د. اليامين بن تومي
أكاديمي وباحث/ الجزائر
عن أيّ عيش مشترك نتحدث؟
هل نعني بذلك العيش هنا
في عالمنا اليوم الذي يتسم بخصوصيته الغربية؟
هل يمكن أن يحدث فعلاً هذا التعايش في عالم اليوم،
ولم يشتغل المسلم بعد بتصفية أو تجفيف كل القضايا العالقة في عالم الأمس، الذي ما يزال
يمارس سحره وحِيَلهُ البلاغية، من قبيل؛ الحاكمية والخلافة، ودولة الطُّهر، وغيرها
من الشعارات اليوتوبية، التي لا تنبت على أرضنا اليوم، وإنما هي جزء من عالم الأمس،
تحصل على أرضه، ونجترّها نحن من خلال ذلك المخيال L’imaginaire الكبير الذي ما يزال يسكن
الجماعة الإسلامية.
وهنا
نفرق بين تاريخية تلك المرحلة الطاهرة، وبين محاكاتها. فالمشكلة ليست في الوجود الأول،
بل في عالم المحاكاة الذي تعددت صوره، وصارت غير قابلة للتصديق. هذا الأمر سيجعلنا
- بلغة شلاير ماخر - نفهم الوضع الأول خير ممّا فهمه الأوائل أنفسهم، ولكن ليس بتنزيله
جذرياً، وإنما بمحاولة فهمه جيداً. فالفهم هو الذي يعطينا الحاجة للاجتهاد أكثر في
استدعاء ما نحتاجه من ذلك العالم القديم!
علينا
أن نُحدِّد موقفنا من العالم الذي ننتمي إليه: هل نحن جزء من العالم القديم، أم العالم
الحديث؟ لأن تحديد الانتماء سيجعلنا نفهم أُسَّ المعضلة التي نُعَانيها. ويبدو أننا
ننتمي - من جهة الموضوعات، والقيم- إلى عالم قديم، وننتمي شكلاً إلى عالم جديد، أو
حديث، من ناحية أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب. ونكون بهذا قد انتقلنا من تقليد
متوارث للعالم القديم، إلى تقليد مُسِّفٍ للعالم الجديد..
هذا
التحديد سيجعلنا نقف من القيم موقفاً جديداً حاسماً، ويجعلنا نتجاوز النظر البائس والثابت
للقيم، لأن هذه الأخيرة في العالم الجديد متحركة، وليست ثابتة، كما يتصور أنصار النظرة
الإسلامية الكلاسيكية، فهم ينطلقون في ذلك من مدار ثابت للعالم؛ تحكمه نظرة الفقه التقليدي،
الذي يقسم العالم إلى دارين: دار الإسلام، ودار الكفر.
هذا التقسيم الذي جعل الحوار، وممكناته، ضعيفاً بين
العالمين، لأننا صادرنا الآخر، وأفرغناه من أيِّ إضافة. وبالتالي، فشـرط الحوار مجهض
ابتداءً.. لأن القيم - بهذا التقسيم التقليدي - تجعل دائرة العالم القديم صحيحة دائماً،
ودائرة العالم الحديث فاسدة دائماً، ممّا يستحيل معها أن نتصور حلاً لهذا الإشكال.
هنا
- ودون تفريع- علينا أن نرى القيم المنتصرة والفاعلة الآن: هل هي قيمنا، أم قيم غيرنا؟
هل هي قيمنا الثابتة، التي ننظر إليها وراءنا، بحكم أن هذا الماضي؛ مستودع الخيرية،
ونقطة الثبات الوحيدة في حياتنا، أو قل هي مرجعيتنا؟ أو قيم الآخر المتفوق؟!
هذه
المقايسة مهمة، لأن القيم التي لا تقاس تكون دوماً خارج التاريخ، تستمد مرجعيتها من
نقطة ثابتة في الزمن، وهي خارج التاريخ، بحكم أنها ليست فاعلة الآن. فالسقف الرمزي
للقيم المهيمنة الآن هي قيم الغرب، وبالتالي نحن كمسلمين نعيش خارج العالم الجديد،
المبني على قيم مختلفة عن قيمنا. فنحن مستهلكون لقيم هذا العالم الجديد، وزُبَنَاءُ
لديه، ولا يمكن أن نُزَاحِم العالم الجديد قَيمِيًّا، إلا إذا وضعنا قيمنا في سوق المنافسة.
نعيش
اليوم فوبيا رهيبة على مستويات متعددة؛ ثقافياً، واقتصادياً، واجتماعياً، لأننا لم
ننخرط بشكل جذري في عالم اليوم.. هذا الأمر يعكس حداً أساسياً، وهو خوف رهيب من قبل
المسلمين من عالم اليوم، الذي تَغوَّلت فيه
القيم الكلبية والعبثية والشهوانية، بعد أن كانت العقلانية أحد أهم أساسات العقل الأنواري،
الذي لم يخف أنه استفاد من العقلانية الرشدية، كما تقرّ بذلك المدارس الرشدية اللاتينية.
أي أن الغرب أصلاً تنمو داخله بيضة العقلانية الإسلامية، التي استفادت منها كل الاتجاهات
ضد- اللاهوتية، وبهذا تم تجديد الوهن في عضد العقل الغربي برمته.
فلماذا نستحي اليوم من أن نأخذ من العقلانية الغربية،
لنُنبِّه الكائنات اللامعقولة التي تعيش بيننا: أنه لم نعد قادرين أن نستمر بهذا الشكل؟!
هذا لا يعني أننا مفلسون، بقدر ما نختزن داخلنا قدرتين:
*
قدرة تفرض علينا أن نأخذ من الآخر العقلانية، لنعيد وصلها بعقلانية قرطبة.
*
قدرة من داخلها يمكننا أن ننقذ الغرب من مغبة العبث الرهيب، الذي تنشـره التيارات
الوجودية والعبثية.
أي
إن العقلانية تخلصنا من الكمّ الرهيب للامعقول الذي بتنا نرزح فيه، وروحانياتنا تخلّصهم
من الكم الرهيب للمادية التي باتوا يرزحون فيها. بمعنى أن تغليب العقل المصلحي في ثنائية
فائدة واستفادة هي الحاجة الضـرورية اليوم لكي ننقذ هذا التغوُّل للأخروي على الدنيوي
عندنا، والعكس بالنسبة إليهم. وسنقوم هنا، في هذه الدراسة، ببيان جملة من القضايا المهمة،
حيث ندرس مسألة واحدة، وهي: تنامي المخيالي، وتقلّص المخيالي، ونرجئُ النقاط الأخرى
لدراسات قادمة:
-
تنامي المخيالي، وتقلص الواقع .
-كيف
ننقذ الغرب، وكيف ينقذنا الغرب؛ الحاجة المتبادلة
-التناهي
التاريخي، وبداية التاريخ.
-الأخروي
ومقولات الانهيار في تفريخ الجهاديات المعاصرة
-الدنيوي
وانهيار مقولة الإنسان.
إن
التساؤل الذي يفرض نفسه علينا كمسلمين اليوم هو مراجعة منظومتنا الفقهية برمتها، التي
ما عاد لها نفس البريق الذي كان لها في أزمنة غابرة، لأنه فقه أنتجته سردية الفتوحات،
أو سردية الجهاد، الناتجة أساساً عن تقسيم العالم إلى دول للكفر، وأخرى للإسلام. وبالتالي،
نحتاج إلى مراجعة جذرية لمفهوم الكفر، الذي يجعل هناك مركزية في مقابل أخرى؛ هذا التفكير
الذي يحمل في داخله مخيالاً عميقاً عن الجرح النفسـي الذي خلفه السلف فينا؛ أننا لم
نكن في مستوى قدرتهم على غزو العالم. هذه المسألة التي تعرضت لهزة رهيبة، أن الفتوحات
كانت في زمنية الانتصار، حيث كان هناك تساوق بين الفكرة والفعل. أما اليوم، فهناك انفصال
رهيب بين المركزيتين؛ الفكر والواقع، أو لنقل حصل تخلّف أو تكلّس في الأفكار، بينما
الواقع أخذ في التوسّع في جهة أخراه، لذلك بقي مفهوم الغزو عند تلك الجماعات التاريخية،
أو المخيالية، ثابتاً، فيما الواقع تغيّر في جهة الإبداع الغربي. هناك نجد تكلّساً
عند المسلمين اليوم في الإضافة للعالم، بل نجد تلك الجماعات المخيالية تحارب تلك الإبداعية،
ولا تتصور حركة الإبداع في اتجاه المستقبل، بقدر ما تعلّقها على فترة زمنية محددة بذاتها،
وشخوصها. لذلك غالباً ما تسارع تلك الفرق المخيالية إلى توسيع دائرة الجهاد بتكفير
كل مخالفيها، وهو صراع يقع على أرض التفسير، حيث لكل فرقة حجتها التفسيرية التي تنطلق
منها.
وحجيّة هذه الجماعات المخيالية أن الخيرية تتصف بنقطتين
مرجعيتين فقط:
*
الخيرية تتعلق بزمنية مخصوصة بمرحلة معينة. وعليه يقابل فساد كل الأزمنة بعدها.
*
الخيرية تتعلق بأشخاص مخصوصين يشتملهم نظام العنعنة.
هذان
المسلكان لا يحددان طبيعة العالم الذي تنتمي إليه هذه الفرق، وإنما يحددان كذلك طبيعة
البناء المعرفي الدوغمائي الذي ترتكز عليه، وأنه نظام يعظّم من أمر الذاكرة، ويوسّع
من دائرتها. وبالتالي، تبني عالماً من التمجيد غير مقيد؛ بطولات وخرافات. وهنا فقط
يشتغل بناء الأسطوري، نتيجة توسيع دائرة المخيالي.
أي
أن بنية المتخيل تشتغل دوماً داخل نظام المحاكاة الذي يبحث عن الشبيه، لذلك تضغط هذه
الفرق المخيالية على إعادة تحيين التجربة في أقصاها الروحي والوجداني، وهي تجارب لا
تراعي شروط التغيير الزماني والمكاني، لذلك تكونت داخل هذا النوع من العقل التاريخي
بلاغات شديدة الحساسية عن تلك البنى اللامعقولة أساساً التي تحاول أن تبني مجدها على
أرض اللغة بعيدة عن الواقع. إنها فرق لا تؤمن بالواقع، لأنها متعلقة بفكرة يوتوبية،
فهي تشتغل وفق نظام الشبيه الذي يدمّر كل أشكال الاختلاف، ليؤسس لنظامه الخاص، ويقدّم
نفسه بديلاً عن العالم الحديث المتسّم بالواقعية، لذلك لا تملك هذه الجماعات المخيالية
علاقة واضحة بالعالم، بل إنها تزدريه وتمقته، وتعمل على تدميره بإعادة الحياة إلى عهدها
السابق.
وهنا، لا بد أن نطرح سؤالاً جوهرياً ربّما يكون صادماً:
من أين لهذه الجماعات المخيالية بتلك القوة على البقاء؟! إن هذه الجماعات لم تنقطع
في تاريخنا، فهي حركات تتنامى كلما توافر لها مناخ الجهل المقدس، فهي تفرّخ داخل هذه
الفضاءات، وتقدّم نفسها، بل تنتعش أكثر في الأجواء المشحونة بالفرقة، وداخل الوضعيات
الاجتماعية التي تعاني أزمة اقتصادية خانقة، لأنها تملك قدرة على تخدير الفرق. هذا
يعني أنها لم تأت من فراغ، وإنما تملك سيرورتها التاريخية لتوفر الآليات التالية:
-
توفر نظام معرفي تقليدي يراعي شروط الحياة البسيطة، والقائم على نظام الشبيه، مما يجعل
معنى الحياة يحافظ على الاستمرارية نفسها. وهو نظام يعزز مفاهيم الزهد والتقشف والحرمان،
أي أنه نظام يضيّق الخناق على الدنيا لصالح الآخرة.
-
توفر بيئات هشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. تلك البيئات التي تنتشر بهذا الجبرية
بشكل فضيع، ويتوسع فيها الجهل المقدس.
-
توافر سرديا لا تاريخية تحافظ على الشعور اليوتوبي بضـرورة الخلافة، كما يتصورها نظام
الشبيه. تلك السرديات أو المرويات التي تضخّم من عالم البطولة الجوفاء. لذلك تحاول
هذه الجماعات استعادة البطولة الوهمية عن طريق تحيين تلك التجربة بشكل تراجيدي في بعض
الأحيان. أو لنقل إن المخيال يُرسكل تلك الجماعات لصالح أيديولوجيته، أي أنه يحركهم
مثل الدمى، ليظل العالم القديم يحافظ على قيامته هنا في الأزمنة الحديثة، حيث يدمر
استكمال مشروع بناء مجتمع حديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق