01‏/01‏/2019

الشاعر والأديب الكوردي پیرەمێرد.. عمق الفهم وشمولية التصور ــ القسم الأول ــ


بقلم: عمر إسماعيل رحيم   ـــــــ  نقله إلى العربية: سرهد أحمد

رغبة من مجلة الحوار في تعريف القارئ العربي بالأدب الكوردي، ورجالاته، وتحقيقاً لرسالة المجلة في الحوار، والتقارب بين الشعوب، والثقافات، ارتأت المجلة أن تأخذ على عاتقها القيام بترجمة كتاب الأستاذ (عمر إسماعيل رحيم)، الذي صدر حديثاً، في (أربيل)، في 464 صفحة من القطع الكبير، عن حياة الشاعر والأديب الكوردي المعروف (پیرەمێرد)، وعالمه الفكري..
 وقد تصدّى لإنجاز هذه المهمّة الشاقة، والكبيرة، الأستاذ (سرهد أحمد)، من أسرة تحرير (الحوار)، الذي قام بها خير قيام، مشكوراً..
 وها هو القسم الأول من هذه الدراسة، على أمل أن يتمّ نشـر الكتاب كاملاً في حلقات.. والله الموفق.

..........
 بدأ تعلقي بنتاجات الشاعر والأديب والصحفي الكوردي الحاج توفيق بن محمود آغا؛ المعروف باسم (پیره‌مێرد)، في منتصف سبعينيات القرن الماضي. فكنت ألوذ بين الفينة والأخرى بمطالعة ما جادت به قريحة هذا الشاعر من قصائد وأمثال وحكم، إما تلذذاً بالأدب، أو اندفاعاً مع العاطفة القومية، وانجذاباً لها.
ومع بواكير ذاك التعلّق، أدركت أن (پیره‌مێرد) إلى جانب كونه حاملاً لرسالة الكوردايتي، وسعيه لخدمة قضية أمّته، فإنه كان رجلاً مسلماً، متديّناً، أيضاً، لكنني لم أعر هذه المسألة بالاً في حينها.. ولاحقاً عدت بعد انقطاع، لأنهل من دواوينه بشكل أدق، وبوعي أشمل، وروحية مختلفة، ففهمت أن (پیره‌مێرد) لم يكن متديّناً عادياً وحسب، وإنما كان شخصاً رسالياً، عارفاً بالله، متعلّقاً بدينه، مهتماً لأمر المسلمين، متفاعلاً مع قضايا العالم الإسلامي، ومشكلات عصره، حتى أن رسالته الوطنية، المعبّرة عن هموم الكورد، كانت نابعة من تديّنه، بحيث دمج بين الهويتين معاً (الدينية والوطنية)، بشكل يصعب على الباحث أو المحقق الفصل بينهما. أي بمعنى تعذّر تشكيل تصوّر عن الوطنية لدى (پیره‌مێرد) بمعزل عن تديّنه وإحساسه الديني. والعكس صحيح أيضاً، فإذا أردت الحديث عن الوطنية والكوردايتي لدى شاعرنا، وأغفلت الجانب الديني من شخصيته، فإنّ حديثك سيخرج مبتوراً، وستخطىء هدفك، إذ تحاول إبراز الروح الوطنية فقط في نتاجاته.
ومن هذه الوجهة، أحسب أن (پیره‌مێرد) نموذج نادر، إنْ لم أقل إنّه لا نظير له، بين أدباء ومثقفي الكورد في النصف الأول من القرن العشـرين.. قد نجد، بالنسبة للتاريخ السابق لـ(پیرەمێرد)، نموذجاً مثل (أحمدي خاني)، أو (حاجي قادر كويي)، ممّن يقترب من ذلك.. ولكن في الفترة التي عاشها (پیرەمێرد) لم يظهر من يدانيه مكانة، في هذا المجال، فهو نسيج وحده..
وقد ظهرت محاولات لتهميش، أو إخفاء، جانب التديّن والنضال الإسلامي في شخصية (پیره‌مێرد)، سواء بقصد أو بغير قصد.. وأثناء عودتي اللاحقة إلى كتاباته عموماً، ودواوين أشعاره ونتاجاته من الأمثال والحكم على وجه الخصوص، اكتشفت تقصيراً في التعريف بهذا الأديب المبدع، إذ اقتصر تسليط الضوء على جزء من حياته الأدبية، والوطنية، والبعد الوظيفي، باعتباره صحفياً، فقط.. وتكرّر ذلك خلال إعادة جمع وطبع تراثه الأدبي مرات عدة، دون وجود بحوث جادة عن المحتوى الحقيقي لنتاجاته، والفلسفة التي تضمنتها، والرسالة التي حملها.
وحسب علمي لم ينجز أحد بحثاً معمّقاً عن السياقات الشعرية لـ(پیره‌مێرد)، من حيث الفهم وشمولية التصور في البعدين الديني والوطني معاً. والمتوفر حالياً ليس إلا كتابات مقتضبة، أو حتى مجرد رؤوس أقلام، تتناول نصوصه الأدبية، مثل التناول الجزئي الذي قام به الأستاذ رسول هاوار لـ(ديوان پیره‌مێرد)، وعدم إيلائه الاهتمام الكافي بالنصوص الشعرية الدينية، وإسقاطها من الصدارة. وأجزم بأنه تعامل بانتقائية في اختياره موضوعات معينة، واستبعاد أخرى. ومثال على ذلك: موضوع (نوروز)، فقد اقتبس أبياتاً عن المناسبة من ديوان الشاعر فقط، دون الأخذ بنتاجات أدبية أخرى للشاعر، عن نفس الموضوع، أفرد لها صفحات في جرائد عدة، منها (ژیان) و(ژین).
نعم، لقد تمّ إبراز زاوية معينة من حياة (پیره‌مێرد)، وتراثه الشعري والأدبي، وجرى إغفال زوايا أخرى، عمداً أو دون ذلك، في محاولة لتجاوز بيان حالة التديّن، أو الالتزام الديني، التي عاشها الشاعر، أمام القارىء الكوردي.
وفي الحقيقة، فإن (پیره‌مێرد) كان عارفاً بالله، وعابداً مخلصاً، ذا فهم صحيح وعميق، نظر إلى الإسلام نظرة مقاصدية.. لم يفارقه القرآن.. ومن هذه المنطلقات، سعى إلى بلورة رؤية إصلاحية للإشكالات الاجتماعية في عصره، وتدعيم النضال القومي في حينه. بحيث يسعنا أن نقول إن (پیره‌مێرد)، إلى جانب كونه مناضلاً قومياً، كان إسلامياً إصلاحياً، يتوقّد فكراً كوردياً مستجيباً لمقتضيات عصره.
وكما أشرت آنفاً، لم تكن هموم القضية القومية، وخدمة الشعب الكوردي، ودعم مطالبه المشروعة، خارج دائرة النضال الإسلامي، أو بديلاً عنه. بل إنها لتستمد من هذه الدائرة شرعيتها، لأن كلا الفكرين (الديني) و(القومي الكوردي) لدى شاعرنا، لصيقان، يستحيل الفصل بينهما، وكلاهما يعبّران عن حالة واحدة.
فالنضال الإسلامي لدى (پیره‌مێرد) يعني خدمة الشعب والوطن، وحماية حقوقهما، والارتقاء بالحالة الاجتماعية، والتنمية العلمية والفكرية، وتحقيق الرفاهية، ومكافحة الشقاق، ومساوىء النفاق داخل المجتمع، والعمل على إثراء اللغة والتراث القومي، وحماية الهوية الدينية والأخلاقية الرصينة.
إذاً، فالنضال الإسلامي هو النضال القومي بعينه، طالما يتشاطران المفاهيم والأهداف نفسها.
ولذلك، فإن بعض أولئك الذين يعمدون إلى إحداث شرخ في العلاقة بين المفهومين عبر إثارة الحديث عن ما يطلقون عليه (الإسلام الكوردي)، تعدياً على الأطراف الإسلامية الكوردية؛ في محاولة بائسة لحصارها وتحجيمها، باتهامهم بما يصفونه: توريد (الإسلام العربي)، أو (العادات العربية)، ونقل (أساليب العيش) في الجزيرة العربية إلى كوردستان.. إن أصحاب هذه الأقاويل المغرضة، والمحاولات غير المنهجية، يتحتّم عليهم بدلاً من ذلك العمل بإخلاص لإحياء منهج (پیره‌مێرد)، وروحه النضالية، بما يصب في خدمة سفر التاريخ الكوردي، وخدمة الهوية الإسلامية معاً.
ومن منطلق الإصلاح الاجتماعي، وحتى الديني، اعتمد (پیره‌مێرد) سياقات شعرية لم تخل من انتقادات لاذعة، لكنها صادقة، كأداة لتشخيص أدواء المجتمع.
ما أوردته ابتداءً عن حالة التديّن التي عاشها (پیره‌مێرد)، انعكست بشكل واضح على جلّ نتاجه الأدبي، من أشعار وأمثال وحكم، ويمكن لأيّ مطالع لتراثه أن يلاحظ ذلك بوضوح.
وأرى أن عدم الإحاطة الكافية بتراث أديبنا الكبير في الماضي، يمكن إجماله بعدّة عوامل:
1-    في أواسط أربعينيات القرن العشرين، تنامت الآيديولوجية الماركسية في كوردستان شيئاً فشيئاً، بحيث فرضت اليسارية سطوتها الفكرية على المراكز الثقافية والأدبية الكوردية، واستمر ذلك طوال خمسين عاماً، أي لغاية تسعينيات القرن نفسه. وفي هذه الفترة لم تنكفئ محاولات تجريد كافة الأعمال الأدبية من كل صلة بالفكر الإسلامي، وإعادة عرضها تماشياً مع رغبات المادية الديالكتيكية.
وفي تلك المرحلة التاريخية المشار إليها، كان الأدباء والباحثون المناؤون للتوجه اليساري والتفسيرات المادية للظواهر والأحداث، يواجهون عداءً مستحكماً. وقد عايشت أنا شخصياً هذه الحالة، وأذكر أنني في عام 1988، حضرت موسماً ثقافياً نظّم بأربيل، وكان من بين المدعوين لإلقاء محاضرة، الدكتور (عماد الدين خليل) المؤرخ والأديب العراقي البارز، والأستاذ (مسعود محمد) الفيلسوف الكوردي الكبير، وشاهدت بأمّ عيني كيف كان المثقفون اليساريون يسخرون منهما، ويتهكّمون من طرحهما، من خلال الأسئلة والتعليقات، لكونهما من خارج ذلك التوجه الطاغي آنذاك.
2-    تبعثر الكتابات والموضوعات الشعرية على صفحات الجرائد، ما صعّب عملية جمعها، وسط غياب الباحث الجاد.
3-    وعامل آخر، أحسبه مؤثراً، وهو أن (العرفانيات) من الموضوعات الهامة، التي تحتاج إلى باحث متخصص ذو دراية، قادر على بيان مكنوناتها، إنْ لم يكن ممارساً عملياً لها.
4-    وباعتقادي، فإن هنالك الكثير من الوثائق المتعلّقة بحياة (پیره‌مێرد)، وبشطر كبير من نتاجاته، لا يزال محفوظاً في الأرشيف العثماني، أو مغموراً في المجلات والصحف التي كانت تصدر حينها بتركيا وإيران، وحتى مصـر، وهي ليست في متناول القارىء الكوردي لغاية اليوم.
إننا لا نبغي من بحثنا هذا، تقييم القصائد الشعرية، والنتاج الأدبي والكتابي، وكل ما له علاقة بالشكل والأسلوب والمدرسة الأدبية لـ(پیره‌مێرد)، من وجهتي (النوعية) و(المستوى الفني)، لأنه باختصار، أولاً: ليس من صميم البحث، ثانياً: ليس من اختصاصي شخصياً، ثالثاً: هناك العديد من النقاد والباحثين الذين كتبوا في هذا المضمار، ولا أظنني مهما قلت أستطيع الإتيان بجديد في هذا المجال، دون أن يعني ذلك عدم وجود متسع لمقولات جديدة.
وحسب علمي، فلا زالت الرباعيات والقصائد والأمثال والحكم لدى (پیره‌مێرد)، من ناحيتي (الكم) و(النوع)، بحاجة لمزيد من التنقيب. كما أن (أساليب الكتابة)، و(الأشكال الشعرية)، تحتاج هي الأخرى إلى دراسات معمّقة، خاصة أن (پیره‌مێرد) كان ينشـر موضوعات أدبية متنوعة باسم مستعار.
وأعيد التأكيد على أن بحثنا هذا، لا يتضمن المتابعة التاريخية، ولا التحقيق في صحة نسبة هذه القصائد لشاعرنا، رغم استعارتنا لبعضها في سياق هذا البحث. وقد توخّينا الاستعارة من مصادر موثوقة موجودة بين أيدينا، منها صحيفة (ژین) بشكل مباشر.

      نبذة عن مسيرة حياة (پیره‌مێرد)
كان (پیره‌مێرد) نابغة متعدّد المواهب، متنّوراً يندر نظيره، ومفكراً موسوعياً، وأديباً فطناً، وشاعراً ذو حس مرهف، وله باع طويل في اللغة، كما كان صحفيّاً ومثقّفاً بارعاً، وفيلسوفاً، ومصلحاً اجتماعياً، يتّسم بالدّقة والصرامة وبعد النظر، وشخصاً جواداً منفقاً، عطوفاً تجاه المعوزين، ومخلصاً حسن الإدراك، وعارفاً ربانياً، وزاهداً جريئاً، ومناضلاً مقداماً في الميدانين الديني والوطني.
وإلى جانب تلك الخصال، كان (پیره‌مێرد) إدارياً ناجحاً، ورجل دولة، شارك في وفد مبتعث من الدولة العثمانية إلى إيران.
ولقد وصف أديبنا نفسه كما هو - بكل بساطة، ودون تكلّف - في سياق مقارنة طريفة بين شخصه وبين شخص (برناردشو)، إذ يقول: "هذا أنا، وذاك برناردشو، هو في موقع التمجيد، وأنا في موقع ينادون بإسقاطي، وتراني لا أغضب لذلك، وأدّعي أن ما أكتبه لصحيفتي من كل تلك الأمثال لم ولن يقلها قبلي، ولا بعدي، أحد".
وأستحضر هنا وصفاً للكاتب واللغوي الكوردي (توفيق وهبـي بك) (1891 – 1984)، امتدح فيه (پیره‌مێرد) قائلاً: "كان شخصاً ذكياً، واعياً، واسع المعرفة والمعلومات العامة، لم يدعْ علماً ولا فنّاً إلا اشتغل به، وقد أوتي براعة نادرة في قرض الشعر وارتجاله، وكان –بحقّ - ملكاً في الشعر، مهاباً بين الشعراء، وبرحيله أصبح الشعر الكوردي في حالة من اليتم. ولكنه ترك وراءه إرثاً أدبياً كبيراً، ستبقى أمتنا تنهل منه، وتعتز به".
إن (پیره‌مێرد) هو شاعر الكورد الوحيد الذي جاءت أغلب نتاجاته منبثقة عن مستوى فكري عال، وزاخرة بمعان وحكم جمّة، إذ كان يحلّق في سماء البلاغة ،كالعنقاء، يصطاد الألفاظ والكلمات الكوردية القحة.
للأسف، لم ينل (پیره‌مێرد) استحقاقه الكافي واللائق من التعريف والاهتمام، لا على المستوى الشخصي، ولا الفكري، ولا على مستوى تراثه الغني بعناصر التنوير الكوردي.
كان حريّاً أن يتجاوز صيت (پیره‌مێرد)، وتراثه الفكري والفلسفي الثرّ، وكذلك نضاله القومي والإسلامي، آفاق كوردستان والمراكز الثقافية الكوردية، من خلال ترجمة قصائده والأمثال والحكم التي نظمها، وكتاباته أيضاً، إلى اللغتين العربية والإنجليزية، ولغات أجنبية أخرى، لأنّي أرى من واقع انفتاحه الفكري، وآرائه السياسية، وطروحاته الأدبية والفلسفية، أنّها ليست أقلّ شأواً، ولا أدنى مكانة، من مفكرين عالميين كبار، مثل (محمد إقبال اللاهوري)، و(جورج برنارد شو الإيرلندي)، إذ كانت أساليبه الشعرية، وقصائده العرفانية، في مستوى أدبي عال جداً، وجاءت تنظيراته الاجتماعية محلاً للتأمّل العميق، وقد طرح آراءً جديدة في الدين والاجتماع والأدب، كانت تمثّل سابقة فريدة في عصـره، خاصة ضمن المجتمع الكوردي.
واستجابة لمقتضيات البحث والكتابة عن الشخصيات الفكرية والأدبية، لا بدّ من عرض ولو جزء يسير من حياتهم، والمحطات التي قطعوها. ومن هذا المنطلق أقوم ببيان جوانب من سيرة (پیره‌مێرد)، ملخّصاً إياها في ثلاث مراحل:

      المرحلة الأولى/ منذ نشأته وحتى ذهابه إلى تركيا، وهي فترة تقارب الـ 31 عاماً:
(پیره‌مێرد) اسمه (توفيق بك محمود آغا همزة آغا المصـرفي)، ولد عام 1867 في                        محلة (كويزه) في مدينة (السليمانية).
كان جدّه مسؤولاً إدارياً (وكيل خرج) لإمارة أحمد باشا الباباني، آخر أمراء البابانيين، ولهذا عرف بـ(المصرفي).
دخل توفيق بك الكتاتيب وهو في السابعة من عمره، فتعلّم القرآن والكتب الابتدائية على يد معلّمه الملا حسين كوجه، ومن ثم تعلّم على يد الملا سعيد الزلزلي.
ثم واصل تلّقي العلوم على يد الملا محمود، في جامع جدّه (جامع همزة آغا)؛ ومنها علوم اللغة العربية، حيث أظهر تقدماً، إلى أن توقّف عند مدارسة كتاب السيوطي.
وعقب إكماله مراحل الكتاتيب في السليمانية، شأنه شأن كل الدارسين في ذلك العصـر، ترك مدينته مرتحلاً إلى كوردستان إيران، للالتحاق بجامع (بانة). وبعد فترة عاد إلى مسقط رأسه مجدداً.
لم يكمل (پیره‌مێرد) دراسة كتاب السيوطي، وكان في ريعان شبابه، فآثر الالتحاق بالوظائف الإدارية، فعيّن عام 1882م كاتباً لدائرة نفوس السليمانية، وبعد فترة قصيرة عيّن كاتباً لـ (الضبط) في محكمة السليمانية. وفي عام 1883 عيّن كاتباً لأملاك الهمايوني في حلبجة. وفي أيلول 1886 أصبح باشكاتباً لمحكمة شاربازير.  نقل إلى محافظة كربلاء عام 1895 بصفة معاون لمدير المدينة، لكنه رفض الذهاب، واستقال نهائياً من الوظائف الإدارية.
ثم عيّنه الشيخ مصطفى النقيب وكيلاً له لقضاء أعماله، وتسهيل أموره، في مقابل تهيئة أسباب العيش الكريم له.

      المرحلة الثانية/ منذ ذهابه إلى تركيا، ولغاية عودته إلى السليمانية، وهي فترة قاربت الـ27 عاماً:
في عام 1898، وبدعوة من السلطان عبد الحميد سافر إلى تركيا، ونزل في ضيافة السلطان العثماني، برفقة (الشيخ مصطفى النقيب)، و(الشيخ سعيد الحفيد).
وبعد مرور عام على بقائه في تركيا، نظّم مع الشيخين، وعدد من المثقفين والشخصيات البارزة، رحلة إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، فلقّب لاحقاً (الحاج توفيق). وفي هذه الزيارة أصبح صديقاً للشاعرين الكورديين (عبد الرحيم بن ملا غفور)، المشهور بـ(وفائي)، و(السيد أحمد الخانقاهي الكركوكي). وفي رحلة العودة، عاجلت المنيّة الشاعر (وفائي)، ودفن حيث توفي.. بعدها عاد (پیره‌مێرد) إلى تركيا، بينما توجّه الشاعر (السيد أحمد) إلى العراق.
ونظراً لقدرات (پیره‌مێرد)، ومواهبه، منحه السلطان العثماني لقب (بك)، فاشتهر بعد ذلك باسم (توفيق بك).
وفي ذاك الوقت أراد (عزت باشا)، الكاتب الخاص للسلطان عبد الحميد، أن يردّ على رسالة بعث بها شاه إيران: (ناصر الدين القاجاري)، إلى السلطان العثماني، فأوعز إلى (پیره‌مێرد) القيام بالمهمة، فامتثل الأديب للأمر، وكتب الرسالة الجوابية بشكل لافت للانتباه، لما أظهره من أسلوب قواعدي رشيق عامر بالعبارات الجميلة.
وفي 14 أيلول 1899 صدر أمر سلطاني بتنسيبه كعضو في المجلس العالي لاسطنبول.
وفي ذات الفترة أيضاً، وبوساطة (عزت باشا)، تحقّق حلم شاعرنا في الدراسة الأكاديمية، إذ قبل في (كلية الحقوق)، وحصل على شهادتها في عام 1905.
ومع بداية إعلان (المشروطية الثانية)، وإلغاء (المجلس العالي)، انشغل الحاج توفيق بك حتى عام 1908 بالعمل في المحاماة، والكتابة في المجلات والجرائد.
وبعد إعلان المشروطية في العام نفسه، تأسّست (جمعية كورد) سراً، برئاسة (الشيخ عبد القادر الشيخ عبد الله الشمزيني)، وكان (پیره‌مێرد) أحد أعضائها الإداريين العشرة.
وعقب قيام حزب (الاتحاد والترقي) الكمالي بعزل السلطان (عبد الحميد الثاني)، سارعت (جمعية كورد) إلى الإعلان عن نفسها، وإصدار صحيفة باسم (كورد)، لتكون لسان حال الجمعية، ومنح (پیره‌مێرد) شرف امتيازها.
وكأيّ مسلم ملتزم بدينه، تحتّم على (پیره‌مێرد) الاستقرار وتكوين عائلة، فتزوّج بفتاة اسمها (سامية)، تنتسب لأسرة عريقة من مدينة (أدرنة )، الواقعة في أقصى الجهة الشمالية الغربية لتركيا، وأنجب منها ولدين، هما (نه‌ژاد) في 1904، و(وداد) في 1907.
تقلد (پیره‌مێرد) عدّة مناصب إدارية في تركيا العثمانية، منها (قائممقام) لأربعة أقضية لفترات مختلفة، وهي: (جوله ميرك – 1909)، (قره مرسل – 1912)، (بالاو – 1915)، كما أرسل بنفس الدرجة الوظيفية إلى (بيت الشباب)، عام 1916، وبعدها إلی (كموش كوی)، و(أطه بازارى)، في العام 1917. ونظراً لبراعته الإدارية رقيّت درجته، وتمّ اختياره متصـرّفاً  (محافظاً) لمدينة (أماسية)، واستمر في المنصب لغاية 1923.
وعندما تشكّلت الحكومة في العراق عام 1923-1924، رجع من تركيا إلى بغداد، بطلب من (طه الهاشمي)، ومنها عاد إلى السليمانية، في كانون الثاني عام 1925، وبقي فيها دون استلامه لوظائف حكومية.



      المرحلة الثالثة/ منذ عودته إلى السليمانية، ولغاية وفاته سنة 1950، وامتدّت لـ25 عاماً..
عاد (پیره‌مێرد) إلى السليمانية، تاركاً وراءه مناصبه الإدارية، والصحفية، دراسته العليا، عمله كمحام في تركيا. وابتعد، في البدء، نهائياً، عن الالتحاق بأيّ وظيفة إدارية في الحكومة، وتفرّغ بشكل تام للعمل الصحفي والأدبي، وممارسة نشاطات مدنية توعوية. وحين  صدرت جريدة (ژیان)، من قبل بلدية السليمانية، عام 1926، أصبح (حسين ناظم) مديراً لإدارتها، ورئيساً لها، وأصبح (پیره‌مێرد) مشرفاً عليها.
وكان (پیره‌مێرد) ينشر نتاجاته باسم (حاج توفيق بك)، إلى أن نشر قصيدته (استيقظت في الصباح فرأيت الثلج متساقطاً) في العدد (312) من جريدة (ژیان)عام 1932، فغيّر اسمه من حاج توفيق بك إلى (پیره‌مێرد)، أي (الشيخ الهرم)، وبدأ ينشـر نتاجاته بالاسم الجديد.
وحين توفّي حسين ناظم عام 1932، أصبح (پیره‌مێرد) صاحب امتياز الجريدة، ومديراً لها، بعد استئجاره للمطبعة من البلدية عام 1934. وبعد مرور عام، زاد صفحات الجريدة من 4 إلى 6 صفحات، وتطورت شيئاً فشيئاً، لغاية صدور العدد(538)، وانتهاء مدة عقد الإيجار. ولاحقاً وقعت خلافات بين موظفي البلدية والشاعر (پیره‌مێرد)، أدت إلى سحب المطبعة منه. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، فقام برهن منزله، وشراء مطبعة في بغداد، وجلبها إلى السليمانية. وفي 20/9/1937، أصدر العدد (539) من الجريدة نفسها.
وعقب صدور العدد (553)، في 10/3/1938، سحب منه امتياز (ژیان)، وأغلقت الصحيفة. لكن ذلك لم يثنه، فسارع للذهب إلى بغداد، واستطاع، بمساعدة عدد من المثقفين الكورد، الحصول على امتياز صحيفة باسم (ژین).
وسعياً منه لإثبات أن الصحيفة الجديدة هي امتداد للصحيفة السابقة، ولم يتغيّر فيها سوى الاسم فقط، لم يعطها تسلسلاً جديداً، وإنما أصدر (ژین) بالتسلسل رقم (554)، علامةً على عدم انقطاع رسالة (ژیان)، واستمرارها في الصدور تحت الاسم الجديد (ژین)..حيث استمرت الصحيفة في الصدور إلى 15 حزيران 1950، وطبع منها (1015) عدداً.
دأب (پیره‌مێرد) سنوياً على إقامة احتفال حاشد في تلة (مامه ياره)، بمناسبة عيد نوروز ورأس السنة الكوردية، ودعوة الكثيرين إليه، ويتخلل الحفل تقديم وجبة طعام، إلى جانب فعاليات أدبية وفنية.
وفيما يتعلق بالمولد النبوي الشـريف، كان (پیره‌مێرد) ينظّم احتفالية بالمناسبة، أو يشارك بانتظام في احتفاليات تقام بالمناسبة ذاتها في عموم السليمانية. وقد تجسّد حبّ الشاعر للنبـي عليه الصلاة والسلام جلياً في قصائده، وسنفصل القول في ذلك لاحقاً، لأن هذا الجانب المتوقّد تديّناً لم يشغل حيّزاً كافياً في الأبحاث المنشورة عن حياة الشاعر، ونتاجاته. وهذا يدلّ  على دوافع إيديولوجية، وغياب الحيادية والموضوعية في تلك الأبحاث.
وبعد فترة وجيزة من عودته إلى السليمانية، أصبح (پیره‌مێرد) عضواً فاعلاً في (المدرسة العلمية)، التي سعت إلى محو الأمية في عموم كوردستان. وهذه المدرسة المسائية تأسست على أيدي نخبة من المثقفين الكورد، لتمكين شريحة الكسبة والعمال من القراءة والكتابة. وفي 6 نيسان 1926، عقد اجتماع بمبنى البلدية للإعلان عن المدرسة، واستقبل (پیره‌مێرد) تلك الخطوة التعليمية بارتياح شديد، فنظّم قصيدة أشاد بها، قال في مطلعها:
العلم لا يـقـدّر بـثمن      وهو الأمل للمستقبل
هذا الاحتفال فأل خير      بـه تـحـلّ البـركـات
رافـقـنا الحق بتوفيقه       فـي هــذا الـعـمـل
يـداً بــيــد، لا شـــك        يـمـنــح الله الـقـوة
وهكذا بدأت المدرسة تمارس دورها، وعن طريقها سعى (پیره‌مێرد) إلى تعليم الناس والقضاء على الأمية. إلى درجة أن هذه المدرسة ساهمت في تخريج عدد من الكتاب والشعراء، أبرزهم الشاعر (بنكينة).
في التاسع من حزيران سنة 1950، توفي الشاعر والأديب الكبير (پیره‌مێرد) بالسليمانية عن عمر ناهز 83 عاماً، نتيجة إصابته بمرض السكري، ووري جثمانه الثرى بمقبرة تلة (مامة يارة)، وبذلك أصبح المكان منزله الأبدي.
      لماذا مكث (پیره‌مێرد) تلك المدة الطويلة في اسطنبول؟
من وجهة نظري، أرى أن هناك حاجة لتعليل الدافع وراء مكوث (پیره‌مێرد) كل تلك المدة الطويلة في اسطنبول، بعيداً عن الوطن والأقارب. وحسب اطلاعي، لم يذكر الشاعر في كتاباته، ولا في مذكراته، شيئاً محدداً واضحاً عن هذه النقطة بالتحديد. لكن وفق تتبعي لتاريخ حياة (پیره‌مێرد)، ونشاطه الدائم، أستطيع أن أعزو السبب وراء مكوثه الطويل بتركيا إلى الآتي:
أولاً: بعد أن استقر المقام به في اسطنبول، شاهد في هذه المدينة تلاقياً لمختلف الثقافات، وتجسيراً بين أشكال من التراث والأعراف، وتلمّس تنوّعاً فكرياً وفلسفياً، وسهولة في الحصول على أحدث النتاجات الأدبية الغربية، والاستقاء منها.
لقد كانت اسطنبول سوقاً رائجة للجديد من الفكر الإسلامي حينها، سيما تنظيرات المفكرين: (جمال الدين الأفغاني) و(محمد عبده)، بالإضافة لتوافد الفلسفات والأفكار الأوروبية الحديثة آنئذ. وجلّ تلك النتاجات كانت مترجمة إلى اللغة التركية، وفي متناول اليد. كلّ ذلك شكّل حافزاً لـ(پیره‌مێرد)، التواق إلى المعرفة، والأدب، والقارىء النهم، والناشط في الميدان ذاته، للبقاء فترة أطول باسطنبول. ناهيك عن أن ما كان بحوزته من مصادر الثقافة في مدينته السليمانية لم يكن ليروي ظمأه للمعرفة. فاغتنم تلك الفرصة التي جاء من أجلها إلى عاصمة الدولة العثمانية.
ثانياً: ولأن (پیره‌مێرد) لم يتلق تعليمه في المدارس الرسمية، بل اقتصـر على الكتاتيب، وحتى كتاب (السيوطي) لم يكمّله كمنهج آنذاك، فقد شكّل له ذلك هاجساً وشعوراً بوجود فراغ علمي لديه. وحينما توجّه إلى اسطنبول، التي كانت حاضرة كبيرة للعلم والأدب والثقافة، وحاضنة المئات من جهابذة المعارف على اختلافها، سعى الشاعر لإيجاد متّسع حتى يلتحق بالتعليم الرسمي، ويكمل دراسته الأكاديمية، ويحوز شهادة علمية عليا. وقد حالفه الحظ، ونال مراده، خاصة مع دنّوه من بلاط السلطان العثماني، وعن طريق (عزت باشا) التحق بـ(مدرسة الحقوق)، رغم عدم امتلاكه المؤهّل الدراسي الكافي، لكن ذكاءه ونبوغه كانا أحسن مؤهّل لقبوله في تلك المؤسسة التعليمية.
ثالثاً: وما عدا العوامل السابقة، التي أشار إليها أغلب من كتبوا عن حياة (پیرەمێرد)، أرى أنّ عاملاً آخر – ربّما كان أهم هذه العوامل في رأيي – هو أنّ (پیره‌مێرد) كان رجلاً مؤمناً، ومسلماً ملتزماً، لذلك استشعر مسؤولية تعضيد الخلافة العثمانية، لتمثيلها رمز الأمّة ووحدتها، ما حتّم عليه المكوث باسطنبول، خصوصاً وأنّه اطّلع على مستجدات الأوضاع، ورأى تكالب الأحداث، وعاين الحراك نحو الإصلاح، وجهود (دسترة) مؤسسات السلطنة. واستنتاجي لهذه الحقيقة، تدعمه النقاط التالية:
1-    المشاركة الحيوية والفاعلة لـ(پیره‌مێرد) في الفعاليات المنظمية، والفكرية، الإسلامية، والقومية، معاً، وعضويته في الهيئة التأسيسية لجمعية (الاتحاد المحمدي)، وانتسابه لجمعية (بعث كوردستان)، إلى جانب رفاقه الآخرين، أمثال العالم الجليل (سعيد النورسي)، و(خليل الخيالي)، وغيرهم.
لقد اقتفى (پیره‌مێرد) الأثر المنهجي لـ(سعيد النورسي) في استنباط الفكر القومي من الإسلام، وبيّن ذلك في قوله: "فهمي للقومية يأتي من الإسلام"، لأن سعيد الكوردي كان مهتماً بالوعي، ساعياً لربط شخصيته الإسلامية بأرومته القومية. وعليه، حظي المكوّن الكوردي بمكانة رفيعة في فكره، واجتهد لتأصيل ذلك إسلامياً.. وقد تأثّر (پیره‌مێرد) كثيراً بهذه النزعة، حتى بانت جلياً في قصائده. ففي قصيدة بعنوان (أمس واليوم)، نظّمها بمناسبة (المولد النبوي الشـريف)، و(عيد نوروز القومي)، أبدى براعة في المزج بين المناسبتين، كما ظهر أثر الجمع بين الديني والقومي على أبياتها، فأنشد يقول:
سيحلّ زمن (المهدي) في الأرض
وعلى دين (النبـي الخاتم)
نهج (النبـي) ديمقراطي
ديمقراطية منفعتها آتية (منفتحة على المصلحة)
آمنت أن هذا الدين
كالمرآة للكورد ذوي الصدور السليمة
أنا إنّما أحب (الحلفاء)
لأنهم – هذه المرّة – سينجدوننا نحن أيضاً
2-    دعم (پیره‌مێرد) فكرة وحدة الأمة الإسلامية، ولاح ذلك في العديد من الأبيات والأمثال التي نسجها، فكان على الدوام خصماً للفرقة والشقاق، ومدافعاً غيوراً عن الوحدة. وحتى بعد عودته إلى كوردستان، ظل متمسكاً بفكرة (وحدة الأمة). وقد ترجم ذلك عملياً من خلال مشاركته الفاعلة في تأسيس وإدارة جمعية (الاتحاد المحمدي)، ومن أهدافها الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية. كما تأثر (پیره‌مێرد) بنتاجات الشاعر التركي (نامق إقبال)، وفكره، الذي كان من المدافعين عن (وحدة الأمة).
3-    بعد مرور عام واحد فقط على مكوثه باسطنبول، التحق (پیره‌مێرد) بالأعمال التنفيذية والإدارية، فكان حاضراً بإخلاص، ومتنقلاً بين الوظائف، كلما تطلب الأمر ذلك.
4-    الثقة التي حازها (پیره‌مێرد) في البلاط العثماني، خاصة من السلطان عبد الحميد الثاني نفسه، لم تكن سهلة المنال، فقد جاءت نظير إخلاصه، وتجشمه العناء، وإحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.
5-    المشاركة المباشرة لـ(پیره‌مێرد) في معركة الدفاع عن السلطان العثماني، الذي كان يمثل ساعتها رمز (وحدة الأمة)، ومعقد أمل المسلمين.. وقد تطرّق الشاعر، في مناسبات عدة، إلى قصة ذاك الدفاع، بمقالات متفرقة نشرها في صحيفة (ژین). ففي العدد 986 نشـر مقالة بعنوان (الكورد مسلمون)، يقول فيها: "لا زال شاخصاً أمام ناظري، كيف أن الدولة اليونانية تسلّمت من الحكومة الإنجليزية، صديقتنا الحالية، السلاح والبزات العسكرية والمؤن، لتجهيز 300 ألف جندي، وقامت بالهجوم على تركيا، وعاثت في الأرض تخريباً ودماراً، حتى النساء لم يسلمن من الاعتداء والتطاول على أعراضهن. وأعلنت تركيا النفير العام، فانتظم كل  القادرين على حمل السلاح؛ بمن فيهم النساء. وتوجّه (بديع الزمان سعيد) قاصداً كوردستان، وهناك أعلن الجهاد، فاحتشد الرجال والنساء، وكنت حينها في منصب القائممقام، وارتديت الزي الكوردي، وتقدمت مع الملا سعيد الصفوف. والله؛ لقد سبق المشاة الكورد الخيالة، والنساء سبقن الرجال، فهاجموا الجنود اليونانيين مرددين التكبيرات، كان يحسبونهم ثعالب، ملقين بهم في البحر، فلم ينج من الثلاثمائة ألف جندي يوناني إلا القليل". هذا الموقف لـ(پیره‌مێرد) لا يحمل سوى تفسير واحد؛ وهو مساندة (الخلافة العثمانية)، والدفاع عنها، لا غير.
6-    مشاركات (پیره‌مێرد)، ونشاطاته، في الشأن العام، والحياة السياسية، تؤكّد تلك الحقيقة الآنفة الذكر، خاصة بعد إلغاء (الخلافة). لكن بعد أن فقد الأمل تماماً بعودتها مجدداً، قرّر الشاعر الرجوع إلى كوردستان. وهذا إثبات آخر على أن الدافع القوي وراء مكوثه الطويل في اسطنبول هو دعم (الخلافة).
رابعاً: بعد إلغاء (الخلافة)، وتسلّم الكماليين السلطة، سارعت الأقوام غير التركية إلى الحصول على استقلالها، وبناء أنظمة سياسية خاصة بها، وفي مقابل ذلك مارس الكماليون سياسة عدائية، خاصة ضد الكورد، وحقوقهم، وانتهجوا القمع والاستبداد وإيقاع المظالم، فحظروا اللغة الكوردية، لذلك آثر (پیره‌مێرد) البقاء في اسطنبول مدة أطول؛ لكي يتمكن مع رفاقه من استعادة حقوق الكورد المسلوبة. ولهذا الغرض شارك في تأسيس العديد من الجمعيات والمنظمات ذات الأهداف التحررية.
ومن ناحية أخرى، قاد الكورد الكثير من الثورات المسلحة ضد الكماليين، لكن (پیره‌مێرد) كان يأنف الحرب، ويرفض اللجوء إلى السلاح، وظل مقتنعاً بالنضال المدني والثورة السلمية.
وخشي (پیره‌مێرد) من أن مكوثه بتركيا مدة إضافية قد يوقعه بين مطرقة الاتهام بالجبن والتخاذل، وسندان المشاركة بأعمال ووظائف غير مقتنع بها تماماً، لذلك اتخذ قراره بالعودة إلى كوردستان، ومواصلة النشاط التوعوي، وإدامة مهمة الإصلاح والنضال المدني.


      النتاجات الأدبية والفكرية لـ(پیره‌مێرد)
أشرنا آنفاً إلى ثلاث مراحل عاشها (پیره‌مێرد): المرحلة التي سبقت ذهابه إلى اسطنبول، وهو يومئذ في الحادية والثلاثين من عمره، وهي فترة تجاوز فيها مرحلتي الطفولة والصبا، وهي أيضاً فترة الزواج، وتكوين الأسرة، والانشغال بالتحصيل العلمي. ولا يعقل أن لا يكون لهذا الشخص الموهوب والنابغة أي نتاجات شعرية أو نثرية في تلك المرحلة بالتحديد، فجميع الدلائل تشير إلى قدرته على التأليف، وقرض الشعر، مع إتقانه عدّة لغات، وتمتّعه بالحصافة، وهذا ما جعله يحظى بمكانة مرموقة، وأهلّه لتبوء مناصب رفيعة، خاصة بعد ذهابه إلى أسطنبول؛ منها مرافقة الشيخ (سعيد النورسي) للذهاب إلى اسطنبول، ولقاء السلطان عبد الحميد الثاني، وتكليفه - بعد أقل من عام - بكتابة رسالة جوابية باللغة الفارسية، باسم السلطان العثماني، إلى شاه إيران (ناصر الدين القاجاري).
وأعتقد أن غالبية نتاجاته الأدبية التي كتبها بخط يده، ولم يحظ بنشرها، فقدت، بعد مغادرته السليمانية. وهذا ما ذهب إليه أيضاً المؤرخ والأديب الكوردي المعروف الدكتور (عز الدين مصطفى)، في كتابه المعنون (الأدب الكوردي الحديث).
المرحلة التي قضاها في اسطنبول، والتي قاربت خمسة وعشـرين عاماً، وإن كان فيها منشغلاً بالوظائف الإدارية، والنضال الإسلامي والقومي، مع رفاقه، ولكنه لم ينقطع عن التأليف، ونظم الشعر.. فواصل كتابة المقالات الأدبية والسياسية، بلغات مختلفة، ونشـرها في صحف تركية وإيرانية، وكذلك في صحف عربية كانت تصدر بمصـر، وحتى في بعض الجرائد الفرنسية. وإلى جانب ذلك، اجتهد (پیره‌مێرد) في ترجمة قصائد لكبار الشعراء الكورد، إلى اللغتين الفارسية والتركية، ليتسنى للشعوب الأخرى الاطلاع عليها.. وأنا متيقّن أن جلّ تلك النتاجات الثقافية الإبداعية فقدت، ولم يعثر عليها، ما أدى إلى حرمان القارىء الكوردي منها.
ومن على هذه الصفحات أثمّن عالياً جهود (مركز ژین الثقافي) في جمع وحفظ التراث الأدبي التاريخي، والثروة الفكرية والمعرفية لأعلام أمتنا، بالأخص تراث (پیره‌مێرد). حيث استطاع المركز، وبجهود استثنائية، جمع الآف الصفحات، وأرشفتها، وحفظها. وحالياً يواصل الأستاذ (رفيق الصالحي) الليل بالنهار لإعداد كافة المقالات والمواضيع التي نشـرها (پیره‌مێرد) في صحيفتي (ژیان) و(ژین)، وإصدارها في كتاب جديد.
لقد كتب (پیره‌مێرد) الشطر الأكبر من نتاجاته خلال 30 عاماً، بدءاً من عودته إلى كوردستان، وحتى وفاته. ومن الواضح أن قسماً من تلك النتاجات، عدا ما نشـره في الصحف والمجلات، قام بنشـره شخصياً، والقسم الآخر تم جمعه وإصداره بعد وفاته. وقد أشرت آنفاً إلى وجود نتاجات أخرى كثيرة للشاعر تركها في اسطنبول، لم تأخذ طريقها للجمع، ولم تصل إلينا، والمتوفّر منها حالياً بين أيدينا يمكن تصنيفها كالتالي:
أولاً/ القصائد: عبارة عن عشرات الأبيات، نظّمها بنفسه، أو قصائد أخرى من نظم شعراء آخرين، أعاد صياغتها، ونشرها مجدداً، إمّا بترجمتها من لغات أجنبية إلى اللغة الكوردية، أو من اللهجات الكوردية الأخرى، كالهورامية والكورانية والكرمانجية، إلى اللهجة الكوردية السورانية. وأدناه أمثلة على ما تقدم ذكره:
      ديوان (پیره‌مێرد)، أعيد تحقيقه، وإصداره في طبعات جديدة، مرات عدة.
      روح مولوي (الأصل والروح)، عبارة عن قصائد نظّمها (مولوي تاوكوزي)، كتبت باللهجة الهورامية، وأثّرت كثيراً في (پیره‌مێرد). وقد ترجمها بحرفية عالية إلى اللهجة الكوردية السورانية، وأصدرها في جزئين، بمطبعته (ژین) سنة 1935، مع ذكره في المقدمة أسماء شخصيات عاونته في ترجمة بعض المصطلحات والمعاني الهورامية، وهم (الملا عبد الله المريواني، الملا عزيز مفتي السليمانية، الشاعر كوران).
      روح مولانا خالد النقشبندي، وتشتمل على قصائد وأبيات عرفانية من نظم (مولانا خالد النقشبندي)، وقد كتبت باللغة الفارسية، ونقلها (پیره‌مێرد) إلى اللهجة السورانية. وتعدّ الترجمة - بشهادة مختصين - في مستوى عال من الإحكام، بحيث تفوق في بعض نواحيها الأصل.
      رباعيات سعيد أبو الخير. مجموعة رباعيات الشاعر والعارف الفارسي (سعيد أبو الخير)، نقلها إلى اللغة الكوردية السورانية. ولاحقاً قام (أوميد آشنا) بنشـرها مع كتابات نثرية، أثناء مراجعته (ديوان پیره‌مێرد).
      أشعار (ولي ديوانه) و(بيساراني)، وآخرين، أمثال (شفيع، جباري، عبد الله بك الزنكنة، وغيرهم)، ترجمها (پیره‌مێرد) إلى اللهجة السورانية.

ثانياً/ الأمثال والحكم: وتعدّ إحدى أكبر الأعمال الأدبية لـ(پیره‌مێرد)، ومجموعها (6445) بنداً. نشـر غالبيتها في الصحف.. وفيما بعد قام آخرون بجمعها وإصدارها في مطبوعات جديدة، منهم الأستاذ (كاكةى فلاح) و(رفيق الصالحي). وسنأتي على ذكر هذه الأمثال والحكم بالتفصيل في أقسام لاحقة من بحثنا هذا.
ثالثاً/ القصة القصيرة والمسرحية، منها:
1-    (بيةسي)، قصة (محمود آغا شيوه كل)، كتبها (پیره‌مێرد) سنة 1942، على شكل مسرحية، عرضت في حينه.
2- حكاية شريف هموند. وقد ذكر الأديب والمؤرخ الكوردي (عز الدين مصطفى) أن هذا النتاج الأدبي لـ(پیره‌مێرد) فقد، ولم يعثر عليه حتى الآن.
رابعاً/ الرواية والقصة الطويلة:
1-    رواية (عازف الكمان). ترجمها من اللغة التركية إلى الكوردية سنة 1942. وذكر الأستاذ (محمد رسول هاوار)، أن هذه الرواية  تعود أساساً للأديب الألماني (ألفرد مولر)، كتبها باللغة الألمانية. بينما يقول الأستاذ (مارف خزندار) بأنها للأديب الدانماركي (هانز أندرسن)، وقد ترجمت إلى اللغة التركية، ونقلها (پیره‌مێرد) للكوردية.
2-    ترجمة قصة (مةم وزين) من اللهجة الكوردية الكرمانجية، إلى اللهجة الكوردية السورانية. وقد صاغها على شكل عمل مسرحي، وأصدرها سنة 1935 بمطبوع في مطبعته. وعرضت المسرحية آنذاك في السليمانية.
3-    حكاية (فرسان مريوان الاثني عشر)، كتبها سنة 1935، وهي عبارة عن ملحمة أبطالها 12 مقاتلاً من مدينة مريوان الكوردية، تصدّوا لجيش جرّار إبّان عصـر الدولة الزندية في إيران.
خامساً/ الكوميديا الساخرة: وهي مجموعة قصص كوميدية وأحداث ساخرة، تحمل  بين طياتها نوعاً من الحكم أيضاً. كتبها (پیره‌مێرد) سنة 1947، وقام (كاكه ى فلاح) بجمعها وطبعها بمقدمة جميلة في سبعينيات القرن الماضي.
سادساً/ التاريخ:
1-    (تاريخ وأشخاص)، سلسلة مقالات بهذا العنوان عن تاريخ كوردستان، والشخصيات الكوردية البارزة والمؤثرة في الساحة السياسية والأدبية والاجتماعية. بالإضافة إلى سلسلة مقالات أخرى عن تاريخ الإمارات والقبائل الكوردية، مثل: الإمارة البابانية، وعشيرة الجاف، وأحداث أخرى تركت بصماتها في التاريخ الكوردي.
2-    ترجمة مناقب المتصوف المعروف (كاك أحمد الشيخ)، من الفارسية إلى الكوردية السورانية.
سابعاً/ النثر:
كتابة ونشر مجموعة مقطوعات من النثر الفني، ذات المعاني الجميلة والمفيدة، والتي يمكن جمعها وإصدارها في مطبوع مستقل.
ثامناً/ الفلكلور:
كتب (پیره‌مێرد) عشرات الأبيات والقصص الفلكلورية والحكايات والألغاز والأحاجي، قام بنشرها تباعاً في صحيفتي (ژیان) و(ژین)، ويمكن أن تشكل مادة أدبية جديدة، إذا ما تمّ جمعها وإصدارها في كتاب مستقل.
تاسعاً/ قصص قصيرة أخرى:
مجموعة من القصص والحكايات القصيرة نشرها في مجلة (كلاويز)، أبرزها: نهاية رجل بنككيش -1941، الإكراه نتيجته كسـر الرقبة - 1942، ماذا فيك ياعصب الكورد - 1942، فلسفة فتاة كوردية -1942، غرام عمل قديم – 1936.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق