية
أخلاقية وغير علمية في الوقت نفسه([39]).
ويمدح الدكتور (عماد الدين خليل) ابن خلدون، ومنهجه،ويذهب
إلى أن كثيراً من طروحاته عن الدين إن هي إلا جزء أساسي من رؤيته الشاملة للحركة
التاريخية، وأنه يعود إليه من كافة الزوايا، وعبر مختلف الاتجاهات من أجل أن
يستكمل بنية تفسيره التاريخي([40]).
ويشير
الدكتور (عماد الدين خليل) إلى أن معطيات(ابن خلدون)، التي تمتاز بطبيعتها
التركيبية، لم تكن إلا أن الرجل يرفض التفسير (الواحدي) للتاريخ، وأن الرؤية
الشمولية للتاريخ، ميزة من أهم ميزات مقدمته، فهو يسلط فيها الأضواء على الأسباب
والدوافع كافة، تلك التي تلعب دورها، بشكل أو آخر في بنية وصيرورة الواقعة
التاريخية([41]).
وقد خصص الدكتور (عماد) ثلاث فصول للرد على الطروحات
المعوجة التي انصبت من قبل مفكري الغرب على (ابن خلدون)، فأفرد الفصل الأول في
أطروحاته عن دور الدين في الواقعة التاريخية: خلقاً أو إضافةً أو تعديلاً أو
توجيهاً.. والثاني عن: الاتجاهاتالدينية في تفسيراته لعديد من وقائع تاريخنا
الإسلامي بالذات، وهي المساحة التي انصبت عليها جل اختباراته، ومارس فيها معظم
جوانب استقرائه، الذي قاده إلى صياغة قوانينه العديدة.. أما الثالث: فيوضح تحليلات
ابن خلدون للدين في آفاقه الشاملة.. الدين الموصى به من الله إلى أنبيائه عليهم
السلام، مؤكداً المكانة الفوقية للوحي، متحدثاً عن الأخطاء المنهجية والموضوعية
التي يمارسها العقل بفلسفة الإلهيات([42]).
ثانياً:
الموقف الإيجابي من الاستشراق
أما
الجانب الآخر لصورة الاستشراق لدى الدكتور (عماد الدين خليل)، فهو نتيجة لمشواره
الطويل في دراسة الموروث الاستشراقي،الذي نبع عنه إنجاز مشروع عمل موسع يتضمن
الشهادات الإيجابية لغير المسلمين، بمن فيهم المستشرقون، بحق الإسلام: قرآناً
ونبياً وعقيدة وشريعة وعبادةً وسلوكاً وحضارةً وتعاملاً مع الآخر وواقعاً
ومستقبلاً، فضلاً عن الأسرة والمرأة([43]).
ويقول الدكتور (عماد) عن تجربته مع الموروث الاستشراقي
الإيجابي: "تفرغت للعمل السنين الطوال عبر منتصف ثمانينيات القرن الماضي،
وشمرت عن ساعد الجد، ورحت أتابع (الشهادات) في عشرات الكتب التي صنفها المستشرقون،
وبمرور الوقت أخذ يتبين لي أن هؤلاء لم يبخلوا في الإدلاء بشهاداتهم الإيجابية
بحقّ الإسلام، بل إنهم في بعضها تفوقوا حتى على بعض الباحثين المسلمين أنفسهم، في
الكشف عن منظومة القيم المتألقة في هذا الدين، ربما لأنهم يجيئون من خارج دائرة
الإسلام، فيمارسون الاكتشاف الذي يثير دهشتهم وإعجابهم، بعد إذ لم يكن الإلف والمعايشة
والاعتياد قد أطفأت الوهج"([44]).
ويؤكد الدكتور (عماد الدين خليل) على ملاحظة مهمة جداً
حول الشهادات الإيجابية عن الإسلام، من قبل هذا المؤلف أو ذاك، يقابله في الوقت
نفسه ركام من شهادات أخرى سلبية، تقف موقفاً مضاداً عن الإسلام([45])..ولن يحتاج المرء إلى كبير عناء من أجل أن يشير إليها،
بل يصل الأمر به إلى حد القرف والاشمئزاز في بعض الأحيان([46]).
ويرى الدكتور أنه لا يوجد مانع من اعتبار الشهادات
الأولى (الإيجابية) بمثابة اعتراف (حر) بهذهِ القيمة أو تلك من قيم الإسلام، والتي
تدفع الغربيين إلى إعلان رأيهم ذاك دونما أي نوع من أنواع القسر أو الاضطرار([47]).
وبكونها شهادات، وليست موقفاً نهائياً، يمكن أن تعتمد
للدلالة على الوجه المشرق للإسلام، وهي تحتاج إلى مزيد من التأكيد والتنسيق وإعادة
العرض في إطار ملائم.. وتلك الشهادات التي إذا ما عرضت على المفكر الغربي أكد
صدقها ثانية وثالثة ورابعة، لأنه لم يقلها إلا بدافع قدرة الإسلام، في جانب ما من
جوانبه، وتأكيد على تميزه وتفوقه وفاعليته([48]).
أما أهداف الدكتور عماد من هذا العمل الذي يقدم سيلاً
وحشداً من الشهادات الإيجابية، فهي تتمثل في جوانب ثلاثة:
الأول:
محاولة لرصد جانب من الشهادات الإيجابية التي صدرت بحق هذا الدين، من بيئات طالما
أساءت إليه([49]).
الثاني:
رسالة موجه إلى أعداء الإسلام من الداخل: فلن يضيرهم شيء إن ظل الكتاب والمفكرون
يكتبون عن الوجه الأسود للاستشراق، أما الوجه الآخر الذي تطمس عليه ظلمة التعصب
وتغطيه الكراهية، فإن كشفه وتسليط الضوء عليه قد يردهم إلى شيء من الصواب، وهم
يرونه يصدر بالحق والباطل، عن واحد من أصحابهم([50]).
الثالث:
هي محاولة من الدكتور (عماد) لتحقيق التعامل العادل مع الموروث الاستشراقي،
وتناوله بوجهيه: الأسود الكالح، والأبيض المشع، فالمؤرخ ليس شاعراً يهجو أو يمدح،
ولكنه باحث عدل يتوخى الوصول إلى الحقيقة بأكبر قدر من الموضوعية، على منهج العدل
في الفكر والحياة([51]):]وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[([52]).
فكان
نتاج ومعطيات الدكتور (عماد الدين خليل) العديد من المؤلفات التي رصدت الشهادات
الإيجابية، أبرزها: (قالوا عن الإسلام، الإسلام والوجه الآخر للفكر الغربي، القرآن
الكريم من منظور غربي، المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي، الفن والعقيدة، مدخل
إلى الحضارة الإسلامية).
وفي
كتاب (الإسلام والوجه الآخر للفكر الغربي)، يحشد الدكتور (عماد الدين) شهادات
العديد من مفكري الغرب والشرق، كـ(روجيه كارودي)، و(سانتيلانا)، و(لاندو)، و(هاملتون
كب)، و(مومنتغمري وات)، و(لوبون)، و(ول ديورانت)، و(نظمي لوقا)، وغيرهم الكثير..ومما
يميز هذا الكتاب أن كل شهادة نقلت عن أستاذ متخصص في ميدانه، وما برع به من علوم،
فعن (كارودي) الذي عرف في البحث عن الحقيقة، وعن (سانتيلانا) الخبير القانوني
الفرنسي، وعن (ترتون) الذي عرف بدراسة المجتمع والديانات، و(لوبون) الذي اختص
بدراسة حضارة العرب.
ولا
يختلف كتاب (المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي) عن الذي سبقه، إذ شمل عدة فصول
عن شهادات حول المرأة، كونها لقيت مكانة كبيرة لا تختلف عن الرجل في الخطاب
القرآني، كما قال (مارسيل بوازار)([53]).. وشهادات عديدة أخرى عن (سيدو) و(لوبون) و(هنري دي
كاستري) تبين أهمية الحجاب، وتعدد الزوجات، ومقارنة وضع المرأة في الإسلام،ومكانتها
في القوانين والتشريعات في الحضارات الأخرى([54]).
وفي كتاب (القرآن الكريم من منظور غربي)، ينقل الدكتور (عماد)
شهادات غربية حول القرآن الكريم من أقلام العديد من مفكري الغرب، تضمنت شهادات حول
القرآن الكريم في فصول عديدة، ناقشت: التوثيق للقرآن الكريم، والأسلوب والمضمون،
والإعجاز العلمي، والمقارنة بين القرآن الكريم والكتب الدينية المحرفة، والتأثير
الكبير للقرآن الكريم على النفس البشرية، والتأثير الاجتماعي والأخلاقي والثقافي
والحضاري لكتاب الله([55]).
ويأتي
كتاب (الفن والعقيدة) شاهداً آخر من أعمال الدكتور (عماد الدين خليل) التي حشدت
العديد من الشهادات لعلماء ومفكري الغرب حول الإسلام والفن الإسلامي، الذي انساق
وفق تعاليم الإسلام فجاء فناً متجذراً بالعقيدة والإيمان.. احتوى الكتاب على ثلاثة
مقالات في شهادات لمفكرين أبصروا الفن الإسلامي، ووضعوا أيديهم على أهم النقاط
التي ميزته عن غيره من الفنون. ويعد (وروم لاندو) أهم الذين قدموا شهادات رائعة
حول الفن الإسلامي. فينقل عنه الدكتور (عماد) ملاحظة مهمة جداً حول خصائص الفن الإسلامي،
وهي: التجريد الجمالي الخالص، ورفض التشخيص،احتراماً للمنظور العقيدي، وتجاوز
الطبقية، والانتشار الجغرافي الواسع. ومن أبرز ملاحظات (لاندو)، التي أشار إليها
الدكتور (عماد الدين خليل)هي: إبداعية الخط العربي، والمساحة الواسعة التي غطاها
في الحياة الفنية الإسلامية([56]).
وفي
كتاب (مدخل إلى الحضارة الإسلامية)، يورد الدكتور (عماد الدين خليل) العديد من
الشهادات عن كبار المستشرقين حول المنهج العلمي الذي أرست تقاليده الحضارة
الإسلامية، والتي نتجت عن النقلة المنهجية الحسية التي دلهّم القرآن الكريم عليها،
ودعاهم إليها، من خلال تأكيدات القرآن الكريم الملحة على ضرورة الكشف عن السنن،
والمناخ الحر الذي نشط فيه الباحثون بعيداً عن أية رقابة أو مصادرة أو قسر..ويقدم
شهادات (لويس يونغ) و(سارتون)،والألماني (فرانز روزثنال)، و(لوبون)، و(زيغرد هونكة)([57]).
وعن نمو الحضارة الإسلامية، يورد الدكتور (عماد) شهادات
كثيرة حول دور الحضارة الإسلامية في احترام الثراث المعرفي البشري الذي سبقها
وعاصرها، وميزة العقل الإسلامي الذي لم يكن يرفض معطيات الغير، ولكنه في الوقت
نفسه لم يتقبلها بالكلية، وإن دور الحضارة الإسلامية لم يكن مجرد اقتباس عمن سبقهم،
ولكنه هضم وتمثل، فحقق مردوده الإيجابي الفعال، ليس على مستوى الحضارة الإسلامية
فحسب، ولكن على نطاق الحضارات جميعاً.. ومن أهم هذهِ الشهادات أقوال (لويس يونغ)
و(غرونبام) و(دي لاسي اولري) و(سارتون)([58]).
ويقتبس الدكتور شهادة مهمة عن المفكر الفرنسي (مارسيل
بوازار) توضح موقف المفكر الغربي المنصف من الحضارة الإسلامية، والذي يرى الدكتور (عماد
الدين) أن (بوازار) يضع يده على واحدة من أهم خصائص المنظور الإسلامي للنشاط
الحضاري، إنها: معادلة التوازن الملح والمطلوب بين الديني والدنيوي، بين السماء
والأرض، وبين الروح والجسد، فليس ثمة إيمان متحقق في واقع الحياة، إن لم يعبر عن
نفسه في إطار نشاط تتداخل فيه وتتوحد وتتناغم كافة الثنائيات([59]).
وينقل الدكتور (عماد) العديد من الشهادات حول دور
الحضارة الإسلامية في صياغة الحضارة الإنسانية والأوربية، من خلال اعترافات مفكري
الغرب، قائلاً: "كلنا يعرف الجسور التي انتقلت عليها معطياتنا الحضارية إلى
عالم الغرب، الغارق – يومها- في سباته العميق: أسبانيا.. جزر البحر المتوسط..
شواطئ آسيا وأفريقيا والأناضول.. فضلاً عن تجارب الاحتكاك التاريخي البشري في
السلم والحرب، بين الأمة الإسلامية وشعوب الغرب. لقد عبرت الحضارة العربية إلى
أوربا – يقول لويس يونغ- وتركت آثارها من خلال أسبانيا وصقلية وسورية، وتبقى
أسبانيا أهم طريق مرت عبره الحضارة العربية إلى أوربا"([60]).
الهوامش:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق