سالم الحاج
الإصلاح
الدیني مصطلح حديث، لم يعرف عند المسلمين بهذا الشكل من قبل، وإن كان مفهوم ومنظور
الإصلاح الديني موجوداً في الشريعة الإسلامية، وعند المسلمين.. وهناك – في هذا
المجال – الحديث المشهور: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى
رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)، وفي رواية: (أمر
دينها)، وهو صريح في الدلالة على ضرورة وأهمية الإصلاح والتجديد في الدين، بين كل
فترة زمنية وأخرى.. وقد استعمل الإمام الغزالي في حينه تعبير (الإحياء) للدلالة
على مراده في الإصلاح الديني..
ولا
شك أن الإصلاح أو التجديد في الدين هو ممّا ينسجم مع مقاصد الشـريعة الإسلامية، من
حيث إنها إنما جاءت لمراعاة مصالح الناس، وحمايتها، وبما أنّ مصالح الناس،
وحاجاتهم، في تجدّد وتطوّر دائم، فناسب أن يكون التجديد، والتجدّد، من مميزات الشـريعة
الإسلامية، لكي تواكب حاجات الناس ومصالحهم..
وهذا
– بالطبع - كأساس نظري، وإلا فإنّ التطبيق التاريخي يمكن أن يرشدنا إلى أن
المسلمين – مع الأسف-، مع أنهم حملة رسالة عظيمة، وبناة حضارة كبيرة، ولكنهم عجزوا
عن الاستمرار في الاحتفاظ بهذه الحيوية الدينية التي يحملها الإسلام، وسقطوا في
دائرة الانغلاق الديني، وذهبوا إلى وقف الاجتهاد، وتحريمه.. ولو قيّض للمسلمين أن
يستمروا في أدائهم الحضاري كما هو، لكان للمسلمين اليوم شأن آخر في عالم اليوم..
اجتهاد
مفتوح، وإصلاح متجدد
ولا
بد من الإشارة ابتداءً إلى أن التجديد والإصلاح في الدين، بطبيعته، وبغضّ النظر عن
صلاح وكفاءة القائمين عليه، أو عدمها، لا بدّ أن يلاقي مقاومة ونفوراً في البداية،
ولكنه سرعان ما يستقر ويلقى القبول، إذا كان ملائماً غير متنافر مع ثوابت الإسلام
وأركانه.. وهذه العملية من المقاومة والنفور، ومن ثم القبول والاحتضان، أمور
طبيعية تدل على مدى الاعتزاز بالدين، ومدى تغلغله في حياة المسلمين، وتؤشـر أن
التجديد في أمور الدين صعب، ويحتاج إلى الكثير من الحكمة والدراية..
إن
(الاجتهاد) في الإسلام هو عملية مطلقة، وغير مقيّدة أو محدودة بمؤسسة معيّنة، أو
طبقة خاصة من العلماء، أو المختصين، بل هو عملية مفتوحة أمام كلّ من يجد في نفسه
المؤهلات المطلوبة للقيام بعملية الاجتهاد وإبداء الرأي في قضايا الدين. وهذا
الاجتهاد الذي يبديه العلماء والمجتهدون هو غير ملزم لأحد، إلا لمن ارتضاه واقتنع
به، سواءً كان فرداً أم جماعة.. ولا يلزم الناس إلا ما أصبح قانوناً بحكم فرضه من
قبل السلطة السياسية.. فما تبنته السلطة السياسية، وأصبح قانوناً، فعلى الجميع
إطاعته، طاعة لولي الأمر.. فإن كان القانون جائراً، أو مخالفاً للشرع، فعلى الناس
عصيانه، ومقاومته، وتبديله، وإلا فإن الشرع والواجب يفرضان الالتزام والطاعة بما
ليس فيه مخالفة للدين، ولا ضرر بمصالح المسلمين..
ونستطيع
القول إجمالاً إن كل اجتهاد وتجديد في الإسلام، هو أمر مسموح به، بل مطلوب، وربما
ارتقى إلى منزلة الفرض والواجب أحياناً.. ويبقى بعد ذلك مدى استجابة الناس،
واستقبالهم له، وتفاعلهم معه، حيث قد يتغيّر ذلك بحسب استعداد الناس، وظروفهم المحيطة
بهم..
الإصلاح
والنهضة والسلطة
ولكن
هل يمكن القول إن المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي ترتبط بوجود أو عدم
وجود إصلاح ديني؟.. لا يمكن الجزم بذلك، رغم أن الإصلاح الديني هو أساس مكين لكل
إصلاح في مجتمعات المسلمين..
وذلك
لعدّة أسباب:
أولاً/
إنّ الإصلاح الديني هو عملية مستمرة، غير متوقفة، ولكن تأثيرها أو عدم تأثيرها
يعتمد على عوامل أخرى رافعة، يمكن أن تساهم في أن يقود الإصلاح الديني إلى تحقيق
ثماره، أو أنْ يكون بلا ثمر..
ثانياً/
إن السطة السياسية، وفسادها، يمكن أن يعيقان أيّ عملية تحديث، أو إصلاح.. ومع أنّ السلطة
السياسية لها دور عظيم ومؤثّر في عملية التحديث والإصلاح بشكل عام، ولكن دورها في
مجال الإصلاح الديني قد يكون محدوداً، لأنّ عملية الإصلاح الديني لا تبدأ من
السلطة، ولا بتوجيهها، وإنما هي عملية دينية – حضارية حرة، لا تأتمر بأوامر
السلطات ولا تخضع لها، بل ترتبط بحركية الدين، وحيويته، في المجتمع، وبين الناس..
وإذا كان ذلك صحيحاً تاريخياً، فإنه لا يزال كذلك في ظل الدولة الحديثة، وخاصة إذا
أردنا لعملية الإصلاح الديني أن تأخذ مداها، وتثمر ثمارها الحضارية المطلوبة، ولا
تخضع لإملاءات ومصالح السياسة والدول، لأنها إذ ذاك لن تعدو أنْ تكون تلاعباً
بالدين، لن يلقى القبول والرضا من المسلمين، ولن تحقق أهدافها في الإصلاح
والتطوير.. إذ إن الإصلاح والتجديد في الدين إنما يمر عبر إرادة المسلمين، ورضاهم،
ولن ينجح تجديد عبر فرضه بالإكراه..
وهنا
يمكن أن يطرح السؤال نفسه: إذا كان دور السلطة السياسية في عملية الإصلاح الديني
محدوداً، فما هي أسباب تعثّر الإصلاح الديني في العالم الإسلامي؟ هل هي عوامل
ذاتية إذاً تتعلّق ببنية الدين نفسه، أم هي عوامل أخرى موضوعية؟ خاصة أنّنا نرى أنّ
الدين - الإسلام يفتح الطريق واسعاً أمام عملية الاجتهاد والإصلاح الديني، كما هو
معلوم!
وفي
الحقيقة، فإنّ عملية الإصلاح الديني في العالم الإسلامي لم تتوقف منذ ظهور
الإسلام، ومن يقرأ التاريخ سيرى مراحل هذا الإصلاح، ورجالاته، بصورة لا لبس فيها..
نعم، قد تكون هذه العملية في بعض العصور أبطأ أو أخفّ من غيرها، ولكنها موجودة على
أيّ حال، وقد واكبت عملية التطور والتغير الحضاري عند المسلمين.. وحتى في العصـر
الحديث، فإنّ سيل المصلحين ورجال التجديد الإسلامي لم ينقطع، ولا يزال مستمراً،
ولكنه لم يبلغ مداه لحد اليوم، ولا يزال العالم الإسلامي يحتاج إلى المزيد من
عملية الإصلاح الديني، والمزيد من الوقت، حتى يستطيع أنْ يتغلّب على عوائق النهضة،
ويحقق التغيير المنشود..
وهنا
يأتي دور السلطة السياسية، ودور العوامل الأخرى الموضوعية، ومنها التأثيرات
الغربية، المعيقة لعملية الإصلاح، والتي تحول دون أن تؤتي هذه العملية كامل
ثمارها.. وهي عوامل مسؤولة مسؤولية مباشرة عن استدامة التخلّف الحضاري الذي يعيشه
المسلمون.. ومعلوم أن الإصلاح الديني لن ينجح في تحقيق كامل آثاره في ظل التخلّف
الحضاري الذي يحيط بعالم المسلمين، ولن يستطيع إحداث التغييرات الكبيرة المطلوبة..
وخاصة أذا كانت السلطات السياسية في بلاد المسلمين تعتبر كل تقدّم وإصلاح وتجديد
في الدين، حرباً عليها، ومعاداة لها.. ولا ننسى أن الإصلاح الديني يعني زيادة
فاعلية الدين في حياة المسلمين، وهو الأمر الذي يعتبره الغرب ضد مصالحه
الاستراتيجية، وخطراً عليها، فهو لذلك يهمّه أن يقبع المسلمون في تخلّفهم وتناقضهم
مع الحداثة والحضارة المعاصرة، لكي يبقوا أسرى تخلّفهم الحضاري، ولا يتمكنوا من
الخروج منه.. وهذه معادلة معقدة، كتب عنها المفكر الجزائري مالك بن نبي الكثير..
على
أنه يجب الاعتراف أنّ الفكر الإسلامي لا يزال يحتاج إلى الكثير من المراجعات
والتجديد، وهو ما يؤكّد أنّ الخلل الأكبر هو في المسلمين أنفسهم، وليس في الأسباب
الموضوعية الخارجة عنهم، وإنّ كان دورها كبيراً وأساسياً..
لسنا
جزيرة معزولة!
وليست
المنطقة الكوردية بجزيرة معزولة عن غيرها، بل نحن في قلب العالم الإسلامي والعربي،
بكلّ تعقيداته، ومتغيّراته. ولذلك، فإنّ كلّ ما يجري في المنطقة يؤثّر علينا بشكل
مباشر، بما في ذلك مجال الإصلاح الديني.. ولا ننسـى أنّ التيارات الاسلامية لدينا،
والفكر الإسلامي المطروح والمتداول، شعبياً، ونخبوياً، هو - في معظمه- من ثمار
وتأثيرات محيطنا العربي، والإسلامي، بالدرجة الأولى..
وليس
صحيحاً البناء على مسلّمة أن الإصلاح قد فشل في العالم العربي، لنقول بفشل الإصلاح
عندنا.. ذلك أن الإصلاح - كما أشرت من قبل - هو عملية مستمرة، قد تتعثّر، ولكنها
غير متوقفة.. وما نراه من تخلّف حضاري لا يعزى إلى عدم وجود إصلاح ديني، بل إلى
عدم كفايته، فضلاً عن دور العوامل الأخرى في إعاقة هذا الإصلاح، والتحديث، وهي
عوامل كثيرة ومؤثرة، كما ذكرنا..
فليس ثمّة فشل في عملية
الإصلاح، ولكن هناك
عدم فاعلية، وهو ما يمكن عزوه إلى عوامل عديدة، يأتي على رأسها: الأنظمة السياسية
الحاكمة، والعامل الاستعماري الغربي..
إنّ
حالة التنافر والعداء القائمة بين السلطة السياسية وتيارات الإصلاح والحركة
الإسلامية، تساهم بشكل كبير في استمرار حالة اللافاعلية التي تعاني منها حركة
الإصلاح الديني في العالم الإسلامي.. إنّ الإصلاح الديني ليس حركة فكرية تنبع أو
تمضي في فراغ، بل هي حركة ضمن وسط حضاري ملائم، أو معاند.. وهي تمضي وتتطوّر وتؤثّر،
مع وفي سياق ذلك الوسط الحضاري، سواء كان مؤيداً أو معادياً.. وليس ببعيد أن تؤثّر
حركات الإصلاح في أوساطها الحضارية، حتى المعاديةمنها، لتسير بها نحو آفاق التغيير
والتجديد، كما هو معلوم في التاريخ القديم والحديث..
ومن هنا، فإن وجود طبقة سياسية حاكمة تؤمن
بالإصلاح الديني، وتسخّر نفسها لتطبيقه، يسرّع من خطوات هذا الإصلاح، ويمكّن له في
الأرض..
ومن
ناحية أخرى، فإن دور المؤسسات الإسلامية الكبرى، كالأزهر وغيره، لا يمكن التغاضي
عنه في مسألة نجاح أو فشل حركات الإصلاح الديني.. ذلك أنّ هذه المؤسسات العريقة
لها دور وتأثير كبيرين في العالم الإسلامي، وهي في تغاضيها عن حركات التجديد
الديني، واستمرارها في التمسّك بالعلوم الإسلامية التقليدية، وطرائق تدريسها، كما
هي دون تطوير أو تجديد، إنّما تمثّل عاملاً من عوامل الوقوف في وجه حركات الإصلاح
والتجديد هذه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق