02‏/01‏/2019

التدرج والتكامل في الرسالات النبوية


عمار وجيه
باختصار، وكأيّ تلميذ يبحث في كتاب الله الخالد الذي لا تنقضي عجائبه، بحثت في قصص الأنبياء من عشرات الزوايا؛ واحدة منها تمثّل إجابة لسؤال مهم: كيف نشأ الفكر الإنساني؟ فكانت الإجابة واضحة: بدأ من الوحي، وتدرّج نضوجاً من الوحي، ووصل ذروته بالوحي. وما إبداعات البشرية، عبر بضعة آلاف من السنين (ربما عشـرة آلاف، أو أقلّ)، منذ نزول آدم عليه السلام، وإلى يومنا هذا، سوى انعكاسات لأصول وكليّات الفكر الذي نزل به الوحي.
ففهم الثوابت، وعدم التخلّي عنها، والالتزام بالمواثيق، والتحلّي بشيم الرجال؛ وأهمّها: الأمانة، والشهامة، والتضحية، والاهتمام بالعدل، والمساواة، وغير ذلك، كلّها أقرّت في أولّ وثيقة تاريخية قرآنية تحدّثت عن المعركة الصفرية بين قابيل وهابيل. تلك المعركة التي أبرزت مدرستين؛ مدرسة فهم فلسفة الاستخلاف في الأرض؛ القائمة
على القيم والمفاهيم والمروءات، وأنّ الحياة التزام ونظام، ممثلةً بهابيل، ومدرسة العبث والفوضى والأنانية، المستعدة لإلغاء كل القوانين الإلهية في لحظة هوى وطيش، ممثلةً بقابيل. وسبق أن تحدثنا عنها غير مرّة.
في دراستي المتواضعة، وضعت فرضية، وسأسعى لتطويرها مستقبلاً بإذن الله. وفيها أهداف كثيرة، سأذكرها في نهاية المقال. الفرضية تقسّم مراحل الرسالات إلى ثمانية؛ متدرّجة ومقصودة. المرحلة الأولى منها رسمت باللونين الأبيض والأسود، ثم تلوّنت حتى أصبحت لوحة متكاملة في المرحلة الأخيرة، بكل ألوانها وأطيافها، وتعبيراتها وتشكيلاتها.
الأولى: تمثل المعركة الصفرية؛ التقاطع بين النور الكامل، والظلام الحالك: هابيل، وقابيل. وهي مرحلة (حوار طرشان)، لا يملك فيها قابيل حجّة واحدة ليردّ على منطق أخيه الواضح، ولم يكن أمامه حلّ سوى إلغاء وجوده.
الثانية: مرحلة تزييف الحقائق، ممثّلةً بالأمم الغابرة التي هلكت، ابتداءً من قوم نوح، وحتى شعيب. وهي مرحلة ابتكر فيها الملأ أفكاراً عدّة؛ منها تفريغ القيم من معانيها، فأظهروا للرأي العام أنهم صادقون، وأن الأنبياء - حاشاهم - كاذبون، وتحويل مواصفات خَلقية (مثل: القبليّة، والجاه، والنفوذ) إلى معايير للتفاضل، وقلب الحقائق (الرذيلة صارت شرفاً وقيمة)… إلخ.
الثالثة: مرحلة توزيع الجهد الدعوي بين العوام والخواص، وبداية الاهتمام بتأسيس وإرساء دعائم الإسلام، مادياً ومعنوياً. وهي المنعطف الأكبر في التاريخ، ممثّلةً بقصة سيدنا إبراهيم، الإمام والأمّة، الذي بنى الكعبة والأسرة معاً.
الرابعة: مرحلة تطبيق مفاهيم الدعوة في أروقة الدولة. ولو كان ذلك في شراكة ضمن نظام جاهلي فيه قدر من الحريات. ممثّلةً بمسيرة يوسف (عليه السلام) من البئر وحتى رئاسة الوزراء.
الخامسة: مرحلة إنقاذ أمّة الإسلام من أسر الطغاة، بغية إعدادهم وتأهيلهم للتمكين. (موسى عليه السلام نموذجاً).
السادسة: تمثّل الدولة الإسلامية التكنولوجية (موارد مادية هائلة، مقابل موارد بشـرية نوعيّة، محدودة). وهي دولة داود وسليمان (عليهما السلام). تجربة إسلامية تقنيّة، تنتهي عند أجل قائدها.
السابعة: مرحلة إنقاذ الأمّة المسلمة من ظلمها لنفسها. وهي مرحلة عيسـى المسيح عليه السلام، التي تحدّثنا عنها كثيراً. وهي آخر مرحلة لبني إسرائيل ]وكأنّ القرآن يخبرنا أن سقف إنتاج بني إسرائيل توقّف هنا[.
الثامنة والأخيرة: مرحلة عالمية الدعوة، والدولة. حقّقها بنو إسماعيل، بعد أن حافظوا على الكثير من الأخلاق لأكثر من ألفي عام، بين إسماعيل وخاتم المرسلين سيدنا محمد (عليه وعلى النبيين الصلاة والسلام). وفي تلك المرحلة رسخت القيم في صدور الرجال والنساء، وتأسّس الفريق، وتحقّق التوريث، ونشأت الأجيال المقاومة للمؤامرات والإقصاء التام.
هذه أفكار متاحة للدراسة والتطوير، وفيها أهداف شتى، ومنها:
-  أن نفهم أنّ الفكر الإنساني ثمرة للفكر الإيماني، الذي جاء به الوحي عبر مسيرة الأنبياء. فحمورابي وسنحاريب وآشور، وسائر الدول، ليسوا سوى انعكاسات بشرية أخطأت وأصابت في فهم الرسالات. المؤرّخون في الغرب أغفلوا الرسالات، وأبرزوا تاريخ الدول، ليوهموا الدارسين أن الأنبياء - حاشاهم - ليسوا سوى وعاظ، وهذا ظلم، بل كفر صراح، وتشويه متعمّد للحقائق.
-  قصص الأنبياء مدرسة واحدة متكاملة.
-  الإغراق في التفاصيل من خلال الأحاديث الضعيفة، والموضوعة، والإسرائيليات، عبث وصرف للعقول والأفهام عن الكليات والأهداف.
- الرسالات النبوية تعلّمنا كيف نواجه كلّ تشويه بما يناسبه من علوم ومعارف ومنطق داحض للشبهات. فما يناسب قابيل من تضحية بالنفس، لا يشبه ما يناسب إخوة يوسف من تكتيكات تهدف للتمكين وإعلاء كلمة الله في أرض مصـر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق