عبد الباقي يوسف
لبث النبي يونس
- عليه السلام - يدعو قومه دون أن يستجيب له أحد من عموم قومه سوى رجلان. الأمر
الذي بث شيئاً من اليأس لديه تَجاههم، وأنه مهما لبث يدعوهم فلن يستجيبوا، كون
عقيدة الأوثان غدت مترسّخة فيهم.
هنا اتّخذ قراراً بأن يهجرهم، ويتركهم في عبادة أوثانهم،
دون أن يأمره الله بذلك، فقد اجتهد بهذا القرار، وقام بتنفيذه.
الأمر الملفت للنظر هنا أن قومه وبعد أن هجرهم، تركوا عبادة الأوثان، واهتدوا إلى الإيمان بوحدانية الله
وعبادته. وقد حصل ذلك بعد مغادرة نبيهم، حيث أرسل إليهم سُحباً سوداء، اسودَّت على إثرها الطبيعة التي كانوا فيها، الأمر الذي جعلهم يُراجِعون أنفسهم، ويصلون إلى قناعةٍ بأن ذلك بداية عِقاب من الله الذي في السماء نتيجة عدم إيمانهم به. كانت هذه نقطة التحوّل الكُبرى في حياتهم، نقطة مراجعة النفس في العقيدة الوثنية التي كانوا عليها. فلجأوا إلى الله بالتضرّع كي يعفو عنهم ويغفر لهم ما قد بدر منهم، حيث اجتمعوا كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، بل جمعوا حتى حيواناتهم أيضاً، وقد ارتدوا ثياباً رثّةً، وغدوا ينثرون الرماد الأسود على رؤوسهم، ويبتهلون إلى الله الواحد الأحد بالعفو والمغفرة.هنا تقبَّل الله عز وجل التوبة منهم، وأزاح عنهم كل ذلك
السواد، وعادت حياتهم طبيعية كما كانت، لكن على قاعدة إيمانية بالله دون عبادة
الأوثان.
إذن، الأنبياء هم بشـر، لكنهم يتميّزون بأن الله عز وجل
يصطفيهم لمهمّة النبوّة، وهذا يكون لخير الناس، لأنهم يدعون إلى الصلاح، وعلى
الأغلب يكون ذلك عندما يستشري الفساد وتتسع رقعته في المجتمع، كما يبيِّن القرآن
الكريم. فالأنبياء هم النخبة الصالحة التي تدعو إلى الصلاح، ولذلك من المهم للغاية
أن نتعرَّف عليهم، وعلى تصرّفاتهم، على أحاديثهم، على ما كان يحصل معهم في سائر
علاقاتهم مع الناس. والقرآن الكريم قد جعل حضوراً لكل هذه المعرفة بأنبياء الله
-عليهم صلوات الله وسلامه-، من خلال الكثير من السور والآيات القرآنية. وقد ذكر
عدداً منهم، وما ذكره القرآن هو غاية في الأهمّية عمّا جرى معهم. فالأنبياء،
ولكونهم بشـراً، فإنهم عندما يتصرّفون دون وحي، ليس بالضرورة أن يصيبوا دائماً،
والصواب الكامل يكون فقط عندما يتصـرّفون بمقتضى الوحي. وهذا أمرٌ بالغ الأهمّية،
وهو أن الإنسان لا يعلم أشياء كثيرة، ولذلك ربما يقع في أخطاء، بحسن نيّة، وقد
صوّب الله -عز وجل- لأنبيائه عندما لم يصيبوا وفق اجتهادات اجتهدوا بها. فاستجابوا
لهذا التصويب، وتعلّموا أكثر مما لم يعلموا، نضجوا أكثر. وهكذا يكون الإنسان،
فعندما يخطئ، يتعلّم من خطئه، لأن الإنسان مهما كان عالِماً لا يمكن له أن يستغني
عن تصويب الله -عز وجل- له.
وقد ورد ذكر 25 نبياً ورسولاً في القرآن الكريم، منهم 18
في سورة الأنعام لوحدها، والبقية في سور متفرّقة. لكن هؤلاء ليسوا كل أنبياء ورسل
الله على مدار التاريخ البشري، فهؤلاء فقط ما تم ذكرهم في القرآن الكريم.
[وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ
وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ]النساء24.
مع النبي يونس نتعرَّف على أمرٍ بالغ الأهمّية، وهو أن الله عز وجل يمكن له
أن يستغني عن الأنبياء والرسل في هداية الناس. فهي ليست حاجة الله إلى الأنبياء من
أجل الهداية، وأن الهداية لا يمكن لها أن تكون إلاّ من خلالهم، كونهم من البشر،
وهم أقرب إليهم، بل هي حاجة البشر إلى الله كي يصطفي لهم الأنبياء من أصلابهم. ومع
النبي يونس عليه السلام تتأكّد هذه الحقيقة، فقد اهتدى قومه عندما خرج عنهم، وهذا
كمثال بأن الله يمكن له أن يهدي الناس بدون وجود أنبياء ورسل. وهنا ما يمكن
استنتاجه، أن الإنسان يمكن له أن يتّعظ بما يجري من حوله، لأن الأنبياء والرسل لن
يلبثوا على مدار التاريخ البشري، بل سيأتي من يكون خاتماً لأنبياء الله ورسله.
وهذا ما حصل بعد كل تلك القرون الطويلة بين النبي يونس عليه السلام، وبين محمّدٍ
عليه الصلاة والسلام. ولعلّنا الآن في أطول فترة من الزمن خلت من وجود الأنبياء،
أي بما يزيد عن ألفٍ وأربعمائة سنة لا نبي ولا رسول فيها. ورغم ذلك بقي الدين، بل
إن أعداد المؤمنين في زيادة من قرنٍ إلى قرن. طبعاً بقي القرآن هو كِتاب الهِداية
الأول، لكن إلى جانبه لبث قرآن الطبيعة مستمرّاً تتجلّى فيه آيات الله عز وجل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق