معصوم محمد خلف
منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى
البشر على وجه البسيطة، وهم يعيشون في صراعات دامية، ضاربين بذلك عرض الحائط، كل الأعراف
والقوانين السماوية، التي تنص على إقامة العدل والمساواة..
وينتج عن هذا الصّراع الدّامي
قتل الأبرياء والمساكين، واقتطاع الحقوق من أصحابها عنوةً، وهتك الأعراض، وتشريد الشّعوب،
مما يجعل من هذا الكوكب الذي نعيشُ عليه قنبلة موقوتة، تجعل من الحياة عبئاً ثقيلاً،
لا يقوى على تحمله الكائن الهزيل الذي هو الإنسان.
كما وتجعل من السعادة والطمأنينة
أمران عسيران، ليس باستطاعة أي كائن العثور عليه، نظراً للسلوك الهائج الذي ينتهجه
بعض الناس، بحثاً عن موردٍ للرزق، أو طلباً للرفاهية.. يصاحبه علامات من المكر والخداع،
إضافة إلى اتباع طريقة وسلوك قائم على العنف والقسوة والظلم.
ومن حكمة الله تعالى ورحمته
بنا أرسل إلينا علماء مخلصين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويزيلون
أمام أعيننا تلك الغشاوة التي تقف أمام النور، فيعالجون أمورنا الدينية والدنيوية بعقلانية
واضحة، وحجة بالغة، بعيدة عن الرياء، كما ويقدمون الطرق الكفيلة والميسرة في النصح
والإرشاد، وإظهار النية السليمة أمام الحقيقة الناصعة، لنتجنب الدخول في مزالق الردى،
ونتّبع الطريق الذي يسلكونه نحو الفضيلة والتعاون والتسامح والإخاء.
ذلك
الينبوع العذب الذي يروي ظمأ قلوبنا بحلاوة الإيمان، ويزرع في عقولنا اليقين التام
لصاحب الوحدانية والربوبية المطلقة: ربنا سبحانه وتعالى.
ذاك القلب المعطاء الذي يعلمنا
بأن الحياة تسامح وكفاح وإخاء وتآلف وتعاون، نحو بناء مجتمع الحضارة والرقي.
منطلقاً من الأمانة الإلهية
التي أُلقيت على كاهل هذا الإنسان، فإن صُلح للأمانة صُلحت معه الأمور برمّتها، وإن
تركت دون القيام بما تنص، كانت لنا شقاءً وتخلفاً على مر السنين ، فنلقى الله سبحانه
وهو علينا غضبان.
وعندما خلق الله سبحانه وتعالى
آدم عليه السلام، أخبر ملائكته أنه سيجعل من آدم خليفةً في الأرض، فقالوا له: {أتجعلُ
فيها من يفسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدّماء}(سورة
البقرة الآية 30)، وتدعنا ونحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك، ولا نعصي أوامرك، ولا نفعل
شيئاً من نواهيك؟!
فأخبرهم الله عزَّ وجل، أنه
يعلم في هذا المخلوق من الأسرار ما لا يعلمون، وأنهم غير عالمين بالسر الذي من أجله
يجعل من آدم خليفته، وأنه سيكون له سلطان على الأرض، متصـرفاً في مواردها وطاقاتها
وثرواتها، ليجعلها ملائمة لحاجاته..
ولا يخفى أن استخلاف آدم في الأرض يشتمل على معنى
سام من الحكمة الإلهية، التي خفيت حتى عن الملائكة ، فالله سبحانه وتعالى لو استخلف
الملائكة في الأرض، لما عرفت أسرار هذا الكون العجيب، وما أودع فيه من الخواص والعلوم
الغزيرة، التي يحتار فيها العلماء في كشف سرها وغموضها.
والملائكة ليسوا بحاجة إلى شيء
مما في الأرض، ولا في البحر، إذ هم على وصفٍ يخالف وصف الإنسان، فما كانت السفن لتصنع
وتمخر في عباب البحر، ولا كانت الطائرات لتطلق في الفضاء الرحيب، ولا زرعت الأرض بمختلف
الزروع والغراس، وما وجد فيها أحد يهتم بمعالجته، واستخراج خباياه وأسراره.. فلا تعرف
الأطياب، ولا خواص الأشياء، ولا المركبات الكيميائية، ولا الفوائد الطبيعية، ولا الفلكية،
ولا المستحدثات الطبية، ولا الطبائع النفسية، ولا شيء من هذه العلوم الكثيرة، التي
تفنى السنين والأعمار ولا يدرك الإنسان منها نهاية.. فسبحانه وتعالى من عليم حكيم.
إن
الله عزَّ وجل حينما تعلقت إرادته بإيجاد هذا الكون، بما فيه من الموجودات، ومنها:
الإنسان، ليجعله سيّد هذا الكون، ويجعل سائر مظاهره، وموجوداته، مسخرة له، وقائمة بخدمته،
وأن يوكل إليه عمارته، وأمر تنظيمه.. فذلك هو المقصود بالخلافة، في قوله: {وإذ قال
رَبُّك للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً}(الآية 30 من سورة البقرة)، فكان أن
جهّز هذا المخلوق بمجموعة من الملكات والصفات، لا بدَّ منها لتتكامل لديه القدرة على
إدارة شأن هذا الكون، وتعميره، واستخدامه.
فالإنسان في كينونته الذاتية
عبدٌ مملوكٌ لله عزَّ وجل، خلق من ضعف، وينتهي إلى ضعف، ولكنه نظراً للرسالة التي حملها،
يتمتع بصفات نادرة، جهّزه الله بها، فاستحقّ بموجبها الرفعة والتكريم، إن هو استعمل
تلك الصفات على وجهها الصحيح.. فهذه الصفات التي متّع الله بها الإنسان، وكانت مناط
رفعته، وتكريمه، فبثَّ فيه صفة العقل، وما يتفرع عنها من العلم، والإدراك، والقدرة
على تحليل الأشياء، وسبر أغوارها، والوصول إلى ما ورائها، وبثَّ فيه معنى الأنانية،
وما يتفرع عنها من النزوع إلى الإثرة والتملك، وبث فيه أسباب القوّة، ومقومات التدبير،
وما يتفرع عنهما من النزوع إلى السيطرة والعظمة والجاه.
ثُمَّ بثَّ فيه مجموعة من العواطف
والأشواق والانفعالات، تعتبر متممة لقيمة تلك الصفات، وفوائدها، كالحب والكراهية والغضب..
قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(سورة الأحزاب/ الآية 73).
وأما وجه تركيز القرآن على تلك
الحقيقتين معاً، والاستمرار في تذكير الإنسان بضآلته، وتفاهة أصله، إلى جانب تذكيره
بالمكانة التي يتبوؤها، وبأهمية وجوده، وخطورة الصفات النادرة التي رُكّبت فيه، والوظيفة
التي كُلّف بالنهوض بها.. فلأن رجل الحضارة الإنسانية في القرآن، هو ذلك الذي رُبي
في ظلال هاتين الحقيقتين معاً، وعاش يستلهم غذاءه التربوي من معرفة أصله، وحقيقته،
وضآلة شأنه، وذلّ نهايته، ثم من معرفة ما قد أنعم الخالق - عزّ وجلّ- عليه، وما قد
أكرمه به من سمو في الرتبة والمكانة، وما شرّفه به من مسؤولية إنشاء الحضارة الإنسانية
وعمارة الأرض .
والإنسان في القرآن الكريم مخلوق
يحمل أخطر مميزات وصفات يحملها مخلوق على الإطلاق، هذه المميزات هي جملة الصّفات الإنسانية
المركّبة فيه، ونظراً لما لهذه الصفات من الخطورة والأهمية، ونظراً لكونها أسلحة ذات
حدّين: إن استعمل أحدهما جاء بالتنظيم العظيم للكون، وبالخير الوفير للإنسان، وإن استعمل
الآخر، أو استعملا معاً، جاء بالشـر الوبيل، والفوضى الهائلة، للحياة.. نظراً لذلك
أطلق القرآن الكريم على هذه الصفات اسم (الأمانة).
والإنسان خليفة الله - عزَّ
وجل- في الأرض، أي إنه - جلّت قدرته- شاء أن يكون الإنسان مظهراً لعدالته، وأن يكون
هو لسان الكون الناطق بحمده، وتسبيحه، والإيمان به، وذلك عن طريق تنفيذ أوامره، وتطبيق
شرعه، والاهتداء إلى ألوهيته، ووحدانيته.
والإنسان في القرآن موصوف بصفتين:
واحدة منهما لبيان أصله، وحقيقته،
كي لا يطعنه شيء من صفاته، ولا يتجاوز حدود عبوديته لله (عز وجل).
والثانية؛ لبيان مركزه من هذا
الكون كله، ومستواه بين الخليقة أجمع.. والإنسان عبد الله، خُلق ليكون مظهراً لألوهية
الله عز وجل، وما صفة الخلافة فيه، وتكريمه على سائر المخلوقات، وتسخير الكون له، إلا
وسيلة يحقق عبوديته لله تعالى بالكسب والممارسة والاختيار، كما خلقه عبداً له بالجبر
والاضطرار.
لقد خلق الله الإنسان، وقرن
به مهمة كبرى، لم يشـرّف الله بها أحداً من دونه، ألا وهي أن يمارس العبودية لله -
عز وجل- بسلوكه الاختياري، كما قد طبع بحقيقة العبودية له، في واقعه الاضطراري.. وبذلك
يغدو الإنسان، من حيث وجوده الفردي والاجتماعي، أبرز الآيات الكونية الناطقة بوجود
الله - عزَّ وجل- وألوهيته.
وهكذا، فإن ظهور عبودية الإنسان
لله، هو الوجه الثاني لتجلي ربوبية الله عزَّ وجل، غير أن ممارسة الإنسان لهذه العبودية،
من خلال سلوكه الاختياري، تتوقف على قدرات وصفات معينة، لا بدَّ أن يتجهز بها، ثم أنها
لا تتحقق - بمعناها الدقيق- (وهو الخضوع المطلق للمعبود) إلا من خلال قيامه بواجبات
تنطوي على قدرٍ من الكلفة والمشقة، وهي المعنيّة بكلمة / التكاليف/، ولن يمكنه النهوض
بها إلا من خلال نسيج متعاون، تسري خيوطه بينه وبين بني جنسه. وإنما سبيل ذلك أن يقبل
الإنسان متعاوناً مع إخوانه إلى عمارة هذه الأرض، بمعناها الحضاري الشامل، وإن تصادفه
عليها - من جرّاء ذلك - المغريات، وتطوف من حوله الشهوات، ويتعرض للمصائب والآلام،
فلا تحرفه الملهيات ولا المغريات، ولا تصدّه المصائب والآلام بشدائدها، بل يظل ثابتاً
خلال ذلك كله على تنفيذ ما قد ألزمه الله تعالى من الانضباط بالصراط السلوكي الذي اختطه
له، وكلّفه بالسير عليه. فإن أورده هذا الصـراط على النعم، تمتّع بها شاكراً، وإن زجّه
في مآسٍ ومصائب، تقبلها صابراً.. وتلك هي حقيقة الاصطباغ بالعبودية لله عزّ وجل من
خلال السلوك الاختياري للإنسان في فجاج الحياة.
والإنسان هو ذلك الكائن المعقد
العجيب، الذي لم يفهم العلم منه إلا أنه جملة هياكل عظميّة، وعضلات، وأعضاء، وأنسجة،
وسوائل، وشعور.. غير أن العلم أدرك، رغم هذا، أن الإنسان ليس مجرد هذه الكتلة، وإنما
هو حقيقة خفية أخرى، تكمن وراء هذه الأمشاج. إنه تلك العلاقة الخفية المجهولة بين المخ
والشعور، وهو تلك الصلة المبهمة بين الأعضاء والعضلات من جهة، ووجوه النشاط العقلي
والروحي من جهة ثانية.. وهو السر الغامض العجيب الذي يغشي الجملة العصبية، فنسمّيه
الإرادة، وهذا يعني أن الإنسان منفعل في ذاته، أكثر من أن يكون فاعلاً.
إن الإنسان مفطور على جملة من
الصفات والطبائع، التي لا بدَّ له منها كي يتمكن من عمارة الكون، وهذه الصفات والطبائع
لا يمكن أن تؤدي عملها الصالح في عمارة الكون، على نحو تسعد به الإنسانية، إلاّ إذا
كانت هناك رقابة عليا على هذه الصفات، وكان صاحبها مستشعراً وجود تلك الرقابة، إذ إن
تلك الصفات والطبائع، إذا تركت وشأنها، كانت منبعاً للشرور، وأسباباً للشقاء، أكثر
من أن تكون سبيلاً للخير والسعادة.. فصفة العقل، أو العلم، تنقلب إلى شبكة تصطاد بها
كرامة الإنسان، وحياته. ومزيّة القوة، وأسبابها، تنقلب إلى عواصف هوجاء تضـرب الجماعات
الإنسانيّة ببعضها.
أما مصدر خطورة هذه الصفات،
أنها ليست إلا صفات الربوبية: فالعلم، والقوّة، والسلطان، والتملك، والجبروت، كلها
مقوّمات للألوهية وصفات الرب جلَّ جلاله.. ومن شأن هذه الصفات، إذا وجدت في الإنسان،
أن تسكره، وتأخذ بلبّه، وتنسيه حقيقته، وتجعله يتمطى إلى مستوى الربوبية، وإن كان الإنسان
لا يملك منها - في الحقيقة - إلا الاسم وحده.
فإذا تأمل الإنسان في هذا كله،
وآمن به إيماناً جازماً، قائماً على أساس من البحث العقلي المتأمل الحر، شعر في أعماق
كيانه بأنه عبدٌ لهذا الإله الواحد العظيم، وأصبحت هذه الصفات الخطيرة الهامّة، التي
يتمتع بها، أقلّ من أن تتجاوز به حدَّ عبوديته، وما هي إلا أن تنقلب فتصبح وسيلة عظمى
لسعادته، من حيث إنه فرد، ولسعادة بني جنسه، من حيث الجماعة، وتقوم بين الناس وشيجة
الأخوّة والمساواة أمام عبوديتهم لله، بعد أن كانت تقوم بينهم مسابقات ومنافسات غير
شريفة، في ميدان تتصادم فيه القوى، وتتقارع فيه الأسنّة، ويقع المستضعف فيه ضحية لنـزوات
القوي، وسكرة جنوحه..
حينئذٍ تغدو نزعة التملك في
الإنسان وسيلة طبيعية لإقامة حياة عادلة رخيّة، يقوم فيها العمران، وتخضرُّ في أنحائها
الحدائق والجنان، وتتكاثر في جنباتها الخيرات، وتصبح نزعة العلم والإدراك نوراً وهّاجاً،
ينكشف به المزيد من خفايا الكون لهذا الإنسان، وقبساً هادياً يؤكد للإنسان دائماً حقيقة
الذات الإلهية.
المصادر والمراجع :
1ـ القرآن الكريم.
2ـ قصص الأنبياء، عبد
الوهاب النجار، دار ابن كثير، دمشق .
3ـ كبرى اليقينيات الكونيّة،
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق
.
4ـ منهج الحضارة الإنسانية
في القرآن، د . محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق.
5ـ من روائع القرآن، د.
محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق.
6ـ الإسلام ملاذ كل المجتمعات
الإنسانيّة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق.
7ـ من هو سيّد القدر في
حياة الإنسان، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفارابي، دمشق.
8ـ من أسرار المنهج الرباني،
د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفارابي، دمشق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق