المقدمة
عندما فتح السلطان العثماني (محمد
الفاتح -1451-1481م) عام 1453م مدينة (القسطنطينية)، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية،
ومقر الكنيسة الشرقية العالمية (الأرثوذكسية)، وقعت على عاتق (الفاتح) مهمة صعبة، وهي
إرساء العلاقات المقبلة - منذ البداية - بين المسلمين الفاتحين، وبين أتباع الكنيسة
الشرقية، الذين كانوا غريبين عن العثمانيين في الدين واللغة والعادات والتقاليد. وقد
استند السلطان في هذا الأمر على تعاليم القرآن الكريم، وسنّة المصطفى (عليه الصلاة والسلام)، التي توصي بمنح الحرية الدينية لأهل الكتاب
(اليهود النصارى)، والمحافظة على ممتلكاتهم، شرط أن يمنحوا ولاءهم للدولة الإسلامية،
من ناحية، ويدفعوا الجزية، من ناحية أخرى. حيث يشير إلى هذه المسألة المستشـرق البريطاني
الشهير (هاملتون جب)، بقوله : "أما عن موقف
العثمانيين الأوائل، من غير المسلمين،
من سكان البلدان التي فتحوها قسراً، فيبدو وكأنه أبعد ما يكون عن الموقف الإسلامي المعروف،
بل إنه - وهذا من الغرابة بمكان - أشبه ما يكون بموقف المسلمين الأوائل
عند فتحهم بلاد الشام، إذ عاملوا الكفار من أهل البلاد المفتوحة بانفتاح ذهني لم يتوفر
عند من جاء بعدهم من المسلمين"(1).
وكان للأرثوذكس بطريركية رئيسية مسكونية
في العاصمة العثمانية (استنبول)، وثلاثة بطريركيات أخرى، تجري طقوسها باللغة السلافية،
فلم يكن بينها وبين الأرثوذكسية اليونانية أي
خلاف عقائدي، ولكنها نشأت وقامت نتيجة حركات كان بعضها قومياً، وبعضها الآخر
أسروياً، ولذلك صارت مركزاً للمشاعر القومية. ولهذا عندما تهيأت الفرصة للسلطان (محمد
الفاتح) لتقرير سياسة ثابتة تجاه الكنيسة الأرثوذكسية،
بصورة عامة، وضع جميع رعاياها - دون استثناء-
تحت سلطة البطريركية المسكونية في (استنبول). وفي الوقت نفسه عيّن السلطان
(جيناديوس سكولاريوس) لمنصب بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، الذي كان شاغراً منذ مدة طويلة، وقدّم له بيده العصا والبينة والخاتم، وبذلك
التزم السلطان المسلم بكل المراسيم التي كانت تتبع في مثل هذه الحالات في عهد الأباطرة
البينزنطيين، ورقيّ البطريرك (جيناديوس) إلى باشا ذوي الأطواغ الثلاثي، ومنحه لقب
(ملت باشي)، أي: رئيس طائفة، وتسلّم (براءت)، وهي
وثيقة سلطانية تفوّضه حكم المسيحيين كافة، دون رقيب تقريباً(2).
لم يكن السلطان العثماني على دراية
بالاختلافات والمنازعات العقائدية واللاهوتية، التي كانت تجري بين الطوائف والكنائس المسيحية، لذا أراد -
في بداية الأمر - أن يخضع كل مسيحيي الدولة
العثمانية، دون تفريق، لزعامة البطريرك الأرثوذكسي اليوناني. وكان مطران الأرمن (يواكيم)
أول من خرج على هذه القاعدة، فقد استطاع - أثناء وجوده مع السلطان (محمد الفاتح) في
مدينة (بورصة) - أن يكسب وده، بعد انتقاله مع حاشية السلطان إلى العاصمة (استنبول)..
استطاع رئس الطائفة الأرمنية أن يحصل على اعتراف من السلطان بمساواته مع البطريرك اليوناني، فعيّن هذا الآخر بلقب (ملت باش)،
أو رئيس لجميع المسيحيين غير السلاف.
كما استطاعت الطائفة اليهودية، التي
وضعت مع المسيحيين غير السلاف تحت وصاية البطريرك
الأرمني، أن تتحرر من تلك الوصاية، وتمّ تعيين المدعو (موسى كاسبالي) بمنصب (حاخام
باشي)، ومنحه سلطة مشابهة لسلطة البطريرك الأرثوذكسي على أبناء دينه في الدولة، بل
إن الحاخام الأكبر منح الأسبقية على البطريرك في المراسم، وكان، في مقامه - في بعض
الروايات- يأتي بعد رئيس العلماء (المسلمين) مباشرة(3).
كنيسة
روما والكنائس الشرقية
لقد اتصلت أوربا بالمسلمين لأول مرة منذ الحروب الصليبية، أو حملات الفرنجة،
كما يحلو للبعض تسميتها (كأن التسمية تغيّر من نوعيّتها)(4)، غير أن تلك العلاقات كانت
بعيدة عن السلم، في حقيقة الأمر. ويذكر أحد الباحثين الروس بهذا الصدد قوله:
"اعتاد العالم المسيحي النظر إلى المسلمين نظراته إلى أعدائه الألداء، ولم يتورع
الباباوات، ملهمي حملة الصليب، عن استخدام كل الوسائل المتوفرة لهم لتأجيج هذا الحقد،
ولم يترددوا حتى في اتخاذ إجراءات من أمثال منع أيّ علاقة تجارية مع المسلمين، مهدّدين
المخالفين بالحرمان من الكنيسة، وبفرض غرامة عليهم تعادل قيمة كل البضائع التي صدّروها
إلى ديار الإسلام"(5).
والحال أن الحياة الدينية والتطور
الثقافي لدى الطوائف المسيحية الشرقية، سيرتبطان مباشرة بالتاريخ الديني للغرب المسيحي، وذلك بسبب ارتباط
مصالح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أولا، والكنائس البروتستانية لاحقاً، بالطوائف
المسيحية الشرقية. بمعنى آخر، فإن مصير الكنائس
الشرقية غدا في بعض الحالات متّصلاً اتصالاً مباشراً ووثيقاً بالعمل الذي يقوم
به مرسلو الكنائس الغربية (المبشّرون = المنصّرون) على أرض الشرق.
فوحدة الكنائس، في ظل سلطة البابا،
وطبقاً لعقيدة الكنيسة الرومانية، وطقسها، كانت الشغل الشاغل والدائم للسياسة البابوية
حيال المسيحيين الشرقيين(6).
هذا ما جرى التأكيد عليه في مقررات
مجمع فيراري- فلورنسا(1438-1441م)، واعتباره المرجعية الأساسية في تشكيل العلاقات ما
بين الجانبين. غير أن الظروف السياسية التي كانت سائدة آنذاك لم تكن مؤاتية، لذا أصاب
هذه العلاقات المزيد من التدهور، فانعقد مجمع في القسطنطينية عام 1484م، وقرّر أن مجمع
فلورنسا باطل، فلم تجد البطريركيات الثلاثة الأخرى (أورشليم القدس – والأسكندرية والقسطنطينية)،
وكذلك الكنيسة الروسية، أيّ صعوبة في الموافقة على القرار، لكن الدوائر البابوية الرومانية
لم تيأس جراء ذلك، ولم تحد عن الخط الذي رسمته .
العثمانيون ومنح الامتيازات للكاثوليك
بعد أن تمكن السلطان العثماني سليم الأول (1512-1520م) من ضمّ غالبية البلاد
العربية إلى رقعة الدولة العثمانية، فإنه اصطدم بواقع جديد هو وجود طوائف مسيحية أخرى
غير أرثوذكسية، مثل الأقباط في مصر، والسريان في الشام، والنساطرة (= الآثوريون – الآشوريون)
في العراق وكوردستان.. لذا بدا - لأول وهلة- بأن على الدولة أن تفكّر في إيجاد آليات
جديدة للتعامل مع هذه الكنائس المسيحية غير الخلقدونية، التي تعتبرها الأرثوذكسية كنائس
هرطقية، أيْ أصحاب بدعة. وبعد الوفاة السريعة للسلطان سليم، حلّ ابنه في الحكم، وهو
السلطان سليمان، الذي يطلق عليه المؤرخون عدة ألقاب وصفات منها: العظيم، والقانوني،
وهو الذي وافق - دون تردّد- على عقد حلف دفاعي وهجومى مع الملك الفرنسـي (فرانسو الأول)،
حيث كان الأخير قد دخل في صراع غير متكافئ مع الملك الإسباني (شارل الخامس)، الذي استطاع
أن يوحّد نصف أوروبا تحت سيطرته، واستطاع أن يلحق الهزيمة بخصمه (فرانسو الأول)في معركة
(بافيام)، وأسره، وألقاه في السجن(9).
ودخل هذا الحلف في التاريخ تحت اسم
(حلف الزئبق المدّنس مع الهلال) - كما يسمّيه خصوم فرانسو الأول السياسيون- وأثار عاصفة
شديدة من الغضب في أوروبا. لذلك تحت هذا الضغط من الهجوم، وهذه الاتهامات، قرّر فرنسوا
الأول أن يزكّي نفسه أمام العالم المسيحي ويتخذ دور المدافع عن المسيحيين في ممتلكات
السلطان، وهكذا استطاع المبعوث الرسمي للملك
الفرنسي في سنة 1535م، أن يحصل من السلطان سليمان القانوني على أول وثيقة مكتوبة، كانت
فاتحة لما يسمّى بـ(الامتيازات)
(Capitulation).. إن كبرياء
وغطرسة السلاطين العثمانيين، الذين كانوا
آنذاك في أوج قوتهم - على حدّ تعبير أحد المؤرخين الأوروبيين- لم تكن تسمح لهم بأن
يربطوا أنفسهم بالتزامات ثنائية مع الكفار، لذا فإن الوثيقة المذكورة لم تكن على شكل
معاهدة، وإنما كانت عبارة عن مرسوم سلطاني، منح (فرنسا) حقوقاً وأفضليات معينة في الإمبراطورية
العثمانية. ومن هذه الحقوق :
إقامة المحاكم القومية. حرية التجارة. حرية الدين، وممارسة الشعائر الدينية، على
أن يشمل هذا الحق جميع رجال الدين الذين يعتنقون المذهب (الفرنسـي)، مهما كانت القومية
التي يتنمون إليها .حرية التجارة للأمم الأوروبية الأخرى، ولكن تحت العلم الفرنسي
فقط .
وإذا كانت فرنسا في مقدمة الدول الأوربية التي منحت لها هذه الامتيازات، فإن
بقية الدول، لا سيّما العظمى منها، حصلت هي الأخرى، وفي فترات مختلفة، على امتيازات
مشابهة، واتسمت خلال فترة انحطاط الدولة العثمانية
بكونها امتيازات مذلّة للعثمانيين، وأصبحت تشكّل مصدر نفوذ للدول الغربية الطامعة بها،
وسبباً في اشتداد انحدار دولتهم، ثم سقوطها.
وهكذا ظلّت فرنسا المحامي الوحيد لرعايا السلطان
الكاثوليك حتى مؤتمر باريس 1856م، الذي طرحت فيه أول مرة قضية تدّخل الدول بصورة جماعية
لصالح الرعايا المسيحيين في الدولة العثمانية، ثم دخل هذا المبدأ في الممارسة الدولية
نهائياً عن طريق مؤتمر برلين (1878م)، الذي ساوى بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتية
في حقوق الحماية الدينية(12).
وصول الإرساليات
الكاثوليكية إلى كوردستان :
لقد كان للقرارات التي أصدرها المجمع
التريدانيتني (1545-1563م)، وقوة شخصية بعض الباباوات، كالبابا (كريكوري الثامن
-1572-1585م)، وإنشاء الرهبانية اليسوعية (1540م)، وتأسيس البابا كريكوري لمجمع التبشير
بالإيمان (The Collge
for the propagation of he Faith) ، من قبل الكنيسة
الكاثوليكية عام 1622م، الذي اشتهر في التاريخ الكنسي باسم (Propaganda)، فضلاً عن الامتيازات
التي منحتها الدولة العثمانية لفرنسا، وإنشاء مدارس متخصصة في (روما)، مخصّصة للطلاب الشرقيين، وتأليف الكتب الدينية الكاثوليكية،
ونقلها إلى لغات الشعوب المسيحية في مختلف المناطق (كاليونانية والعربية والقبطية والسـريانية
والأرمنية والكوردية)، أثرها في التعليم، والتبشير(= التنصير)؛ ناهيك عن أساليب متعدّدة
لا تمّت إلى هذه الأمور بصلة، كالدسائس والسعايات والتدّخل في شؤون الكنائس الداخلية،
واستخدام النفوذ الأجنبي أو العثماني، كل هذا
بغية إحداث انقلاب في الأوضاع يكون لغير مصلحة كبار الأحبار المشاكسين، على حدّ تعبير
الباحث الكنسي الفرنسي(أستيرويوس أرجيريو).
ولكن من جانب آخر، أتى هذا العمل
(إرسال المرسلين إلى الشرق)، مفيداً للطوائف المسيحية الخاضعة للعثمانيين، والمفتقرة إلى الوسائل الضرورية
لتأمين تنشئه ثقافية ودينية وروحية. فلقد ساهم
–إذن- المرسلون، بطريقتهم، في إعادة إذكاء الإيمان المسيحي لدى المسيحيين، ورفع المستوى
الروحي عندهم، إلى جانب التطوّر الثقافي؛ فكان صنيعهم هذا يقابل بالشكر والامتنان،
كلما أدوه بتبصّر ورقّة، وبكثير من العداء وردّات الفعل العنيفة، والمواقف المناهضة،
والاتهامات بشقّ وحدة الكنيسة، والتدخل في
شؤونها، إذا كان تحرّك هؤلاء المرسلين ناجماً عن هوى وتعصب ورغبة تبشيرية عمياء.(13)
لذا
بدأت الإرساليات الكاثوليكية تتوافد على منطقة الشرق الأدنى، ومن ضمنها كوردستان، فوصل
اليسوعيون والفرنسيسكان والأوغسطينيون والكبوشيون واللعازريون والدومنيكان.
وبخصوص (كوردستان) يذكر أحد الباحثين
الدومنيكان قوله:-
في سنة (1551م) قامت ردّه فعل على
عادة ذميمة، شقّت طريقها عام 1480م عند (النساطرة)، وهي تسليم البطريركية بالوراثة
من العم إلى ابن أخيه، فرفض ثلاثة أساقفة، وبعض المؤمنين، البطريرك الوارث المعيّن،
واجتمعوا في (الموصل)، واختاروا مكانه رئيس دير الربان هرمز (سولاقا)، وهو الذي يميل
إلى الاتحاد مع روما، فذهب البطريرك الجديد، يرافقه وفد من الموالين له، إلى القدس،
ثم إلى روما، حيث وصلوها في 15 تشرين الثاني 1552م. وفي 20 شباط من سنة 1553م أعلن
(سولاقا) إيمانه الكاثوليكي، فسلّمه البابا (جوليانس الثالث) درع البطريركية في 28 نيسان 1553م، وعاد
أول البطاركة الكلدان إلى الشـرق، برفقة اثنين من الرهبان الدومنيكان المالطيين: (أمبروسيوس
بودجاج)، و(أنطونيوس زهرة)، الذي أصبح فيما بعد مطراناُ. واتخذ البطريرك اسم شمعون،
وجعل مقرّه في مدينة آمد(= دياربكر)، حيث وصل إليها في 12 تشـرين الثاني 1553م.
وما
كاد البطريرك الجديد يرسم خمسة مطارين، حتى وشى به خصمه (شمعون الثامن دنخا-1551-1558م)، بطريرك (القوش) النسطوري، فسجنه
باشا العمادية(=أمير العمادية – بهدينان) مدّة، ثم قتل فيما بعد في كانون الثاني سنة1555م
في إحدى البحيرات الواقعة جنوب شرقي مدينة العمادية، بالقرب من دير مار ساوه (= قرية
ديرش- منطقة برى كاره).
غير أن باحثاً آخر، يأتي بوجهة نظر أخرى، متّهماً
فيها الكنيسة الكاثوليكية بزعامة روما، بأنها بدأت محاولاتها لشقّ كنيسة المشرق في
أواسط القرن السادس عشـر، تزامناً مع بداية ظهور الحملات الاستعمارية القديمة، أي إنه
بعبارة أخرى يربط التبشير المسيحي بالاستعمار، حيث يستند إلى قول للكاردينال الكاثوليكي
(أوجين تيسـران)، إذ يقول: "أوائل البعثات التبشيرية صاحبت الحملات الاستعمارية
البرتغالية والإسبانية".
وبخصوص
حادثة المطران (سولاقا)، فإنه يتّهم روما مباشرة بأنها قامت بهذا العمل لإكمال مشروع
تقسيم كنيسة المشرق، وأن طلائعها من المبشرين الفرنسيسكان استطاعت إغواء الراهب المذكور (سولاقا)، رغم معرفتهم بأن بطريرك كنيسة
المشرق حيّ يرزق، وأن كنيسة المشـرق قد بلغ بها الضعف مبلغاً كبيراً، بعد المجازر التي
لحقت بها على يد المغول وتيمورلنك. لذلك فإن المبشرين الكاثوليك لمسوا بأنفسهم مقدار
ضعفها عندما لم يستطيعوا إيجاد ثلاثة مطارنة محليين لسيامة (سولاقا) بطريركاُ خاضعاً
لهم، فكان أن نقلوه إلى روما. ورغم تنصيبه من قبل البابا، فإن الخط التي جاهدت روما
لخلقه، ظل ضعيفاُ وهزيلاً، وانتهى كالوميض .
ومما
تجدر الإشارة إليه، إن الإرساليات اللاتينية استطاعت إقناع قسم من السريان الشرقيين
(النساطرة) اللاجئين إلى جزيرة قبرص، بالاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية، فأقرّ أسقفهم
(طيمثاوس) إيمانه الكاثوليكي بين يدي (اندراوس)، رئيس أساقفة رودس الدومنيكي، وكان
على إثرها اعترف البابا (أوجيس الرابع) (1439-1447م) بالفريق الجديد، مطلقاُ عليهم
اسم (الكلدان)، تذكيراً بكلدو القديمة في جنوب العراق، حيث أسس كرسي (مار ماري)، على
حدّ تعبيرالمستشرق الفرنسي (جان موريس فييه).
الإرسالية الكبوشية:
أولاً: وفي سنة 1636م
تأسست رسالة كبوشية في الموصل، لجذب النساطرة إلى كنيسة روما. وسرعان ما أفلحت هذه
الرسالة في تكوين نواة كاثوليكية في الموصل. وتمكن الكبوشيون من إقناع الجاثليق (مار
إيليا التاسع) بإرسال صورة إيمانه إلى البابا (أنوجنسيوس العاشر-1644-1660م) سنة
1657م، طالباً من قداسته الوحدة، مع الإبقاء على طقوس وصلوات كنيسته، وطالباً لطائفته
إقامة كنيسة في روما(17).
ومن جانب آخر، فإن مجمع بروبغندا
(مجمع التبشير بالإيمان، في روما) قد أرسل سنة 1663م مرسلين من رهبانيات مختلفة إلى
بلاد الشـرق، ومن بينهم رسالة الكبوشيين إلى آمد (دياربكر) وماردين.
وقد نشر الأباتي (شموئيل جميل التلكيفي)،
رئيس الرهبانية الهرمزدية، في كتابه المطبوع باللغة الإيطالية، والموسوم: (العلاقات
بين الكرسي الرسولي والسـريان المشارقة، أيْ الكنيسة الكلدانية)، قسماً من المراسلات
التي كانت تجري بين كنيسة روما وبين المرسلين وجثالقة كنيسة المشرق. وهناك شيء ملفت
للنظر، وهو أن الأباتي (شموئيل جميل التلكيفي) ذكر في إحدى الرسائل التي نشرها، نقلاً
من الملفات العائدة لكلية (بروبغندا) في روما، معلومات مهمة عن المدعو (بطرس جيسي)،
الملقب بالفارسي، وهو كوردي من والدين مسلمين من أهالي العمادية، وقد دخل في المسيحية،
حيث تذكر سجل حوليات كلية بروبغندا، في المجلد الأول لمجموعة الوثائق لسنة
1633-1753، ما يأتي: "إن بطرس جيسي الفارسي، من مدينة العمادية، قبل في الكلية
(بروبغندا)، في 17 آب عام1647م، وله من العمر آنذاك ما يقارب 24 سنة، وذلك بترشيح من
قبل الكاردينال (بربرينو)، وبقرار المجمع في 3 حزيران من نفس السنة، وهو من والدين
مسلمين، وادّعى أنه مدعو من الله أن يأتي إلى روما ليصبح مسيحياً سنة 1641م. وفي 7
أيلول1642م عمّده المونسيور(سكنا رولا ) في كنيسة (سيدة الجبال)، وكان أشبينه السيد
التقي (الكونت جيسي الفرنسي)، ابن سفير الملك
(الفرنسي) في القسطنطينية (= استنبول).
رجع الأب (بطرس جيسي)، بعد رسامته
الكهنوتية، إلى بلاده (كوردستان)، وعمل كثيراً في
الرسالات والمواعظ، وخصوصاً في مدينة آمد (دياربكر)، حيث يبدو أن مجيئه إلى
مسقط رأسه في العمادية ربما سيثير مشاكل، كانت الكنيسة آنذاك في غنى عنها. مهما يكن
من أمر، فإنه كان غيوراً على نشر الإيمان الكاثوليكي، والدفاع عنه ضد النساطرة(= الآشوريون
الحاليون)، الذين كانوا لا يزالون هم الأكثر بين أتباع كنيسة المشرق(19).
مكث الأب (بطرس جيسي) عدة سنوات في
(آمد)، ثم ذهب إلى قصبة (القوش)، شمال شرقيّ مدينة الموصل، للقاء البطريرك (مار إيليا
الثامن -1617-1660م)، الذي سرّ بقدومه، ورآه غيوراً، عالي الإيمان، ويكنّ محبة عميقة
للكنسية، ووحدتها مع جميع الكنائس، وخصوصاً كنيسة روما، التي عاش بها فترة، وتعلّم
اللغة الإيطالية، وتعرّف على المسؤولين في الدوائر الرومانية، لذا اختاره للذهاب إلى
روما برفقة اثنين، وهما: الأب (مرقس)، والشمّاس (طيمثاوس)، لاطلاع المسؤولين في روما
على حالة المسيحين في بلاد الشرق، وتحديداً
كوردستان. وقد كتب البطريرك رسالة بهذا الخصوص إلى مجمع التبشير بالإيمان (البروبغندا)،
جاء فيها: "أرسل إلى روما عندكم تلميذكم الأب بطرس جيسي، فإنّا أجبناه لأنه تلميذكم،
ونرجو أن يكون وسيطاً بيننا وبينكم، وهو مطّلع على كتبنا، وعارف جيداً نظام طقوسنا
التي نقوم بها يومياً. أرجو منكم أن لا تعتمدوا على كل من يقول لكم إنه مرسل من قبلنا، ولكنه بالواقع ليس
كذلك". وفي تعقيب على هذه الرسالة يقول الأب (بطا الكبوشي)، مسؤول رسالة الكبوشيين
في الموصل، في رسالته إلى مجمع (البروبغندا): "إن البطريرك أرسل الأب بطرس جيسي
مع شخصين آخرين، وهو يعرف اللغة، لكي يرى ماذا يمكن القيام به لمجد الله وخلاص نفوس
كثيرة"(20).
بخصوص ما تبقى من حياة بطرس جيسي
الفارسي العمادي، فإن حوليات البروبغندا تشير فقط إلى أنه استشهد في الحبشة ( = أثيوبيا)
من أجل الإيمان الكاثوليكي، بدون تحديد السنة .
يبدو أن بطرس جيسي العمادي أصبح ضحية
نشر الكاثوليكية في بلاد الحبشة، الذين كانوا يتبعون الطقس السـرياني الأرثوذكسـي.
ففي سنة 1622م نجح الرهبان اليسوعيون في حمل إمبراطور الحبشة (سوسانيوس) على التنّصر،
واستحصلوا من البابا أمراً على تعيين بطريرك لاتيني على الحبشة. لكن الجهود المفرطة
التي بذلوها في سبيل ليتنة الحبشة (أيْ: جعلها لاتينية)، تسببت - بعد حوالي عشر سنوات - بردود فعل عنيفة. فخليفة (سوسيانوسفاسيلادوس-1632-1667)
أمر بقتل وطرد كل المرسلين، وقطع العلاقات مع روما. وهكذا أصبح الأب بطرس الكوردي العمادي،
الذي كان مسلماً، ضحية لنشر الكثلكة في الحبشة؛ البعيدة جداً عن وطنه كوردستان، حيث
قام الكهنة الأرثوذكس بالهجوم عليه بالرماح، ورجموه بالحجارة التي تكدّست على جثمانه،
فمات حبّاً بالمسيح سنة 1680م، حسب رواية البروبغندا(21).
ثانياً: الرسالة الدومنيكية :
عندما فشل مسيحيو الموصل، من الكاثوليك،
في إعادة فتح الإرسالية الكبوشية، التي غادرت الموصل عام 1724م، التمس القس (خضر الكلداني)،
الموصلي المقيم في روما آنذاك، هرباً من بطريرك النساطرة، من البابا (بندكتس الرابع
عش ) بفتح دار لهم في هذه المدينة. وبعد تردّد طلب البابا من الدومنيكان تجديد نشاطهم
في بلاد ما بين النهرين وكوردستان، فتأسّست الرسالة في عام 1748م. وفي 17كانون الثاني
عام 1750م، وصل المرسلان الإيطاليان: (فرنسيس طورياني- Tarriani) وعبدالأحد
كوديلنشيني)، وأضيف إليهما - بصورة مؤقتة- الكرملي لياندرو للقديسة بسيسيليا، لمعرفته
اللغة العربية والأماكن. وعملت هذه الرسالة في ظروف متباينة حتى سنة 1815م، حيث تركت
ردحاً من الزمن، ثم استبعدت سنة 1840م، وتغيّر المرسلون سنة 1859م من إيطاليين إلى
فرنسيين(22).
وقد
استعان هذان المرسلان بمهمتهما الطبية، فنالا النجاح في مهمتهما الدينية، لا سيمّا
وأنهم تمتعوا بتأييد كاثوليك الموصل. ولما بلغ الخبر مسامع (بهرام باشا الأول بن سعيد
خان بك الثاني)، أمير بهدينان(1714-1768م)، وكان مريضاً، أرسل في طلب الأب الطبيب
(فرنسيس تورياني) لمعالجته، فلما نجح الأخير في مهمته، سمح الأمير بهرام بفتح فرع للإرسالية
الدومنيكانية في العمادية، في سنة 1759م(23).
وبعد وفاة الأب (عبدالأحد كوديليو)،
تولى الأب (ايبولود والين)، الحاذق في الأمور الهندسية، إضافة إلى الطب، احترام الأمير
بهرام باشا، حيث منح الدومنيكان دير (كنيسة عبد يشوع)، في قرية (ديرى)، الواقعة على بعد عدة كيلومترات شمال
شرقي العمادية. كما أن الأمير حثّ النساطرة (= الآشوريون الحاليون)، السكان الأصليين
للمنطقة، على اعتناق المذهب الكاثوليكي. وقد توفي الأب (والين) في زاخو سنة 1775م،
ودفن فيها، وهو المرسل الأول إلى العمادية.
وفي سنة 1840م، بعد عودة الإرسالية الدومنيكانية
إلى كوردستان، قام الأب (اسكا فهوسر)، وزميله (أوغسطين)، بفتح فرع للإرسالية في دير
ماريا قو (= قرية قشفر)، الواقعة شمال غرب دهوك سنة 1841م، وبنوا فيها كنيسة. وفي سنة 1942م بنوا مدرسة فيها،
أصبحت مركز إشعاع فكري في المنطقة بأجمعها، فكان يقصدها طلاب من القرى المسيحية، مثل:
آرادن، ومانكيش، وبيرسفى، وآشيشا، وفيشخابور، وبيدار. كما تمّ بناء قسم داخلي لإيواء
الطلاب القادمين من القرى البعيدة، وكان للدير مكتبة كبيرة تضم آلاف الكتب. وفضلاً
عن ذلك، فإن الدير كان يستقبل المرضى من أبناء المنطقة، من كافة الأديان، مجاناً..
وقد أغلقت هذه الإرسالية سنة 1961م، بعيد اندلاع الثورة الكوردية التي قادها ملا مصطفى
البارزاني(25).
تأثير الإرسالية الدومنيكانية على البنية الاجتماعية والفكرية للمجتمع
الكوردستاني:
لقد ساهمت هذه الإرسالية كثيراً في التعريف بكوردستان، وسكانها، لأن المرسلين
الذين عملوا هناك وضعوا تآليف ذات فوائد كبيرة.
وقد اختار من بينهم الآباء: لانزا،
وماوريتزيو غارتزين، الذي وضع أول قواعد ورسم باللغة الكوردية، في روما سنة 1787م، واعترف فيها لأول
مرة بأصالة اللغة الكوردية على أساس علمي، بحيث إن مؤلفه استحق لقب (أب الكوردية) Kardish grammaroan Padre dellacourdologia The pipher، كما دعي بــ(رائد القواعد الكوردية).
ويلاحظ الباحث الإيطالي (بريداري Predari) أنه لم يفكر أحد قبله، بين العلماء الأوروبيين المستشرقين، باللغة الكوردية.
كما أن المعجم الذي ألّفه في السنوات 1764- 1775م، يشتمل على 4600 لفظة، وتدخل فيه
عناصر القواعد الكوردية وفق نهج تقريبي(26).
ويميّز المؤلف في اللغة الكوردية
خمس لهجات، وفق الإمارات الكوردية: كاراجولان (قه لا جولان)، العمادية، جوله ميرك،
الجزيرة (جزيرة بوتان)، تبليس. وهو يستخدم في معجمه لغة العمادية، لأنه عاش فترة طويلة
فيها، وهو المرسل الثاني فيها بعد (سولديني)، فضلاً عن ذلك فإنه يعتبر لهجة العمادية
هي الأكثر نقاءً (27).
كما لا يمكن نسيان مؤلفات (كمبانيليCampanile )، وغيره، الذين
وصفوا في مؤلفاتهم، بشكل مفصل، لغة المجتمع الكوردي، والبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،
وتركوا وثائق ثمينة لتفهّم المجتمع الكوردي، فضلاً عن ملاحظات وانطباعات حول عادات
وتقاليد الديانات السائدة في كوردستان؛ من إسلامية ومسيحية ويهودية ويزيدية وغيرها .
وقد وصف الكنسيّ العراقي (يوسف حبي)
عمل هؤلاء الرهبان، بقوله: " إنهم كانوا يرسمون عادة النواحي السلبية والغريبة
للمجتمع الكوردي، كما كانت تبدو في أعينهم، بينما كان الرحالة، من العلمانيين وذوي
الأفكار التحررية، أمثال: ديلا فالي ددي بيانكى Della Valle De Biahchi، يقيّمون النواحي الإيجابية والخصوصيات المهمة، وذلك بكل اهتمام،
مع تقبّل لما عليه الأكراد، دون محاولة تغيير أو تشويه في مجرى حياتهم، أو المساس بالأسس
الخلقية والثقافية والاجتماعية التي يرتكز
عليها مجتمعهم(28).
المصادر والمراجع
والهوامش:
1- المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة: عبد المجيد القيسـي، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 1997،ج ص 243-244.
2- الكسندر آداموف،
ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها، ترجمة: الدكتور هاشم صالح التكريتي، منشورات مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة، الطبعة
الأولى – 1420ه،1982 ص 185 -186 .
3- هاملتون جيب وهارولدبوين، المجتمع الإسلامي والغرب، ح2ص 251 .
4- نقولا زيادة، المسيحية
و العرب، قدمس للنشر والتوزيع دمشق ،الطبعة
الثانية 200م-ص210.
5- الكسندر آداموف،
المرجع السابق، ص 187.
6- استيريوس ارجيريو، المسيحيون في العصر العثماني الأول (1517-1650)، ضمن كتاب: المسيحية عبر تاريخها في
الشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت، الطبعة الثانية 2002 ، ص618.
7- برنار هيبر جيه، تطور الكثلكة في الشرق، ضمن كتاب: المسيحية
عبر تاريخها في الشـرق، مجلس كنائس الشـرق الأوسط، بيروت، الطبعة الثانية 2002، ص
649.
8- هاملتون جب، المرجع السابق، ص 263 .
9- عبدالعزيز نوار، تاريخ العراق الحديث، ص 283 .
10- الكسندر اداموف، المرجع السابق، ص
189-190.
11- عبدالعزيز نوار، تاريخ العراق الحديث، ص 283.
12- استير يوس أرجير يو، المسيحيون في العصر العثماني الأول، ص 619-620.
13- المرجع نفسه، ص 620 .
14- جان موريس فييه، الكنيسة السريانية الشرقية، نقله إلى العربية: الأب كميل حشيمه
اليسوعي، دار المشـرق بيروت، ص 30 -31 .
15- هرمز أبونا، الآشوريون بعد سقوط نينوى– صفحات من تاريخ الكنيسة الكلدانية، كاليفورنيا،
ص 76-78، والغريب أن الكاردينال تيسران لم
يشر إلى الاستعمار في الصفحة التي أشار إليها السيد أبونا .
16- الكنيسة السريانية الشرقية، ص 30 .
17- القس بطرس نصري الكلداني، كتاب ذخيرة الأذهان، الموصل، دير الآباء الدومنيكان، 1913 ، ج2، ص 34.
18- المطران عمانوئيل دلي، مبادرات الاتحاد بين بطاركة بابل ورد في القرن السابع
عشـر، مجلة نجم المشـرق، العدد 27،2001 ،
ص 349. نقلاً عن وثائق مجمع البروبغندا لسنة 1672.
19- المرجع نفسة ،ص349- 350 .
20- المرجع نفسه ص 350.
21- المطران عمانوئيل دلي، مبادرات الاتحاد بين بطاركة بابل وروما في القرن السابع
عشر، القسم السادس، مجلة نجم المشرق، العدد 28 في 2001 ، ص486 – 493 .
22- استريوس ارجير يو، المرجع السابق ، ص 621 -622 .
23- تيسران، خلاصة تاريخية الكنسية الكلدانية، نقلها إلى العربية القس سليمان الضائع،
الموصل، 1939،ص187-180.
24- م. إبراهيم، الدومنيكان – نشأتهم – إرسالياتهم ودورهم الإنساني والثقافي والعلمي
في العراق، مجلة الصوت الكلدني، العدد 4، سنة 1999 ،ص 45-46.
25- المرجع نفسه ، ص 46 -47 .
26- جميل برنادوس، دير قرية مار ياقو، مجلة الصوت الكلداني، العدد 2 ، سنة 1998،
ص 12-13.
27- يوسف حبي، التراث الكوردي في مؤلفات الإيطاليين، مجلة المجمع العلمي العراقي-
الهيئة الكوردية، العدد الثامن، سنة 1981 ، ص
240 ،274 .
28- المرجع نفسه، ص 267-277.
29- المرجع نفسه ،ص 240 -241 .
30- المرجع نفسه ،ص 241.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق