جهاد عمر ريشاوي
الخلاصة
الأسرة
هي نواة المجتمع. فهي المؤسسة الاجتماعية التي وجدت عبر الـتاريخ، منذ أن خلق الله أوّل
البشرية. وهي المؤسسة التي وجدت في كل العصور، وكل المجتمعات. وبما أنها قديمة قدم
البشـر، فقد مرّت عليها تغيّرات كثيرة ومتنوعة، من حيث المصدر الاقتصادي، وتكوينها
الاجتماعي، وكيفيّة العلاقات بين أفرادها. هذه العلاقات التي تظهر من خلال التفاعل
الاجتماعي بين أفراد العائلة الواحدة، والتي تتبلور في ثلاثة أنواع من التحرّكات:
التحرّك نحو الآخرين بشكل إيجابي، التحرّك للابتعاد عن الآخرين، والذي يكون في بعض
الأحيان بشكل سلبي، والتحرّك ضد الآخرين بشكل سلبي. حيث يعدّ هذان الأخيران مصدراً
لحدوث الأزمات والعنف داخل المجتمع عامة، والأسرة خاصة.
يهدف
هذا البحث إلى التطرّق إلى العنف الأسري من منظورين: الأوّل منظور علم الاجتماع،
حيث إن الأسرة كوحدة اجتماعية هي من اهتمامات علم الاجتماع. وأيّ مسألة تتعلّق
بالأسرة يكون لعلماء الاجتماع دور في تفسيرها والتنظير لها. لذا، فهناك كثير من
النظريات الاجتماعية التي حاولت تنظير العنف الأسري من منظورها الخاص. فمثلاً:
النظرية البايولوجية تركّز على دور الجسد والقوة البدنية في ازدياد ظاهرة العنف
داخل الأسرة الواحدة. النظرية النفسية الاجتماعية، تتطرّق إلى الضغوطات الاجتماعية
التي يتعرّض لها الأفراد داخل المجتمع، ومدى تأثيرها على تشكيل العنف الأسري.
نظرية البناء الاجتماعي، والتي تبحث عن مدى الحالة الاجتماعية والاقتصادية للفرد،
ووجوده داخل طبقة اجتماعية معينة، وتأثيرها على كيفية تعامله مع أفراد أسرته،
ونظرته إليهم. نظرية التعلّم الاجتماعي، وتتطرّق إلى تعلّم الفرد ممّا يدور حوله
من سلوكيات وأفعال وأقوال. ويحاول هذا البحث أن يركّز على النظرية الأخيرة، لما
لها من دور في الواقع الاجتماعي في المجتمع الكوردي. وفيها يركّز على التنشئة
الاجتماعية للأفراد داخل الأسرة، من خلال التعلّم الاجتماعي للسلوكيات والأقوال
المتداولة بين الأسرة، ومدى تأثير المصطلحات والسلوكيات المستخدمة من قبل أفراد
العائلة في تنمية العنف لدى الصغار.
المنظور
الثاني لهذا البحث، هو الإطار القانوني للحدّ من ظاهرة العنف الأسري في الدستور
والقانون العراقي، وفي إقليم كوردستان.
إن الأسرة في المجتمعات الشرقية ينظر إليها على
أنها الكيان الاجتماعي الذي لا بدّ منه. لذا، فلا بدّ للمجتمع أن يصوغ قوانين
كفيلة بحمايتها والتقدّم بها نحو الأحسن. وبما أن علم الاجتماع ينظر في كيفيّة
تعامل الأفراد مع بعضهم البعض، ومدى تأثير هذا التفاعل الاجتماعي على المجتمع،
وبما أن القانون ينظّم سلوكيات الأفراد مع بعضهم البعض، بهدف تحقيق استقرار
المجتمع، لذا فإن العلمين يكونان بمثابة توأمين غير منفصلين عن بعضهما البعض.
فمن
هذا المنظور يحاول البحث أن يركّز على مدى صلاحية النصوص القانونية لمواجهة العنف
الأسري في التشريعات العراقية، وفي إقليم كوردستان، من وجهة علم الاجتماع.
المقدمة
إن
طبيعة الإنسان البشـرية تجعله معرّضاً للنقص وغير كامل المواصفات: سلوكياً،
نفسياً، واجتماعياً. لذا، فإن أغلب ما يلمسه الإنسان يبدو عليه النقصان وعدم
الكمال. ولأن الإنسان كائن اجتماعي، فإن العلاقات الإنسانية هي من أهمّ الوسائل
التي يحتاج إليها الأفراد، لكي يستطيعوا أن يعيشوا في أمان وسلام. وقد تنوّعت هذه
العلاقات، بمرور العصور البشرية، إلى أنواع مختلفة من العلاقات: أحد أهمّ أنواع
العلاقات، هي علاقات الأفراد التي تنشأ من خلال نشأة الأسرة. فالأسرة هي الوحدة
الاجتماعية التي وجدت من أوّل البشـرية حتى عصـرنا الحاضر، وستظلّ موجودة ما دامت
البشـرية. إلا أن هذه العلاقات قد مرّت عليها تغيّرات من عصر إلى عصر آخر.
إن
اختلاف الطبائع البشرية، وعدم تشابه السلوكيات بين البشـر، تجعل أفراد المجتمع
البشري في حالة تنافس وتصارع مستمر فيما بينهم. والأسرة - كوحدة اجتماعية مكوّنة
من أفراد مختلفي الطبائع والآمال والأهداف - لا تخلو من حالة التنافس والصراع بين
أفرادها. تاريخياً، ما حدث بين قابيل و هابيل، كأخوين من أسرة واحدة، يمكن أن
يعتبر كأولّ ظاهرة للعنف الأسري. وإذا أمعنّا النظر في فترة ما قبل الإسلام، فإن
أشدّ أشكال العنف الأسري كانت تستخدم من قبل الآباء ضد الإناث، حيث كان العنف
يمارس بكلا نوعيه: النفسي والجسدي. وهذا النوع من ممارسة العنف الأسري يصوّره
القرآن بأنه إذا كان المولود أنثى، كان الأب يظلّ وجهه مسوداً من الغضب والبؤس.
وهذه الحالة - والتي تعتبر عنفاً نفسياً - كانت تنعكس سلباً على الأمّ التي ولدت
الأنثى، أولاً، وعلى المولودة، ثانياً. وكان الأب أمام أسوأ اختيارين: أن يبقيها
ويمسكها على هون ومذلّة بين أقرانه، أو يمارس ضدها عنفاً جسدياً، بحيث يدفنها
حيّة. حتى جاء الإسلام وأنهى هذه الحالة المأساوية بقوله: { أَلَا سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ }([1]).
وفي
العقود الثلاثة الماضية، كانت ظاهرة العنف العائلي، والتي شملت سوء معاملة
الأطفال، إساءة معاملة المسنين، والتعامل العنفي من قبل الرجل ضد المرأة، موضع
اهتمام مشرّعي القانون، وذلك لسنّ قوانين كفيلة بالحدّ منها. لأن خطورة العنف
الأسري تكمن في أنه يرتبط بالعديد من المشاكل الاجتماعية الأخرى: تشرّد الأطفال،
الإدمان على الكحول، تعاطي المخدرات، والتسوّل. الأمر الذي يؤدي إلى ضرورة وجود التدّخلات القانونية السريعة
والمؤثرة، وذلك في سبيل الحفاظ على المجتمع. من هنا، فإن التشـريعات العراقية قد أولت
اهتماماً خاصاً بالجرائم التي تمسّ الأسرة، وتجعلها عرضة للانفكاك. كما وأن إقليم
كوردستان العراق قد سنّ قانوناً خاصاً في الآونة الأخيرة، وذلك للحفاظ على كيان
الأسرة بشكل خاص، والمجتمع الكوردي بشكل عام.
مشكلة
البحث
يتطرّق
هذا البحث إلى إحدى الظواهر القديمة حدثاً، والجديدة كثافةً، والتي تتواجد في كل
المجتمعات، بنسب متفاوتة، وهي ظاهرة العنف الأسري. الظاهرة التي أثارت اهتمام
الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية بشكل عام، وعلم الاجتماع بشكل خاص، كونها
ظاهرة تولد وتنمو داخل المجتمع، وتؤثّر على التماسك الاجتماعي في المجتمع. ويحاول
البحث الجمع بين نظرة علم الاجتماع للظاهرة، والسبل الكفيلة للحدّ منها في القانون،
مسلّطاً الضوء على القوانين العراقية، والقوانين في إقليم كوردستان العراق.
أهمية
البحث
تكمن
أهمية البحث في كونه يفسّر إحدى الظواهر التي تعاني منها المجتمعات بشكل عام،
والمجتمع الكوردي بشكل خاص. ونستطيع الاستدل على حساسية وخطورة الظاهرة، بالنظر
الى الإحصائيات الموجودة في المحاكم الكوردستانية، وبملاحظة تأسيس محكمة خاصة
بمناهضة العنف الأسري في الآونة الأخيرة، في الإقليم. وهذا البحث هو بمثابة محاولة
للتوفيق بين علم الاجتماع والقانون، من أجل فهم الظاهرة، ومحاولة الحدّ منها.
أهداف
البحث
يهدف
البحث إلى تسليط الضوء على إحدى النظريات الاجتماعية التي تهتم بظاهرة العنف
الأسري، وهي نظرية التعليم الاجتماعي، ودورها في تفشّي الظاهرة في المجتمع. كما
وأنه يهدف إلى عرض القوانين المسنونة في العراق، وإقليم كوردستان، للحدّ من
الظاهرة.
منهجية
البحث
يستخدم
البحث المنهج التحليلي الوصفي المقارن، حيث يحاول تحليل الظاهرة من وجهة نظر منظّري
علم الاجتماع، ومقارنة القوانين الموجودة في العراق، وإقليم كوردستان، للحدّ من
الظاهرة.
هيكلية
البحث
يتكون
البحث من مبحثين: المبحث الأول: يتطرّق إلى مفهوم ظاهرة العنف
الأسري في علم الاجتماع، حيث يبدأ المطلب الأول بالتعريف الاصطلاحي للعنف الأسري.
وفي المطلب الثاني يحاول البحث الإشارة إلى عدد من النظريات الاجتماعية المفسـّرة
للعنف الأسري. والمطلب الثالث يركّز على نظرية التعلّم الاجتماعي لتفسير ظاهرة
العنف الأسري. أما المبحث الثاني، فقد خصّص للإطار القانوني للحدّ من العنف
الأسري داخل المجتمع. ففي المطلب الأول تناول البحث أهمية الإشارة إلى العلاقة
المتبادلة بين علم الاجتماع والقانون. وعرض الأطر القانونية في التشريعات العراقية
للحدّ من العنف الأسري، في المطلب الثاني. أما المطلب الثالث، فقد خصّص لقانون
مناهضة العنف الأسري في إقليم كوردستان العراق. وفي الأخير ينتهي البحث بخاتمة،
وجملة من التوصيات.
المبحث
الأول: العنف الأسري من منظور علم
الاجتماع
الفصل
الأول:
التعريف
الاصطلاحي للعنف
الأسري (العنف المنزلي ــــ Domestic Violence)
لقد
تنوّعت المصطلحات اللغوية المعبّرة عن ظاهرة العنف الأسري، فمصطلحات: (العنف
المنزلي، العنف العائلي، القسوة المنزلية، العنف الزوجي، العنف ضد المرأة)، كلّها
- بشكل من الأشكال- تتبلور حول نفس الظاهرة المعروفة بالعنف الأسري([2]).
لفترة
من الزمن، سيطر تحديد تعريف سوء معاملة الوالدين - خاصة الآباء للأطفال- على مصطلح
العنف الأسري. وذلك من خلال التقارير الطبية التي كانت تقدّم من قبل الأطباء، حول
الكسور والجروح التي كان يصاب بها الأطفال نتيجة ضربهم أو تعذيبهم، خاصة في فترة
الحربين العالميتين: الأولى والثانية، حيث كان للأطفال حياة مأساوية بسبب سوء
الحالة الاقتصادية، وتراجع الاهتمام بالتعليم. إن اندلاع الحروب بشكل عنيف أدّى
إلى تردّي الحالة الاقتصادية، ممّا دفع الكبار لاستخدام الأطفال في أماكن العمل،
وفي بعض الأحيان إجبارهم على التسوّل، وحتى السرقة، للحصول على لقمة العيش. بجانب
ذلك، فإنّ عدم وجود المدارس الكافية، الكفيلة بتربية الأطفال وتعليمهم، أدّى إلى
تفاقم الوضع المأساوي للأطفال، واستغلالهم من قبل الكبار. يفهم من هذا أن الضوء
كان على كيفيّة معاملة الوالدين لأطفالهم، خاصة إرسالهم إلى خارج البيت للعمل
والتسوّل، وأخذ ما كانوا يكسبونه، وحرمان الطفل من الطعام والمأوى المناسب لفترة
زمنية كعقوبة لهم، إثر أبسط تصـرّف غير مقبول من قبل الوالدين.
في
الآونة الأخيرة أصبح العنف المستخدم من قبل الرجل ضد المرأة، هو النوع الشائع
سوسيولوجياً. وأصبح مصطلح (Domestic Violence) شائعاً بين الحركات النسوية في السبعينات،
حيث إن العنف الأسري، أو المنزلي، هو - في نظرهم- انعكاس لحالة ما سمّوه بـ(Gender
Inequalities)، أيْ: عدم المساواة بين الجنسين في السلطة
داخل العائلة. لذا، فمن التعاريف الواردة لهذا المصطلح: إنه "أيّ سلوك
تهديدي، عنفي، إساءة نفسية، جسدية، جنسية، مالية، أو عاطفية، تحدث بين أفراد
العائلة الواحدة، بغضّ النظر عن جنسهم"([3]).
ويمكن
أيضاً أن نحدّده بأنه المصطلح الذي يستعمل عادة للإشارة إلى حدوث أيّ نوع من العنف
في الإطار المنزلي والعائلي. وعندما يستخدم هذا المصطلح، فهو عادة يحتوي على
استخدام السلطة، والسيطرة، من أحد أفراد العائلة ضد الآخر أو الآخرين: من قبل
الزوج ضد الزوجة، أو بالعكس، من قبل الوالدين، أو أحدهما، ضدّ الأطفال، أو بالعكس
أيضاً. لذا فهو سلوك مؤذ من قبل شخص لشخص آخر، أو مجموعة لمجموعة أخرى. وقد يكون
هذا السلوك شفهياً معنوياً، يتضمّن أشكالاً بسيطة من الاعتداءات الكلامية، أو
التهديد، يؤدّي إلى الخوف، أو المعاناة، أو القلق النفسي. وقد يكون السلوك فعلياً
ماديّاً، كالضرب، أو الاغتصاب، أو الحرق، أو القتل، والذي يؤدّي إلى إحداث ألم
جسدي، أو - في أسوأ الأحوال - قد يؤدّي إلى الموت.
محليّاً،
عرّف (قانون مناهضة العنف الأسري في إقليم كوردستان) في المادة الأولى/ثالثاً:
العنف الأسري بأنه: "كلّ فعل أو قول، أو التهديد بهما، على أساس النوع
الاجتماعي، في إطار العلاقات الأسرية المبنيّة على أساس الزواج، والقرابة إلى
الدرجة الرابعة، ومن تمّ ضمّه إلى الأسرة قانوناً، من شأنه أن يلحق ضرراً من
الناحية الجسدية والجنسية والنفسية، وسلباً لحقوقه وحرياته"([4]).
حاول هذا التعريف أن يجمع بين الفعل والقول، والتهديد بهما، بحيث لا يترك المجال
لأيّ تهرّب من استعمال العنف من قبل المرتكب. ولكن ممّا يؤخذ على هذا التعريف -
والذي سنأتي إليه بشكل أكثر تفصيلاً في الفصل الثالث من المبحث الثاني- أنه حدّد
العنف الأسري بارتكابه على أساس النوع الاجتماعي، حيث إنّه عندما يأتي الحديث على
النوع الاجتماعي، فإن القصد به هو الفرق
بين الرجل والمرأة على أساس كونهما ذكراً وأنثى. فإذا حدّدنا العنف الإسري بالنوع
الاجتماعي، فماذا يكون تعريفنا للعنف الذي يحدث بين الذكور أنفسهم، كالأب وابنه مثلاً.
الفصل
الثاني: النظريات المفسّرة للعنف الأسري
حاول
كثير من المنظّرين تفسير ظاهرة العنف، وفهم الأشخاص المرتكبين لهذا النوع من
السلوك. حيث تنوّعت النظريات بمرور الزمن، وذلك نتيجة التغيّرات الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية على المجتمع البشري، ممّا أدى إلى دراسة هذه الظاهرة،
والكشف عن أفكار وآراء جديدة تحاول فهم وتنظير الظاهرة، كلّ من وجهة نظره،
ودراسته. نتطرّق في هذا الفصل إلى بعض من هذه النظريات:
النظرية
البايولوجية ( Biological Theory): هذه النظرية
مبنيّة على أساس قوّة الجسد للفرد، حيث يرون إنّه كلّما كان الجسد أقوى، كان الميل
لممارسة العنف أكثر. حيث يرون إنّ الرجل بطبيعته البايولوجية ميال إلى العنف أكثر
من المرأة، ويرجعون هذا الميل إلى ارتفاع مستوى هرمون التستوسترون (Testosterone) الذي تفرزه الخصية، ويرون إن هذا الارتفاع في مستوى الهرمون هو
المسؤول عن سلوك العنف. إلا أن الأبحاث الطبيّة الحديثة، التي أجريت على الرجال
المرتكبين للعنف، وأضدادهم، أثبتت عدم وجود علاقة واضحة بين ارتفاع مستوى
التستوسترون والسلوك العنيف.
نظرية
التحليل النفسي (Psychoanalytic
Theory ): ويرى أصحاب نظرية التحليل النفسي أن أسباب
مشكلة العنف تعود إلى اضطراب في شخصية الفرد، فهم يؤكّدون على أهمية الخبرات
والتجارب السابقة التي يمرّ بها الرجال والنساء، على حدّ سواء، في تشكيل شخصياتهم.
فخبرات الطفولة تنمّي لدى الفرد المعتدى عليه، معتقدات وسلوكيات خاطئة، تصبح مع
مرور الزمن جزءاً من شخصيّته، حتى في مرحلة البلوغ والرشد. هؤلاء يمارسون العنف:
إما كردّ فعل عمّا سبق من ذويهم سابقاً، أو يمارسون العنف كأنه سلوك طبيعي. ويعتقد
أصحاب هذه النظرية، أن خبرات الطفولة المبنيّة على العنف، لدى الرجال - كضحايا
للعنف، أو مشاهدين له - فإنها تؤثّر فيهم بشكل أقوى من النساء.. فهي تعلّمهم كيف
يحصلون على ما يريدون بالقوّة، وتشعرهم بالارتياح حيال أنفسهم، ممّا يولّد شخصيات
عدوانية، مضطربة العقل، استحواذيّة، ساديّة، مصابة بجنون العظمة.
نظرية
البناء الاجتماعي ( Social Structure Theory):
تفسير العنف الأسري على أساس الطبقة الاجتماعية والاقتصادية. حيث يصاب الفرد
بالإحباط نتيجة تدّني حالته الاجتماعية، أو الاقتصادية، ممّا يؤدّي بدوره إلى
تزايد المشاحنات وعدم السيطرة على الذات، حين يقع الفرد تحت الضغوطات والمشاق داخل
الأسرة. يرى أصحاب هذا الاتجاه، أن العنف يكمن داخل سياقه الاجتماعي. فهو نتاج
لفقدان الارتباط بالجماعات الاجتماعية التي تنظّم السلوك وتوجّهه. فمثلاً وقوع
الفرد في حالة انعزالية عن مجتمعه، قد تؤدّي به إلى أن يكون عنيف السلوك. أو هو
نتاج لفقدان المعايير والضبط الاجتماعي الصحيح، وعليه ينجرف الأفراد إلى العنف..
وبمعنى آخر، فإن العنف هو أحد إفرازات البناء الاجتماعي، يحدث عندما يفشل المجتمع
في تقديم ضوابط قوية على سلوك الأفراد، هذا إضافة إلى أنه نتاج للإحباطات التي
تحدثها اللامساواة البنائية بين الأغنياء والفقراء. فحرمان البعض ممّا يتمتّع به
الآخرون، يؤدّي إلى الإحساس بالنقص، والذي بدوره يؤدّي إلى استخدام العنف لكسب ما
لا يستطعيون نيله من احتياجات.
النظرية
الأنثوية ( Feminist Theory ): إن العنف الأسري هو نتاج طبيعي لنظرة
المجتمع نحو الأنثى، النظرة المعروفة بالتمييز على أساس النوع الاجتماعي. حيث
تؤكّد هذه النظرية على نظرة المجتمع إلى المرأة، وخاصة موقعها داخل الأسرة. فالرجل
يملك السلطة والقوة والمال والمراكز الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العليا، وهم
يتحكّمون في الاتجاهات والقيم والأفكار، ويوجّهون المجتمع حسب ما يرونه ويعتقدونه.
وبالتالي، فإن المرأة هي الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، ويحقّ للرجل أن يستخدم
هذه السلطة لفرض رأيه وفكره ومعتقداته، حتى لو أدى ذلك إلى استخدام العنف بشكل
عام، وتجاه المرأة على وجه الخصوص. إن التفسير الجذري لظاهرة العنف الأسري من
وجهة النظر الفيمنيستية، أنها انعكاس لمسألة عدم المساواة السلطوي بين الرجل
والمرأة في المجتمع. ويتبلور هذا النظام السلطوي في عنصرين: البناء الاجتماعي،
والذي يعطي للمرأة دوراً ثانوياً في المجتمع.. والاتجاه الأيديولوجي، والذي يضمن
القبول الجماعي لهذا النظام السلطوي للرجل([5]).
يتّضح
مما سبق أنه ليس هناك تفسير واحد لدراسة العنف بشكل عام، والعنف الأسري بشكل خاص.
فالبيئة الاجتماعية، والزمن الذي عاشه
المنظّر، لهما دور فعال في كيفيّة نظرة المنظّرين إلى أيّ ظاهرة اجتماعية. من هذا،
فإن تنوّع النظريات أمر طبيعي، خاصة عندما يأتي الحديث عن الظواهر الاجتماعية.
من
هنا، فقد برزت نظرية أخرى تسمّى نظرية التعلّم الاجتماعي لـ(البرت باندورا)، والتي
تؤكّد على تأثّر أفراد الأسرة بأداء العنف من بعضهم البعض، وتعلّمهم السلوك العنيف
نتيجة ذلك. ونظراً لأهميّة هذه النظرية، حاول البحث أن يتطرّق إليها بشكل خاص في
الفصل التالي.
الفصل
الثالث: نظرية التعلّم الاجتماعي(Social Learning Theory)
إن
التعلّم هو من أولى الصفات التي وصف بها الإنسان منذ أوّل الخليقة. حيث جاء في
القرآن: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[6].
فالتعلّم هو العملية التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يتعرّف على الأشياء، ويكون
قادراً على استخدامها وقت الحاجة، وتؤدّي بدورها إلى تغيير شبه دائم في السلوك([7]).
وعندما يأتي الحديث عن التعلّم، يكون هناك شخص ثانٍ في الذهن هو المعلّم. أيْ إن
عملية التعليم لا تأتي من فراغ، بل يوجد طرف آخر يقوم بإرسال المعلومة. وهذا الطرف
الآخر قد يكون إنساناً أو جهازاً أو حيواناً أو الطبيعة. فكما يرى العالم (أدوين
أر. جثري) (1886-1959) فإن التعلّم هو "القدرة على الاستجابة بصورة مختلفة في
موقف ما، بسبب استجابة سابقة للموقف"([8]).
من
هنا يمكن القول بأن التعلّم الإنساني، وأغلب سلوكيات الإنسان، تكون من خلال
ملاحظاتنا للناس،
وتقليدهم، والاقتداء بسلوكياتهم، ومن خلال التفاعل بيننا وبينهم. فالموقف، أو الإطار الاجتماعي الذي يعيشه
الفرد، يساعده على اكتساب أنماط سلوكية جديدة.
إن
تقارير الأبحاث توضّح أن الفرد يستطيع تعلّم الاستجابات الجديدة من خلال ملاحظة
سلوك الآخرين. وهؤلاء الآخرون، يعتبرون من الناحية التقنية نماذج ((models. واكتساب الاستجابات من خلال مثل هذه
الملاحظة، يسمّى الاقتداء بالنموذج ((modeling.
هذا هو ما يسمّيه (البرت باندورا) بنظرية التعلّم الاجتماعي. لذا، فإن القضية
الرئيسة للنظرية التي تختص في التعلّم بالملاحظة، هي تفسير اكتساب الاستجابات
الجديدة كنتيجة لملاحظة شخص آخر([9]).
إن
كيفية تعامل الكبار مع الصغار داخل الأسرة، سلوكاً وقولاً، بقصد أو بدون قصد،
وكيفيّة حوارهم في الجلسات العائلية، والجلسات الاجتماعية، مع المعارف والأقارب، ينعكس
- بصورة مباشرة، وغير مباشرة- على سلوكيّات وتصـرّفات أولادهم، ومن حولهم. فمثلاً
كيفيّة محادثتهم، وتعبيرهم عن الأشخاص والحوادث التي تحدث من حولهم.
عند
الحديث عن العنف، فإن هذه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ تؤكّد ﻋﻠﻰ أن اﻷﺷﺨﺎص ﻳﺘﻌﻠّﻤﻮن اﻟﻌﻨﻒ ﺑﻨﻔﺲ
اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﻠّﻤﻮن ﺑﻬﺎ أﻧﻤﺎط اﻟﺴﻠﻮكيات اﻷﺧﺮى، وإن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻌﻠّﻢ هـﺬﻩ ﺗﺘﻢ
داﺧﻞ اﻷﺳﺮة، ﻓﺒﻌﺾ الوالدين ﻳﺸﺠّﻌﻮن أﺑﻨﺎءهم ﻋﻠﻰ اﻟﺘصـرّف ﺑﻌﻨﻒ ﻣﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ
اﻟﻤﻮاﻗﻒ، وﻳﻄﺎﻟﺒﻮﻧﻬﻢ ﺑﺄﻻ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﺿﺤﺎﻳﺎ ﻟﻠﻌﻨﻒ ﻓﻲ ﻣﻮاﻗﻒ أﺧﺮى. واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻳﻨﻈﺮ
ﻟﻠﻌﻨﻒ وكأﻧﻪ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪون، ﺑﻞ إن ﺑﻌﺾ اﻵﺑﺎء ﻳﺸﺠّﻌﻮن
الأبناء على التصرّف بعنف عند اﻟﻀﺮورة([10]).
هذه النظرية تؤكّد على أن مرتكبي العنف لم يولدوا وبداخلهم دوافع العنف، بل إن
ارتكاب السلوك العنفي تولّد نتيجة الملاحظة. فعندما يلاحظ الشخص أن مرتكب العنف
يحصل على مراده عنوة، فإنه يتعلّم منه أن يمارس نفس السلوك، لكي يحصل هو بدوره على
مبتغاه أيضاً. هذه العملية تسمّى السلوك النموذجي، أو السلوك التقليدي([11]).
إن
التركيز الأساسي لهذه النظرية يقوم على أهميّة التفاعل، والمعايير والظروف
الاجتماعية المحيطة بالفرد في عملية التعلّم الاجتماعي، والتي يتمّ اكتسابها عن
طريق المحاكاة والملاحظة. فالاحتكاك المستمر بين أفراد العائلة الواحدة، تجعل
عملية التعلّم سريعة ومكثّفة في آن واحد. فمثلاً عندما يقوم أحد أفراد العائلة
بإلقاء الزبالة على الأرض، فإن من هم أصغر يقومون بإعادة هذا السلوك، وفي حالة
تكراره المستمر تستقر في اللاشعور كأمر طبيعي في ذهن المقلّد.
أمّا
الملاحظة في عملية التعلّم، فتشير إلى أن معظم السلوك الإنساني متعلّم باتّباع
نموذج أو مثال حي وواقعي، وليس من خلال عمليات كلاسيكية أو إجرائية. فبملاحظة
الآخرين تتطوّر فكرة عن كيفيّة تكوّن سلوك ما، وتساعد المعلومات كدليل أو موجّه
لتصرّفاتنا الخاصة. معظم سلوك البشـر متعلّم من خلال الملاحظة، سواء بالصدفة أو
بالقصد.. فالطفل الصغير يتعلّم الحديث باستماعه لكلام الآخرين، وتقليدهم، فلو أن
تعلّم اللغة كان معتمداً بالكامل على التطويع، أو الأشراط الكلاسيكي أو الإجرائي،
فمعنى ذلك أننا لن نحقّق هذا التعلّم.
وتؤكّد
هذه النظرية على وجود ثلاثة عوامل تؤثّر في عملية التعلّم: فالأوّل يكمن في خصائص
القدوة والمقتدى به. فالتقارب في العمر، والتشابه في الجنس، والمركز الاجتماعي،
يساعد الفرد على قابلية التعلّم. والثاني، هي صفات الملاحظ. فالعمر مثلاً له دور
بارز في وقوع الشخص المقلِّد في تكرار، أو عدم تكرار، ما يفعله أو يقوله الشخص
المقلَّد. فكلما كان عمر المقلِّد أصغر، كان أكثر عرضة للتقليد. أما الأخير، فهو
آثار المكافآت المتربطة بالسلوك. فالمتعلّم إذا أحسّ بأن تعلّمه لسلوك ما، يؤدّي
به إلى نيل مكافأة، أو الحصول على مصلحة ما، فإنّه يكون حريصاً أو يستمر في
التعلّم، كالطالب الذي يكافئه معلمه عندما يتعلّم الدرس.
من
هنا، فإن للوالدين دوراً هاماً في كيفية توجيه سلوك أولادهم تجاه بعضهم البعض.
فاستخدام العنف من قبل الوالدين ضدّ بعضهم البعض، أو ضدّ أطفالهم، ينعكس على
أولادهم، ويعتادون على السلوك العنفوي، نتيجة التعلّم الاجتماعي. لذا، فعلى
الوالدين أخذ الحيطة والحذر ممّا يبدر منهم من ألفاظ وسلوكيات تجاه بعضهم البعض.
ومن جهة أخرى، فإن مجالس الضيوف في البيت هي قناة أخرى يمكن أن تلّقن الأطفال
سلوكيات وألفاظ عنفوية، دون الإحساس من قبل الكبار بنتائج وآثار تصـرّفاتهم
وأقوالهم على الصغار. وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً هنا هو خطورة تعلّم العنف بعد
انحلال العلاقة الزوجية بين الوالدين، ونقل آثار الصراعات العنيفة بين الوالدين
المنفصلين على أولادهما، خاصة فيما يتعلّق بالمسائل القانونية؛ كالنفقة، والمشاهدة،
والحضانة.
ومن
الجدير بالذكر أن القنوات التلفزيونية، من أفلام ومسلسلات، وحتى إعلانات تجارية،
لها دورها الفعّال في نقل عملية العنف إلى الصغار، وحتى الكبار. فمثلاً عندما يرى
الصغير أن الشخص في الإعلان التجاري يرمي هاتفه النقال على الأرض بسبب انطفائه،
فإن الصغير يقلّده في حالة انطفاء الجهاز الألكتروني الذي هو في متناول يده([12]).
المبحث
الثاني/ الأطر القانونية للحدّ من ظاهرة العنف الأسري
الفصل
الأول: العلاقة المتبادلة بين علم الاجتماع والقانون
إن
القانون يتفاعل مع علم الاجتماع في كون القانون ظاهرة اجتماعية، ودراسة الظواهر
الاجتماعية هي من الاهتمامات الرئيسية لعلم الاجتماع. كما وأن كلاهما يبحثان في
قضايا متماثلة، كالعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، القيم، الالتزامات والأعراف
الاجتماعية، والتوقّعات الناتجة من مواقع وأدوار اجتماعية معيّنة، وطبيعة الربط
الموجود بين الفرد ومجتمعه. ينظر علم الاجتماع إلى القانون كشكل من أشكال الضبط
الاجتماعي، فالضبط الاجتماعي هو أداة لتنظيم سلوكيات الأفراد والجماعات داخل
المجتمع، بهدف عدم الإخلال بآلية استقرار وديمومة المجتمع.
عند المراجعة التاريخية لبعض النظريات
الاجتماعية، منذ أواسط القرن التاسع عشـر إلى أواخر القرن العشـرين، نلاحظ أن أغلب
المشاكل التي يتعامل معها القانون هي الموضوع الرئيسي في دراسات علم الاجتماع،
بشكل من الأشكال. فالجريمة مثلاً - وهي أحد الظواهر التي يحاول القانون أن يحدّ
منها في المجتمع - هي في نفس الوقت ظاهرة يهتمّ بها علم الاجتماع لبيان أسبابها،
وسبل الحدّ منها([13]).
يؤكّد
العلماء أن القانون يجب أن يدرس كظاهرة اجتماعية، عند دراستهم وتحليلهم للمشاكل
الاجتماعية داخل المجتمع. حيث يرى العالم الروسي (S. Muromtsev) أن الوصول إلى سنّ قوانين مؤثّرة وناجحة في الحدّ من المشاكل،
يكون فقط عندما يرتبط ذلك بدراسات علم الاجتماع([14]).
فكلاهما علمان اجتماعيان يهتمان بدراسة الفرد والمجتمع، ويهتمّان بدراسة الإنسان
في الوسط الاجتماعي. كما وأن كلا العلمين يعتمدان على دراسة الظاهرة الاجتماعية في
وسطها الاجتماعي، كما أنهما يلتزمان باستخدام المنهج العلمي الحديث في تتبّع
وتحليل الظواهر القانونية الاجتماعية.
إن
هذين العلمين يلتقيان في فرع مشترك يسمّى علم الاجتماع القانوني، حيث أصبحت
الدراسات السوسيو- قانونية ملّحة جداً، نظرا لتعقّد الظواهر الاجتماعية. ومن
المواضيع التي يهتمّ بها هذان العلمان: الأسرة، الجماعات الاجتماعية، المرأة،
النظام الاجتماعي، الجريمة. وبما أن ظاهرة العنف الأسري هي - من ناحية - من
اهتمامات علم الاجتماع، للوقوف على أسبابها، ونتائجها، والمؤثرات الداخلية
والخارجية عليها، والنظريات التي تفسّرها. فإنها - من ناحية أخرى - هي من اهتمامات
القانون، وذلك للحدّ من وقوعها، وعقاب مرتكبيها، بهدف ردع الآخرين، وتعويض
الضحايا. لذا، فإن المشـرّع القانوني عندما يقوم بصياغة نصوص قانونية، يجب أن تكون
أولى اهتماماته: دراسة الظاهرة، واستشارة المختصين في علم الاجتماع.
الفصل
الثاني: التشريعات العراقية للحدّ من ظاهرة العنف الأسري
إن
مرور العراق بفترات سياسية عصيبة، كالاحتلال، والحروب، وتسلّط السلطات القمعية،
ووجود القوميات والمذاهب المختلفة، المتنازعة والمتناحرة فيما بينها، أدّت إلى أن
يعيش الفرد العراقي في حالة نفسية متوترة وقلقة على حياته ومستقبله، والتي تؤثّر
بدورها على كيفية تعامله مع الآخرين عموماً، وأفراد عائلته خصوصاً. الأمر الذي دفع
أهل القانون إلى أن يحاولوا سنّ قوانين قادرة على الضبط الاجتماعي للأفراد.
والأسرة، كوحدة أساسية في الحياة الاجتماعية، استرعت - ولا شك - انتباه واهتمام
المشرّعين.
الدستور
العراقي الدائم:
فالدستور
العراقي الدائم لعام 2005 أشار في المادة (29) الفقرة (أولاً/أ) أن (الأسرة أساس
المجتمع، وعلى الدولة أن تحافظ عليها). فعندما يجعل الدستور - والذي هو أمّ
التشريعات - من الأسرة أساساً للمجتمع، فهذا يعني إن أيّ خلل في هذا الأساس يكون
خللاً في البناء كلّه. لذا فالدولة، كحارس على المجتمع، عليها أن تركّز اهتمامها
على الحفاظ على هذا الأساس. وجاء في نفس المادة الفقرة (ثالثاً): أنه (يحظر
الاستغلال الاقتصادي للأطفال، بصوره كافّة، وتتّخذ الدولة الإجراءات الكفيلة
بحمايتهم). فبسبب عدم قدرة الطفل على الدفاع عن نفسه، أو رفض ما لا يريده، يمكن أن
يكون أكثر عرضة للاستغلال والعنف القسري. لذا، فقد أكّد الدستور على حظر أيّ نوع
من أشكال الاستغلال الاقتصادي للطفل، كدفعه للعمل، أو التسوّل، أو أيّ فعل يؤدّي
به إلى فقدان حالة الطفولة التي من حقّه أن يتمتع بها. كما جاء في نفس المادة
المذكورة أعلاه، في الفقرة (رابعاً)، أنه: (تمنع كلّ أشكال العنف والتعسّف في
الأسرة والمدرسة والمجتمع). حيث ذكر الدستور بالاسم مسألة العنف في الأسرة، والتي
تدلّ على أن الدستور أعطى اهتماماً خاصاً بالأسرة، خصوصاً في ذكره المنع البات لكلّ
أشكال العنف داخل الأسرة.
قانون
العقوبات العراقي
خصّص
قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 (10) مواد عقابية قانونية في فصلٍ خاص
تحت عنوان: الجرائم التي تمسّ الأسرة، وذلك في الفصل الرابع من الباب الثامن، تحت
عنوان: الجرائم الاجتماعية. يشتمل الفصل المواد (376 ــ 385). جاءت المادة (376)
بذكر عقوبة التوصّل إلى عقد زواج باطل، شرعاً أو قانوناً، وذلك من قبل الشخص صاحب
العقد، وكلّ من أجراه وهو عالم ببطلانه. حيث نصّ عليها بعقوبة السجن مدة لا تزيد
على سبع سنوات، أو بالحبس. وشدّد العقوبة إلى السجن مدّة لا تزيد على عشر سنوات،
إذا كان البطلان بحقّ الزوج، وأخفى على زوجته بطلان العقد، وعاشرها معاشرة زوجية
بناءً على ذلك العقد الباطل. إن وجود نصّ كهذا يدلّ على أن المـشرّع أعطى الحماية
للأسرة في أولى مراحلها، وهي مرحلة عقد الزواج. أي إنّها بمثابة قوانين احترازية
تحاول منع الاحتيال والإغواء داخل الأسرة في بداية تكوينها، حيث أكّدت الدراسات في
علم الاجتماع العائلي، أن بناء الأسرة على مسار صحيح له دور فعال في ديمومة الأسرة،
وحفظها من التفكك([15]).
إن عقد الزواج له أهمية خاصة في أغلب المجتمعات،
خصوصاً في المجتمع الإسلامي. لذا، يجب أن يكون عقد الزواج مبنيّاً على أسس صحيحة
شرعاً وقانوناً، ومن حقّ الطرفين أن يكونا على علم بصحة ذلك العقد.
وجاءت
حماية الأسرة من الزنا، في الحياة الزوجية، في المادة (377). حيث خصّص عقوبة الحبس
لكل من الزوج والزوجة إذا زنيا في الحياة الزوجية، ونفس العقوبة للشخص الذي زنا
بالزوجة، مع علمه بقيام الزوجية. وممّا يؤخذ على هذه المادة أنه أعطى حماية
للزاني، بحيث يستطيع - بشكل من الأشكال - أن يتمسّك بأنه لم يكن على علم بقيام
الزوجية، ممّا يمكن أن يؤدي إلى خلاصه من العقوبة. ويؤخذ عليها أيضاً، أنه لم يذكر
أية عقوبة للمرأة الزانية، التي زنا بها الزوج.
أمّا
المادة (378)، فتتعلّق بتحريك الدعوى الجزائية. فقد حدّد تحريك وإجراءات الدعوى
بناءً على شكوى أحد الزوجين، وليس لأحد آخر التقدّم بها. يلاحظ أن حصر إقامة
الدعوى بأحد الزوجين يرجع إلى حساسية العلاقة الأسرية، حيث يحاول المـشرّع منع
أشخاص آخرين من التدخّل في الحياة الشخصية للأسرة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى،
فإنّ زنا الزوجية قد مورس داخل بيت الزوجية، لذا فإنّ الزوجان هما أدرى بما يحدث
داخل منزلهما الزوجي. يتبيّن من النصّ أنه لا يحقّ لأولاد الزوجين تحريك دعوى زنا
الزوجية، في حالة معرفتهم بحدوثه. وهذا يؤدّي إلى وقوع الأولاد في حالة نفسية
واجتماعية عصيبة، بسبب ما شاهدوا، وعدم قدرتهم على اتخاذ الإجراء القانوني اللازم.
وخصّصت
المادة (379) لمسألة سقوط الدعوى، والتنازل عنها. وممّا يلفت النظر في هذه المادة،
أنه قد اعتبر تنازل الزوج لزوجته الزانية، تنازلاً أيضاً عن من زنا بها، ولم يذكر
العكس، أيْ: لم يذكر مصير المرأة التي زنا بها الزوج، في حالة تنازل الزوجة لزوجها
في الدعوى. وهذا يدخل في موضوع التفاوت الجنسـي في التشـريعات القانونية، الأمر
الذي يجب على المشرّعين أخذ الحيطة فيه، لأن الدستور العراقي أكّد سواسية الجنسين
أمام القانون([16]).
أمّا
المادة الأخيرة (380)، فقد خصّصت لمسألة وقوع الزنا بناءً على تحريض الزوج لزوجته
بالزنا، فيعاقب الزوج بالحبس. وقد وقع المـشرّع في نفس الحالة السابقة، بحيث لم
يحدّد أيّ عقوبة للزوجة التي تحرّض زوجها على الزنا، فيقع الزنا بناءً على هذا
التحريض.
قانون
الأحوال الشخصية العراقي
تبنّى
قانون الأحوال الشخصية في العراق الاهتمام الخاص بمسألة الأسرة، وذلك من أولّ
مراحل تكوينها، وهي مرحلة عقد الزواج، إلى الانتهاء بها بالانحلال أو الوفاة.
وحدّد مواد قانونية تنظّم مسألة الحياة الزوجية، والعلاقة القانونية لأفراد الأسرة
بعضهم ببعض. فقد حدّد قانون المرافعات المدنية في العراق وظائف واختصاصات محاكم
الأحوال الشخصية في المادة (300) بأمور الزواج، وما يتعلّق به: الولاية، والوصاية،
والقيمومة، التولية على الوقف الذرّي، الحجر، ورفعه، وإثبات الرشد، إثبات الوفاة،
وتحرير التركات([17]).
إذا أمعنّا النظر في بعض مواده، نرى بأن المشرّع حاول الحفاظ على الأسرة، ووقايتها
من الوقوع في ظاهرة العنف الأسري. وتظهر هذه الحماية أكثر في التعديل الذي قام به
المـشرّع الكوردستاني في إقليم كوردستان العراق بتعديل بعض المواد.
لقد
جاء في النصّ القديم، قبل التعديل الكوردستاني، في تعريف الزواج، في المادة
الثالثة/أولاً: أن (الزواج عقد بين رجل وامرأة تحلّ له شرعاً، غايته إنشاء رابطة
الحياة المشتركة والنسل). وجاء التعديل ليصيغ تعريف الزواج كالآتي: (الزواج عقد
تراضٍ بين رجل وامرأة، يحلّ به كلّ منهما للآخر شرعاً، غايته تكوين الأسرة على أسس
المودة والرحمة). ممّا يلفت النظر
أن التعديل قد ربط مسألة عقد الزواج بالتراضي، وذلك لمنع الإكراه في الزواج، سواء
بالنسبة للرجل أو المرأة. وعدّل صيغة: (تحلّ له شرعاً)، إلى صيغة: (يحلّ به كلّ
منهما للآخر شرعاً)، حيث إن الصيغة الأخيرة تحدّ بشكل من الأشكال من إحساس الرجل
بالاستعلاء، ومن إحساس المرأة بالضعف نفسياً واجتماعياً. وجاء التعديل أيضاً إلى
مسألة الغاية من الزواج، حيث بالرغم من تأكيد النص القديم على أن الغاية من الزواج
هو إنشاء رابطة الحياة المشتركة، إلا أنه ذكر أن أحد غايات الزواج هي النسل. هذا
يجعل من الأسر التي لم تنجب - بسبب من الأسباب - عرضة للانفكاك، وذلك بعدم الحصول
على الغايّة المرجوّة من الزواج، وهي: النسل. أمّا التعديل، فقد ركّز على أن
الغاية من الزواج هو تكوين الأسرة على أسس المودة والرحمة. أيْ إن الأسرة المكوّنة
من الزوج والزوجة فقط، قد حصلا على غاية الزواج، وإن لم ينجبا.
نصّت
الفقرة الثالثة من نفس المادة على أن (الوعد بالزواج، وقراءة الفاتحة، والخطبة، لا
تعتبر عقداً). جاء هذا النص للحدّ من استخدام العنف النفسـي، أو القـسر الاجتماعي،
ضد المرأة، في حالة عدم الدخول إلى الحياة الزوجية، قبل انعقاد العقد. لأنه لا
إلزام ما لم يوجد عقد، ولو ألزم الطرفان، أو أحدهما، بالزواج، فهذا يعني الإكراه
في الزواج، والذي يفقد عنصراً من عناصر العقد، والذي هو الرضا([18]).
كما
أن التعديل قد جعل شروط الزواج بزوجة ثانية أكثر صرامة، في نفس المادة السابقة،
الفقرة الرابعة، بالرغم من أن هذا التعديل يطبّق في محاكم إقليم كوردستان، فقط،
حيث يستطيع طالب الزواج بالزوجة الثانية أن يتهرّب من تبعاتها باللجوء إلى محاكم
الحكومة الفيدرالية في كركوك وخانقين مثلاً. وبالرغم من المآخذ التي تؤخذ على هذا
التعديل في الزواج بزوجة ثانية، إلا أنه - بشكل من الأشكال - هو لمنع الضغط النفسي
والاجتماعي، الذي كان يمارس من قبل الأزواج على زوجاتهم، في حالة نيّتهم أو قيامهم
بالزواج الثاني.
وجاء
في المادة (26): أنه (ليس للزوج أن يسكن مع زوجته ضرّتها في دار واحدة، بغير
رضاها، وليس له إسكان أحد من أقاربه معها إلا برضاها، سوى ولده الصغير غير المميّز).
فقد وضع الشرع والقانون تهيئة بيت الزوجية المستقل على عاتق الزوج. بحيث إذا لم
يقم الزوج بتهيئته، فللزوجة الحقّ بإقامة دعوى تهيئة بيت الزوجية، وفي حالة عدم
قيام الزوج بتنفيذ قرار الدعوى، يعتبر الزوج ناشزاً، وللزوجة طلب التفريق،
والتعويض، والمهر المؤجل. ولكن في بعض الأحيان يقوم الزوج بالتحايل على القانون،
فيقوم بتهيئة بيت الزوجية، ولكن يقوم بإسكان أحد أقاربه، أو زوجته الثانية، مع
الزوجة، وهذا ما جعل المـشرّع أن يعمد إلى سدّ هذه الثغرة، وعدم إعطاء المجال
للأفراد باستغلال القانون، والمماطلة في تنفيذه، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى،
فإن حساسية الحياة الأسرية، وسريتها، تتطلب أن تكون دار الزوجية مخصصة للزوج
والزوجة وأطفالهما، فإقامة الآخرين معهم بشكل دائم، تكون عبئاً عليهم عموماً، وعلى
الزوجة خصوصاً. لذا، فإن وجود مادة كهذه تعتبر بمثابة حماية للزوجة، بشكل من
الأشكال، من وقوعها تحت الضغط النفسي والاجتماعي.
الفصل
الثالث
قانون
مناهضة العنف الأسري في إقليم كوردستان
إن حالات جرائم العنف الأسري قد تعاملت معها محاكم
التحقيق والجنح قبل وضع قانون مناهضة العنف الأسري في إقليم كوردستان في عام 2011.
لذا فليست لدينا إحصائيات تحدّد نسبة الدعاوى المقامة على أساس العنف الأسري قبل
ذلك التاريخ. إلا أن المؤشرات أوضحت بأن حالات العنف الأسري قد تزايدت، خصوصاً بعد
عام 2003. لذا فإن منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات
النسوية، في إقليم كوردستان، دعت إلى ضرورة وجود قانون خاص يحدّ من ظاهر العنف
الأسري. لذا أقرّ البرلمان في 21/6/2011 القانون المذكور، وأصدر مجلس القضاء في
إقليم كوردستان قراراً بتشكيل محاكم تحقيق مختصّة بالعنف الأسري في إقليم كوردستان([22]).
إن
إصدار قانون مناهضة العنف الأسري يعتبر من الخطوات الهامة التي قام بها برلمان
إقليم كوردستان، الأمر الذي ما زالت قيد البحث في أروقة مؤسسات الحكومة العراقية
الفيدرالية حتى الآن([23]).
إلا أن القانون أثار ردود فعل في المجتمع الكوردي. فأهل القانون، ورجال الدين،
وبعض المنظمات المدنية، كانت لهم انتقادات على كيفية صياغة القانون بشكل عام، من
حيث عدم المشورة مع ذوي الاختصاص القانوني والشـرعي، من قبل أعضاء البرلمان. وكانت
لمختصّي علم الاجتماع أيضاً انتقادات على صياغة القانون، حيث كانوا يؤكّدون على
ضرورة إجراء بحوث اجتماعية أكاديمية لأيّة ظاهرة، قبل إصدار أيّ قانون أو قرار
إزاءها، وذلك من أجل معرفة النواقص والمشكلات التي ستعترض القانون، وتعيق تطبيقه،
في حالة إصداره وإجرائه.
وبما
أنه لا يسعنا في هذا البحث التطرّق إلى هذه الانتقادات، إلا أن البحث يحاول في هذا
الفصل الوقوف على مصطلح (النوع الاجتماعي)، والذي جاء في تعريف العنف الأسري، في
المادة الأولى/ثالثاً في القانون، حيث حدّد العنف الأسري بالعنف الذي يحدث على
أساس النوع الاجتماعي في إطار العلاقات الأسرية.
إن
مصطلح (النوع الاجتماعي) هو مصطلح حديث الظهور في علم الاجتماع، فقد ظهر في
السبعينات في نظريات علماء الاجتماع([24]).
ويشير المصطلح إلى التفاوت الاجتماعي الذي يميّز الذكر من الأنثى في المجتمع، بحيث
يعطي لكل منها دوره الخاص في الحياة الاجتماعية على أساس جنسه: كونه ذكراً أو
أنثى. فعندما يولد الطفل فإن بيئته الاجتماعية تميّز نوعه الاجتماعي منذ أول مراحل
حياته، بل إن السؤال عن جنسه يكون السؤال الثاني، إن لم يكن الأوّل، في المحيط
الذي يولد فيه([25]).
وعندما يكبر، فإن الطفل يتعلّم التمييز عن نوعه الاجتماعي من خلال عمليات اجتماعية
تدور حوله. فمثلاً في أغلب المجتمعات هناك اختلاف كبير في الهدايا والألعاب التي
يختارها الكبار للأطفال، فالأنثى عادة تنجذب نحو الدمى، والهدايا ذات الورود، أما
الذكر فينجذب نحو السيارات والألعاب ذات المحركات([26]).
لذا، فإن مفهوم النوع الاجتماعي يشير إلى الأدوار الاجتماعية للنساء والرجال،
والتي تتحدّد وفقاً لثقافة مجتمع ما، على إنها الأدوار والمسؤوليات والسلوكيات
والقيم المناسبة لكل من الرجل والمرأة في ذلك المجتمع([27]).
من
هنا، فإن أيّ استخدام لمصطلح النوع الاجتماعي، يرتبط في الأذهان بصورة الرجل
والمرأة. فاستخدام المشرّع لهذا المصطلح في تعريف ظاهرة العنف الأسري، وجهت إليه
انتقادات اجتماعية وقانونية. فمتخصّصو علم الاجتماع ينتقدون استخدامه بأنه جعل
العلاقات الأسرية محدّدة بالنوع الاجتماعي، فيما نرى أن الأسرة متكّونة من الذكور
والإناث معاً. أيْ: بما أن هناك علاقات بين الذكور والإناث، ففي نفس الوقت هناك
علاقات اجتماعية بين الذكور داخل الأسرة، والإناث أنفسهن داخل الأسرة الواحدة. ولا
يمكن القول بأن الصراع، أو العنف الأسري، يحدث بين الذكر والأنثى فقط، بل إن ما
يحدث بين الذكور أنفسهم، أو الإناث فيما بينهن، قد يكون أشدّ عنفاً، خاصة بين
الذكور، مقارنة فيما يحدث بين الذكر والأنثى داخل الأسرة.
أمّا
من الناحية القانونية، فالانتقاد الموجّه هو أن صياغة أيّ قانون، خصوصاً القوانين
العقابية، يجب أن يكون بعيداً عن التفاوت الجنسي([28]).
فالتعريف عرّف السلوك العنيف الذي يمارس من قبل الذكر ضد الأنثى، أو بالعكس، عنفاً
أسرياً، وذلك بتحديده السلوك على أساس النوع الاجتماعي (أيْ: الجنس). وفي ذلك
مخالفة للدستور العراقي الدائم، الذي منع التمييز في العقوبة على أساس الجنس، حيث
يؤكد الدستور في المادة (14): على أن (العراقيون متساوون أمام القانون، دون تمييزٍ
بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد
أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي)([29]).
فالأخذ
بالنوع الاجتماعي في حوادث العنف الأسري يجعل المحاكم المتخصصة في حالة حرجة.
فارتكاب السلوك العنيف من قبل الأب ضد ابنته، أو الزوج ضد زوجته، أو بالعكس، يعدّ
سلوكاً عنفوياً عائلياً، حسب التعريف. ولكن السلوك العنفوي الذي يمارسه الأب ضد
ابنه، أو الأمّ ضد ابنتها، أو بالعكس، لا يمكن أن يدخل في إطار العنف الأسري، وذلك
حسب التعريف. وما هو معروف أن القاضي ملتزم بنصوص قانونية لا يستطيع الخروج عنها،
إلا في حالات نادرة جداً، كالسلطة التقديرية للقاضي الواقعة في نطاقات ضيّقة
مثلاً. لذا، فعلى المـشرّع الكوردستاني أن يعدّل هذا التعريف بصورة يكون فيها
الأفراد سواسية أمام القانون، دون تمييز بينهم بسبب الجنس، أو أيّ سبب آخر.
وحينئذٍ يتطابق القانون والدستور.
الخاتمة
والتوصيات
إن
ظاهرة العنف الأسري لها اهتمامها الخاص في علم الاجتماع والقانون. ويمكن القول بأن
أهمية دراسة ظاهرة العنف الأسري تكمن في مجموعة نقاط، نلّخص منها ما يلي:
العنف
الأسري لا يمكن تجاهله، وذلك لأن الخلافات بين أفراد الأسرة الواحدة لا يمكن
تجنّبها، بينما يمكن للأشخاص تجنّب خلافاتهم التي تحدث بين الأصدقاء والزملاء في
الشارع، أو في مكان العمل. حيث إن التفاعل وكثرة المواجهة بين أفراد الأسرة
الواحدة، أكثر من المواجهة بين الأصدقاء وزملاء العمل. لذا فالعنف الأسري يمتاز
بأنه من الصعب تجاوزه، أو المرور به مرّ الكرام، من قبل الضحية، بينما قد يكون
بالإمكان التخلّص منه، إذا كان العنف خارج الإطار العائلي.
وتمتاز
الخلافات الأسرية بالكتمان والسرّية، بحيث يحاول الأطراف أن يجتنبوا تفشّيها إلى
الآخرين، ممّا يؤدّي إلى تفاقم الوضع في بعض الأحيان. وفي بعض الأحيان يتعلّق
الكتمان بمسألة عدم تصنيف السلوك العنيف بأنه (عنف) أصلاً. فمثلاً بعض العائلات تمارس
العنف تحت ما يسمّى بالإجراءات التأديبية، اعتقاداً بأنها إجراءات ضرورية تربوية،
حيث ينعكس ذلك على الطرف الآخر بتعلّم سلوكيات عنفية، غير واعين بأنها نتيجة تلك
الإجراءات. بينما خلافات العمل، أو الصداقة، فغالباً ما يتداخل فيها ربّ العمل، أو
الصديق الثالث.
أفراد
الأسرة الواحدة غالباً ما يكونون متفاوتين في الأعمار، بحيث يتسلّط الكبير على
الصغير، بينما تكون الأعمار متساوية، أو قريبة من بعضها البعض، في حالة الصداقة أو
زملاء العمل. ومن ناحية أخرى، تمتاز الأسرة بوجود فوارق عمرية بين أفرادها، والتي
تسمّى اجتماعياً (الفاصل الثقافي/ Culture gap). حيث يؤدّي هذا الفاصل، أو الفارق الاجتماعي، إلى خلاف في الأفكار والآمال والتطلّعات،
وخلاف فيما يراه المقابل مقبولاً أو غير مقبول، تجاه ما يبدر من أحد الأفراد من
سلوكيات وألفاظ.
إن
وجود الفرد في الأسرة غالباً ما يكون غير طوعي، وخارج إرادته، لذا فالعنف فيها
يكون أخطر وأشدّ، في معظم الحالات.. بينما وجود الفرد في الجماعات يكون اختيارياً،
حيث يكون بوسعه تجنّب العنف الممارس فيها. وأخطر ما يكمن في العنف الأسري هو سرّيته،
خاصة عندما يخشى الشخص المعتدى عليه من تفشّيه إلى العلن، خوفاً من إلحاق العار
به، أو خوفاً على مصير من هم بين يديه، كأطفاله مثلاً.
إن
دراسة الأسرة، كوحدة اجتماعية، هي من المواضيع التي يصعب على الباحث الاجتماعي
دراستها، وذلك بسبب حساسيتها، ورفض أعضائها تزويد المعلومات للباحثين، اعتقاداً
بأن ما يدور داخل الحياة الأسرية هي مسائل شخصية وسرّية، ليس لأحد آخر التدخّل
فيها، أو العلم بها.
التوصيات
·
توعية
منتسبي مراكز الشرطة، والمحاكم، المعنيّة بمكافحة العنف الأسري، حول كيفيّة
تعاملهم مع الواقعة، ومع الأطراف المعنيّة، بحيث لا يجعلون القضية أكثر تعقيداً.
· تفعيل دور لجنة المصالحة، المذكورة في قانون
مناهضة العنف الأسري، وذلك بإعطائهم صلاحيات أوسع، وتهيئة مكان خاص ومناسب لكي
يعطوا الوقت المناسب للتحدّث وإرشاد أطراف النزاع.
· التنسيق بين محكمة مناهضة العنف الأسري،
ومحكمة الأحوال الشخصية، وذلك عن طريق الباحثين الاجتماعيين والنفسيين، لوقاية
الأسرة من التفكّك.
· يجب على القنوات التلفزيونية الإحساس
بالمسؤولية تجاه جمهورها، المتمثّل - في غالب الأحيان- بالأسر، بحيث يكونوا حذرين
في كيفية اختيارهم للأفلام، خاصة المسلسلات، وكيفية اختيارهم للإعلانات التجارية.
· إنشاء مراكز توعية وإرشاد، لتوعية الأفراد في
كيفيّة التعامل الأسري مع بعضهم البعض، وفتح دورات عملية وتدريبية لحديثي الزواج،
خاصة في مدّة الخطوبة.
· تهيئة كوادر متخصّصة (خاصة الباحثين الاجتماعيين،
والنفسيين، والكوادر الاجتماعيين)، وتأهليهم - من الناحية النظرية والعملية - في
كيفية التعامل مع القضايا والمشاكل الأسرية.
·
التنسيق
بين متخصصي علم الاجتماع وعلم النفس، من ناحية، ورجال القانون، لإيجاد القوانين
المناسبة للقضاء على تفشّي ظاهرة العنف الأسري في المجتمع، أو على الأقلّ الحدّ
منها.
مراجع
عربية:
1.
القرآن
الكريم.
2.
ﺳﺎﻣﻴﺔ
ﻣﺼﻄﻔﻲ اﻟﺨﺸﺎب، اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، دار اﻟﻤﻌﺎرف، اﻟﻘﺎهـﺮة، ﺳﻨﺔ ١٩٩٣ ص٥٤.
3.
عبدالمحمود،
عباس أبو شامة والبشري، محمد الأمين (العنف الأسري في ظل العولمة)، ط1، جامعة نايف
العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2005، ص135.
4.
دينكين
ميشيل، معجم علم الاجتماع، ترجمة: الدكتور إحسان محمد الحسن، 1980، دار الرشيد
للنشر، الجمهورية العراقية.
8.
هانا
أرنت، وضع بشر، ترجمة: مسعود عليا، الطبعة الثانية، سنة 1390، انتشارات ققنوس،
إيران.
9.
د.
علي حسين حجاج، نظريات التعليم – دراسة مقارنة، الجزء الثاني، سلسلة عالم المعرفة،
108، 1986، الكويت.
10. رامز باجلان،القسوة البشرية، 2013، تموز
للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق.
11. د. فاروق عبدالله
الكريم، الوسيط في شرح قانون الأحوال الشخصية العراقي، 2004، مطبعة رةهةند.
12. د. علي حسين الخلف و د. سلطان عبدالقادر
الشاوي، المبادئ العامة في قانون العقوبات، 2006، المكتبة القانونية، بغداد، شارع
المتنبي.
13. سولاف البرزنجي، قانون الأحوال الشخصية رقم
188 لسنة 1959 وتعديلاته في العراق، بدون سنة، المكتبة القانونية، بغداد.
14. كامران رسول سعيد، قانون مناهضة العنف الأسري
في إقليم كوردستان- العراق رقم 8 لسنة 2011، 2012، أربيل.
مراجع إنجليزية:
1.
Criminology:
The Core, Siegel, L. J.,2005, (2nd ed.). Belmont, CA: Wadsworth.
2.
Domestic
Violence, Deborah Lockton and Richard Ward, 1997, Cavendish Publishing Limited,
London.
3.
Domestic
Violence, June Keeling and Tom Mason, 2008, Open University Press, England
4.
Introduction
to Sociology, OpenStax College, 2013
5.
Legal
Sociology, SofkaMateeva, Sociology and Law,
Edited by Maria Serafimova, Stephen Hunt, and Mario Marinov, and Vladimir
Vladov, 2009, Cambridge Scholars Publishing, UK.
6.
Social Divisions, Geoff payne,
2006, second edition.
7.
Sociology
of the Family, Dr. Ron J. Hammond and Dr. Paul Cheney, Smashwords Edition,
2010.
8.
Theories
Relating to Domestic Violence, Amber Rawls, non
year,
9.
Violence
in Families: Assessing Prevention and Treatment Programs, Rosemary Chalk and
Patricia A. King, Editors, 1998, National Academy Press, Washington D.C.
[2]Domestic
Violence, Deborah Lockton and Richard Ward, 1997, Cavendish Publishing Limited,
London, Page 1.
[3]Dictionary
of Social Work, John Harris and Vicky White, 2013, Oxford University Press,
Oxford, United Kingdom, Page 169.
[4]كامران
رسول سعيد، قانون مناهضة العنف الأسري في إقليم كوردستان- العراق رقم 8 لسنة 2011،
2012، أربيل، ص15.
[5]DOMESTIC
VIOLENCE, Deborah Lockton and Richard Ward, 1997, Cavendish Publishing Limited,
London, Page 30.
[7]د.
علي حسين حجاج، نظريات التعليم – دراسة مقارنة، الجزء الثاني، سلسلة عالم المعرفة،
108، 1986، الكويت، ص 11
[8]المصدر
السابق، نفس الصفحة.
[10]ﺳﺎﻣﻴﺔ
ﻣﺼطفى اﻟﺨﺸﺎب، اﻟﻨﻈﺮﻳﺔاﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، داراﻟﻤﻌﺎرف، اﻟﻘﺎهـﺮة، ﺳﻨﺔ ١٩٩٣، ص٥٤.
[12]واقعة
حدثت أمام الباحث عندما كانت إحدى القنوات التلفزيونية تبث دعاية تجارية.
[13]
Legal Sociology, SofkaMateeva,
Sociology and Law, Edited by Maria Serafimova, Stephen Hunt, and Mario Marinov,
and Vladimir Vladov, 2009, Cambridge Scholars Publishing, UK, p6.
[14]المصدر
السابق، ص7.
[17]
د. فاروق عبدالله الكريم، الوسيط في شرح قانون الأحوال الشخصية العراقي، 2004،
مطبعة رةهةند، ص 8-9.
[19]Sociology
of
the Family, Dr.
Ron J. Hammond,2010, www.freebooks.uvu.edu. Accessed in 12/8/2016, p227-228
[20] الموقع الألكتروني
الرسمي لمجلس القضاء في إقليم كوردستان، http://www.krjc.org ، تصفحت في 5/3/2017
[21] الموقع الألكتروني
الرسمي لهيئة الإحصاء في إقليم كوردستان، http://www.krso.net، تصفحت في 9/3/2017
[23] انظر مقالاً للقاضي
عبدالستار بيرقدار نشر في الموقع الألكتروني لمجلس القضاء الأعلى في 9 / 4 / 2018
[24]Social Divisions, Geoff payne,
2006, second edition, p65
[27]Violence
in Families: Assessing Prevention and Treatment Programs, Rosemary Chalk and
Patricia A. King, Editors, 1998, National Academy Press, Washington D.C, p42.
[28]جلسة
حوار مع القاضي (د. سردار علي عزيز)، عضو محكمة الجنايات في السليمانية سابقاً،
ورئيس محكمة الأحوال الشخصية في السليمانية حالياً، في 1/3/2017.
[29]الدستور
العراقي الدائم لسنة 2005.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق