حكم السلطان مظفر الدين
زين الدين علي الكوجك ( مظفر الدين كوكبورو)، أمير قلعة أربيل، وحاكمها، وقائد إمارتها
لمدّة 45 عاماً. وكان حاكماً عادلا،ً ورشيداً، ونزيهاً. وتعتبر فترة حكمه على إمارة
أربيل من أروع حقبها التاريخية، التي سوف تكتب صفحاتها بمداد الذهب.
وكان،
من قبل، أميراً لمدينة (حاران)، بعد الاستيلاء عليها في زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وبعد وفاة أخيه في أربيل، أصبح أميراً وسلطاناً في أربل وسهل شهرزور.
بعد
مضي 866 عاماً على ولادته، وانتهاء حكمه على هذه الإمارة العريقة، اكتشفنا معلومات
جديدة، ووثائق قيّمة، ومتنوّعة، عن مكان ولادته، وحياته، وممتلكاته، وحتّى وفاته. ويرقد
الآن جثمانه الطاهر داخل أراضي مدينة أربيل، حيث أصبح مرقده مزاراً للزوار.
نذكر
هنا بعضاً من الأعمال الخيرية، والمشاريع الكبيرة، التي أقامها السلطان إبّان حكمه
لإمارة أربل وسهل شهرزور.
من
خلال البحث والتقصّي، وجدنا وثائق تاريخية مهمّة حول مشـروع سحب مياه الشرب، وإنشاء
خزّان ماء كبير لتوفير المياه الصالحة للشرب في الديار المقدسة، وعلى (جبل عرفة)
في مكة المكرمة، خدمة لزوار العتبات المقدّسة، والحجّاج الكرام.
ولادة
إمارة
ولد
السلطان مظفر الدين الكوكبورو (الذئب الأزرق) سنة 1154م في قلعة الموصل، داخل قصـر
واسع (سراي)، كان يسمّى (آق - سراي)، أي القصـر الأبيض، وتغيّر الاسم إلى (قرة - سراي)،
أي القصـر الأسود، وذلك بعد أن تمّ الاستيلاء عليه، وحرقه من قبل المغول، عند
دخولهم العراق. فكانت السراي عبارة عن حيّ كبير، طويل، يضمّ عدداً كبيراً من
البيوت الواسعة، يقطنها السلطان، والأمراء، وكانت تسمّى دار الحكم – دار الدولة.
أمضى
السلطان مظفر الدين معظم سنيّ طفولته في هذه البيوت في الموصل، ثم انتقل مع عائلته
من الموصل إلى قلعة أربيل، مع ( بدر الدين لؤلؤ)، صاحب الموصل، وذلك بعد أن تفاقمت
الأوضاع، وكثرت المشاكل، وهاجم المغول مدينة الموصل، واستولوا عليها، وحرّقوا
مبانيها، فأصبحت خراباً.
في
الوقت الحاضر، تقع بقايا القصـر على ضفاف نهر دجلة، بينما كان في حينها بعيداً عن
النهر، ولكن - وللأسف الشديد - ما تبقّى منه عبارة عن جزء صغير، وهو أيضاً معرّض
للسقوط والانهيار التام في أيّ لحظة.
كان
السلطان مظفر الدين متزوّجاً من رابعة خاتون، أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي،
وكان له بنتان (صاحبة، وعاصية).
غروب
شمس إمارة أربل، وموت السلطان مظفر الدين الكوكبورو:
ولد
السلطان مظفر الدين الكوكبور في آق- سراي (قرة سراي)، بمدينة الموصل (كما ذكرنا أعلاه)،
وتوّفي في مدينة أربيل سنة 1233م، في المنطقة التي كانت تسمّى بـ(الربض)، والتي
تقع اليوم داخل عاصمة إقليم كوردستان العراق، في (محلّة العرب)، القديمة، وتبعد عن
جامع المظفرية حوالي 10 دقائق مشياً على الأقدام، وكان يسمّى في ذلك الزمن الجامع
الأكبر – المسجد العتيق. هذا الجامع الذي تأكّدنا، من خلال البحوث والتنقيبات التي
قمنا بها، واستناداً إلى كتابات الدكتور محسن محمد حسين الحمرا، عضو أكاديمية
كوردستان، والمتخصّص في التاريخ والآثار الإسلامية، بأن السلطان مظفر الدين كان
يصلّي صلاة الجمعة في هذا الجامع القريب من مسكنه، بينما في الأيام الأخرى
الاعتيادية كان يؤدّي صلاته في (جامع القلعة)، حيث كانت الصلاة تقام يومياً هناك،
لكن المسجد الجامع كان مخصّصاً فقط لخطبة الجمعة، والأعياد، والمناسبات الدينية.
ولا زالت منارة هذا الجامع باقية في مدينة أربيل، وهي تشهد لعظمة هذا الأمير
القائد.
توّفي السلطان مظفر الدين بعد
45 عاماً من حكم وقيادة الإمارة، ودفن في قلعة أربيل أولاً، ثمّ تمّ نقل جثمانه إلى
مرقده الحالي، الواقع أسفل القلعة، حيث أصبح مكان دفنه، اليوم، مزاراً لأهالي أربيل،
خاصة يوم الأربعاء (يوم وفاة السلطان)، حيث يزورونه، ويقدّرونه كرجل دين ودولة.
يقع
مرقده الحالي قرب بناية محافظة أربيل، في بداية شارع (سلطان مظفر الدين الكوكبورو)،
أو شارع المظفرية، المسمّى باسمه، تعظيماً له، وتثميناً لدوره الكبير في حفظ وبقاء
وتطوير المدينة. وهذا مؤكّد، ولا يقبل أدنى شكّ بأنّ جثمانه يرقد داخل هذا المرقد،
وليس في مكان آخر.
وحسب
تحقيقاتنا، ومراجعة المصادر التاريخية الخاصة بأعمال هذا الرجل، تبيّن لنا بأنّه
عندما رأى النبيّ المصطفى (ص) في منامه، زاد حبّه له، وولعه به، فوصّى بأن يدفن - بعد
موته - بجوار حبيبه الرسول الكريم، ولكنّ كون فترة وفاته صادفت شهر رمضان، يوم 14
من شهر رمضان (يوم الأربعاء)، وكان فصلاً قائض الحرّ، شديدها، في جنوب العراق
والحجاز، علاوة على وجود فتن ومناوشات وقتال ومشاكل أخرى كثيرة في الجنوب، يصعب
المرور بها، والوصول إلى (الحجاز) بسلام، فتقرّر التخلّي عن تنفيذ الوصية، ووري
الثرى في أربيل، عاصمة إقليم كوردستان الحالية.
وتؤكّد
المصادر التاريخية بأن والده، والد السلطان المعظّم مظفر الدين، دفن في أربيل أيضاً،
وفي مقبرة القلعة تحديداً، وأن المرقد والمزار الموجود أسفل القلعة هو للسلطان
مظفر الدين نفسه، وليس لغيره.
الأعمال
الخيرية والاجتماعية للسلطان مظفر الدين الكوكبورو
:
كما
كان السلطان قد عاهد الله، وحدّث المقرّبين له، من قبل، بما سوف يقوم به إن أصبح
صاحباً وأميراً للإمارة، فقد نفّذ وعده، وقام بتنفيذ برامجه الخيرية، والاجتماعية،
بدقّة، بعد أن تولّى إمارة أربيل.. وأدّت هذه الأعمال إلى تغيير جذري في طبيعة
مجتمع وسكان أربيل، وسهل شهرزور، حيث كانت تحت إمرته.
يعتبر
السلطان مظفر الدين (أبو سعيد مظفر الدين التركماني، كما يسمّيه ابن خلكان، المؤرّخ
الذي عاصر حكمه)، أوّل من اقترح وأقام الاحتفال بالمولد النبوي الشـريف في أرجاء
الدولة الإسلامية، وأوّل من جلب إلى إمارته الموسيقى والمنشدين الدينيين، حيث كانت
الموسيقى تعتبر محرّمة قبل ذلك.
كان
للاحتفال بالمولد النبوي سنوياً، صدى كبيراً بين السكان، والمناطق المجاورة للإمارة،
حيث كانت الاحتفالات تستمرّ لمدة ثلاثة أشهر كل سنة، وبإشراف مباشر ومباركة
السلطان نفسه، تتخللها الاستعراضات العسكرية، والمسيرات الحاشدة، والتجمّعات
الدينية، وإقامة مجالس الذكر والتسبيح، ومباراة قراءة الشعر، وكان الضيوف يتوافدون
على المدينة من كل حدب وصوب، طمعاً فيما يبذله السلطان، بسخاء، من المال والملبس
والمطعم، لكلّ زائر وعابر سبيل.. فكان الصوفيّ والدرويش والفقيه وقارئ المقام،
يقوم بإحياء مجالس للتغنّي بصفات وفضائل النبي، والترّحم على الصحابة، والخلفاء،
وبمصاحبة الموسيقى الهادئة، من فرقٍ آتية من البلاد المجاورة، واستعمال الدفّ،
والقيام بحركات تنمّ عن ذوق رفيع يليق بهذه المناسبة المباركة..
كتابة
ونشر أوّل (مولود نامة) باللغة التركمانية:
كان
السلطان محبّاً للثقافة، وشغوفاً بالتاريخ، ومتذوّقاً للأدب والشعر، وملمّاً
باللغة العربية، فكان يبذل بسخاء لمن يمدح النبي، ويتغنّى به بقصائد، فكان السلطان
نفسه هو أوّل من شجّع على تأليف المنقبة النبوية باللغة التركمانية (مولودنامة)،
والتي كانت عبارة عن قصائدة طويلة تتغنّى بالنبي الكريم، وتذكر سيرته العطرة؛ من
ولادته، وحتّى وفاته، وأمر بطبع هذه المناقب بأعداد كبيرة، ونشرها بين الناس. ولا زالت
بعض هذه المناقب موجودة، وتقام سنوياً احتفالات وتقرأ هذه المناقب في المدن
الكبيرة، كأربيل، وكركوك، وطوز، وتلعفر، وغيرها.
مشروع
بناء مدرسة، وسحب ماء الشرب إلى جبل عرفة، وبناء خزّان ماء للحجاج على جبل عرفة :
زار
السلطان مظفر الدين الديار المقدسة مراراً، وحجّ بيت الله عدّة مرات، ويبدو أنه
انتبه إلى وجود مشكلة الحصول على الماء الصالح للشرب، من قبل الحجّاج، وأهالي مكة،
وبالأخصّ في مواسم الحج، وذلك لشحّة المياه في الحجاز، فأمر بإنشاء مشـروع ضخم
لسحب المياه الصالحة للشرب إلى مكة، وإلى جبل عرفة، عبر باب (بازان)، وإقامة خزّان
كبير لحفظ هذه المياه، وذلك خدمة لزوّار البيت الحرام. فجلب الخبراء والمهندسين
والعمال معه إلى الديار المقدّسة، وقام بتنفيذ المشروع على حسابه الخاص. وكان يرسل
سنوياً المال اللازم لإدامة وصيانة المشروع. ولا زالت آثار المشروع باقية في
السعودية، وهذا ما يؤكّده الخبير بالآثار الدينية الإسلامية: الكاتب السعودي
الدكتور ناصر الحارثي .
إضافة
إلى مشروع الماء، فقد بنى السلطان في مكة، مدرسة وجامعاً، وشواهدهما باقية إلى
اليوم. وكمثال هناك كتابة نقشت على الحجر يقع على باب (بازان)، قرب جامع مكة، تمّ
اكتشافه من قبل الدكتور ناصر الحارثي.
وكانت
للسلطان مظفر خدمات جليلة لمدينة أربيل، حيث أصبحت موئل العلماء والفقهاء في عهده..
عمّر البلاد، وأشاع الأمن والاستقرار، فكان الناس في زمانه بأنعم العيش.. وكان في نفس الوقت
شديد الهيبة، عظيم السياسة، يحمي الضعفاء، ويخافه الأقوياء.
وعلى
الجيل الحالي أن يتذكّره، ويفتخر به، ويقتدي بهذا القائد الفذّ، في إدارة الدولة،
وخدمة الشعب.
وقد
أقام السلطان مظفر الدين الكوكبورو مقوّمات إمارة قوّية، وأسّس دولة، بمعنى الكلمة،
وله أعمال جليلة، وامتاز بحسن إدارة أمور قلعة أربل وسهل شهرزور.
وسوف
نقوم، إن شاء الله، بالمزيد من البحث والتمحيص والتحقيق، لكشف ما يخفيه غبار
الزمان من معالم حضارية وأعمال عظيمة، قامت على يد هذا السلطان العظيم، خدمة لأمّتنا
ومدينتنا العظيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق