سـعـد الزيباري
لا جرمَ أنّ الإنسان الفرد بحاجةٍ إلى أنْ يخطِّط
لحياتِه، وأنْ يضعَ نُصبَ عينَيْهِ الأهدافَ العامّة في إطارٍ زمنيّ مُحدّد،
مُركِّزاً على الأشياء المهمّة، ومُعوِّلاً على اختيارِ الوسائِل والإجراءاتِ
المناسِبة لتنفيذِ استراتيجيّاتِه. والإنسان الّذي يعيشُ حياته مُجرّداً مِنْ
الأهدافِ والاستراتيجيّات الناجعة سيعيشُ حياته في قادِم أيّامِه لا يعرفُ إلى أين
ينتهي بهِ المطاف، فإذا لم تعرفْ إلى أينَ ستذهب، فكُلُّ الطّرُق ستؤدّي إلى
المجهُول، و"إذا لَمْ تَكُنْ تعلمُ أينَ تذهب: فكُلُّ الطُرُقِ تؤدِّي إلى
هُناك"، وفي عبارةٍ أخرى: "فكُلُّ الطّرُقِ تفِي بالغرض"([1])،
فـ"ليسَ مُهِمّاً معرفة ما تريدُ، ولكن معرفة كيف تصلُ إلى ما تريدُه"،
و"ليستِ المهارةُ أنْ تجري بسُرعة، ولكنّ المهارةَ أنْ تعرِفَ أنّكَ تجري في
الطّريق الصّحيح". فالّذي يسيرُ في حياتِه دون هدفٍ مُعيّن، فإنّ جميعَ
الطّرُقِ بالنسبةِ لهُ تؤدِّي إلى وجهةٍ واحِدة لا غير. "وإذا لَمْ تُخطِّطْ
لنفسِكَ، كُنْتَ جزءاً من خطّةِ غيرِك، وإذا فشلتَ في التّخطيط، تكونُ قد خطّطْتَ
للفشل". قال إيمرسون: "لا يُخطِّط النّاسُ للفشل، ولكنّهم يفشلُون في
التّخطيط".
وهذا ما يتعلّق بالإنسان الفرد فكيفَ يا ترى يكون الحالُ
مع الدّولة الّتي تدير شؤون الملايين مِنَ النّاس، وهي تعيشُ دون تخطيط استراتيجي
شامِل بعيد الأمد. والاستراتيجيّة: هِيَ الخطّة أو منهج العمل الموضُوع لتحقيقِ
هدفٍ ما، وهي الممرّ أو الجسـر الّذي يأخذنا من هُنا إلى هُناك([2]).
وهي طريقةٌ لتحديدِ الأهدافِ بعيدة المدى، وكيفيّة الوصُولِ إليها، ولا غَرْوَ أنّ
الاعتقادَ بإمكانيّةِ الوصُولِ إلى الهدفِ هو أوّلُ خطوةٍ لبلُوغِه، وأنّ مِنَ
الحكمةِ أنْ نكونَ مُتفائلينَ عندما يكونُ هُناكَ مجالٌ للتشاؤُم([3]).
والتخطيط؛ هو: أنْ ترسُمَ المستقبلَ قبلَ بنائِه، وهو عمليّة تحديد الأهداف الّتي
تسعى إلى تحقيقها. والتخطيط الاستراتيجي (Strategic Planning): "هو عبارةٌ عن عمليّةٍ منهجيّة تسعى إلى تحقيقِ تصوُّر
واضِح حولَ مُستقبلِ شيءٍ ما مِنْ أجلِ ترجمتِه وتحويلِه إلى أهدافٍ تعتمِدُ على
سلسلةٍ مِنَ الخطواتِ العمليّة".
وما أروع ما
قالَهُ (تشارلي كيترنج)، رئيس شركة (جنرال موتورز)، حينَ سُئِلَ: لماذا يُخطِّط
للمستقبل؟ فأجابَ: "لأنِّي سأقضِي بقيّةَ حياتِي فيه". أمّا نحنُ فلا
زلنا نعيشُ في أحلامِ الماضي، نسينا حاضرنا الّذي نعيشُ بين جنباتِه، ولم نفكّرْ
حتّى الآن بالمستقبل الّذي ينتظرُنا هُناك، تفكيراً مقرُوناً بالعمل. فكُلّنا له
أمنياتٌ يريدُ تحقيقَها، ولكنّ الرغبةَ في تحقيقِ الأماني لا تُجْدِي نفعاً، ما
لَمْ نحوِّلها إلى خطّةٍ مقرُونة بعملٍ واقعيّ. عِلْماً أنّ "التمنّي
يستهلِكُ الطّاقة نفسها الّتي يستهلِكُها التّخطيط"، و"هدفٌ بلا خطّة لا
يزيدُ عن كونِه مُجرّد أمنية مِنَ الأماني". واعلمْ أنّ "كُلَّ ساعةٍ
تقضيها في التّخطيط الجيِّد، توفِّرُ لكَ ثلاث أو أربع ساعات في التّنفيذ".
لِذا، لا بُدّ
للقائمينَ على إدارةِ النّظُم السياسيّة أن يضعُوا نصبَ أعينِهم الخُطط الاستراتيجيّة
الرامية إلى تطوير المجتمع، وتوفير سُبُل العيش الكريم، وتحسين حياةِ النّاس،
وتحقيق العدالةِ بينهم. وهذا لن يتحقّق بخطاباتٍ سياسيّة انفعاليّة تطلق في
مناسباتٍ مُعيّنة هُنا أو هُناك، فالتغييرُ الحقيقيّ لا يتحقّق بإطلاقِ هتافاتٍ
حماسيّة، وخطاباتٍ ارتجاليّة، وشعاراتٍ أيديولوجيّة، وإنّما يكون بوضعِ
الاستراتيجيّاتِ الدقيقة، واعتمادِ تصوّراتٍ عمليّة في ضوء أهدافٍ واضِحة، وكُلّ
ذلِك في إطارٍ زمنيّ مُحدّد، والتركيز على القضايا الأكثر أهميّة والعمل على
دراستها واحدةً واحدة. ولتحقيقِ الأهدافِ لا بُدّ أنْ يكون "الإطارُ
الاستراتيجيّ مَرِناً؛ شأنهُ في ذلِكَ شأنُ السياساتِ نفسِها، أي إنه ينبغي أن
يُوْضَعَ موضِعَ المراجعةِ المستمرّة، والتعديل في ضوء التقدُّم، والمعرفة،
والاستبصاراتِ الجديدة، والرُؤية الاستشـرافيّة - وهي الصورةُ الذهنيّة للمستقبل
المنشود -، المقرُونة بالعملِ والتنفيذ، وذلِكَ لأنّ "الرؤية من دونِ عمل ما
هي إلاّ حُلُم، والعملُ من دونِ رُؤية ما هو إلاّ مضيعة للوقت، أمّا الرُؤية مع
العمل فهي ما يُمكنها أنْ تغيِّرَ العالَم"([4]).
ولن تتحقّق هذهِ السياسات الاستراتيجيّة، وتلك القرارات
الطّموحة، "في واقعٍ يجيء فيهِ في كُلِّ مرّةٍ وزيرٌ جديد، أو يتولّى
الحُكْمَ حزبٌ جديد. فبغيرِ استمراريّة معقُولة، وبدُونِ قُوّة دافِعة، لا يمكن
تحقيق الاستراتيجيّة على أرضِ الواقِع"([5]).
فالاستراتيجيّاتُ تحتاجُ عادةً إلى وقتٍ وزمنٍ ليسا قصيرين، فضلاً عن إمكاناتٍ
ماليّة ليستْ قليلة، ولكنّها لن تَصِلَ إلى مَراميها، ولن تحقّقَ أمانيها، في ظلِّ
التغيّراتِ المستمرّة على السياساِت والاستراتيجيّات الّتي تطالها يدُ التعديل
والتحوير لأغراضٍ مُسيّسة لا غير.
وهذا خللٌ قدِ استمرَّ عِدّة سنوات وما يزال.
معنى ذلك: أنّهُ يجب أنْ لا يرتبط نظامُ التعليمِ بالوزير إنما يكونُ جُزءاً من
استراتيجيةِ الدولة نفسِها. وقد تعلّمنا في التخطيط الاستراتيجيّ - بتعبيرِ
السويدان - قضية الـ(Focus) وهو التركيز: أي أنْ نركِّزَ على قضيّةٍ
واحِدة، ونُنتِج فيها إنتاجاً جيِّداً، ثمّ ننطلِقُ إلى مجالاتٍ أُخرى، نعطيها المساحةَ
الزمنية، ننفقُ عليها، نعطيها عقولَنا ووقتَنا وجُهدَنا، وبعدَها نرى النتيجةَ
الحاسِمة!([6])،
ولكن ليس عندنا مثل هذا التركيز الّذي يقتضيهِ الفكرُ الاستراتيجيُّ في أيِّ
إنجازٍ طمُوح، وخاصّة في المجالِ التعليميّ الذي يُبنى عليهِ مُستقبلُ الأمّة،
ويتحقّقُ بهِ نهوضها الحضاريّ.
وقد أكّد هنري فورد - مُؤسِّس شركة فورد لصناعة
السّيارات - قضيّةَ التّركيزِ وتقسيمَ العمل؛ فقال: "لا يوجَدُ شيءٌ صعب
عمليّاً إذا قُمْتَ بتقسيمِه إلى أعمالٍ صغيرة"([7]).
فالأزماتِ السياسية والاقتصاديّة التي تراكمتْ - وما تزالُ - في واقعِنا السياسيّ
الرَّاهِنْ، تفتقرُ مثلَ هذهِ الرؤية الحضاريّة الشّامِلة، ولذا فنحنُ لَمْ نجِدْ
حتى هذِه اللّحظة - مِنْ لدن صُنّاعِ القرار - خطواتٍ عمليّةً تُسْهِمُ في حلِّ
مشكلاتِنا العالِقة حلاً جذريّاً ناجِعاً، وذلِكَ بتحليلِها إلى عناصِرَ مُجزّأة،
وتقسيمِها إلى أعمالٍ صغيرة مُحدّدة، ومِنْ ثمَّ التركيز عليها واحدةً واحِدة،
بحيث تسهِّل صِعابها، وتذلّل مَشاقها!
إنّ استراتيجيّة التنمية التعليميّة،
والتنمية الاقتصاديّة، ليستْ شيئاً جديداً يوجَدُ في فراغ، أو يُمكن أن يُشَكّل في
غرفةٍ خلفيّة في الوِزارة بواسطةِ خبيرٍ، واختصاصيّ، وآلةٍ حاسِبة، وإنّما ينبغي
أن تُشَكّل وتُوْضَع على أساسِ أهدافٍ يُشارِكُ في وضعِها عددٌ كبيرٌ مِنَ
المتخصِّصِين([8])، وهذا ما لا يتحقّق دون تحديدِ الأولوياتِ الكفيلة بتطوّرِ النظامِ
التعليميّ والنظام الاقتصادي وتجديدهما.
ويُمكن أن نأخذ ماليزيا؛ بوصفِها تجرِبة واقعيّة يُمكن
أنْ نستدلّ بها لبيانِ أثرِ التخطيطِ في المجالِ التعليميّ. فماليزيا مثلاً -
حسبما أكّد السويدان - عقدت في سنة 1985م مؤتمراتٍ وطنيّة خدمةً لقضيّة التعليم،
وقرَّرَتْ أن تكون دولةً صناعيّة، لذا غيَّرَتْ على أساسِ قرارِها الحاسِم هذا
مناهِجَ التربيةِ والتعليم، وغيّرتِ البعثات الدراسيّة، كما غيّرتْ نظُمَ الهِجرة،
ونظُم الاستثمار، وجعلتْ كُلَّ الجوانب الحيويّة تخدمُ هذا الهدفَ الّذي حددتهُ
الدّولة. والشـيءُ المثير أنّ مناهِجَ التعليم كُلّها تحوّلتْ لخدمةِ هذا الهدف.
والنتيجة أن ماليزيا أصبحت في سنة 1995م - أي خلال 10 سنوات - عاشِر دولة صناعيّة
في العالَم. وكلُّ ذلِكَ حصلَ بوجُودِ رؤيةٍ استراتيجيّة واضِحة عند القيادة
السياسيّة. فالتعليمُ هو وسيلة، وليسَ هدفاً، فهو في النهاية وسيلةٌ لخدمةِ الرؤية
الاستراتيجيّة للدولة([9]).
ومن هنا علينا
أن نستفيدَ مِنْ تعليمِنا كأحدِ المجالاتِ الاستثماريّة المهمّة في اقتصادِنا
الحاليّ، لا تدميرهِ مِنْ أساسهِ. وهناكَ افتراضٌ جوهريّ يقومُ عليهِ الاعتقادُ
بأنّ التعليمَ نوعٌ مِنَ "الاستثمار الجيِّد" في التنميةِ القوميّة،
وينصُّ هذا الافتراضُ على أنّ نظامَ التعليمِ يُنْتِجُ أنواعاً ومقادِيرَ مِنَ
الموارِد البشـريّة، يتطلّبُها النموُّ الاقتصاديُّ، ويفتقرُ إليها، وأنّ
الاقتصادَ سوفَ يستخدِمُ هذهِ الموارِد البشـريّة في الحقيقةِ استخداماً حسناً([10]).
ومن هنا، علينا
أن نوجِّهَ التعليمَ لكي يرتبطَ باحتياجاتِ الاقتصاد القوميّ، وأن يدفعَ العمليّة
الإنتاجيّة قُدُماً نحو الأمام، وإذا أخذنا هذا الأمرَ بنظرِ الاعتبارِ وجدنا أنّ
نُظُمَ التعليمِ عندنا غير مُلائِمة لحاجاتِ الطلبة. "والحقيقةُ أنّ العملَ
على مُواءمةِ نظامٍ تعليميّ مُعيّن لحاجاتِ التنمية القوميّة عملٌ صعب ومُعقّد
للغاية"، ولكنّهُ ضرورةٌ تاريخيّة لا يُمكن التغاضي عنها. لذا، فإذا أردْنا
أن ننهضَ بنظُمِنا التعليميّة، علينا أنْ ننظرَ إلى "مدى مُلاءَمةِ التعليمِ
الّذي يحصلُ عليهِ الأفراد للحاجاتِ والقِيَم السّائِدة حاليّاً، والمستقبليّة،
لمجتمعٍ مُعيّن"([11]).
والسؤالُ الّذي
ينهضُ هُنا: ترى ما مدى مُلاءَمةِ تعليمِنا الحاليّ المأزُوم وحاجاتِ التنميةِ
الاقتصاديّة؟ والإجابةُ على ذلِكَ ببساطةٍ؛ هي: أنّنا لا نجدُ ثمةَ مُلاءَمةٍ بينَ
تعليمِنا وبينَ سُوقِ العمل! وهذا ما يثيرُ إشكاليّةً فلسفيّة حولَ الجدوى من
ممارسةِ تعليمٍ لا يُلَبِّي حاجاتِ الإنسانِ المعاصرة! فالمعاييرُ
التعليميّة - إذا أردْنا أنْ يكونَ لها معنى، وأنْ تخدمَ أهدافاً مفيدة - ينبغي
أنْ تكونَ مُلائِمة لأهدافِ الطلبةِ ومكانِهم وزمانِهم([12])،
وليسَ مجرّد تغييرٍ مِنْ أجلِ التغيير! جرياً على قانون "إنَّ المغلُوبَ مُولَعٌ أَبداً بالاقتداءِ بالغَالِب في
شعارِه، وزيِّه، ونحلتهِ، وسائرِ أحوالِه وعوائده"([13])!
وعلى الدّول الّتي تعاني من عجزٍ في الميزانيّة العامّة،
وتتوسّل إلى صندوقِ النقدِ الدّولي، أن تستفيدَ من التخطيط الاستراتيجيّ في
النظامِ الاقتصاديّ لدولةِ (الإمارات)، الّتي يكفيها فخراً أنّ وزارة الماليّة
الإماراتيّة قد رفعتْ إلى مجلسِ الوزراء مشـرُوع الميزانيّة العامّة للاتحاد لسنة
2018م، ضِمْنَ الخطّة الخمسيّة للسنوات (2017- 2021)، بتكلفةٍ قَدْرُها (51,4)
مليار درهم، وقد بلغتْ تقديراتُ البرامِج المخصّصة للتنمية الاجتماعيّة (26،3)
مليار درهم، بنسبة (43,5%) مِنْ إجمالي الميزانيّة العامّة، كما بلغتْ الاعتمادات
المخصّصة لبرامِج التعليم العام والعالي والجامعي (10,4) مليار درهم، بنسبة
(17,1%) مِنْ إجمالي الميزانيّة، وبلغتْ اعتماداتُ الرعاية الصحيّة ووقاية المجتمع
(4,5) مليار درهم، بنسبة (7,4) مِنْ إجمالي الميزانيّة العامّة، لتقديم أرقى
المستويات من خدماتِ الرعاية الطبية والتعليمية للمواطنين([14]).
وقد علّق الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، في صفحته على (تويتر):
"ميزانيّة العام المقبل (51) مليار، خصّصْنا (43%) منها للتعليم والصِحّة
وتنمية المجتمع، ولا عجز في الميزانيّة، ولا عجز عن بلُوغِ أهدافِنا
التنموية".
فالتعليمُ
العربيّ لا يصنعُ إطاراتٍ للإنتاجِ، ولا باحثين عن تقدّم التقنياتِ العربيّة، ولا
جمهُوراً متكيّفاً مع المشكلاتِ الاجتماعيّة، ومُستوعباً لمشكلاتهِ، ودورهِ،
ولكنّه يُخرِّج حملةَ شهاداتٍ، أيْ سندات مُلكيّة بدون أرض، وصكُوك ماليّة دون
رصيد. ولا يعني ذلِكَ أنّهُ لا يوجَدُ بينَ حملةِ الشهاداتِ مُتعلِّمين بَلْ
عُلماء حقيقيّين، ولكن النظام العام يجعلُ العَلاقة بين هذا العلمِ وبين حاجاتٍ
اجتماعيّة ثابتة شبه معدومة. والحلُّ الوحيدُ لأصحابِ هذهِ السنداتِ هو: إمّا
الرحيلُ، أو تعويضها في مجالٍ لا يقتضـي مِنَ العلمِ إلاّ الشهادة والاسم([15]).
وفي العراق
تحديداً، فإنّ الوضع السياسيّ المتأزّم قد دفع بالتدريسيين إلى قطعِ الأمل في
تحسينِ الظرُوفِ السياسيّة والمعيشيّة، والتفكير جديّاً في المغادرةِ والهجرة إلى
دول العالم المتقدّم، أملاً في الحصُولِ على عملٍ في ظروفٍ أكثر استقراراً
وأمناً"([16]).
وقد بدأت الهجرة المعاكسة من جديد، بعد تفاقُم الأزمة الاقتصاديّة التي اجتاحتِ
المنطقة أخيراً، مُتمثلةً في التدهور الاقتصاديّ الرّهيب، وغلاء أسعار الحاجيات
الأساسيّة، وتفشي ظاهرة البطالة بينَ النّاس. أما في المجالِ السياسيّ، فقد تمثّلت
في فتور العَلاقاتِ الأخوية بين القوى والأحزاب السياسيّة، وتزايد التدخلات
الخارجيّة في الشؤونِ الداخليّة. كلّ ذلك قد ولّد شعُوراً جارفاً بالإحباط لدى
الكثيرين، وقلّل من حماسِهم للعملِ الجادّ المثمِر، وحفّز رغبتهم لتركِ وطنهم نحو
المجهول"([17]).
وهذهِ إشكاليّةٌ
لا تزالُ قائمة، ولكنّ الحكومات - التي لا تضعُ الأُطرَ الاستراتيجيّةَ بنظرِ
الاعتبار - قد تنظرُ إلى قضيّةِ (هجرةِ العقُول) نظرةً براغماتيّة نفعيّة عرضيّة،
فلا تراها استنزافاً للعقُول، بَلْ تصـريفاً للمشكلات! وقد يكون من أجنداتِها
الاستراتيجيّة الدخول في حروبٍ استنزافيّة لا طائِل مِنْ ورائِها، والاستفادة منها
في حلِّ مشكلة البطالة، مَثَلُها في ذلِكَ مَثَلُ زعيم ألمانيا الاشتراكيّة (هتلر)،
الّذي جاء ليحلَّ (مشكلة زيادة البِطالة)، بتحويلِ العاطلينَ إلى عُمّال في مصانِع
السِّلاح، ثمّ إلى جنُود، ثمّ هؤلاءِ الجنُود إلى جُثث. وبذلِكَ تـمّ حلّ المشكلة([18]).
التخطيط الارتجالي الفوضوي في الدول النامية
أمّا الحكوماتُ في الدُّولِ النامية؛ فهِيَ تريدُ أن
تكون صناعيّة وزراعيّة واستثماريّة وسياحيّة وغيرها، أو كما سمّاها السويدان بـ(الخلطة).
وهُناك مثلٌ أمريكيّ ينطبقُ كثيراً على الحكوماتِ العربيّة؛ وهو: "Jack of all trades,
master of none"، فالّذي
يريدُ أن يعملَ كُلَّ شيء، لن يُتقن أيَّ شيء، وهذا الذي حدث معنا. فنحنُ لا نعرفُ
بالضبط - نتيجةَ هذا الخلط - ماهيّة الهُوية التي نريدُ تمثيلَها؟ وما هي الرؤية
التي نريد تحقيقها، وبالتالي ما هو نوع التعليم الّذي نريدُ الوصُولَ إليه؟
ومن هُنا، فإنّ التعليمَ في كوكبنا المأزوم هو آخرُ ما تفكِّرُ
فيهِ الحكُومات، كأنّه قضيّةٌ لا تمسُّها من قريبٍ ولا مِنْ بعيد، وإذا فكّرتْ
فيهِ فلأغراضٍ سياسيّة بحتة، وأحياناً أُخرى تجاريّة! وخاصّة في قلبِ الأزمةِ
الماليّة القاتِلة، التي ألجأتها إلى فَرْضِ الضـرائب المجحفة بحقِّ مُواطنيها،
مِمّنْ يعيشون حدَّ الكفاف؛ وبذلِكَ "أصبحْنا نُعالِجُ الدولةَ على نفقةِ
المواطِن"، كما عبّر (جلال عمر) بحقّ، بدلاً مِنْ أنْ نضعَ خطّةً استراتيجيّة
بعيدة المدى، والأنكى من ذلِكَ أنّنا حمّلْنا الفقراء المتقشّفين ما لا طاقةَ لهمْ
به من جباباتٍ مُثقلة، وأتاوات مُرهقة تقصم الظّهر، حتّى قالَ بعضُهم ساخِراً
"عند وجُودِ فائِض في الميزانيّة، يذهبُ مباشرةً إلى جيُوبِ الأغنياء. وعند
وجُودِ عجزٍ بالميزانيّة، يتمُّ سدادهُ مِنْ جيُوبِ الفقراء"! وكُلّما تعرَّض
الوطنُ لعُدوانٍ سافِر: الفقيرُ يُقاوِم، والغنيُّ يُسافِر. فالفقراءُ يُزَجُّ بهم
في محرقةِ الحرُوبِ الطّاحِنة، وأبناءُ الأغنياءِ يترفّلُون في حُلل النعيم،
ويتبارون في ملاعبِ السَّرفِ والتَّرف، ويحاربُون كالأبطالِ ولكن على فضاءِ
الـ"play station"، ويتراهَنُون بقُوتِ الشّعبِ قبيل
المبارياتِ الحاسِمة، دون أنْ يشعرُوا بأنّاتِ البطُونِ الفارِغة الّتي تتضوّرُ
جوعاً وتتلوّى مرضاً! وقد حقّ (بوكوفسكي) حينَ قال: معظمُ النَّاسِ لا يشعرُون
بالظّلْمِ إلاّ عندما يقعُ عليهم شخصيّاً! فأنت لا تشعُرَ بمأساةِ غيرِكَ، حتَى
ترى نفسَكَ مكانَهُ! ولهذا فعندما سُئِلَ (كونفوشيوس) عنِ الفضيلةِ الكامِلة، كان
جوابُه: "الفضيلةُ الكامِلة ألاّ تفعلَ بغيرِكَ ما لا تُحِبُّ أنْ يُفْعَل
بك". وأجمل من كُلِّ ذلِك ما قالَهُ الرّسُول (عليه الصّلاة والسّلام): (لا
يؤمِنُ أحدُكُمْ حتّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِه)([19]).
وهذا نقيضُ ما نراهُ اليوم في واقِعنا المعاصِر، إذِ
القائِمُون على رأسِ الحكُوماتِ العربيّة الرّاهنة يفعلُون بشعُوبهم ما لا يرضون
لأنفسهم، فهم لا يشعرُون بوطأةِ الظلمِ الواقِع على مُواطنيهم جرّاء سياساتِهم
التقشفيّة التي ترمي إلى توزيعِ الجوع والفقر والمرض بينهم؛ وكيف يشعرُون بالجُوع
وهُمْ مُتخمون إلى حدِّ الثمالة؟ ولا بالمرضِ؛ لأنهم أصحاء إلى درجةٍ يُحْسَدون
عليها، وإذا ما أُصيبوا بصُداعٍ طفيف؛ فإنّهُم سيُعالَجُون في أرقى مَشافِي
العالَم! وقد أصابَ الكاتب (أحمد فؤاد نجم) حين قال: المسؤُول العربيّ يدرسُ
خارِجَ البلد، وإذا مَرِضَ يُعَالَج خارِجَ البلد، ويذهبُ للسّياحةِ خارِجَ البلد.
الشـّيء الوحيد الّذي يفعلُه داخِل البلد؛ هُوَ سرقةُ البلد! وهذا ما أوقع البلاد
في دوّامة من الظلمِ والظلمات، فأصبحت فيها العدالةُ من المحرّمات، وقد حقَّ مَنْ
قال: لَمْ نَعُدْ نريدُ العدلَ في أوطانِنا؛ لأنّهُ مُستحيل.. نُطالِبُ بتوزيعِ
الظّلم بطريقةٍ عادِلة فقط!
ولا زلنا
نتذكّرُ تلكَ الملايين الطائلة والنفقاتِ الهائِلة التي صُرفت من أجلِ إيفادِ
طلابنا الأوائِل إلى خارج تخومِنا؛ فأضحتْ كارثةً على تعليمِنا، فضلاً عمّا جرّه
من إنفاقٍ ماليّ مُرهق على كاهلِ الحكومِة، والفتك باقتصادِها الهزيل، ولو
صُرِفَتْ هذهِ الملايين على الجامعة - الافتراضيّة على الورق - لأنجز الكثير منها
أو يكاد، فلمّا رجعُوا من رحلتهم العلميّة الشاقّة العسيرة وجدُوا أمامَهم طرُقَ
البطالة شاسِعةً واسِعةً مفتوحةً على مصاريعها، وفي أحضانِ البِطالة - كما يقول
الغزاليّ - تُولَد آلافُ الرّذائِل! وقد
صدق الفيلسوف الصينيّ الكبير (كونفوشيوس) حينما قال: "أطْعِمُوا النّاسَ،
ثمَّ اطْلبُوا منهمُ الفضيلة"! وقال أبو سُليمان الداراني (فقيه زمانِه):
"ابدأ برغيفِكَ فاحرزه، ثمَّ تعبَّد!". وفي الأحاديث: لأنّ تغدوَ
فتتعلّمَ باباً مِنَ العِلْمِ، خيرٌ لكَ مِنْ أنْ تُصَلِّيَ مائةَ رَكْعةً
(تطوُّعاً). وتفكّر ساعةٍ خيرٌ مِنْ قيامِ ليلة. ومِنْ أقوالِ الإمامِ الشافعيّ
(رحمه الله): "طَلَبُ العِلْمِ أفضلُ مِنْ صلاةِ النّافِلة". وقد أفتى
الفُقهاء بأنّ الزكاةَ تُعْطَى لطالِبِ العِلْمِ، وتُحجب عنِ العابِد؛ لأنّ
الأوّلَ ينفعُ نفسَهُ وغيرَهُ، والثّانِي ينفعُ نفسَه فقط([20]).
إنّ ما يُنْفَق على التعليم العربيّ الإسلاميّ،
يكاد يُعادل النفقات العالمية التي يتمُّ إنفاقها. ومن هنا فإنّ الإنفاق على
التعليم وَفْقاً لاستراتيجيّةٍ مُعيّنة، كفيلٌ أن يكون الإنفاقُ أكثرَ إنتاجيّة
عمّا هو عليهِ الآن في الوقتِ الحاضِر. والاستراتيجيّات المنشودة لن تتحقّق مِنْ خلالِ ترديدِ الاسطواناتِ المشـرُوخة دوماً، أو رَفْعِ
الشِّعارات المستهلكة يوميّاً، والتي تكاد تكون قريبةً مِنَ الأمنيات، على الرّغم
مِنْ أنّ التمنّي - كما قالَ (الينور
روزفلت) - يَسْتَهلِك الطّاقةَ نفسَها التي يستهلِكُها التّخطيط! وهذا ما هُوَ حاصِلٌ
عندنا؛ فإنّ اللاحِق يَجُبُّ ما قبلَهُ مِنْ تعليمات، وينسُخُ ما دونه مِنْ خططٍ
واستراتيجيّات، وإنْ كانتْ جديرةً بالاستمرارِ عليها ومُواصلتها، بَلْ ووضعها في
حيِّزِ التنفيذ. وإذا ما عدلَ عن ذلِكَ تعبيراً عن حُسنِ نيّته؛ فإنهُ - في أحسنِ
الأحوالِ - سيدعو إلى تأجيلِ تلك القرارات الملزمة؛ ولكأنّ السياسةَ عندنا - كما
يقولُ هنري كيولي - هِيَ فنُّ تأجيلِ القرارات حتّى لا تُعَدّ ذات جدوى! ونحنُ
دائِماً ندّعِي أنّنا وصلْنا إلى خط نتقاطعُ فيهِ معَ الدُّوَل المتقدِّمة،
ولكنّنا إلى الآن لم نستطع أنْ نوفِّرَ الحدَّ الأدنى مِنَ الحاجياتِ الإنسانيّة.
إنّنا دائِماً نحومُ حولَ المظاهِر الخارجيّة الجوفاء، ولا نلجُ إلى عُمْقِ
المشكلاتِ الّتي نعانيها، والأصلُ أنْ نبحثَ في عُمْقِ أعماقِ الإنسان، فالإنسانُ
هو مفتاحُ المعالجةِ الحضاريّة.
استراتيجيّة الإعلام المسيّس لاستعمار العقول
على الرّغمِ مِنْ كُلِّ ذلِكَ، ما زالَ الشعبُ المسكينُ
يُرواح في دوّامات مفرغة لا أوّل لها ولا آخر، وما زالَ يتشبّثُ بصمتهِ المرير،
ويتبرقعُ بأسمالِ هُدوئهِ الممزّق؛ لأنّه لا يريدُ أن يُراهنَ على مستقبلِ أبنائهِ
وأحفادهِ، ويعزّ عليهِ أن يرى حاضرهُ نابضاً بالحروبِ الطّائشة التي لا تجرّ إلاّ
الويل والوبال، ولا يكون ضحيتها إلاّ الفقراءُ، فـ"عندما يشنُّ الأغنياءُ
الحرْبَ يموتُ الفُقراء!"([21])،
فهي الطبقةُ الوحيدةُ التي تدفعُ الثمن غالياً لحروبهم الّتي أشعلوها، والّتي لم
يأخذوا رأيهم في خوضها، وكان من نتائِجها "جيشٌ مِنَ المعوّقين، وجيشٌ مِنَ
الأرامِل، وجيشٌ مِنَ اللّصُوص!"، ولهذا قيل: عندما يُبْتَلى الوطنُ بالحرب؛
يُسْتَدْعى الفقراءُ للدِّفاعِ عنِ الوطن، وعندما تنتهي الحرب يُسْتَدْعى
الأغنياءُ؛ لتقاسُمِ الغنائِم ونهبِ الثرواتِ المتبقية! ففاتورةُ الحرُوبِ يتمّ
سدادها دائِماً مِنْ جيُوبِ الفقراء؛ مِمّنْ لا حولَ لهم ولا قوّة! وعندما تضعُ
الحربُ أوزارَها، وتنتهي المعارِكُ بانتصارِهم على أعدائِهم، يُتَوّجُ الأغنياءُ،
وتُعَلّق الأوسمةُ والنياشين على صدُورِ المترفين، مِمّنْ كانوا يُراقبون عن كثب -
وهُمْ على آرائك فاخِرة - ماجريات الحربِ الطّائشة عبر القنواتِ الفضائيّة.
ويُذكِّرُني هذا بقولِ سيّدةٍ لقائدٍ عسكريّ في الحربِ العالميّة الثانية، وهي
تلوِّح بصُورةِ ابنها: "هذا ابني يا سيّدي، الحربُ انتهتْ وهو لم يعدْ!!
مسكينةٌ هذهِ الأم، لا تعلمُ أنّ الحرُوبَ لا يعودُ منها إلاّ قادتها"، وأنا
أضيف: وإذا عادُوا تُوِّجَ النصرُ باسمِهم، وليسَ باسمِ الّذين فُقِدُوا!
أمّا
الفقراءُ الشجعان، من المحاربينَ القُدامى، فيُحالون إلى التقاعُد! ولكنّهم
يُجبرون على العودةِ إلى ثكناتهم متى دقّت ساعةُ الحرب؛ فهم وَقُود لماكنةِ
الحرُوبِ الّتي لا تكفّ عنِ العمل؛ لأنّ تجارةَ ساسةِ العالم الرأسماليّ رهنٌ
بهذهِ الحرُوب الجنونيّة، الّتي لا تجدُ لها منطقاً عقلانيّاً، ولا تبريراً منطقيّاً.
ولهذا كتبَ (برتراند رسل)، في عيدِ ميلادهِ التسعين: "أنّ الإنسانَ حيوانٌ
عاقِل. وخلال هذهِ السّنواتِ الكثيرة المنصرِمة، لَمْ أصادِف أيَّ دليلٍ على
صِحّةِ هذا القَوْل، ولَوْ مرَّةً واحِدة"([22]).
وقال (رسل) أيضاً: "منذُ بدءِ الخليقةِ، لم يمتنعِ الإنسانُ عنْ ارتكابِ أيِّ
حَمَاقةٍ كان قادِراً على ارتكابِها"([23]).
فالمعيارُ الوحيد لتجّارِ الحرُوب هو (الرِّبحُ الماليّ)، وهم يعتقدون أنّ الطريقَ
الأضمن إلى مكاسِبَ أكبر؛ هُوَ النزولُ بالمستوى الفكريّ للنّاس([24])،
واستنزاف ثرواتهم الماليّة، وفي ذلِكَ قالَ الفيلسوف الاقتصاديّ الألمانيّ (وولف
جانج ساجس): إنّ أسوأَ ما يُمكن حصُولُه هو أنْ تنجحَ مساعِي العولمة؛ لأنّ
المستفيدَ منها أقليّة صغيرة مُحاطة بمجمُوعةٍ مُتملِّقة، لها علاقاتٌ اقتصاديّة
مع هذهِ الأقليّة، أمّا بقيّة البشـر فليسَ لهم إلاّ أنْ يتشاحنُوا ويتقاتلُوا.
فليستِ العولمةُ نادياً تأهيليّاً للجميع؛ يُمكن أنْ يدخُلَهُ الغنيّ للبحثِ عن
فُرَصِ الاستقواء، ويدخُلَهُ الفقيرُ للبحثِ عن فُرْصةِ غِنَى، بَلْ نادياً
يدخُلُه الأغنياءُ والأقوياء فقط، ولا يدخلُه سِوَاهُم([25]).
ولذلك كَتَبَ الزّعيمُ النقابيّ البرازيليّ (لولا - Lula) قائِلاً:
"الحربُ العالميّةُ الثّالِثة بدأتْ بالفِعْل. إنّها حربٌ صامِتة، ولكنّها
ليستْ أقلَّ رُعْباً.. فبدلاً مِنَ الجنُود، الأطفالُ هُمُ الّذين يموتون، وبدلاً
مِنْ ملايينِ المصابين، هُناكَ ملايين العاطلين، وبدلاً مِنْ تدميرِ الجسُور،
تُغلق المصانِع والمدارِس والمستشفيات.. إنّها حربٌ أعلنتها الولاياتُ المتحدة
ضِدّ القارّة الأمريكيّة، وكُلّ العالَم الثّالِث"([26]).
الإعلام المسيّس والتخطيط لاستراتيجيّة تشكيل العقول
ومِمّا زاد الطين بلّة تلكَ الحروبُ النفسيّةُ الّتي
تشنُّها قنواتُ إعلامٍ مُسيّسة، على عقُولِ العُزّلِ مِنَ المواطنين، الذين
يعيشُون حالةً مِنَ الرُّعبِ والخوفِ مِنْ مُستقبلٍ مجهُول، لا يعرفُ مصيرَهُ حتّى
القابضين على ناصيةِ السياسةِ، مُحنّكينَ وخُبَراء، فكيفَ بغيرِهم مِمّنْ لا ناقةَ
لهم فيها ولا جَمَل، كما يقولُ المثل.. قنواتٌ لا تني ليلَ نهار في صبِّ الزيتِ
على النّار، بدلاً مِنْ تعزيزِ لُغةِ الحِوار، وتأكيدِ حُسْنِ الجِوار، فبُحّت
أصواتُ السّلامِ الخافتة تحتَ أزيز الرّصاص المدوِّي. وهذهِ الحالةُ التي نعيشُها
اليوم تذكِّرني بمقولةِ (شيشرون)، خطيبُ روما الشهير، الذي وقفَ ساخِراً من برلمانِ
ذلِكَ الزّمان؛ حينَ سكتَ أغلبُ نوّابهِ: "عندَ الحرُوبِ كُلُّ القوانينِ
تلوذ بالصَّمْتِ". وإلى هذا المعنى بالضبطِ ذهبَ الموسيقار (مارسيل خليفة)؛
حينَ قال: "حتّى في الموسيقى صوتُ الطّبْلِ أعلى مِنْ صَوْتِ القانون"!
في هذا الفضاءِ المفعم بدُخانِ الحرُوب الصّاعِد، الّتي تزكمُ الأنوفَ، يحبُو
التعليمُ يُمنةً ويسرة، يسقطُ تارةً، ويمضي تارةً أُخرى، وغايتهُ أن يَصِلَ إلى
ضِفاف الأمان، لا أنْ يُقاد بهِ أسيراً نحوَ أقبية الظّلام! أمّا المعلِّم الذي
يقودُ عمليّةَ التعليمِ، فقد أصبحَ هُوَ الآخرُ موضُوعاً لسُخريةِ المجتمع؛ نظراً
لشظفِ عيشهِ، وبُؤْس حالهِ. وإذا كان قائدُ التعليمُ يعيشُ هذهِ الحالةَ المزرية،
تُرى كيف سيكونُ حالُ الأجيال مِنَ الطلبةِ، الّذينَ يشكِّلُون الآلافَ المؤلّفة
مِنْ عاطِلي المستقبل القريب! فما أحرى – إذاً - بالقائمينَ على إدارةِ المنظُومةِ
التعليميّة، أنْ يعيدُوا الحياةَ والأملَ إلى قلبِ هذا الهيكل المتهالِك الّذي لا
يجدُ ما يَسُدُّ رَمَقَهُ، وقد آن لنا أنْ نعلمَ أنّ نهضتَنا في نهضةِ مُعلِّمنا،
وتقهقرَنا في إذلالِه.. وكيف لا، وهو مُحرِّك الوَعِي الكامِن، ومُثوِّر العَقْلِ
الرَّاكِد، وشُعلة الظّلامِ الدّامِس، فإذا دمّرنا المعلِّم أتينا على منظُومةِ
الوعي مِنْ قواعدها، وأصبحَ المجتمع تحتَ رحمةِ قنواتٍ مُسيّسة لها ترويج إعلاميّ
قويّ، ولكن بمُحتوى ثقافي تافِه، إنْ لَمْ نَقُلْ (رخيص)، بهدفِ تدجينِ المجتمعِ،
وأدلجته ونمذجته، وتنميطِ سلوكهِ؛ وفقاً لمقاساتِ السُلطة السياسيّة التي تسعى
لتغييبِ الوعي. وإذا غابَ الوعيُ، أصبحَ الإنسانُ مُجرَّد دُميةٍ يُتَلاعب بها هُنا أو
هُناك، وإذا ما مشـى فإنه يمشي خبطَ عشواء، كأنّهُ فقد البوصلةَ الّتي توجِّه
شراعَهُ إلى حيثُ ضِفاف الأمان. وليسَ سِرّاً أن نؤكّد هُنا أنّ الوعي العربيّ
السّائِد هو (وعيُ التخلّف)، أي الوعي الّذي يعرفُ بدقّة ما لا يريدُ، ويستطيعُ
أنْ يتخلّصَ منه، لكنّهُ لا يعرفُ ما يريدُ، وإذا عرفَهُ لا يستطيعُ أنْ
يُحقّقَهُ([27]).
وهو على عكسِ (وعي التقدُّم) الّذي يتحكّمُ في الحاضِر، ويستخدِمُ إمكاناتهِ لصُنعِ
المستقبل، وبالتالي فهو قادِرٌ على حَسْمِ اختياراتهِ بوضُوح يمكنه من أنْ يعرفَ
ما يريدُ، ويمضي نحوهُ قدُماً، وأنْ يعرفَ ما لا يريدُ فيحيدهُ أو يُلغيه([28]).
ومن الجديرِ أن
نعرفَ، في هذا السياقِ، أنّ "المستقبلَ هو ملكٌ لِمَنْ يستعدُّ لهُ
اليوم"! كما قالَ (مالكولم اكس). وقمينٌ ذكرهُ كذلك، أنّ "الوعي أشملُ
مِنَ العقل، لأنّ العقلَ أشبهُ بآلةٍ تعملُ حسبَ أنساقٍ، تقدِّمُ تفسيراتٍ عن
مُعطياتِ الحواس. هذهِ التفسيراتُ تُصَحَّحُ بتراكُمِ المعلُوماتِ خلالَ وقتٍ مِنَ
الزمن. أمّا الوعيُ فيُشَكِّلُ صُورةً شامِلةً عنِ الحياةِ والكون، تتألّفُ مِنْ
تفسيراتِ العقل، ومُعطياتِ الوجدانِ والرّوح، أيْ إنّ مضمُون الوعي يحتوي ما يعرفُ
الإنسان وما لا يعرف"([29]).
وصناعةُ الوعي
المعلّب هي ما تقومُ بهِ الحكومات الفرديّة، وبالتالي فهي لا تني في مُحاربةِ
أدوات إنتاج الوعي، الّتي تتمثلُ في المعلِّم الحقيقيّ، الذي يزرعُ في تلافيفِ
طلبتهِ الوعي المدرك لِمَا يدورُ حولَهُم. ولا زلتُ أتذكّرُ - في مرحلةِ (البكالوريوس)
- تلك المحاضرة القيِّمة، التي ألقاها أحدُ أساتذتنا الملهمين، حول أثر الوعي
المدرك([30])،
وفرّق بين وعي المرء الجاهِل الذي يعرفُ أنّهُ لا يعرفُ، وبينَ المرء الّذي لا
يعرفُ أنهُ لا يعرف، وقال: إنّ مهمّةَ تعليمِ الأوّل أيسـرُ بكثيرٍ من تعليم
الثاني. فـ"أعظمُ مصائِبِ الجهلِ - كما قال مالكولم اكس - أنْ يَجْهلَ
الجاهِلُ جَهْلَه! وهذا ما يُعرف بـ(الجهلِ المركّب)، أو المعرفة الجاهِلة، التي
تجهلُ أنّها جاهِلة([31]).
فواقِعُنا المعرفيّ يُعاني مِنْ أدعياء المعرفة، أو من جهلِ العارفين، مِمّن
يدّعون المعرفة، ولا يمتُّون لها بصلةٍ قريبة أو بعيدة.
والمجتمعُ الّذي يفتقدُ الوعي الحقيقيّ، لا يعرفُ
أحياناً أنّهُ لا يعرفُ، ويلتقطُ معلوماتهِ كُلَّها مِنَ الشاشةِ الصغيرة، فهي
قناتهُ المعرفيّة الفُضْلى، تلكَ القناة التي تشكِّلُ وعي مُشاهديها بثقافةٍ
مُسيّسة عَرَضيّةٍ مُؤدلجة، حتّى أنّك حينَ تجالِسُ النّاسَ، وتخالطِهم، وتتجاذبُ
معهم أطراف الحديث، تجدهم ينقلون إليك أخباراً تكاد تكون مُتشابهة، تلك الأخبار
المؤدلجة الّتي تعملُ على تحجيمِ أثر المعلِّمين، وتقويض دورهم في البناء
الاجتماعيّ، فضلاً عن تضييقِ الخِناق الاقتصاديّ على أعناقهم. وفي هذا المعنى قال
المفكّر الشهير (علي شريعتي): المعلِّمون في بلادي بُؤساء، أتعرِفُ لماذا؟ لأنّ
حُكّامَنا طُغاة، والطّغاةُ عبرَ التّاريخ ضِدّ تعليمِ الشّعب، مهما ادّعوا.
فالتعليمُ يعني
الوعي، والوعيُ يدفعُ الشّعبَ للمطالبةِ بالحقُوقِ، ومُحاسبةِ الحُكّام! فَمَنْ
يَصِلُ إلى السّلْطةِ مُعتمِداً على جهلِ الشّعب، لَنْ يهتمّ مُطلقاً بالتّعليمِ
والمعرفة لشعبه؛ لأنّ تنويرَهُم وتعليمَهُم هو نهايته! فـ"كلُّ ما يتطلّبهُ
الطغيان؛ هو بقاءُ ذوِي الضّمير الحي صامِتين". ولهذا فالمعلِّمُون محكُومون
- في عمليّة التعليم - بتعليم الطلبةِ وَفْقاً لبنيةٍ اجتماعيّة تُلْجِم التفكيرَ،
فالمدرسةُ في مُعظمِ عوالِمنا، ليستْ ميدانَ التدريبِ؛ ليُصبِح الطّالِبُ فيهِ
فرداً أوعى وأفضل، بَلْ هو مكان الإعدادِ؛ للانطلاقِ نحو عالَم الرّاشدينَ
بأعرافهِ واشتراطاتهِ البيروقراطيّة، ومواثيقهِ المضمرة، ونظام طبقاتهِ
الاجتماعيّة، بدلاً مِنْ مساءلةِ القواعِد والقوانين، والبحثِ عن تفسيراتٍ يقينيّة
للتساؤلاتِ القائِمة، ومُواجهة الآراءِ المفرُوضة، من دونِ الرضُوخِ للأحكامِ
المسبقة، والعثور على مكانٍ يُجاهِرُون فيهِ بأفكارِهم([32]).
وفي هذا قال برتراند رسل: "لا يُولَدُ البشرُ أغبياء، بَلْ جهلة، ثمّ يجعلُهم
التّعليمُ أغبياء".
ومن هنا، فإنّ
"الثقافة تُصبح مجرّد سلاحٍ سياسيّ لضـربِ الجماعةِ نفسِها. إنّها ليستْ
أفكاراً "ثقافيّة" في الكُتُب، بَلْ قوانين، ومحاكِم، ومدارِس، وأعياد،
وأناشيد، وخُطَب، وجرائِد، وإذاعات، وأموال طائِلة تُنْفَق علناً، وكُلّ
عام". فالثقافةُ من هذا المنطلق تكون سِلاحاً مهمّتهُ تجهيل النّاس، وليسَ
تثقيفهم، تستخدمهُ الدّولةُ والكنيسة علناً([33]).
ومن هُنا، فإنّ "الفَقْرَ لا يصنعُ الثّورة، إنّما
وعيُ الفقيرِ هُوَ الّذي يصنعُ الثورة.. الطّاغيةُ مهمّتهُ أنْ يجعلَكَ فقيراً،
وكاهِنُ الطّاغيةِ مهمّتهُ أنْ يجعلَ وعيكَ غائِباً!"([34]).
وأشار (فيكتور هوجو) إلى هذا المعنى بالضبط؛ بقولِه: "حينَ تُعيقُ مجرى الدّم
في الشريان تكون السّكتة، وحينَ تُعيقُ مجرى الماءِ في النّهْرِ يكونُ الفيضان،
وحينَ تُعيقُ مُستقبلَ شعبٍ تكونُ الثورة"! وقال أيضاً: "لا توجدُ
قُوّةٌ على الأرضِ قادِرةٌ على أنْ توقِفَ فكرةً حانَ وقتُها"!
التخطيط لاستراتيجيّة صناعة الموافقة أو الخنوع الضمنيّ
تسعى الدّول المتخلِّفة الّتي خرجت من التاريخ، ولا
تحملُ آفاقاً مستقبليّة، ولا بنية اقتصاديّة، إلى تجنيدِ طاقاتِها في سبيلِ تغييب
وعي المواطِن من خلالِ أدلجة الإعلام والسيطرة عليه، وعندما يغيبُ العقلُ والفكر
يُصْبح الإنسانُ مجرّدَ وسيلةٍ ناجعةٍ لتحقيقِ رغباتِ الآخرين وأهدافِهم! وقد صدقَ
(مالكولم اكس) حينَ قال: إنّ وسائِلَ الإعلامِ هي الكيانُ الأقوى على وجهِ الأرض،
فلديها القُدرة على جعلِ المذنبِ بريئاً، وجعلِ الأبرياءَ مُذنبين. هذهِ هِيَ
السُلطةُ؛ لأنّها تتحكّمُ في عقُولِ الجماهير! قال (غوستاف لوبون): "مَنْ يعرفُ
إيهامَ الجماهير يُصْبِح سيِّداً لَهُمْ، ومَنْ يُحاوِل إزالةَ الأوهامِ مِنْ
أعينِهم يُصْبِح ضحيّةً لَهُمْ". فمن خلال التحكّمِ بالرأي "يجري حكمُ
الكَثْرةِ من قِبَل القِلّة، كما قال (ديفيد هيوم)([35])،
وهو ما يمثّل (الخنُوع الضمنيّ)، الذي يُسلّم به المواطنون "مصيرَهُم
لحكّامِهم"، على الرّغم من أنّ "القوّةَ تكونُ دائِماً إلى جانبِ
المحكُوم". لو أدركَ النّاسُ ذلِكَ لانتفضُوا وأطاحُوا بأسيادِهم. وخلصَ (هيوم)
إلى أنّ الحكومةَ قائمةٌ على "التحكّمِ بالرأي"، وهو مبدأٌ ينسحبُ على
أشدِّ الحكُوماتِ استبداداً، وغالبيّة الحكوماتِ العسكريّة، وكذلِكَ على أكثرِها
حريّةً وشعبيّة([36]).
فكلّما كانتِ الحكومةُ أكثرَ "حريّةٍ وشعبيّة" كان مِنَ الضروريِّ
الاعتمادُ على رقابةِ الرأي والسيطرة عليهِ؛ لضمانِ الخضُوع للحُكّام. فالمحكُوم
في النظم الديمقراطيّة يتمتّعُ بحقِّ الموافقة ليسَ أكثر. أي يحقُّ للسُكّان أنْ
يكونوا مُراقبين للأحداث، ولكن ليسُوا مُشاركين، وهو ما يُعْرَف بمبدأ (الموافقة
بلا مُوافقة)، ذلِكَ التعبيرُ الذي استخدمَهُ السوسيولوجيّ فرانكلين هنري([37]).
فالشعبُ يجبُ أن يخضعَ لحُكّامهِ، ويكفي أن يُوافِقَ بلا مُوافقة، في ظلِّ دولةٍ
تعسفيّة، أو في مناطِقَ أجنبيّة يُمكن فيها "استخدام القوّة". وعندما
تكونُ مصادِر العُنف محدودة يجبُ الحصُول على مُوافقةِ المحكُوم بأساليبَ تُسَمّى (صناعةُ
الموافقة)([38]).
قال نعوم تشومسكي: أحدُ استراتيجيّات التحكُّمِ بالشّعُوبِ؛ هي اختلاق المشاكِل
ثمّ إيجادُ الحلُول.. فيطالِب الشعبُ بقوانينَ أمنيّة على حسابِ حُريّته! علماً أن
"أي حكومةٍ تستخدِمُ التعذيبَ والقتلَ في فرضِ القانون تُبْطِلُ حقَّها في
الحُكْم، وتُبْطِلُ القانونَ الّذي تفرضهُ في آنٍ معاً؛ لأنّ إحدى الرّكائِز
القليلة الأساسيّة لأيّ مُجتمعٍ - ينعمُ فيهِ المواطِنُون بحقُوقٍ مُتساوية - هِيَ
قداسةُ حياةِ الإنسان"([39]).
فأي حكومةٍ لا تعترفُ بهذهِ الحقيقة، ولا تقومُ بمحاسبةِ أولئك الّذينَ يقومُون
بالتعذيب والقتل، لا يُمكنها أنْ تدّعِي العدالة. فلا تعود الحكومةُ حكومةً إذا
تجاوزتِ القانون، بَلْ نظاماً اغتصبَ السُّلطة، وينبغي أنْ تُحاكَمَ على هذا
الأساس([40]).
فالعدالةُ هي
ميثاقُنا الإنسانيّ المعرُوف، وهي ما نستطيعُ جميعُنا أنْ نقيسَ أنفسَنا على
مِسْطرتِها. وكما يقولُ القانونُ الإنكليزيّ القديم، لا ينبغي الاكتفاءُ بتطبيقِ
العدالة، بَلْ يجب التحقّق بأمِّ العين مِنْ تطبيقِها([41]).
ولكن على الرّغم من كُلِّ ذلك، فإنّ الحكومات التعسفيّة لا زالت تتمعّنُ في
مُصادرة حريّة الإنسان، وإهدارِ كرامته، والسيطرة على عقلهِ. وقد قيل إنّ صناعةَ
العَلاقاتِ العامّة في مطلعِ هذا القرن، كرّست "للسيطرةِ على عقلِ
العامّة". هذا، وقد أعلن (ألكسندر هاملتون) أنّ الشّعبَ "وحشٌ
هائِل" يجب ترويضه"([42])،
لأنهُ قد يتمرّد ويهربُ من قفصه، فيثيرُ الرّعبَ في قلوبِ الحُكّام! وقد ذهب (هارولد
لاسويل)، أحد مُؤسّسي علم السياسة الحديث، إلى أنّه يتعيّنُ على المدراء
الاجتماعيين - في المجتمعاتِ الأكثر
ديمقراطيّة، حيثُ القوّة غير متوافرة - اللجوء إلى "أُسلوبِ تحَكّم وسيطرة
جديد كليّة، أيْ مِنْ خلالِ الدعايةِ بالأساس"([43]).
وفي هذا الصّدد
أكّد (لي كوان يو)، رئيس وزراء سنغافورة الأسبق؛ بالقول: كانت سيطرتي التامّة على
المنابِر الإعلاميّة مصدر قُوّتي طيلةَ حياتي السياسيّة، فالكلمةُ المنطوقة عبر
التلفزيون أشدّ تأثيراً بكثير مِنَ النصِّ المكتوبِ في الصّحف([44]).
وفيما يتعلّقُ بالإعلامِ العربيّ، فإنّ "الصفة الغالِبة عليهِ، أنّهُ إعلامٌ
مُسَخّر علناً، لخدمةِ هدفينِ سياسيين: أولّهما: أنْ يتجاهلَ أخطاءَ الحكومة،
والثاني أنْ يُمَجِّدَ مُنجزاتِها الإداريّة، بكُلِّ وسيلةٍ في حوزتهِ، بما في
ذلِكَ قصائِد الشِّعر، وأغاني الأطفال"([45]).
فالإعلامُ
العربيُّ إعلامٌ لا يملكُ شيئاً مهمّاً يقولهُ لهذهِ الملايين، ولا يعرفُ كيفَ
يستحوذ على انتباهِها باللّغةِ المألُوفة وحدَها، مِمّا يضطرّهُ بالتالي إلى
تبنِّي حلُول بلاغيّة بحتة، غير مطوعة لخدمةِ الإعلام: وأوّل هذهِ الحلُول،
تمثَّلَ في استعمالِ (الصفة)، هي صيغةٌ سِحريّة حقّاً، تُضافُ إلى كُلِّ شيءٍ،
فتُصبِح شيئاً آخَر في لحظةٍ قصيرة، ومن دونِ عناء. إنّها تلحق بحكومةٍ غير
شرعيّة، فتُصبِح حكومةً رشيدة. وتلحقُ بوطنٍ يُعاني مِنَ الزُّحامِ والعطش،
فيُصبِح وطناً سامياً إلى العُلا. وتلحق بمواطنٍ حافي القدمين، فيُصبِح مُواطناً
كريماً، صاحب حضارةٍ عريقة. فالصفةُ، مثل عصا السّاحِر، تستطيعُ أنْ تُحقِّقَ
المعجزات، لكنّها - مثل عصا السّاحِر أيضاً - حيلةٌ لا يُصدّقها الجمهُور([46]).
وقد أفرطَ الإعلام العربيّ في استعمالِ الصفة سلباً وإيجاباً، وورّطَ نفسَهُ في
قامُوسٍ سحريّ، مُعدّ - فقط - لمخاطبةِ الأطفال. فكلمة (الملك المفدّى)، مثلاً،
كلمةٌ لا تستطيعُ أن تخاطِبَ رَجُلاً ناضِجاً، من دون أنْ تُصبِح كذبةً علنيّة.
وكذلِكَ كلمة: الرئيس الجليل، والشعب الأصيل، والحكومة الرّشيدة، والثورة
المباركة، والملك السّاهِر على شؤونِ الرعية، وعشـرات الصِّفات الخرافيّة الأُخرى،
التي لا يعرفُها قامُوس الإعلام إلاّ بمثابةِ مادّةٍ للضحك([47]).
أمّا ثاني الحلُول البلاغيّة المفضّلة لدى الإعلام العربيّ، فتمثَّل في استعمالِ
صيغةِ المبالغة. وهِيَ أداةٌ سِحريّة أكثر إثارة، تُضاف إلى الصّغير، فيُصبِح
كبيراً جِدّاً، وتُضاف إلى شجرةٍ واحِدة، فتُصبِح غابة، وتُضاف إلى مصفاةٍ للنّفطِ
المشـرِف على النّفاد، فتُصبِح قلعةً صناعيّة لبناءِ المستقبل([48]).
وفي مجالِ المبالغة، سجّلَ الإعلامُ العربيُّ لنفسهِ سِجّلاً حافِلاً بأكثرِ
فنُونِ الكَذِب سذاجةً، وأقلّها قُدرةً على التّمويه. وهو الكَذِب الّذي لا
يُخاطِبُ أفراداً، بَلْ يُخاطِبُ أُمّةً بأكملِها.. فكلُّ شيءٍ يتضاعفُ حجمهُ، أو
ينقص إلى ما لا نهاية، بتغييرٍ طفيف في زاويةِ النّظر، وفي نوعِ الأُسلوب. وهِيَ
حيلةٌ بلاغيّة نافِعة في تعليمِ الأطفال؛ لأنّها تشحّذ قُدرتهم على التخيُّل،
لكنّها لا تعلّم المواطِن المسؤُول شيئاً، سِوَى أنّ الإعلامَ غير جاد، وغير
مسؤُول([49]).
أمّا ثالِث الحلُول البلاغيّة المفضّلة لدى الإعلام
العربيّ، فتمثِّلُ في استعمالِ صيغةِ (الحماسة)؛ لشدِّ انتباهِ الجمهُور.
فالإعلامُ الّذي لا يقولُ شيئاً مهمّاً، يضطرُّ إلى أنْ يقولَ شيئاً مثيراً. وهو
حلٌّ سِحريّ آخَر، مهمّتهُ أنْ يحيلَ الكلماتِ إلى قذائِف، ويجعلَها تنفجِر،
ويتطايرُ مِنْ حولِها اللّهب، ويسقطُ أمامَها الأعداء صَرْعى، من دون أن تسيلَ
نقطة دمٍ واحِدة([50]).
وقد أفرطَ الإعلامُ العربيِّ في شنِّ هذهِ الحربِ الطفوليّة، وصنعَ لنفسهِ لغةً
مِنَ (الديناميت)، لا تكلّم المواطِن، بَلْ تنفجِرُ فيه. فصوتُ الثورةِ (يُدَوِّي)
في أُذنيهِ، والجماهيرُ (تهدرُ) من حوله، وأناشيدهُ (تزلزلُ) الإذاعة، ولغته (رصاص)،
وسماؤُه (نار)، وأرضُه (تستعرّ) تحتَ قدميهِ كالسّعير([51]).
وفي مقابل هذهِ العاصِفة الحماسيّة، لا يملكُ المواطِن العربيّ صوتاً في إعلانِ
الحربِ أو إقرار السّلام، ولا يستطيعُ أنْ يحمِلَ سِلاحاً من دون أنْ يتعرّضَ
للعقُوبة. ولم يسألْهُ أحدٌ عن رأيه في أيِّ حرب، دخلتها الحكوماتُ العربيّة، في
أيِّ عصـر، وفي أيِّ مكان([52]).
رابعُ هذهِ الحلُول البلاغيّة المفضّلة لدى الإعلام
العربيّ، تمثّل في تفخيمِ (اللّقب السياسيّ) إلى أبعدِ ما تحتمِلُ السياسةُ
نفسُها. وقد جالَ الإعلامُ الحكوميُّ طليقاً في هذا المجالِ المفتُوح، وأسبغ على
حُكّامهِ مِنَ الألقابِ ما تضاءلَتْ بجانبهِ ألقابُ السّلاطين. ومن هذهِ الألقاب:
بطلُ العرُوبة، وحبيب الشّعب، والرئيس الملهم، والعاهِل المفدّى، وأمل الجماهير،
في وصلةٍ شعريّة بحتة، لا مبرّر لها في قامُوسِ الإعلامِ سِوَى الجهل بطبيعةِ
اللّقب السياسيّ نفسِه([53]).
كلُّ ذلِكَ من أجلِ اعتقالِ وعي الجماهير، ووضعهِ في مُعتقلاتٍ أيديولوجيّة،
وبالتالي تعليبهِ بقوالِب مُعلّبة ممهورة بـ(ماركاتٍ) حكوميّة مُسجّلة! وإلى هذا
المعنى ذهب (مصطفى محمود) مُؤكِّداً بقوله: إنّ الكتابَ الجيِّد يُحَرِّرُ الإنسان
الّذي يقرأهُ، أمّا التلفزيون الجيِّد؛ فيعتقلُ الإنسانَ الّذي يُشاهِدُه! وهناك
حِكْمةٌ رائِعة تعزِّزُ مثلَ هذا المفهُوم؛ وهي: ضع في الاعتبار؛ كذبةٌ واحِدة
يُمكنْ أن تُدَمِّرَ آلافَ الحقائِق!([54]).
وقال (جورج أورويل) بحقّ: "كُلّما ازداد ابتعادُ المجتمعِ عنِ الحقيقة،
ازدادت كراهيته لِمَنْ يقولُون الحقّ"([55]).
وأكّد (أورويل) أيضاً بقولهِ: إنّ لغةَ السياسةِ تمّ تصميمُها لتجعلَ الكذبَ يبدُو
صادِقاً، والقتلَ مُحْترَماً! وأنا أضيفُ: والبريء مُذنباً، والمذنِبَ بريئاً،
والجلاّد ضحيّة، والضحيّة مُجرِماً، والخائِن وطنيّاً، والوطنيّ منبُوذاً، كلُّ
ذلِكَ مِنْ خلالِ ثقافةٍ مرئيّةٍ عَرَضيّةٍ مُسَطّحة، تُقدِّمُ وجباتِها على طبقٍ
مِنَ الإغراءِ والمتعةِ والإثارة! أمّا العقلُ المدرِكُ فقد تمَّ تجميدُه في
ثلاجةِ الإعلامِ المسيّس، فأصبحَ مُغلقاً لا يعي ما يدورُ حولَهُ مِنْ مُستجدات،
ولا يفهمُ ما دونهُ مِنْ ماجريات!
فالعقلُ المغلقُ كجهازٍ مُغلق، وإنْ بلغَ أعلى درجاتِ
التطوُّر؛ لأنّهُ لا يُجْدِي نفعاً، ولا يُحْسِنُ صُنعاً، فليسَ ثمةَ إرسالٌ ولا
استقبال. ولهذا قيلَ: الإعاقةُ الحقيقيّةُ هِيَ في العقُولِ المغلقة([56])!
وقد صدقَ مْنَ قالَ: إنّ "الشعُوبَ التي لا تملِكُ وَعْياً، قَدْ تُصبِح
يوماً قطيعَ غنمٍ يسُوقهُ إعلامٌ لا يملِكُ ضميراً"! هذا، وقد قال (غوبلز)،
وزير الدعاية الألمانيّ إبّان حُكمِ (هتلر): أعطني إعلاماً بلا ضمير؛ أُعطيكَ
شعباً بلا وعي([57])!
كما أنّ "الخوفَ الجمعيَّ - كما قال برتراند رسل - يُحَفِّزُ غريزةَ القطيعِ،
ويميلُ هذا الخوفُ إلى إنتاجِ شراسةٍ تجاهَ أُولئكَ الذينَ لا يعتبرُون أعضاءً في
القطيع"! لهذا عليكَ أن تعلمَ جيِّداً أنّ "انجرافَكَ خَلْفَ القطيعِ
الضَّالِ تحتَ مبدأ (الكلُّ يفعلُ ذلِكَ)، يسلبُ مِنْكَ خِصَالَكَ البديعةِ
كإنسانٍ ميّزَهُ الله بالعقل"! وإذا فقدَ الإنسانُ هذهِ الميزةَ الفريدةَ -
الّتي حبانا الله إيّاها - أصبحَ آلةً صمّاء تعملُ بإرادةِ غيرهِ، وتتحرّكُ
امتثالاً لطوعِ بنانهِ.
وهكذا يتمّ اغتيال العقلِ الإنسانيّ، وإهدارِ وظيفتهِ في
الكشفِ والإدراكِ والتمييز بين الأشياء، ويكون مُجرّد منفِّذ للأوامر، ولا يدري
أنّهُ قد يلقى حتفَهُ عندَ تنفيذها! وهو مع ذلك قد يتصوّرُ واهِماً أنّهُ يفكِّرُ
بعقلهِ، ويتحرّك برأيه، وينقادُ باختياره، ولا يعي أنّهُ حامِلٌ أمين لفكرٍ دخيل
زرعُوه في لُبّهِ، فـ"أفضلُ ثروةٍ للحكُوماتِ أنْ تكون الشّعُوبُ غبيّة لا
تفكِّرُ أبداً"([58]).
و"مِنْ حُسْنِ حَظِّ القادة أنَّ الناس غير مُستعدين للتفكير"([59]).
وقد لخّص الفيلسوف الإنكليزيّ (برتراند رسل) هذهِ الفكرةَ؛ بقولهِ: "قَدْ
تَقْضِي عُمْرَك وأنتَ تعتقِدُ أنّكَ تدافِعُ عن أفكارِكَ، ثمَّ تكتشِفُ أنّكَ في
الحقيقةِ تدافِعُ عن أفكارِهم الّتي زرعُوها في عَقْلِك"([60]).
وفي هذا المعنى قال (أريك فروم): إنّ "الإنسان في العصـرِ الحديث يعيشُ في
وَهْمِ أنّهُ يَعْرِفُ ما يريدُ، بينما هو في الحقيقة يريدُ ما هو مفرُوضٌ عليهِ
أنْ يريدَهُ"([61]).
فـ"إذا لم تُسيِّطِرْ على عقلِكَ، سوفَ يُسيِّطِرُ عليهِ شخصٌ آخَر!"([62]).
وقد وردتْ هذهِ الفكرةُ بعبارةٍ أُخرى، وهِيَ: "إنْ لم تستخدِمْ عقلَكَ؛
فإنَّ الآخرينَ سوفَ يسُوقونه!"([63]).
وإنْ لَمْ تُبَرْمِجْ عقلَكَ، ستكون مُبرْمَجاً من قبلِ شخصٍ آخَر!([64]).
فنحنُ وَفْقاً لهذهِ الأفكار مجرّد ذاكرة خالية لحملِ
المعلوماتِ وتحديثها تارةً بعد أُخرى، ولهذا فإنّ "أغلبُ مَشاكلِنا - حسبما
أومأ إليهِ الدكتور بشير الرشيدي - هي بسببِ قناعاتٍ تعلّمْناها، وترسَّخَتْ في
أذهانِنا، وبالتالي يكونُ سلُوكُنا وكُلُّ تصرُّفاتِنا وَفْق هذهِ القناعات"،
وهذا ما أشارَ إليهِ أيضاً (ألبرت انشتاين)؛ بقوله: حين يُخبِرُكَ الآخَرُون أنّكَ
تغيَّرْتَ؛ فالمعنى أنّكَ توقّفْتَ عَنْ عيشِ حياتِكَ بطريقتِهم الّتي
يُفَضِّلُونها([65])!
فما أحرى بالإنسان أن يعيشَ على طريقتهِ التي يفضِّلها،
ما دام على الطريقِ الصّحيح. وفي هذا المعنى قال (رالف إمرسون): "ألا يُمكننا
أن ندعَ النَّاسَ يكونون هُمْ أنفسَهم، ويتمتّعُون بالحياةِ على طريقتِهم؟ أنتَ
تحاوِلُ أن تجعلَ الآخَرَ هو أنتَ. ويكفي (أنتَ) واحِد"([66])!
وما أجمل تلك العبارة التي تؤكّد ما نقلناهُ آنفاً؛ وهي "جميعُكم تضحكُون
عليَّ؛ لأنِّي مُختلِفٌ عنكُمْ، وأنا أضحكُ عليكُمْ؛ لأنّكُمْ مُتشابِهُون!"([67]).
وما أروع ما قاله الأديب الروسي (ديستويفسكي): "لا يَنْبَغي أن يشبهَ الإنسان
جمهرةَ النّاس، كُنْ مُختلِفاً ولَوْ صِرْتَ وحيداً". ولهذا "قَدْ
يكرهُكَ النّاسُ؛ لأنّكَ مختلِفٌ، ولا تعيشُ وَفْقَ معايير المجتمع، ولكن في
أعماقِهم يتمنّون لَوْ كانت لديهم الشجاعة لفعلِ الشيءِ نفسِه"([68]).
وفي هذا الصّدد قال (لابويسي): إنّ الّذين "يملِكُون بالفطرة عقلاً
سليماً"، والّذين يزيدُون على ذلِك "فيصقُلونه بالدِّراسة
والمعرفة"، يرون مِنْ فورِهم ما قوامُ الخير للإنسان. "إنّهم، وقد
وُلِدوا خيراً مِنَ الآخرين، لا يسعهم أنْ يألفوا الخضُوع"،
وحتّى حين "تفقدُ الحُريّة تماماً، وتغدُو خارِج عالمِهم، يظلّون يتخيّلونها،
ويشعرُون بها في فِكْرِهم". وليسَ ما يدعو إلى تعليمهم ما قوامُ الحُريّة:
فلديهم إحساسٌ بها داخلي وحي([69]).
بلدان العالم: تشابه في المقدّمات، واختلاف
في النتائج
هناك الكثير من بُلدانِ العالَم، التي عانت الأمرّين في
ظلّ أنظمةٍ قمعيّة غير ديمقراطيّة، ودفعت الثمن باهضاً من حياتها وحياةِ أبنائِها،
ولكن استفادت من تجارِبها البائسة، ودشّنت نهضتها الحضاريّة على أطلال الماضي
الرهيب، ومن هذهِ الدول (سنغافورة)، التي شهدت تطوّراً حضاريّاً وتقدّماً
عمرانيّاً، بعد سنواتٍ طويلة من البؤس والحرمان والتخلّف. ولنستمِعْ هنا إلى خطابِ
مُؤَسِّس سنغافورة الحديثة (لي كوان يو) عندما سُئِلَ عنِ الفرقِ بين سنغافورة
ودول العالَم الثالِث الآسيوية؟ فأجابَ بالقول: الفرقُ هو أنّنا نبني المكتباتِ
ودورَ البحثِ العلميّ، وهُم يبنون المعابد. نحنُ نصرفُ موارِدَ الدّولة على
التعليم، وهم يصرفونها على السِّلاح. نحنُ نحاربُ الفساد مِنْ قِمّة الهرم، وهم
يُمْسِكون اللصُوص الصّغار، ولا يقتربون من المفسدينَ الكِبار! ولهذا قيل:
"لَمْ تَعُدْ هُناكَ حاجةٌ لأيِّ دولةٍ أنْ تستعمرَ دولةً أُخرى، يكفي أنْ
توظِّفَ لصوصاً بهيئةِ حكومة"!
والفسادُ الإداريّ هو أمّ المشكلات السياسيّة في عالمِنا
اليوم، ولهذا قال (كارل كراوس): الفسادُ أسوأ مِنَ الدّعارة، فالدّعارةُ قَدْ
تُفْسِدُ أخلاقَ فردٍ واحِد، لكنّ الفسادَ يُفْسِدُ أخلاقَ الدّولةِ
بأكملِها"! ولهذا قيل: لِكُلِّ داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ بهِ، إلاّ الحكومةَ
أعيتْ مَنْ يُداوِيها! وقد حقّ مَنْ قال: إن في البلادِ العربيّة نوعينِ مِنَ
اللّصُوص: لصُوص صِغار تُلاحقهم الشرطة، ولصُوص كبار تحرسُهم الشرطة! فأجمل ما في
بلادِنا أنّ اللّصُوصَ لا نراهم ليلاً على أسوارِ المنازِل، بَلْ نراهُم في وضح
النّهار على مكاتِب فخمة! أمّا في (سنغافورة) فقد بدأوا باللّصُوص الكبار قبل
الصّغار، وذلك لأنّ "تنظيفُ الفسادِ مثل تنظيف الدرج؛ يبدأ من الأعلى نزولاً
للأسفل!([70]).
وفي هذا المعنى قال الشيخ (محمّد الغزاليّ): الفسادُ يجيء مِنْ أعلى ويهبط إلى
أسفل.. أمّا الإصلاحُ فيبدأ مِنْ أسفل، ويصعدُ إلى أعلى! ودعنا هُنا نستمِعْ إلى
باني نهضةِ سنغافورة الحضارية (لي كوان يو)، وهو يقول: قرّرنا تركيز جُهدِنا على
الحيتانِ الضّخمة، واللّصُوص الكبار، ووجّهْنا مكتب التحقيق تبعاً لأولوياتِنا.
كما شرعْنا، بالنسبةِ للأسماكِ الصّغيرة، بتبسيطِ الإجراءاتِ، وإلغاءِ الممارساتِ
السريّة، عبر الإعلانِ عن خطُوطِ إرشاديّة واضِحة وجليّة... وحينَ واجهنا مُشكلاتٍ
في ضمانِ نزاهةِ الأحكام، قُمْنا بتشديدِ سُلطةِ القانون على مراحِلَ مُتدرِّجة([71]).
وقد
تجسّد أهمّ تغيير فاعِل - أجريناهُ عام 1960م - في مبدأ (مِنْ أينَ لكَ هذا؟)، أي
السّماح للمحاكِم بالتّعامُل مع البيّناتِ الّتي تُثبت أنّ المتّهمَ يعيشُ حياةً
تتجاوزُ حدودَ إمكانياتهِ الماديّة، أو أنّهُ يملكُ عقاراً لا يسمحُ دخلهُ
بشرائهِ، كدليلٍ دامِغ على أنّهُ قَبِلَ أو تقاضى رشوة. ومع الدقّة في التحريّاتِ،
والسّلطة المخوّلة بالتحقيق مع أيّ مسؤُول، وكلّ وزير، استطاع مدير مكتب التحقيق،
الّذي يُمارِس مهمّته في رئاسةِ مجلس الوزراء، اكتساب سُمعة مُرعبة في اكتشافِ
أولئكَ الّذين يخونون الأمانة([72]).
وفي عام 1963م، جعلْنا استدعاء الشّهُود من قبل مكتب التحقيق، لتقديمِ المعلُوماتِ
أمراً إجباريّاً. وفي عام 1989م، قُمْنا بزيادةِ الحدِّ الأقصى مِنْ غرامةِ الرشوة
من عشرة آلاف إلى مائة ألف دولار. أمّا تقديم معلُوماتٍ كاذِبة أو مُضلّلة إلى
مكتبِ التحقيق؛ فقد أصبحَ جنايةً خاضِعةً لعقُوبةِ السّجنِ والغرامةِ التي تصلُ
إلى عشرة آلاف دولار، في حين زُوّدتِ المحاكِمُ بصلاحيّةِ مُصادرةِ المكاسِب
الآتية مِنَ الفساد([73]).
وقد أكّد (لي كوان يو) أيضاً في موضعٍ آخَر: أنا لَمْ
أَقُمْ بمعجزةٍ في سنغافورة، أنا فَقَطْ قُمْتُ بواجبي نحو وطني، فخَصَّصْتُ
موارِدَ الدّولةِ للتعليم، وغيَّرْتُ مكانةَ المعلِّمينَ من طبقةٍ بائِسة إلى أرقى
طبقةٍ في سنغافورة. فالمعلِّمُ هُوَ مَنْ صنعَ المعجزة، هُوَ مَنْ أنتجَ جيلاً
مُتواضِعاً يُحِبُّ العِلْمَ والأخلاقَ، بَعْدَ أنْ كُنَّا شعباً يشتمُ بعضهُ
بعضاً في الشّوارِع! ومن إنجازاتهِ الرّائِدة التي يصِفُها بقولهِ: رَفَضْتُ أنْ
أُوَجِّهَ موارِدَ الدّولةِ لشراءِ السِّلاح، كما يفعلُ حُكّامُ العالَم الثّالِث،
بَلْ وَجّهْتُ مُعظمَ موارِدِ الدّولةِ للتعليم، فتَحَوَّلَتْ سنغافورة مِنْ
دويلةٍ فقيرة مديونة، إلى واحِدةٍ مِنْ أسرعِ اقتصاديَّاتِ العالَم نُموّاً.
فالتعليمُ هُوَ سِرُّ نجاحِ سنغافورة!
وعلينا أنْ نتذكّرَ هُنا ما قالَهُ (جبران)؛ وهو: أنّ
الوطنَ يقومُ على كاهِلِ ثلاثة: فلاحٌ يُغذيّه، وجندي يَحْميهِ، ومعلِّم يُربّيه!
هذا، وقد أجمل (مهاتير محمّد) أثر التعليم الفاعِل في حلِّ المشكلاتِ جميعِها؛
بقوله: إنّ "أهمَّ درسٍ تعلّمْتهُ مِنْ تجرِبتي في الحكم، أنّ مشاكِلَ
الدّوَل لا تنتهي، لكن علاجها جميعاً يبدأ مِنَ التّعليم!". وما أجملَ ما
عبّر بهِ أيضاً المناضِل الإفريقيّ (نيلسون مانديلا) بقوله: "التعليمُ هو
أقوى سلاح يُمكن أنْ تستعملَهُ لتغييرِ العالَم!"([74]).
وأكّد الدكتور (فيكتور شيا)، خبير جودة التّعليم في كوريا الجنوبيّة أنّه:
"لا توجدُ دولةٌ تتحمّلُ إنتاجَ جيلٍ كامِلٍ دون تعليمٍ جيِّد، فهذا الجيلُ
سيدمِّرُ الدّولةَ داخليّاً؛ لتتفّتت وتفقد وجودَها. الشرقُ الأوسط أهملَ التعليم،
والآن يدفعُ الثّمن!".
وهذا ليسَ غريباً، لأنّ "بنيان الحضارة والرقي
لدولِ العالَم يرتكزُ على دعامتَيْنِ أساسيتَيْن؛ هُما: العِلم، وسيادة القانون
المستوحى من الشرعِ القويم. فالمؤسّسات العلميّة هي القوّة المحرِّكة للتقدُّمِ
العلميِّ والحضاريّ والاقتصاديّ، ومبعث الرّخاءِ والرفاهية والازدهارِ لأبناءِ
الشّعب. والقضاءُ هِيَ السّلطةُ القانونيّة التي تحمي العدالةَ، وتوفّر الطمأنينةَ
والأمن للجميع"([75]).
فالعلمُ والمعرفةُ هُما أمضى سلاحٍ لتغييرِ هذا الواقِع المؤلِم الّذي يعيشهُ
أبناءُ وطنِنا المعطاء. والكفاحُ من أجلِ العلمِ والثقافة هو جزءٌ متمِّم للنضالِ
السياسيّ، ويستحيلُ فصل إحراز النجاح السياسيّ، في أيِّ بلدٍ، عن مُستوى التقدّم
العلمي والثقافيّ الذي وصل إليهِ، نظراً للترابُط الوثيق بينهما([76]).
ولا ننسى أنْ نذكِّرَ هُنا "أنّ منحَ الدّولة بنية سياسيّة
مُستقرّة، لا يتطلّبُ إنشاء مؤسّسات ديمقراطيّة فحسب، وإنّما أيضاً إنشاء مُؤسّسات
(امتصاص الصدمات) الّتي تُشكلّ المجتمع المدني، كالصحافة الحُرّة، ونقابات
العُمّال، والأحزاب السياسيّة، والمنظّمات المهنية. فهذهِ المؤسّسات تساعِدُ في
وقاية الفرد مِنْ طغيانِ قُوّة الحكومة([77]).
كما أنّ "الديمقراطيّات لا تعملُ ما لم تستنِدِ البنية السياسيّة إلى مُجتمعٍ
مدنيّ صلب، وأحزابٍ سياسيّة، وصحافة حُرّة، وقضاء مُستقل، ومسؤوليّة صريحة عنِ
الأموالِ العامّة. هذهِ هي "أدواتُ امتصاص الصّدمة" في المجتمع، وهي
الّتي "تحمي الفرد مِنْ سُلطة الدّولة المجحفة"([78]).
استراتيجيّة السيطرة على التّعليم في الدّول المتخلِّفة
والسؤالُ هنا: لماذا يجب أن يبقى التعليمُ - على الدوامِ
- ميداناً فسيحاً تحتكرِهُ السياسةُ، لماذا أصبحَ كلُّ ما يمتّ إلى المعرفةِ بصلةٍ
مسألةً تخصُّ بالضرورةِ السُلطة والدولة؟ فسيطرةُ
الحكوماتِ على نظامِ التعليمِ في العالَم العربيِّ له دورٌ خطير في تردِّي المستوى
التعليميّ. فإذا دخلتِ السياسةُ والتجارةُ كأهدافٍ رئيسةٍ للتعليم انهارَ التعليم،
ولهذا فقد قيل: مِنْ أجلِ تدميرِ
أُمّةٍ لا حاجةَ إلى قنبلةٍ نوويّة، أو إلى صواريخ طويلة المدى.. يكفي فقط أن
تخفضوا مِنْ نوعيّة التعليم! وإلى هذا المعنى ذهب (راي برادبوري) بقوله: "لا
تحتاجُ إلى إحراقِ كتُبِ شعبٍ كي تدمِّرَ ثقافتَه، تحتاجُ فقط إلى جعلِ النَّاسِ
تتوقّفُ عن قراءةِ هذهِ الكُتُب".
فالسياسةُ عندما
تدخلُ في المجالِ التعليميّ تُسْقِطُ منظُوراتِها اللاغائيّة فيهِ، وتستخدمُ
تبريراتِها الجاهزة لغاياتِها اللاعقلانيّة، بوسائلَ ميكافيليّة ذرائعيّة!
فـ"المبدأُ العام للتعليمِ الحديث هو الابتعادُ عن كُلِّ ما يمسُّ السياسة أو
الاعتقاد. ولا يهمّ المؤسسة الصناعيّة الرأسماليّة أن تكون أفكارُ المهندسِ أو
العامِل مِنْ هذا الاتجاه أو ذاك. وتكوينُ العقليّة لا يتمّ في المدرسةِ بالدرجةِ
الأُولى، ولكن في المؤسساتِ الأُخرى الثقافيّة والأدبيّة والفكريّة"([79]).
فالشرطُ المهم لممارسةِ تعدديّة حقيقيّة؛ البدءُ في قطعِ
(الحبلِ السريّ) الّذي يربطُ المفكّر والمثقّف والسياسيّ، والعمل على استقلالِ
أدواتِ إنتاجِ المعرفة عن سُلطةِ السياسيّ، الّذي يُحاوِل تحجيم دورِ المثقّف،
ويلحُّ على أنْ يسيرَ في رِكابه.
إنّ السياسةَ
فيما يُقال: هي فنُّ تحقيقِ المُمْكِن، أمّا المعرفةُ فهي فنُّ بناءِ المستقبل
وتحقيق المستحيل([80]).
ومن المفارقاتِ الّتي تفضحُ السياسة الميكافيليّة، أنه إبّان تفجُّر ثورةُ أكتوبر عام 1917م، كانتْ طبقةُ العُمّال
تمثّل في رُوسيا أقلّ مِنْ (3%) مِنَ المواطنين العاملين. وهكذا تكوّن حزبٌ
يَدَّعِي أنّهُ يُعبِّر عن ضميرِ طبقةٍ غير موجُودة... ومِنْ هُنا بدأ الانهيارُ:
حِزبٌ عدَّ نفسَه ضميرَ طبقةٍ اجتماعيّة، ثمّ تكلّمَ الزُعماءُ باسمِ هذا الحِزب،
ثمّ أخيراً أصبحَ شخصاً واحِداً بدلاً مِنَ السُّلطة الجماعيّة، الّتي لم تعد
انتخابيّة، ولا تعبِّرُ عن رغبةِ القاعِدة العريضة (السّوفييت)([81]).
وعندما
تكفُّ المدرسةُ أو الجامِعةُ عن نقلِ المعارِف الحقيقيّة، لكي تتحوّلَ إلى مُؤسسةٍ
مُسيّسة؛ ترمي إلى فرضُ الشعارات، وزرع الأيديولوجيات، وإخضاعِ الأجيالِ الواعِدة
لحُكْمِ العاطفة، وليس لحكمِ العقل والمنطق، لا بُدّ أن تفقدَ وظيفتها الحقيقيّة؛
بوصفها إطاراً للتربيةِ الاجتماعيّةِ الصّحيحة([82]).
ومن هنا، فعلى الأستاذ الجامعيّ أن ينأى بنفسهِ عن الانشغالِ بالأُمورِ الحزبيّة
داخِل الحرمِ الجامعيّ، لأنّ العملَ الحزبيّ يكونُ قطعاً على حسابِ العملِ
الوظيفيّ، فضلاً عن ضرورةِ إبعادِ الحرم الجامعيّ عنِ الصِّراعاتِ الحزبيّة؛ نظراً
لاستحالةِ التوفيق بينها وبينَ المهامِ العلميّة ذاتِ الطبيعة المحايدة([83]).
إنّ مبدأ استقلاليّةِ الجامعاتِ لو قُدّر لهُ أنْ يُوضَع في حيِّزِ التّطبيق؛ لكان
ذلِكَ دعماً كبيراً للتقدّم العلميّ والحضاريّ في وطننا. فهذا العُرْف الجامعيّ -
الّذي هو حصيلةُ القيم الحضاريّة والإنسانيّة - قد أثبتَ جدواهُ على مرِّ السّنين.
ويعودُ بعضُ الفضلِ في التقدّم العلميّ والثقافيّ المذهِل للجامعاتِ المرمُوقة في
العالَم إلى مُمارسةِ هذا المبدأ بكُلِّ أمانةٍ وإخلاص"([84])،
لهذا وجبَ أن تُفصل السياسةُ عنِ التعليمِ، ويُوضع في
رأسِ إدارةِ النظُم التعليميّة ذوو الخبرة والكفاءة، ويُديرَ دفَّتها العارِفون
بأهدافِها وغاياتِها الحقيقيّة، لا أن يخوضَ غِمارَها سماسِرةٌ يُتاجِرُون بها كما
يُتاجِرُون بالسِلع والبضائِع المستوردة! وقد حقّ مَنْ قال: إنّ قضيّة
الفَقْرِ في مجتمعاتِنا يُناقِشُها الأغنياء، وقضيّة السّكَنْ يُناقِشُها أصحابُ
القصُور، وقضايا المرأة يُناقِشُها الرِّجال، وقضيّة التعليم يُناقِشُها التُجّار،
ثمّ نتساءل فيما بيننا: تُرَى لماذا أصبحتْ قضايانا مُعقّدةً إلى هذهِ الدرجة
الّتي هِيَ عليها! فـ"الحقيقة
التي لا تحتاجُ إلى بُرْهان هي ضرورة وضع (الرّجل المناسِب في المكانِ المناِسِب).
فقد
أحرزت هذهِ النظريّة نجاحاتٍ باهِرة في حيّز التطبيق، في كُلِّ الدّول التي سارتْ
على هُداها. إنّ جزءاً مِنْ فشلِ الإدارةِ الكُورديّة، وشللِ مؤسّساتِها، يعود إلى
تطبيقِ هذهِ الحقيقةِ بصُورةٍ مُعاكِسة([85]).
وإذا نظرنا إلى الحكومةِ الكنديّة وجدنا أنّ: وزيرَ الزّراعةِ مُزارِع، ووزيرَ
الهجرة لاجِئ، ووزيرَ الثروة السمكيّة صيّاد، ووزيرَ العلُوم عالِم، ووزيرَ النقل
رائِد فضاء، ووزيرَ الرّياضةِ بطلٌ رياضيّ، ووزيرَ الشباب شابّ، ووزيرَ الصحّة
طبيب، ووزيرَ الاقتصاد رجل أعمال ناجِح، ووزيرَ الأمن مُحارِب قديم.. تطبيقٌ عادِل
لمقُولةِ (الشّخصُ المناسِب في المكانِ المناسِب)! وفي العراق يوم كان في أوْجِ عِزّته وذُرْوَة مَجْدِه،
وتحديداً في عام 1964م، حيثُ أصدرَ رئيسُ الوزراء العراقيّ (طاهِر يحيى) أمراً
بصَرْفِ مبلغ (50) ديناراً نفقاتِ شِراء (قهوةٍ وشَاي)، لضيوفِ مكتبِ رئيسِ
الوزراء، وحينَ وصُولِها الخزينةَ المركزيّة، رفضَها مُوظِّفُ التّدقيق مِنَ
الدّرجةِ السّابعة، يحمِلُ شهادةً إعداديّة، يُدْعَى (كريم عبدالله)، وكَتَبَ على
ظهرِ مُستند الصّرْف: إنّها دائِرةٌ حكُوميّة وليستْ مقهى، ومَنْ أرادَ أنْ
يُضَيِّفَ الآخرين، عليهِ أنْ يُضَيِّفَهُم مَنْ جَيْبِه الخاصّ، وليسَ مِنْ
أموالِ الخزينة العامّة الّتي هِيَ مُلْكُ الشّعْب! بعدَ يومين أرسَلَ رئيسُ
الوزراءِ اعتذاراً للموظَّف، وطَلَبَ مِنْ وزيرِ الماليّة مَنْحَهُ قِدَماً
لِمُدّة سِتّة أشهُر؛ تقديراً لنزاهتِه وحِرْصِه على المالِ العامّ، وتعميم
مُطالعتِه على كُلِّ دوائِر العِراق!
وجديرُ ذكرهُ هنا أنّه أثناء الحرب العالميّة الثانية
تمكّن الحُلفاء من القبضِ على عميلٍ بريطانيّ يعمل لصالحِ ألمانيا، وكان موظّفاً
كبيراً في الحكومة البريطانيّة، لكنّهم لم يعرِفُوا كيفَ كان يُسرّب الأسرار، إذ
لَمْ يَكُنْ يمتلكُ أسراراً عسكريّة، ولا حتّى مدنيّة. وكانت وظيفته تقتصِرُ فقط
على اختيارِ الموظفين الحكوميين. وبعد التحقيق المستمرّ معهُ، تبيّنَ أنّ مهمّتَهُ
كانتْ تقتصِـرُ فقط على وضعِ الرّجُل غيرِ المناِسِب في المكانِ الّذي لا يستحقّه.
تُرى كَمْ من نوعيّة هذا العميل لدينا في مؤسّساتِنا الحكوميّة!
وبعد سقُوطِ الاتحادِ السوفييتي كرَّمتِ المخابراتُ
الأمريكيّة عميلَها الروسيّ، وكان يَشْغَلُ منصِبَ وزير الخدمةِ المدنيّة في
موسكو. سألَهُ ضابطٌ في المخابراتِ الروسيّة: أنا كُنْتُ مسؤُولاً عن مراقَبَتِكَ،
لَمْ أجِدْ لكَ علاقةً مع المخابراتِ الأمريكيّة، ولا تواصُلاً، ولا مُراسلة،
فماذا عَمِلْتَ لها؟ قال: كُنْتُ أُعَيِّنُ كُلَّ خريجٍ في غيرِ تخصُّصِه، وفي
غيرِ مجالِه، وأُشَجِّعُ على ترقيةِ الأغبياءِ إلى الأعلى، معَ دعايةٍ إعلاميّة
لَهُمْ، وأَحُوْلُ دون صعُودِ الكفاءاتِ بذريعةِ نقصِ الشّـرُوط، حتّى بقيَ في
رأْسِ الدّولة العجائِز القُدامى، والأغبياء الجدُد، فأُصيبَ الاتحادُ السوفييتي
بالإفلاسِ الفكريّ، وسقط. عندما يُوَكَّلُ الأمرُ إلى غيرِ أهلِه، يكونُ الانهيارُ
حتميّاً!!
هذهِ هِيَ الحربُ الأيديولوجيّة الّتي "لا نسمعُ فيها صليلَ
السُّيوف، ولا أزيزَ الرَّصاص، ولا أنينَ الجَرْحى؛ معركةٌ صامِتةٌ، تريدُ أنْ
تَصْرَعَ الأُمّةَ فكريّاً، فيَسْهُلُ انهيارُها بعدَ أنْ تنحرِفَ عن أصالتِها.
حربٌ مُبَرْمَجة، قادِرةٌ على تزوير الحقائِق؛ لأنّ الفكرَ الأصيل يُعاني أبناؤُه
إمّا مِنْ عَجْزِ الإمكانات، وإمّا مِنْ سطحيّة الأبناء. حربٌ شمّرَتْ عن ساقِها،
ولَنْ تضعَ أوزارَها حتّى تترُكَ ضحاياها مِنْ شبابِ أُمّتِنا بينَ أسيرٍ، أو
قتيلٍ، أو كسيح. حربٌ كحربِ السِّلاحِ تماماً، أو هي أشدّ فَتْكاً، خصُوصاً بعد
أنْ أخذتْ على عاتقِها تحقيق ما أرادَهُ مؤتمر التبشير الّذي عُقِدَ في القاهِرة سنة
1906م برئاسة صموئيل زويمر - رئيس إرساليّة التّبشير في البحرين -([86])، وقد جاءَ في مقدّمةِ كتاب (العالم الإسلامي اليوم) للقس زويمر بعض
الملاحظاتِ والنّصائِح للمبشّرين؛ منها: "تبشيرُ المسلمين يجب أنْ يكونَ بواسطةِ
رسُولٍ مِنْ أنفسِهم، ومِنْ بينِ صفُوفِهم؛ لأنّ الشّجرةَ يجب أنْ يقطعَها أحدُ أعضائِها"([87])، أيْ تهديد الحصُون مِنْ داخلِها، بواسطةِ دِعِيّ مِنَ المسلمين
أنفسِهم([88]).
وقمينٌ بنا هُنا أنْ نعودَ أدراجَنا إلى القرنِ العشرين، وتحديداً
حِقْبَة الاستعمارِ البريطاني يوم كان اللورد الإنكليزي (كرومر) (1841 - 1917م) حاكِماً على السُودان، وقد سُئِلَ
حينَها: "هَلْ سَتَحْكُمُ أيضاً مصر؟"، فأجابَ: "بَلْ سأحْكُمُ
مَنْ يَحْكُمُ مِصـْر!"([89]). وهذا ما يحصُل الآن في الدول العربيّة والإسلاميّة، حيثُ يحكمُها
ساسةٌ من العرب والمسلمين لصالحِ أجنداتٍ خارجيّة. ولا تزالُ ذاكرتنا طريّة بما
حصل في العراق من تدميرٍ وتهجير، وإتلافٍ وتبذير، ونَهْبٍ وسَلْب، وفسادٍ وتخريب.
وكُلّنا "شاهَدَ ذلِكَ الرَّهْطَ الغريب مِنَ الرِّعاعِ واللّصُوص، وهم
يَهْجُمُون على متحفِ بغداد، فيستبيحُون ذاكرةَ الإنسانيّة، ويَعِيْثُون فيها
خراباً، ويُدَمِّرُون كُلَّ ما لَمْ تستطِع أيديهم نهْبَهُ، ويتركُونَهُ وقد غدا
مغارةً مرَّتْ بها الوحُوشُ البشريّة"([90]). هكذا، تحت مَرْأَى الضمير العالميّ، طالَ النّهبُ والتّدميرُ (170)
ألفَ قطعةِ آثارٍ ونفائِسَ تاريخيّة، لا يوجَدُ مثيلٌ لها في أيِّ مكانٍ في
العالَم"([91]). حدثَ هذا على
مرأى مِنْ جيُوشٍ جاءتْ تُبَشّـِرُنا بالحضارة، مُفاخرةً بمعدّاتِها المتطوِّرة في
الاستطلاع، والتقاط (الصُّور الحراريّة)، والرؤية اللّيليّة، لكنّها لَمْ ترَ
شيئاً، وأكبرُ مخازِنِ التّاريخ تُنْهَبُ كنُوزُه في عِزِّ النّهار. فهِيَ لَمْ
تأتِ أصلاً لحمايةِ التّاريخ، ولا لصيانةِ الذاكِرة، إنّما لإعادةِ صياغتِها، بحيث
نتساوى جميعاً في انعدامِها، مُراعاةً ومُجاملةً لتاريخِها. عُذْرُها أنّ العالَم
بدأَ، قياساً بتقويمِها، منذُ خمسة قرُون فقط، يوم نبتتْ أميركا على قارّةٍ كانتْ
- حتّى ذلِكَ الحين- مُلْكاً للهنُودِ الحُمْر. ولِذا هِيَ لَمْ تتوقّع أنْ يكون
للعراقِ الصّغير الّذي استَضْعَفَتْهُ، تاريخٌ يفوقُ تاريخَها بخمسةِ آلافِ سنة([92]). وفي هذا قال (كورديل هل) Cordell Hull([93]) (1871 - 1955م)، الّذي شَغَلَ مَنْصِبَ
وزير الخارجية الأمريكي بين 1933 و1944م: "إذا أردتَّ أنْ تُلْغِيَ شعباً
تبدأ بشلّ ذاكرتِه التاريخيّة، ثمَّ تُشوِّه ثقافتَهُ، وتجعله يتبنَّى ثقافةً
أُخرى غيرَ ثقافتِه، ثمّ تُلفِّقُ لهُ تاريخاً آخر غير تاريخِه، وتعلِّمُه إيّاه..
عندئذٍ يَنسى هذا الشّعْبُ مَنْ هُوَ، ومَنْ كان، وتندثِرُ معالِمُ حضارتِه،
وبالتالي ينساهُ العالَمُ، ويُصْبِح مثلَ الأُمم المنقرِضة"!
لا
ينقصُنا الذكاء والإبداع، كما لا ينقصنا العقلُ والبصيرة، طلبتنا عندهُم الجدّ
والمثابرة، وأُسرُنا متماسِكةٌ بحيث تتابع أبناءَها الطُلاّب، وتحرصُ عليهم، فكلُّ
شيء ميسَّرٌ لنا، لكنّا في النهاية ندِّرسُ أبناءَنا علُوماً مُتأخّرة، بينما هُم
يُدرِّسُونهم علُوماً مُتقدِّمة، نحنُ نحرصُ على الحشوِ وعلى الحفظِ الآليّ، وهُم
يحرصُون على المنهجِ العلميّ، كما يُركِّزُون على المنهجيّةِ والتخطيط قبل
التنفيذ. وفي هذا الصدد يقول
(أحمد زويل): "الغربُ ليسُوا عباقرة ونحنُ أغبياء، هُم فقط يدعمُون الفاشِل
حتّى ينجح، ونحنُ نحارِبُ النّاجِحَ حتّى يفشل!". وإلى هذهِ الفكرة ذهبَ
الشيخ أحمد ديدات (رحمه الله) بقولهِ: "نحنُ لَسْنا مُتخلِّفينَ عنِ الغرب،
ولكننّا مُتخلِّفون عنِ الإسلام؛ وما تخلّفْنا عنِ العالَم إلاّ بعد تفريطِنا في
دينِنا". هذا، بالإضافة إلى أن الوطن العربيّ والكثير من الدول الإسلاميّة
أصبحت خاضعةٍ لأنظمةٍ سياسيّة غير ديمقراطيّة، تدير الشعوب بناءً على سياساتٍ
فرديّة، تضحّي بالمصالح الشخصيّة من أجلِ مصلحة الشعبِ ككلّ. وفي هذا الصدد أكّد
الباحِث (هيثم مُراد) بقولهِ: إنّ كوريا كانت دولةً مُوحّدة بشعبٍ واحِد، انقسمت
بعد الحربِ العالميّة الثانية إلى دولتَيْن، وشعبين، أساسهما شعبٌ واحِد، ولكن بـ(نظامَيْ
حكم) مُختلفين تماماً: كوريا الشماليّة يحكمها حكمٌ عسكري قمعيّ، وتعيشُ في غياهِب
التخلّف، وتحت خطّ الفقر. أمّا كوريا الجنوبيّة، فيحكمها حكمٌ مدنيّ حُرّ، وتعيشُ
في قِمّة التقدُّم والرفاهية، وتنتج (LG)، و( SAMSUNG)، و(KIA)، و(Hyundai)، و(Daewoo)، وغيرها.
الفكرة هي أنّ شعبَ كوريا الشماليّة هو شعبُ كوريا الجنوبيّة نفسه، هو الشعبُ
الكوريّ الأصليّ قبلَ التقسيم، فهما يتحدّثانِ لغةً واحِدة، ويتقاسمانِ ثقافةً
واحِدة، ولكن الفارِق الرّهيب الّذي حصلَ بينَ البلدينِ بعد التقسيم سببه اختلافُ
نظام الحكم بينهما. فالعيبُ في أنظمةِ الحُكْم وليسَ في الشعُوب. العيبَ ليسَ
فينا، إنما العيبُ في الّذين يحكمُوننا!
هذهِ الفكرةُ التي نحنُ بصددِها، صاغها الفيلسُوف
الفرنسيّ (هلفيتيوس) في القرنِ الثامِن عشـر، عندما قال: "إنّ التفاعُل بينَ
المجتمعِ والسُلطة ذو اتجاهٍ واحِد. فالشّعْبُ لا يؤثرُ في طبيعةِ السُلطة، وإنّما
تؤثرُ السُلطةُ في خصائِصِ الشّعْبِ، وأخلاقهِ. واسْتَنْتَجَ مِنْ ذلِكَ أنّ
السُلطةَ مسؤولةٌ عن مساوئ الشّعْب، كما أنّها مسؤولةٌ عن محاسنه.. فالسُلطةُ التي
تقومُ على الابتزاز، ويتمتّعُ أقطابُها بامتيازاتٍ استثنائيّة، لا بُدّ وأن تخلّفَ
جهازاً مُرتشياً. والسُلطةُ التي تتعاملُ مع الشّعْبِ بطريقةٍ فاشية، فإنّ جهازَها
لا بُدّ وأنْ يكون فاشياً، سواء بتشكيلاتهِ، أو بالنزعةِ التي تُسيطِرُ على
أفرادِه([94]).
ولذلك، فإن وجدْتَّ بينَ النّاسِ فضائِلَ شاعَتْ، أو رذائِلَ ومعايب تفشّت
وذاعَتْ، ففتِّشْ عنِ الحكُومة، ودقِّقْ فيما تقولُ وتفعل. حتماً ستجدُ ذلِكَ
الحبلَ السريَّ الّذي يربطُ فيما بينَ الاثنين، حتّى ليُخيَّل إليكَ أنّك بإزاءِ
نهرٍ واحِد: السُلطةُ منبعه، والنّاسُ مصبّه([95]).
وقد تقولُ - مع مَنْ قالَ - بأنّ المحكومينَ مرآةُ الحاكمين، وأنّ النّاسَ
بأُمرائِهم أشبه منهم بآبائِهم في التمثّل والتلقِّي والتقليد([96]).
وفي (تاريخ الطبري)، أنّه لما حملَ الجنديّ إلى عمر بن
الخطّاب سيف كسـرى وجواهره، بعد هزيمتهِ أمام جيشِ المسلمين، فإنّ أميرَ المؤمنين
قال: "إنّ قوماً أدّوا هذا لذوو أمانة". فعقّب عليّ بنُ أبي طالِب،
مُوجّهاً كلامَه إلى عُمر، قائِلاً: "إنّكَ عففت، فعفّتِ الرعيةُ".
وهذا (ابنُ الأثير)، يُسجِّلُ في موسوعته التاريخيّة
(الكامِل في التاريخ): كان الوليدُ بن عبدالملك (الخليفةُ الأُمويّ) صاحِبَ بناء،
واتخاذ المصانِع والضياع، فكان النّاسُ يلتقون في زمانه، فيسألُ بعضهم بعضاً عنِ
البناء. وكان سُليمان بن عبدالملك صاحِب طعامٍ ونِكاح. فكان النّاسُ يسألُ بعضُهم
بعضاً عنِ النِّكاحِ والطّعام. وكان عمر بن عبدالعزيز صاحِبَ عبادة، فكان النّاسُ
يسألُ بعضهم بعضاً عنِ الخبر: ما وردُك اللّيلة، وكَمْ تحفظُ مِنَ القرآن، وكَمْ
تصومُ مِنَ الشّهر؟
غياب المنهجية العلميّة الاستراتيجيّة في الأنظمة
التعليميّة
المنهجيّة: "هِيَ الطريقةُ التي يتبعُها الباحِثُ
لدراسةِ موضُوعٍ معيّن، من أجلِ التوصُّلِ إلى نتائِجَ مُعيَّنة". و"هي
الإطارُ المنطقيُّ الذي تترتّبُ في ضوئهِ الأفكار". وتتمثّلُ المنهجيّة في
البحثِ عن أيْسَـرِ الطّرق من أجلِ الوصُولِ إلى المعلُومة، مع توفير الجهدِ
والوقت. و(المنهجُ العلميُّ): "هُوَ الأساسُ الّذي ينطلِقُ منهُ الباحِثُ في
بحثهِ؛ لحلِّ المشكلة، أو نقدِها، أو إدراك الحقيقة، واختبار صِحّتها".
وهناك حقيقة
منطقيّة تؤكّد أنّك "إذا لَمْ تَكُنْ تعرفُ إلى أينَ أنتَ ذاهِب، فكُلُّ
الطّرُقِ ستأخذُكَ إلى هُناك([97]).
فليسَ مُهِمّاً أنْ تسألَ عنِ الطّريق، إنْ كُنْتَ لا تعرفُ إلى أينَ تتّجِهُ
بالضّبط.. فكُلُّ الطّرُق تؤدِّي إلى اللاهدف!" فما تعاني منهُ جامعاتنا هو
"مشكلةُ المنهج، والمنهجيّة، وتحديد الخطّة، وهي ليستْ مشكلةً صغيرة.
ولكننا بدلاً من
ذلك أصبحنا مُولعين بغيرنا، والمغلوب - حسب تعبير ابن خلدون - مولعٌ دائِماً
بالغالِب، فلولا غلبة لسانِ الغالب، لما تكالبنا على مائدةِ لسانه، وتهافتنا على
اصطلاحاتهِ! والدليل أننا تركنا المئات من كلماتِنا القوميّة، وأصبحنا نلتقطُ هنا
أو هناك الكلمات اللاتينيّة، كي نتشبّع بالحضارة، وكأنّ الحضارةَ هِيَ كلماتٌ
نستعملها، أو عباراتٌ نتحاشى إطلاقها. ولا زلنا نتذكّر قصيدة (هوامِش على دفتر
النّكسة) التي جاء فيها: السرُّ في مأساتنا.. صُراخنا أضخمُ من أصواتِنا،
وسيفُنا أطولُ من قاماتِنا.. خُلاصةُ القضيّة.. توجزُ في عبارةْ.. لَقَدْ لبسْنا
قشرة الحضارةْ.. والروحُ جاهليّة.. حقاً أصبحنا مجرّد صراخ يصمّ الآذان،
وصيحاتٌ تخرقُ الجُدران، ولكننا في النهاية مجرّد ظاهرة صوتيّة بتعبير عبدالله
القصيمي، أو صيحةٌ في واد أو نفخةٌ في رماد.. فكم من الكلمات التي انطلقت من
حناجرنا، لكنها فارغة من مضامينها. نعم: ورُبّ وامتعصماهُ لامستْ أسماعَنا، لكنّها
لم تلامِسْ نخوة المعتصم!
وإذا ما أراد أحدُهم أن يَفِرَّ بجلدهِ إلى
دُوَلِ العالَمِ المتقدِّم، لكي يحظى بالعِلْمِ والمعرفةِ، والأمن والاستقرار،
فضلاً عن سدِّ جوعته، وصَوْن كرامته، باعُوا عليهِ شعاراتِ الوطنيّة، ورفَعُوا في
أُذنيهِ هُتافاتِ القوميّة، ونعتُوه باللاوطنيّة، ووصمُوه بالخيانة، مع أنهُ لا
يجدُ في أرضِ أجدادهِ، وتراب آبائهِ، قطعةَ أرضٍ تأويهِ، أو راتبٍ محترَمٍ يكفيهِ!
فما الجدوى إذاً من الوطنيّة التي لا تطعمني خبزاً، ولا تمنحني أرضاً. فالوطنيّة
شعارٌ جميل لمن باعُوا الوطن بثمن بخس دراهِم معدودات. وقد حقّ مَنْ قال:
"عندما تُصبح الوطنيّة (مصدرَ دخلٍ) جيِّد، حينها يكثر الوطنيُّون! وقد
تساءلَ الكاتِب الصحفيّ روبرت فيسك Robert Fisk([98]):
"لماذا تبدو بيوتُ العربِ غاية في النظافة، لكنّ شوارِعَهُمْ والأماكِن
العامّة تملؤُها القاذورات؟! هذا الأمرُ في غاية الدقّة.. والسببُ أنَّ العربَ
يشعرُون أنّهم يمتلِكُون منازِلَهُمْ، ولكنَّهُمْ لا يمتلِكُون أوطانهم".
لهذا، "يَشُدُّ الشَرْقِيُّ حقائِبَهُ باتِّجاهِ
الغرب؛ لَيَرْتاحَ مِنْ جَهْلِ العاطِفة، ويستفيدَ مِنْ ثمارِ العِلْمِ والمعرِفة،
ويَشُدُّ الغربيُّ حقائِبَهُ باتِّجاهِ الشَرْق؛ لِيَرْتاحَ مِنْ عناءِ العَقْل،
ويتمتَّعُ بسِحْرِ العاطِفة. فإلى متى يُصبِح الشرقيُّ حالِماً، والغربيُّ
عالِماً؟!!
وما أجملَ ما عبّر به الفيلسوف الإسباني (خوسيه أورتيغا)
بقولهِ: إنّ الوطنيّة الحقّة ليستِ المحافظة على أرضِ آبائِنا، بقَدْرِ ما هِيَ
حمايةُ أرضِ أولادِنا مِنَ اللّصُوص المفسدين والعُملاء الخونة! ولهذا قيل: إنّ
السياسيَّ سيفعلُ أيَّ شيءٍ للحِفاظِ على وظيفتهِ، حتّى لوِ اضطرّ لأنْ يُصبِحَ
وطنيّاً! ألستُم معي إذاً، في الحكمةِ التي تقُول: "الوطنُ للأغنياء،
والوطنيّةُ للفقراء"! فَهُناكَ أُناسٌ سَمِعُوا أنّ الوطنَ غالٍ فباعُوه!
و"عندما يُدركُ النّاسُ أنّ الدولةَ تُدار لحسابِ نُخبةٍ، وليسَ لحسابِ أُمّة،
يُصبِح الفردُ غير قادرٍ على التضحية مِنْ أجلِ الوطن، وينصرِفُ ليبحثَ عن مصلحتهِ
الخاصّة"([99]).
هذا، وقد أكّد الدكتور (علي الوردي) أنّه "طيلةَ مكوثي في أمريكا لَمْ
أسْمَعْ أحداً يتفّوهُ بدعوى حُبِّ الوَطَنْ، أو وجُوبِ التضحيةِ في سبيلهِ.
إنّهُمْ ينسون الوطنَ في أقوالِهم، ويخدمُونه في أعمالِهم!". فالسياسةَ كما
يقولُ (مالِك بن نبي) هِيَ ليستْ ما يُقال، بَلْ ما يُنْجَز! فعلينا إذاً، أنْ نُنْجِزَ
ما نقولُه، وأنْ نقولَ ما يُمكِن إنجازُه، وأنْ نُكافئَ النّاسَ على إنجازاتِهم،
لا على أقوالِهم، حتّى نحقِّقَ نهضتَنا الواعِدة، ونُدَشِّنَ حضارتَنا الرّائِدة!
الهوامش:
[1]- تعود هذهِ المقولة الشهيرة إلى الزعيم الألماني أدولف
ألويس هتلر (1889 - 1945م)، وقد ولد في النمسا، وكان زعيم حزب العمال الألماني
الاشتراكي الوطني، والمعروف باسم الحزب النازي (مؤسس النازية). حكم ألمانيا في
الفترة ما بين عامي 1933 و1945م، حيث شغل منصب مُستشار الدولة.
[2]-
صعود وسقوط التخطيط الاستراتيجي، هنري منتزبرج، في كيف تكتب خطة استراتيجيّة،
للدكتور طارق محمّد السويدان، والدكتور محمّد أكرم العدلوني، ط(1)، قرطبة للنشر
والتوزيع، الرياض - المملكة العربيّة السعوديّة، 1425هـ - 2004م، ص18.
[3]-
لمحات من فنِ القيادة، ج.كورتوا، تعريب: الهيثم الأيوبي، ط(2)، المؤسسة العربيّة
للدراسات والنشر، بيروت - لبنان، 1400هـ - 1980م، ص35- 37.
[4]-
مقولة شهيرة للسياسي الأمريكي البارز جويل باركر.
[5]-
ينظر بتصرّف: أزمة التعليم في عالمنا المعاصر، فيليب كومبز، ترجمة: أحمد خيري
كاظم، والدكتور جابر عبدالحميد جابر، (د.ط)، دار النهضة العربية، القاهرة - مصر،
(د.ت)، ص224.
[6]-
ينظر بتصرف: أزمة التعليم في العالم العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة، د.طارق
سويدان، المدير العام لمؤسسة الإبداع الأمريكي، الجزيرة، في 21/02/2001م.
[8]-
ينظر بتصرّف: أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 224.
[9]-
ينظر أيضاً بتصرف: أزمة التعليم في العالم العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة.
[10]-
أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 106.
[11]-
م.ن: 149.
[13]- مقدمة ابن خلدون،
حقّق نصوصه، وخرّج أحاديثه، وعلّق عليه: عبدالله محمّد الدرويش، ط(1)، دار يعرب،
دمشق - سورية، 1425هـ - 2004م، 1/
283.
[15]-
مجتمع النخبة، د.بُرهان غليون، ط(1)، معهد الإنماء العربيّ، بيروت - لبنان، 1986م،
ص256.
[16]-
دراسات وشؤون جامعية، خالد محمّد خالد، ط(1)، منشورات دار روشنبير للطبع والنشـر، العراق
- سليمانية، 1998م، ص38.
[17]-
ينظر بتصرف: دراسات وشؤون جامعية: 38.
[18]-
كيف صنعنا القرن العشرين؟، روجيه غارودي، دار الشروق، ط(1)، القاهرة - مصر، 1420هـ
- 2000م، ص111.
[20]-
التدين المنقوص، فهمي هويدي، ط(1)، دار الشروق، القاهرة - مصر، 1414هـ - 1994م،
ص41.
[23]-
"Since The beginning
of creation, man has never refrained from committing any folly he is capable of"
رحيق العمر، جلال أمين، ط(2) دار الشروق، القاهرة - مصر، 2010م، ص173.
[26]-
كيف صنعنا القرن العشرين؟: 127- 128.
[27]-
الأمة المشلولة.. تشريح الانحطاط العربيّ، محيي الدّين صبحي، ط(1)، رياض الريس
للكتب والنشر، بيروت - لبنان، 1997م، ص60.
[28]-
م.ن: 63.
[29]-
م.ن: 63- 64.
[31]-
تهافت التهافت.. انتصاراً للروح العلميّة وتأسيساً لأخلاقيات الحوار، سلسلة التراث
الفلسفي العربي، مؤلفات ابن رشد (3)، مع مدخل ومقدمة تحليليّة وشروح للمشرف على
المشروع الدكتور محمّد عابد الجابري، ط(2)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت - لبنان، 2001م، ص19.
[32]-
فن القراءة: 219- 220.
[33]-
محنة ثقافة مزوّرة.. صوت النّاس أم صوت الفقهاء، الصّادق النيهوم، ط(2)، رياض
الريس للكتب والنشـر، بيروت - لبنان، 1996م، ص157.
[34]-
هذهِ المقولة الشهيرة تعود إلى كارل ماركس.
[35]-
ديفيد هيوم (1711- 1776)، فيلسوف ومؤرّخ اسكتلنديّ، مؤسِّس المذهب الظاهريّ في
الفلسفة، يعدُّ من أهمِّ فلاسفةِ عصرهِ الذين مارسُوا تأثيراً على الفكرِ
السياسيّ. من أهمِّ مؤلّفاتهِ (مقالاتٌ حولَ الفهم الإنسانيّ).
[36]-
الربح فوق الشعب.. الليبرالية الجديدة والنظام العولمي، نعوم تشومسكي، تر: مازن
الحسيني، ط(1)، دار التنوير للترجمة والطباعة والنشر، رام الله - فلسطين، 2000م،
ص57.
[37]-
م.ن، ص58- 59.
[38]-
م.ن، ص60.
[39]-
فن القراءة: 333.
[40]-
م.ن: 334.
[41]-
م.ن: 337.
[42]-
الربح فوق الشعب.. الليبرالية الجديدة والنظام العولمي، ص60.
[43]-
م.ن: 72.
[44]-
قصّة سنغافورة من العالَم الثالث إلى الأوّل، لي كوان يو، نقلهُ إلى العربيّة:
مُعين الإمام، ط(2)، مكتبة العبيكان، 1428هـ - 2007م، ص172.
[45]-
الإسلام في الأسر.. مَنْ سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟، الصّادق النيهوم، ط(3)،
رياض الريس للكتب والنشـر، بيروت - لبنان، 1995م، ص95.
[46]-
م.ن: 98- 99.
[47]-
م.ن: 99.
[48]-
م.ن: 99.
[49]-
م.ن: 99- 100.
[50]-
م.ن: 100.
[51]-
م.ن: 100.
[52]-
م.ن: 100.
[53]-
م.ن: 100.
[56]-
مقولة شهيرة للمهاتما غاندي (1869 - 1948م)، السياسي البارز والزعيم الروحي للهند،
خلال حركة استقلال الهند. كان رائداً لـ(الساتياغراها)، وهي مُقاومة الاستبداد من
خلال العِصيان المدني الشامل، التي تأسّست بقوّة عقب (أهمسا) أو اللاعنف الكامل،
والّتي أدّت إلى استقلال الهند، وألهمتِ الكثير من حركات الحقُوق المدنيّة
والحريّة في جميع أنحاء العالَم. وغاندي معروف باسم المهاتما، وتعني (الروح
العظيمة).
[57]-
بول جوزيف غوبلز (1897 - 1945م) وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر وألمانيا
النازية، وأحد أبرز أفراد حكومة هتلر، لقدراتِه الخطابية.
[60]-
برتراند أرثر ويليام راسل (1872 - 1970م) فيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرِّخ وناقد
اجتماعي بريطاني.
[67]-
من أقوالِ (جون ديفيس) (1787- 1854م)، وهو سياسي أمريكي،
والحاكم رقم 14 و 17 لولاية ماساشوستس الأمريكية.
[68]-
Some people may
hate you for being different and not living by society's standards, but deep
down they wish they had the courage to do the same.
[69]-
مقال العبوديّة الطوعيّة، إيتيان دو لا بويسي، تر: عبّود كاسوحة، ط(1)، المنظمة
العربيّة للترجمة، بيروت - لبنان، 2008م، ص130.
[70]- مقولةٌ شهيرة لرئيس
وزراء سنغافورة الأسبق: لي كوان يو.
[71]- قصّة سنغافورة من
العالَم الثالث إلى الأوّل: 212.
[72]- م.ن: 212.
[73]- م.ن: 212.
[77]-
عام قضيته في العراق.. النضال لبناء غدٍ مرجو، السفير بول بريمر، تر: عمر الأيوبي،
ط(1)، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 2006م، ص20.
[80]-
النص، السلطة، الحقيقة.. الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، د.نصر
حامد أبو زيد، ط(1)، المركز الثقافي
العربي، بيروت - لبنان، 1995م، ص66.
[81]-
كيف صنعنا القرن العشرين؟: 118.
[85]- م.ن: 28.
[86]- صموئيل زويمر (1867م-
1952م) مُبشِّر أمريكي، رئيس بعثات التّبشير في المشـرق، حرّر مجلة (العالم
الإسلامي)، والّتي عُرِفَتْ بعدائِها السّافِر للإسلامِ والمسلمين.
[87]- الغارة على العالم الإسلامي، أ.ل.شاتليه، لخّصها ونقلها إلى
العربيّة: مساعد اليافي، ومحبُّ الدين الخطيب، ط(2)، منشورات العصر الحديث، جدة - المملكة
العربيّة السعوديّة، 1387هـ - 1967م، ص80.
[88]- قراءة علميّة
للقراءات المعاصرة، للدكتور شوقي أبو خليل، ط(1)، دار الفكر، دمشق – سورية، 1411هـ
- 1990م، ص8- 9.
[89]- قلوبهم معنا وقنابلهم
علينا، أحلام مستغانمي، ط(3)، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 2010م،
ص8.
[90]- م.ن: 53.
[91]- م.ن: 53.
[92]- م.ن: 53- 54.
[93]- كورديل هل: هو شخصية
سياسية أمريكية، ولد في 2 أكتوبر 1871 وتوفي في 23 جويلية 1955. شغل منصب وزير
الخارجية الأمريكي بين 1933 و1944م، وذلك خلال رئاسة فرانكلين روزفلت، ومدة خدمته
هي الأطول بين وزراء الخارجية الأمريكيين. تحصّل سنة 1945 على جائزة نوبل للسلام،
وذلك لعمله على إنشاء منظمة الأُمم المتحدة.
[94]- في السياسة
الإسلامية، هادي العلوي، نقلاً عن التدين المنقوص، فهمي هويدي، ط(1)، دار الشروق،
القاهرة – مصر، 1414هـ - 1994م: 50.
[98]- روبرت فيسك (Robert
Fisk)
روبرت فيسك صحفي بريطاني ولد في (12 يوليو 1946) ويعملُ حالياً مراسِلاً خاصّاً
لمنطقة الشرق الأوسط لصحيفة الأندبندنت البريطانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق