أ. د. عماد الدين خليل
( 1 )
? ما بين ظلمتي الرحم والقبر لحظات من عمر الزمن
..
( 2 )
القرآن الكريم وهو يقص علينا أنباء الأمم الغابرة.. وهو يشـرّع لنا نظم حياتنا الدنيا، ما يلبث أن ينقلنا، بشكل مفاجئ، إلى يوم الحساب.. دائماً يحدث هذا.. النقلة المفاجئة إلى يوم الحساب وكأنه واقع اللحظة.. الحقيقة
المطلقة التي يغدو ما قبلها سـراباً لا يملك أي ثقل حقيقي.. أي قدرة على الديمومة والاستمرار.. إنه يتفلت قبالة الوعي بالمصير الذي ينتظر كل واحد منا هناك..ما الذي يدلّ عليه هذا؟!
( 3 )
والفارق بين الزمن الأرضي، والزمن الكوني، كبير كبير،
يصعب على الخيال أن يتصوره، أو يلاحقه، فكيف بالمعادلات الرياضية، والأرقام؟
لقد كشفت بحوث
(شـرودنجر) و(بور) و(هايزنبرغ) و(اينشتاين) جانباً من الظاهرة، لكنها لم تصل إلى
القرار.. والقرآن الكريم يرحل بنا هو الآخر عبر هذا الفارق الشاسع بين الزمنين،
حيث يصير اليوم الكوني الواحد كألف سنة مما نعد، بل كثمانية عشر ومائتين وخمسين
ألفاً يوماً أرضياً: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ{1} لِّلْكَافِرينَ
لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ{2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ{3} تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ{4} فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً{5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً{6}
وَنَرَاهُ قَرِيباً{7}!!( سورة المعارج: الآيات 1-7 ).
في المنظور القرآني ينحسر اليوم الأرضي حتى ليغدو ساعة
من زمن.. حفل تعارف
لا يكاد أحدنا بعد ارفضاضه، أن يتذكر حتى الأسماء التي تعرّف عليها.. ما الذي يدّل
عليه هذا؟
( 4 )
الحياة الدنيا عروض مسرحية على شاشة الزمن.. لا تملك سوى
الطول والعرض، وليس ثمة بعدهما أي عمق حقيقي على الإطلاق.. يمثل كل واحد منا دوره
سريعاً، ثم ما يلبث أن يغيب عن العيان لكي يخلي المكان لغيره؛ أولئك الذين سيعيدون
الدور نفسه.. أما الحياة الحقيقية ذات الطول والعرض والعمق.. الحياة المترعة
بالأحاسيس والمشاعر والملذات الكبرى الدائمة.. الحياة التي تتجاوز السطح إلى
الأعماق، فهي هناك {... لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }(سورة
العنكبوت: الآية 64)..
وإن من الجهل
الذي يغطي على الرؤية الصائبة لحقائق الأشياء، والذي يخيل لكثير من الناس أن
فرصتهم الحقيقية في الحياة هي هذه التي يمثلون فيها أدواراً ليست لهم.. إنما هم
ممثلون مستأجرون، يقدّمون أدوارهم دونما أي إحساس بأنهم هم.. بأنهم يعبرون عما
يجري في عروقهم فعلاً.. ثم ما يلبثون أن يرحلوا !!
( 5 )
هنالك مقاطع وآيات قرآنية تثير الدهشة حقاً، لا يملك
الإنسان وهو يعاينها إلاّ أن يأخذه إعجاب من نوع عالٍ، يصعب التعبير عنه بالأحرف
والكلمات.. ذلك أنه يتعامل مع كلمات الله - جلّ في علاه -.. وإلا كيف يقدر الإنسان
على أن يعبر عن إحساسه وهو يتلو هذه الآيات: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً{1}
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً{2} فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً{3} فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً{4} فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً{5} (سورة العاديات: الآيات 1-5) وكأنه
يحيا لحظات الصـراع المحتدم في قلب المعركة، بجرس الكلمات، بسرعتها المتلاحقة،
بالفاء التي لا تترك أيما فاصل بين الفاعل والمفعول، وبإيقاعها الذي يضع الإنسان
فعلاً في لحظة الاحتدام التي يلتقي بها، في ساحة الموت، طرفا النزال؟
ترى كم من أمثال هذه المقاطع، المرسومة بكلمات الله،
يلتقي معها الإنسان وهو يرحل في كتاب الله وآياته البيّنات؟ كثيرة.. كثيرة جداً..
ويكفي أن يرجع الإنسان إلى القرآن الكريم ببصيرةٍ نافذةٍ، لكي يتلقى منه القيم
والتعاليم، ويعاين اللوحات التي تكاد تجسد الحالة، وتضعها شاخصةً قبالة السمع
والبصـر..
وهاكم مقطعاً
آخر، من بين العشرات والمئات من المقاطع: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ{1} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ{2} عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ{3} تَصْلَى
نَاراً حَامِيَةً{4} تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ{5} لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ
إِلَّا مِن ضَرِيعٍ{6} لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ{7} (سورة
الغاشية: الآيات 1-7).. ويقف الإنسان مشدوهاً إزاء هذا التقطيع المنغّم في الجمل
القرآنية.. ذلك الذي يرسم الصورة بأكبر قدر من الإيحاء والتأثير، ويعرّف المصير
الذي سيؤول إليه الكفار المارقون، وكأنه يتشكل قبالتنا اللحظة الراهنة!!
( 6 )
كناقوط الماء الذي يضـرب على الجملة العصبية للإنسان دون
أن يتركها لحظةً واحدة، محفزاً إياها على مواصلة العمل، والكتابة، والتأليف، منذ
لحظات التفتح الأولى على خبرات الحياة، وحتى تدّس أنوفنا في التراب..
ذلك هو قدرنا، أن نظل نكتب ونكتب، ونواصل الرسم
بالكلمات، والتعبير عن التصوّرات والقيم والأفكار، دون أن نفيئ - ولو لحظة واحدة -
إلى الاسترخاء بعيداً عن هموم الكتابة والتأليف، وإلاّ فإن ناقوط الماء سيستمر على
ضـرب جملتنا العصبية لكي تواصل العمل ليل نهار، فلا تكف عن الاستمرار لحظةً
واحدةً!
إنه جهد ممتع، ذو ثمار حلوة كالعسل المصفى، لكنه يعرف
كيف يفترس الأعمار، ويفرق بين الزوج وزوجته، وبين الأب وبنيه، وبين الرجل
وأصدقائه.. بل بينه وبين الملذات المباحة للحياة الدنيا..
إنه ناقوط الماء!
( 7 )
كلما أوغل الإنسان في رحلة العمر، وأطل على الشيخوخة،
وأدرك أن ساعة الرحيل قد أوشكت، ولحظة الفراق قد حانت.. تضاءلت في إحساسه قيمة
الحياة الدنيا، تكشفت أوراقها الواحدة تلو الأخرى، لكي ما تلبث أن تقف عاريةً من
أي غطاء.. لا تملك أي قدرٍ من الإثارة والإغراء على الديمومة والاستمرار.. ها هي
ذي على حقيقتها.. حقيقتها تماماً، مجردةً من أية زينة أو زخرف أو متاع.. وحينذاك..
حينذاك فقط، يدرك الإنسان كم هي تافهة الحياة المسماة بالدنيا عن قصد مسبق.. فهي
في الحقيقة على امتدادها لسبعين أو ثمانين عاماً، لا تعدو أن تكون الأدنى في سلّم
الدرجات التي أريد للإنسان أن يرتقيها كي يجعل من حياته تجربةً تستحق أن تعاش..
لكي يمنحها معنى.. إنها تتضاءل وتتضاءل في لحظات المغيب هذه، حتى لا يكاد يتبقى
منها أي شيء يغري بالاستمرار والبقاء.. أيما شيءٍ على الإطلاق!
( 8 )
عبر حلم سـريع، أو شئتم رؤية حقيقية، أتيح لي أن أطلع
على نار جهنم.. فيا للويل لقد جيء بقدر هائل يصعب قياسه، يتصاعد منه اللهب المتوهج
والنار المتلظمة، ويتطاير دخان أسود بلون الليل.. ووضع قبالتي، وقيل لي ها هي ذي
نار جهنم.. لم أنبس ببنت شفة منتظراً مصيري، وأنا أرنو بوجل وإشفاق إلى هذه
المحرقة الكبرى التي تعجز الكلمات عن تصوير هولها المريع.. ثم ما ألبث أن استيقظ
من الحلم، أو الرؤية، دون أن تمسني النار، فيا الله على هذه الفرحة الطاغية التي
غمرتني وأنا أفتح عيني وقد زالت عني تلك الجمرات المتوقدة للجحيم.. وما لبثت أن
أسرعت إلى أحد الأصدقاء الملمين بتفسير الرؤى والأحلام، لكي يطمئنني بجملة من
الآيات القرآنية أنني نجوت من الهلاك.. فيا الله على هذا العفو الكبير والسخاء
الهائل الذي لو بذلت حياتي كلها للحصول على رشفة منه، للاقتراب من ظله الظليل، لما
وفيت بها.. لا والله!
( 9 )
لا أدري كيف يبيح الإنسان لنفسه هدر الزمن.. لكأنه يحكم
بالإعدام على الفرصة الذهبية التي منحه الله إياها، يغيّبها في التراب.. تمر
الساعة والساعتان، واليوم واليومان، والشهر والشهران، والسنة السنتان، وهو جالس في
مكانه لا يبذل أيما جهد للتحرك ولو خطوةً واحدةً إلى الأمام.. بل إن بعضهم يرمي في
سلّة المهملات عمره كله، دون أن يفكر لحظةً واحدةً علام أعطي هذه الفرصة، ولماذا؟!
أعرف العديد من الناس فقدوا - بمرور الوقت - الإحساس
بالزمن، فليس ثمة عندهم ما بين اليوم والأمس والغد أيما فارق على الإطلاق! ورسولنا
- عليه أفضل الصلاة والسلام - يعلمنا أن من تساوى يوماه فهو مغبون.. فكيف بمن
تتساوى أيام عمره كله؟!
( 10 )
هنالك نمط من الناس لا يعجبهم شيء في حياتهم الدنيا قدر
إعجابهم بالتحدث عن
أنفسهم، عن منجزاتهم.. عن تفاصيل يومياتهم، لحظةً بلحظة، ودقيقةً بدقيقة.. يا الله
على هذه الشهية للحديث، حتى ولو كانت في أمور أتفه من أن يشار إليها بكلمةٍ
واحدةٍ.. المهم أن يتدفقوا عبر المجالس واللقاءات في الحديث، فلا يكاد يوقفهم شيء
على الإطلاق.. لكأنهم وقد استأثروا بالحديث حكموا بالإعدام على ألسنة كل الحضور
معهم، واعتقلوها في أفواههم، فلم يتركوا لها أيما فرصة للمشاركة فيما يدور.. إنها
نوع من الأنانية المفرطة التي لا ترى إلا ذاتها، ولا تدور إلا حول ذاتها.. فليس
ثمة من علاج لهذا المرض المستعصي إلا بقلع ألسنة هؤلاء، وإذ يستحيل ذلك، فليس ثمة
سوى إقامة جدار عازل، كسور برلين، بينهم وبين أولئك الذين كتب عليهم أن تحاصـرهم
أحاديث الآخرين.
( 11 )
وهنالك نمط من الناس تمرّسوا على التساهل في المواعيد
التي يضربونها للآخرين.. تطلب من أحدهم، تتوسل إليه، ترجوه، أن يأتيك تحديداً في
الساعة العاشـرة صباحاً.. تترك كل أعمالك، تضعها جنباً، وتجلس مشدود الأعصاب
بانتظار ذلك الذي ضـربت معه موعدك ذاك.. فإذا بالوقت يمرّ.. وتمضي عقارب الساعة
بعيداً عن مكانها المحدد، فيزداد توتر أعصابك.. ثم إذا بك بعد ساعة وربما ساعتين،
تفاجأ بقرع جرس الباب.. ها هو ذا الزميل العزيز قد جاء، بعد أن أخلف موعده معك،
ودفعك إلى زاوية الانتظار القاسية، وقد أفلتت من يديك المشاغل والهموم.. ها هو ذا
الزميل العزيز الذي لا تفوته صلاة، يدخل عليك هاشاً باشاً وكأنه لم يقترف خطأ، بل
كأنه قد أخذ رخصة من رب العباد - جلّ جلاله - بأن يسمح له بإخلاف موعده ذاك؟
وتجاوزه الساعة والساعتين.. أتراه لم يستمع لحديث الرسول المعلم - صلى الله عليه
وسلم -: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذّب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف)!؟
( 12 )
عبر خمسين عاماً من عمري وأنا اكتسح خصومي عبر جدلي
معهم.. اكتسحهم اكتساحاً.. ولا يقرب قراري، عبر مناقشاتي كافة، إلا أن أخرج منها
جميعاً منتصراً.. ثم ما لبثت بعد هذه المسيرة الطويلة من الحياة أن يتبين لي خطأ
موقفي ذاك، وإنني كنت باكتساح خصومي، وإثبات موقفي، أخسرهم.. ربما إلى الأبد.. ذلك
أنني كنت أترك في حلوقهم مرارة الإحساس بالهزيمة التي تعرف كيف تزرع الأحقاد
والكراهية في قلوب الآخرين..
أخيراً، أدركت خطأ موقفي ذاك، وفئت إلى طريق آخر.. طريق
مغاير، وبزاوية قدرها مائة وثمانون درجة.. أن أعطي خصومي الفرصة لإثبات قناعاتهم،
أن ابدي شيئاً من التساهل في قبول بعضها.. أن أشعرهم بأنهم هم الآخرون على حق، وأن
نقاشنا وجدلنا المحتدم يتحرك وفق نوع من تكافؤ الأدلة، فلا يؤول إلى هزيمة طرف على
الإطلاق!!
( 13 )
يا الله على هذه المنة الكبرى التي تطوقنا بها إرادة
الله - جلّ في علاه - ، الذي يعلم -سبحانه - من خلق، وهو اللطيف الخبير.. فها هنا
تحت مظلة الله، وبالرؤية الواقعية التي تتعامل بها كلماته، يجد الإنسان المؤمن
الطريق مفتوحاً أمامه للخلاص، مهما مارس من خطايا وآثام صغيرة.. من اللمم،
بالتعبير القرآني، تلك التي لن ينجو منها أحد من الناس، إلاّ أنبياء الله - عليهم
السلام -.. فها هنا لا يجد المؤمن نفسه محاصراً بالخطيئة التي تطوقه من أطرافه
الأربعة، وتسدّ عليه الطريق.. إنه مفتوح على مصراعيه لتجاوز الأخطاء وإلغائها من
الحساب.. وتلقي جملة ً أخرى من الأخطاء، وإلغائها هي الأخرى من الحساب.. فليس ثمة
حتى اللحظات الأخيرة جدار يقف بين الإنسان المؤمن وبين الخلاص.. إنه الطريق العريض
المفتوح على مداه.. فهل ثمة من كرم أكبر وأكثر سخاءً من هذا الذي منحنا الله
إياه؟!
( 14 )
منذ أول كلمة أتيح لقلمي أن يخطها، قبل أكثر من ستين
عاماً، وحتى هذه اللحظات التي أدوّن فيها هذه الكلمات، قررت أن تكون كل كلمة
أكتبها، بل كل حرف أخطه، منذورةً لله، منطلقة من مفاهيم التوحيد، وسمائه الكبيرة،
وفضائه الواسع الذي لا تحده حدود..
إن حياتي مترعة بالأخطاء، محاصرةً بجبال من اللمم، وليس
ثمة غير الكلمة من مطهر قد يكون وسيلةً نجاتي يوم الحساب!
هكذا كنت أقول في نفسي.. ومضت الأيام والشهور والسنين
وأنا منكب على الكتابة والتأليف دقيقةً بدقيقة، وساعةً بساعة، ويوماً بيوم، وإغراءات
الكتابة باسم الله تتزايد، وإلحاحها يمسك بخناقي فلا يدعني أرتاح إلا أن أمسك
بالقلم وأكتب.. أكتب.. أكتب.. غير مكترث لأي شيء آخر، غير الكتابة..
في الفلسفة والمنهج، والبحث التاريخي.. في الجدل
الفكري.. في المعطيات الأدبية؛ تنظيراً وتطبيقاً وإبداعاً.. في الرواية والقصة
والمسرحية والشعر والسيرة الذاتية وأدب الرحلات وأدب الحوار.. كان قلمي يلهث،
وأنفاسي تتقطع، وأنا أواصل المشوار، إلى أين؟!
يبدو أن لا نهاية لهذه المسيرة المتواصلة إلاّ أن يدس
أنفي بالتراب.. وها أنا ذا أدلف إلى التاسعة والسبعين من عمري، لا أزال أواصل
الطريق مبتغياً وجه الله وحده، متجاوزاً إغراءات الحياة الدنيا، وعبثها، وسخفها،
وتقطعها، وانصرامها.. إلى هناك حيث تعرّش الكلمة كما أراد لها الله سبحانه وتعالى
أن تكون: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء{24} تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ...}(سورة إبراهيم: الآيتان 24-25).
ولكن السؤال الذي ظل وسيظل يؤرقني: هل ستكون كلماتي التي
نسجتها حرفاً حرفاً على مدى سبعين عاماً.. هل ستكون كذلك؟!
( 15 )
من الله وحده أريد الثمن يوم الحساب.. فهل ستشفع لي جهود
ستين عاماً من الكتابة المتواصلة التي نذّرتها لله - جلّ في علاه
- ، أم أنها
ستكون باطل الأباطيل وقبض الريح؟
كل ما أرجوه، وأتوق إليه، وأتشبث به، وأعض عليه
بالنواجذ، أن تكون الأولى.. وحينذاك سألقي قلمي، وأرتاح، منتظراً الجزاء الأوفى
الذي يكافئ جهدي ذاك.
ويظل السؤال المؤرق معلقاً على رقبتي، يمسك بخناقي،
ويأخذ بتلابيب جملتي العصبية التي انعدم فاصل الألم بينها وبين العالم: ترى هل
سأحظى بالمطلوب؟
لقد تجاوزت، بسبب من حساسيتي الفائقة تجاه هذه المعادلة
الصعبة، الكثير الكثير من الإغراءات المادية والأدبية، وخرجت منها بعد كفاح مرير
منتصراً، ومنتظراً - في الوقت نفسه - وعد الله..
فهل سأحظى بالمطلوب؟!
( 16 )
ثلاثة عشـر مداخلة جراحية اجتزتها في حياتي.. وهو رقم
أظنه كبيراً في حساب المداخلات الجراحية.. بموازاة ضيق في النفس أمسك بخناقي منذ
طفولتي وحتى هذه اللحظات.. ترى أيكون ذلك جواز سفري إلى الجنة؟
إنه والحق يقال طموح كبير، أكبر بكثير من كل ما لاقيته
وقدمته في حياتي، وبالتالي فإن تحوّله إلى أمر واقع مسألة فيها ألف نظر ونظر، ومن
ثم يظل السؤال معلقاً: هل ستراه يتحقق؟
ثمة منفذ كبير قد يقرّبني مما أرجوه وأتوق إليه: إنهم
قاعدة قرائي الذين ينتشرون في آفاق الأرض.. ومن يدري فلعلهم في اعقاب كل قراءة
مقال ما، أو كتاب من الكتب، يدعون لي بالنجاة في ظهر الغيب.. فمن يدري لعل دعاءهم
يستجاب، وأكون قد اجتزت الامتحان العسير!؟
( 17 )
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ{22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ{23} (سورة الحديد: الآيتان 22-23)..
وإنها والله للآية التي تعرف كيف تحرّر الإنسان من الأسى
والطغيان.. الألم المحض على ما فات، الفرح الطاغي بما سيأتي، فيتعرض للانطفاء..
ذلك أنه ما من صغيرة أو كبيرة في حياة كل واحد منا، إلا وقد ثبتت عليه من قبل أن
يبرأ الإنسان.. ومن ثم فعلام هذه الجرعات الهائلة من الندم والأسى، التي يكاد كل
واحد منا يتلقى حفناتها المريرة ساعةً بعد ساعة، ويوماً بعد يوم؟
إنها - والحق يقال - آية تحرير الإنسان من الحزن والقلق
والهواجس والهموم، ودفعه إلى الحياة وقد تجاوز كل هذه العوائق حراً متوازناً
وسعيداً، غير نادم على ما فات، ولا خائف مما سيأتي.. وعلام؟ ولم؟ ما دام أن كتاب
عمره - بكل تفاصيله وحيثياته - قد مهر عليه من قبل أن يبعث إلى الوجود؟!
( 18 )
إذا أردنا اختصار حياة الإنسان بكلمات قلائل، قلنا بأنها
معادلة الصراع القاسي والجهد الموصول والكدح اللا نهائي على المغانم التافهة؛ من
مال وولد وتكاثر وزينة وزخرف وقوة وسلطة وجاه.. ثم ما تلبث أن يتبين عدم جدواها..
ربما بعد تعرضها للتآكل السريع.. ربما بعد انكسارها على حين غفلة.. ربما بعد
استيقاظ الإنسان على حفنة من الأوجاع، أو سقوطه فريسةً للموت المفاجئ!
إنها معادلة محزنة وخاسرة بكل المعايير.. وما أكثر الذين
ابتلوا بها، فانتهت حياتهم المكافحة إلى اللا شيء، وخرجوا من الدنيا غير مأسوف
عليهم.. أو تناوشتهم الآلام من كل جانب، ففقدوا القدرة حتى على توظيف دينار واحد
من الملايين التي كدحوا من أجلها بالحق والباطل، من أجل التمتع بلقمة طيبة.. لقمة
واحدة فقط.. يغادرون الدنيا ويتركون ما جمعوه من ذهب وفضة وأكداس الدنانير
لذريتهم، التي تعرف كيف تشتت هذا الذي أفنوا أعمارهم في جمعه، وكيف تضيّعه في
الموبقات!
( 19 )
عشرات ومئات وألوف من الأخطاء والأوهام والتمنيات
والمخاوف والندم والآلام نجتازها في حياتنا، ونتجرع من جرّائها المرارات
والأحزان.. وعندما ينكشف الستار، وتتمزق الحواجز، ويجد الإنسان نفسه يقف عارياً
أمام الحقائق.. يتبين له أنه كان واهماً، وأن تصوره لما مارسه من أخطاء كان أكبر
من حجم الأخطاء بكثير.. بكثير جداً.. بل ربما لم تكن هناك أساساً ما خيّل إليه
الوهم أنها أخطاء..
أخيراً، تتكشف
الحقائق أمام كل واحد منا، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن تكون قد افترست من
أعمارنا الشيء الكثير.. وليجرب كل واحد منا أن يقوم بمحاولة لإحصاء هذه المتاعب
الموهومة، التي دمرت عليه أمنه وسعادته، فإنه سيعجز عن حصرها، لأنها تتدفق كالسيل،
ولن يوقفها عن الهدير إلا صوت واحد يملك القدرة على صناعة المستحيل، ذلك هو
الإيمان!
( 20 )
بعض الناس
يجتاحهم بين الحين والآخر ما يسميه الأطباء بالمغص الكلوي.. إن آلامه الجسدية لا
تطاق، وهي - إذا أردنا الحقيقة - فوق طاقة الإنسان على تحمل الأوجاع.. يتلوى من
الألم الذي يتجاوز الحدود، ويخور كخوار الجمل طالباً النجدة، قليلاً من التخفف من
شد الأوجاع التي لا ترحم، والتي بيدها أن تستجيب للنداء، وألا تستجيب، فيستمر
الخوار والتلوي، حتى إذا اكتملت دورة المعاناة، وكفت الأوجاع، أحس الإنسان بأنه قد
انتقل من الجحيم إلى النعيم، ومن لفح النار إلى برد السلام والاسترخاء..
وكنت دائماً أقول إن هناك ما هو أشد فتكاً من المغص
الكلوي.. ما أطلق عليه اسم
(المغص النفسي)، فهو - والحق يقال - أكثر لعنةً من كل ما يجتاح الإنسان من آلام
قاسية، ذلك أنه يضعه على حين غفلة عند مفترق طريق، وعليه أن يختار أي الطريقين
يسلك، ويتحتم أن يتم ذلك بأسرع وقت وإلا فاتته الفرصة.. وهو يقف حائراً عاجزاً عن
الاختيار، حيث يجد نفسه في حالة تكافؤ الأدلة، ويصعب عليه - بل يستحيل -
الاختيار.. وإلا خسر كل شيء!
ترى كم من المرات في حياة كل واحد منا وجد الإنسان نفسه
يتخبط في بئر المغص النفسي.. يبحث عن مؤشر للخلاص، ولا من مجيب؟!
( 21 )
عبر حياتي التي أوشكت أن تبلغ الثمانين، رفضت الكثير من
إغراءات الحياة الدنيا وطيباتها التي يصطرع عليها الآخرون، واعتذرت عن العديد
منها، واقتنعت بالخلو إلى نفسي وقناعاتي الذاتية وكتاباتي المتواصلة التي تمزج
الليل بالنهار.
كنت أحس في أعمق طبقة من وجداني أن أي تساهل إزاء هذه
الإغراءات، أي قبول لها، أو انخراط في زخرفها، سيشطرني شطرين، سيجعلني أعاني
ازدواجاً يصعب عليّ تحمله.. وكنت أقاتل بضراوة لحماية توحّدي هذا من أية محاولة للاختراق،
حتى لو كانت مبررة لا شبهة فيها، ومع ذلك حاولت ما وسعني الجهد أن أتجاوز هذا
كله..
نعم.. فإنني -
والحق يقال - لم أبلغ المنتهى في موقفي هذا، وكنت أجدني مندفعاً بين الحين والحين
بقوة لا ترحم للاستجابة للإغراء، لكنها كانت حالات قليلة لا تتجاوز أصابع اليدين،
ومضت سفينة حياتي تجتاز البحار دون أن تقدر على سحبها إلى القرار أية قوة في
الأرض.. أية محاولة للاستدراج مترعةً بالإغراء والإغواء.. ذلك أن الذي كان يحرسني
من السقوط هو إرادة الله - جلّ في علاه -..
فما أعظمها من
منّة وهي تسوق مركبي عبر العواصف والأنواء سبعين سنة من الكفاح، إلى شاطئ الأمن
والتوحد والسلام.
( 22 )
في كتاب (سيرتي الذاتية) ما قلت كل شيء مما خبرته، أو
عايشته في حياتي، خشية من تضخم الكتاب الذي كاد أن يبلغ الألف صفحة عدداً.. وها
أنا ذا عبر هذه التأملات الموجزة في الدين والحياة أستدرك بعض ما فاتني هناك.. وما
فاتني هناك كثير كثير، يصعب الإمساك بخيوطه كافة، ولكن - كما يقول المثل - فإن ما
لا يدرك كله لا يترك جلّه..
( 23 )
الدعوات المتواصلة للمشاركة في المؤتمرات الدولية
والندوات، ولإلقاء المحاضرات في هذه المؤسسة أو المعهد أو الجامعة أو تلك، تنهال
عليّ كالسكاكين الحادة، وأجدني مرغماً لأسباب عديدة عن الاعتذار عن تلبيتها، بعد
أن أكون قد تجرعت حفنات من المرارة والعلقم، وأنا أرى أصدقائي ومعارفي يهرعون -
بشهية تفوق الوصف - لتلبية كل دعوة، بعيداً عن أية حساسية قد تسببها الاستجابة،
وما أكثر الحساسيات السياسية والفكرية التي تمسك بزمام هذا المؤتمر، أو تلك
الندوة، فيما يدفع الإنسان إلى التفكير مرةً ومرتين وعشرين مرة قبل أن يستجيب لها،
ويحزم حقائبه، ويهرع لتلبيتها..
إنني أذكر - على سبيل المثال - كيف تلقيت عبر سنةٍ واحدة
( 2017-2018م ) ما يزيد عن العشرين دعوة، كلها اعتذرت عنها، وظللت جالساً في مكاني
منكباً على الكتابة والقراءة والتأليف، لكي ما تلبث مداخلتان جراحيتان في الشرايين
جعلتاني أعاني من عدم القدرة على السير خطوات دون أن تحاصرني الأوجاع وترغمني على
الجلوس.. ومن يدري فلعلي وجدت في ذلك الفرصة التي كنت انتظرها منذ زمن بعيد.. أن
ترغمني ظروفي الصحية على الاعتذار عن الاستجابة للدعوات.. أتراها مفارقةً غير
مبررة بأي معيار من المعايير؟ ولكنها بالنسبة لي على الأقل تجيئ لكي تنقذني من
الحيرة والتردد إزاء كل دعوة تأتيني من هنا أو هناك..
( 24 )
لست أدري لماذا أمسك بخناقي هاجس من نوع غريب.. أن أواصل
الكتابة والتأليف حتى أصل إلى الكتاب رقم (100)، وها أنا ذا إذ أدوّن هذه التأملات
أكون قد استجبت للنداء وبلغت المطلوب بفضل من الله ومنّة - جلّ في علاه -؟!
والإنسان عموماً تستهويه الأرقام، والأسباب عديدة
متشعبة، ولكن يبقى أهمها على الإطلاق هو ذلك الإغراء الذي يشكله الرقم (100)،
فيدفعه إلى بذل المستحيل للاستجابة لندائه..
يا الله على هذه المنحة الإلهية التي دفعتني ومكنتني من
أن أحقق طموحي هذا، وأنا أتذكر المرات العديدة التي جاوزت العشرين عدداً، والتي
أفلتُّ عبر كل واحدة منها من قبضة الموت.. وأتساءل بيني وبين نفسي: أتراها إرادة
الله؟!
( 25 )
الحمد لله.. ها هي ذي أعمالي تغادر المحلية إلى
العالمية، حيث تنهال علي الطلبات من شتى بقاع الأرض تطلب ترجمتها إلى اللغات
الأخرى: من اندونيسيا، وماليزيا.. من كازاخستان وداغستان وروسيا، من انكلترا
وفرنسا، من كردستان وتركيا، من البوسنة والهرسك، وغيرها من البلدان في مشارق الأرض
ومغاربها.. والذي يهمني من هذا كله هو إيصال حيثيات المشروع الحضاري، الذي قدر
لهذا الدين أن ينوء بحمله، إلى سمع العالم ووجدانه.. فاليوم نحن بأمس الحاجة إلى
إيصال خطابنا إلى الآخر بقوة الفكر وليس بقوة السلاح، حيث الفارق الكبير بيننا
وبينهم.. فبقوّة الفكر، وبما ينطوي عليه مشروعنا الحضاري من قدرة على المشاركة
العالمية في إعادة صياغة المصير البشري، يمكن أن نحقق شيئاً من المطلوب، وما ذلك
إلا بفضل من الله ومنة منه - جلّ في علاه -..
( 26 )
هنالك نمط من الناس يملكون شهية هائلة للكلام.. للتحدث
عن كل شيء.. للاستئثار بالحديث في المجالس والمنتديات بحيث إنهم لا يتركون أيما
فرصة.. أيما فرصة على الإطلاق للآخرين لكي يدلو بدلوهم.. وقد سبق وأن تمت الإشارة
إليهم.. ولكني هنا أريد أن أضيف ظاهرة عجيبة يمارسها هؤلاء، وهي أنهم يتدفقون في
الكلام المتواصل حتى وهم يتناولون الطعام.. ولقد ابتليت عبر حياتي ولقاءاتي
بالعديد منهم، حيث كان أحدهم يطبق علي من جميع الجهات، وهو يندلق بكلماته
المتواصلة دون أن يمنحني الفرصة المتعارف عليها لكي استلذ بلقمتي.. يمسك بخناقي،
ولا يدعني إلا وقد انتهى موعد تناول الطعام.. فلو أن أحد هؤلاء تمعّن فيما يخرج من
فمه، وهو يتحدث، من بقايا الطعام المتطاير الذي يدفع إلى التقزز والغثيان، لربما
توقف قليلاً عن اندفاعه في إلقاء الرشاش المقرف على جيرانه، وهو يوزع كلامه بشهية
تفوق شهيته للأكل، ذات اليمين وذات الشمال!
( 27 )
لو أردنا أن نختزل رحلة حياتنا الدنيا بكلمات قلائل.. لو
أردنا أن نعتصر خلاصتها بأقل العبارات، وأكثرها دلالةً، لقلنا بأنها رحلة الكدح
المتواصل، والمتاعب المتجددة، والمنغصات المتعاقبة، والأوجاع المتلاحقة، وانطفاء
الفرح.. ثم المغادرة!
أتستحق حياة كهذه أن نعض عليها بالنواجذ؟ أتستحق أن
نتقاتل من أجلها، ويفترس بعضنا بعضاً؟ أتستحق هذا اللهاث المتواصل الذي لا يكف عن
الركض المحموم حتى تدس أنوفنا في التراب؟ أتستحق أن ندوس من أجلها على القيم
والمقدسات، وأن نسعى للتسلّق بالحق والباطل لكي نبلغ مداها؟ أتستحق أن نرفع
السكاكين والبنادق والرشاشات في وجوه بعضنا، ويذبح بعضنا بعضاً، من أجل حفنة من
الدنانير، لا تعدو أن تكون أوراقاً لا قيمة لها مكدسةً في الخزائن والمجرات؟
أتستحق هذا الكدح والعناء كله؟!
( 28 )
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ
إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ }(سورة الانشقاق: الآية 6).
بهذه الكلمات القلائل في مبناها، والمترعة بالكثير
الكثير من الدلالات في معناها، يختصر الخطاب الإلهي رحلة حياتنا الدنيا، بما أنها
كدح متواصل، ومشقة، ومعاناة، ومتاعب، وأوجاع وآلام.. بما أنها ركض حتى اللهاث صوب
أهداف سرعان ما يتبين لنا أن هناك وراءها أهدافاً أخرى، وأنه يتحتم علينا أن نسارع
للوصول إليها..
ولكن يبقى معيار
هذا الكدح الذي سيلقانا به الله سبحانه وتعالى يوم الحساب، هو النيّات التي تكمن
وراءه، فإن كانت خالصة لوجهه الكريم فلسوف تلقى جزاءها الكبير الذي تعجز الكلمات
عن الإحاطة به، ووصفه.. وإن كانت لغيره، فلسوف يكون جزاؤها من جنس ما يكمن خلفها
من رغبات ومصالح وأهواء..
ولنا الويل إن
مال بنا الميزان يوم الحساب صوب هذا الاتجاه الذي ينذر بالفتنة والعذاب.. لنا
الويل!
( 29 )
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها)، هكذا يريد
معلمنا الكبير - عليه أفضل الصلاة والسلام - أن يضعنا على الحافة بين الحياة
والموت.. لحظة التشييع.. وعند الوقوف على حافات المقابر لتوديع قريب أو صديق..
إنها الخط الفاصل الذي لا يكاد يرى بين الحياة والاستمرار، وبين الموت والفناء..
بين الحضور المنظور، وبين الغياب الذي لا تدركه الأبصار.. بين الأرض الصلبة، وبين
السماوات القصية، التي تنطلق فيها الروح متحررة من شد الوحل ولزوجة الطين.
ولكن آه من العيون التي لا ترى، والقلوب التي علاها
الصدأ، فلم تعد تنبض إلا بالقريب العاجل، وتلتصق إلا بالحسي المنظور.. فلو أن
أصحابها، وهم يقفون على الحافة بين الحياة والموت، ويرون بأم أعينهم كيف يغيب
أقرباؤهم وأصحابهم في التراب.. لو أنهم جعلوها ترى وتبصر.. لو أنهم كسروا طبقات
الصدأ الذي أحاط بقلوبهم وبصائرهم، وجعلوها ترى الحقيقة كما أريد لها عبر هذه اللحظات
أن تكون، لعادوا إلى ديارهم وقد انقلبوا على أنفسهم فتخففوا من لعنة الحقد
والكراهية، ومن سموم اللهاث المتواصل وراء إغراءات حياة دنيا لا تساوي جناح
بعوضة.. فها هي ذي عند التشييع تكشف عن وجهها، فإذا هي لحظة عابرة من الزمن.. وقفة
سريعة تحت ظل شجرة خضراء، ما يلبث الإنسان أن يغادرها في طريقه إلى ؟!
ومرةً أخرى، وثالثة، وعاشـرة، آه من العيون التي لا ترى،
والقلوب التي لا تحس ولا تخفق.. والغفلة التي تعرف كيف تطوق الإنسان من جهاته
الأربع!
( 30 )
من منا لم يتعذب، ويتناوشه الندم المحض الذي يعز على
الوصف، وهو يتذكر عدداً
من أقربائه وأصحابه الذين رحلوا، دون أن يكون قد أحاطهم بما يستحقونه من محبة
ورعاية وتكريم؟ من منا لم يتعذب ويتناوشه الندم المحض الذي يعز على الوصف، وهو
يتذكر أباه أو أخاه أو أمه الذين رحلوا دون أن يكون قد احتضنهم وأشبعهم لثماً
وتقبيلاً؟ فو الله طالما قلت في نفسي: لو أن أبي عاد إلى الحياة، ولو لدقائق
معدودات، لانكببت على قدميه لثماً وتقبيلاً.. وحينذاك فقط أكون قد وفيت شيئاً من
الدين الذي في رقبتي إزاءه!
في مسرحية (بلدتنا)، للكاتب المسرحي الأمريكي (ثورنتون
وايلدر)، وقفة درامية عند هذه الحالة المأساوية المؤثرة.. أن نترك أحباءنا يرحلون
دون أن نكون قد عبرنا عن محبتنا لهم، ولو بعشر معشارها الذي تستحقه.. هنالك حيث
يمسك بخناق الإنسان وسواس تسلطي قاهر، كأنه يتطلب منهم، ويتوسل إليهم أن يعودوا
مرةً أخرى إلى الحياة، فقط لكي يحتضنهم ويطبع قبلات المحبة والعرفان على وجوههم..
ولكن هيهات!
( 31 )
{... وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ}(سورة المؤمنون: الآية 70)، تلك
هي الثيمة القرآنية التي تتردد بصيغ تعبيرية شتى في كتاب الله - جلّ في علاه - من
بدئه حتى منتهاه!
هكذا أريد للحياة الدنيا أن تكون.. أكثريات ساحقة تكره
الحق، وتقاومه، وتضع الحواجز والمتاريس في طريقه، وتسعى لوقفه بكل أسلوب.. وأقليات
مبدعة تسعى لإعادة صياغة الحياة بما يريده الله سبحانه وتعالى، وبما بعث به
أنبياءه الكرام.. ويكون الصراع الأبدي بين الفئتين.. الصراع الذي تستمر ناره في
الاشتعال عبر مساحات التاريخ البشري كله.. وتبقى العبرة بالنتائج.. أن يتاح
للأقليات الانتصار على خصومها الذين يفوقونها عدداً، وأن تمضي لكي تعيد بناء
الحياة وفق كلمات الله - جلّ في علاه -..
فلا يهولنّنا الأمر إذا رأينا بأم أعيننا عبر زمننا هذا،
كيف أن المساحات السوداء تغطي على قارات الدنيا الست، وكيف تهرع جماهير الدهماء
لسحق كلّ من تسوّل له نفسه بنقلها من مستنقع السوء هذا إلى عالم الحرية والوضاءة
والوفاق.. ولكن السؤال الذي يدوّم فوق رؤوس الفريقين: أترى هذا سيدوم إلى الأبد؟
إن على دعاة الإسلام، في اللحظات الراهنة، أن ينفخوا في
قرائح الشباب روح الثقة والأمل بالمستقبل، وألا يدفعوهم إلى زوايا اليأس والقنوط..
ما دام أن كل مسلم في هذا العالم هو مشروع مفتوح للصعود، بما وسعه من جهد، وبما
يقدر على أدائه في وتائره العليا، فإنه سيلقى جزاءه كاملاً هناك يوم الحساب. فهو
ليس مطلوباً منه أن يتلقى الحصاد في حياته الدنيا، تماماً كما أنه لم يكن مطلوباً من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - الشيء نفسه {... فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }(سورة غافر: الآية
77).. وحينذاك.. حينذاك فقط، سيشمر كل إنسان مسلم عن ساعد الجدّ لتقديم ما وسعه
الجهد في بناء العالم الموعود، والخروج بالبشرية من النُقر الضيقة التي تتخبط فيها
إلى سماء الله الكبيرة.
إن الجهد الفردي، أو الجماعي، سينضاف بعضه إلى بعض، لكي
ما يلبث أن يشكل نهراً هادراً، قد تتغير به المصائر والمقدرات.
( 32 )
ألا يتحتم علينا أن نتعلم من رسولنا - عليه أفضل الصلاة
والسلام - حتى في هذه؟ فيما يطلق عليه اليوم (أتيكيت الطعام)، حيث نرى بأمّ أعيننا
حشوداً من المسلمين، بل من الذين يحملون هم الدعوة، لا يكترثون لهذا، وينقضون على
موائد الطعام دونما أي قدرٍ من الإحساس بالمطالب الجمالية اللائقة في تناول
اللقمة، بحيث إنك إذا ألقيت نظرك إزاء بعضهم، رأيتهم وكأنهم يلتقون بفريستهم التي
انتظروا اصطيادها، فينهشون لحمها وعظمها، وهم ينحنون على موائد الطعام دافعين
بأكتافهم جيرانهم ذات اليمين وذات الشمال، وكأنهم يريدون أن يحتكروا المائدة
لأنفسهم.. ليس هذا فحسب، بل هم يمضون إلى أبعد من هذا، فتتدفق ألسنتهم وأفواههم
بالكلام المتواصل، وبصوتٍ مرتفع، حيث يتطاير منها فتات الطعام فيتساقط قبالة
الآخرين فيما يدعو إلى النفور والتقزز.. بل هم يمضون إلى أبعد من هذا، فإذا بهم
يمسكون بأعواد الثقاب قبالة الآخرين، الذين لا يزالون يواصلون تناول طعامهم،
لإخراج ما عصي من لحمٍ بين أسنانهم، فلا يزيدون ذوي الإحساس المرهف إلا قرفاً
واشمئزازاً.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علمنا كيف
نستقبل موائد الطعام، وكيف نأكل من أقرب موضع في الإناء، وكيف نستحيي أن يمضي بنا
الشره للطعام إلى مداه.. وكيف.. وكيف.. فيما يشكل منظومة متحضرة في كيفية تناول
الطعام.. أفلا يتحتم أن نتعلم منه؟
( 33 )
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ
زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...}(سورة الأعراف: الآية 31).
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِي
لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}(سورة الأعراف: الآية 32)..
بهذا الأمر الإلهي الحاسم، وبهذا الانفتاح المدهش على
التمتع بطيبات الحياة الدنيا.. هذه هي الأخرى (الثيمة) التي طالما ترددت في كتاب
الله، من بدئه حتى منتهاه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ
مَسْجِدٍ ...} وأين؟ في أخص ما يمس الإنسان المسلم من عبادته، وهو متجه لأداء
الصلاة!!
فما الذي نلحظه على العديد من أتباع هذا الدين، الذين
وضعوا على آذانهم شمعاً أحمر لكي لا ينصتوا لنداء القرآن، فيتجهون للمسجد شعثاً
غبراً، تفوح من بعضهم الروائح التي تزكم الأنوف، يتجهون لأداء الصلاة وقد اكتست
وجوههم بغمامة من العتمة، وربما الكراهية، وغابت السماحة والبشاشة من وجوههم..
فإذا سلمت على أحدهم، لم يرد عليك التحية بأحسن منها ولا بمثلها، بل إن بعضهم لا
يرد عليها، رغم أنهم يعلمون جيداً أنها أمر إلهي: {وَإِذَا حُيِّيْتُم
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ...}(سورة النساء:
الآية 86)، ورغم أنهم طالما سمعوا أحاديث رسول الله التي تأمرهم بإطلاق الكلمة
الطيبة على ألسنتهم، وبرسم ملامح البشاشة على وجوههم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)،
و(الكلمة الطيبة صدقة)..
يا الله على هذا الإحساس الإلهي والنبوي الأصيل
بالجمال.. بالزينة.. بكل ما يجعل الحياة الدنيا تستحق أن تعاش.. وإلا فهو الخسران
المبين!
( 34 )
ما من سكين أجهزت على مقدرات أمتنا الإسلامية كسكين
التشدد، بشفراتها الحادة التي تعرف كيف تقطع الرؤوس، بحديدها الملتمظ على سيّال
الدم، المتشهي لسفكه لحظةً بلحظة، ودقيقةً بدقيقة.. ما من سكين ذبحت الصوت المضيئ
الذي جاء هذا الدين لكي يخرج به الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان
إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، كسكين الغلّو والتطرف..
ها هم المتشددون يندفعون عبر تاريخنا كله كالسيل الطامي، فيكتسحون في طريقهم كل ما
هو وضيء نبيل في معطيات هذا الدين الذي طالما نادى كتابه بأنه يريد بنا اليسر ولا
يريد بنا العسر، ونادى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن هلاك الأمم السابقة إنما
كان بسكين المراء والغلو والتشدد.. وبم يصف كتاب الله رسولنا - عليه أفضل الصلاة
والسلام - : {... وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ
حَوْلِكَ ...}(سورة آل عمران: الآية 159).. أفلا يتحتم أن نطبع كلمات الله -
جلّ في علاه - هذه على قلوبنا، ونضعها على رؤوسنا، ونحفرها في وجداننا، لكي نعرف
كيف نستميل الآخر، وندعوه للانتقال إلى ديننا، والالتزام بمطالب عقيدتنا؟
إن آداب السلوك المنفتح، المرن، السهل، المحبب، الميّسر،
هي التي فتحنا بها نصف العالم، والتي يمكننا بها أن نفتح نصفه الآخر.. فها هم
الغربيون، بنخبهم، ومواطنيهم العاديين، يهرعون يوماً بيوم للانتماء إلى هذا الدين،
والذي يقف في طريقهم دائماً هو الغلّو والتشدد، فيصدهم عن الذهاب إلى ما يطمحون
إليه.
ولكن آهٍ من العقول التي لا تعي، والقلوب التي علاها
الصدأ، والتي لا ترى إلا في السكين طريقاً لدعوة الآخرين إلى هذا الدين، الذي
انطلق منذ لحظاته الأولى وهو يحمل لافتته الكبرى: الحنفية السمحاء!
( 35 )
في حياتنا الدنيا هذه.. عبر علاقاتنا الاجتماعية.. في
مياوماتنا، نلتقي بنموذجين من المعارف والأصدقاء، وهم على تباين مشاربهم، واختلاف
أذواقهم وعاداتهم، وتغاير أفكارهم، يمكن للمرء أن يلمّهم في سياقين اثنين لا ثالث
لهما: الطيب والخبيث!
الطيب الذي يغمرك بالبشاشة، ويمحضك النصيحة، ويداوي
جراحك، ويخفف آلامك.. والخبيث الذي يروغ عنك كما تروغ الثعالب، منتظراً أية فرصة
لكي يطعنك بأفعاله أو كلماته.. لا يمد إليك يداً ساعة المحنة، ولا تسمع منه ما
يأخذ بك إلى الخروج من المآزق التي وضعك الزمن فيها.. لا تنضح شفاههم إلا بالسّم،
ولا كلماتهم إلا بالسم، ولا أفعالهم إلا بالسم.. وكأنهم وقد علّقت جراب السم تحت
ألسنتهم، لا يمكنهم - مهما حاولوا - إلا أن يمارسوا بها لدغ الآخرين، وانتهاز أية
فرصة لحقنهم بالسم!!
وحظوظ الناس هي التي تضعهم حيناً في دائرة الطيبين،
وحيناً آخر في دائرة الخبثاء.. ولكم أن تتصوروا كيف سيرجعون في الحالة الثانية إلى
دورهم، وهم يعانون من الدوار الذي حقنه السم في دمائهم!؟
( 36 )
اللحظات التي أتمّ فيها إنجاز عمل من أعمالي التأليفية
هي أسعد اللحظات في حياتي.. اللحظات التي أضع فيها اللمسات الأخيرة على هذا الكتاب
أو ذاك، وأعدّه للطبع، هي أكثر اللحظات فرحاً وبهجة في حياتي.. تتضاءل دونها كل
المتع والمكاسب والإنجازات الأخرى، ولا يتبقى في دائرة الإحساس والوجدان إلا شيء
واحد.. شيء نادر عزيز.. أنني قد أنجزت كتاباً، وأضفته إلى قائمة أعمالي ومؤلفاتي
التي سأرفعها قبالة الله سبحانه وتعالى يوم الحساب قائلاً: ها أنا ذا يا رب العزة
والكمال، قد أنجزت عشرات الكتب التي لا تتحدث إلا بكلمة التوحيد، ولا تدعو إلا
لدينك وعقيدتك وشريعتك.. ولا تتمحض بالرد إلا على خصومك من شياطين الإنس، فتكشف عن
عوارهم ودجلهم وشعوذتهم، وتبين للناس كم أن صراطك المستقيم هو الطريق الوحيد في
هذا العالم، الذي يقود الإنسان والبشرية إلى الخلاص.. وما دونه سوى التخبط
والضياع.
فمن يدري.. لعلها بنبضها المترع بعشق هذا الدين تشفع لي،
لعلها تنقذني من ركام اللمم الذي أحاط بحياتي من أقصاها إلى أقصاها.. لعلها تخفّف
عني شيئاً من العقاب الذي أستحقه.. ولنا الويل يومها إن جاء الأمر الإلهي برد
الرجاء.. لنا الويل!
( 37 )
لحظة جلوسي منفرداً، أطالع بشوق عميق في كتاب.. هي
الأخرى تمثل أسعد اللحظات في حياتي.. فهي تساوي عندي الدنيا وما فيها من متع
ومباهج وملذات.. منذ زمن بعيد.. زمن الطفولة الذي يشع فرحاً وبهجةً وسعادةً، كانت
قراءة قصة من قصص الأطفال، أو مطالعة مجلة من المجلات، تنقلني على أجنحة النشوة
إلى عالم آخر غير هذا العالم، وتضعني في قلب أحداثه ومفاجآته.. فأضحك وأبكي، وأفرح
وأحزن، وأتوحد وأتشتت، ماضياً بانفعال يصعب وصفه، لكي أعانق مصائر الشخوص
والأبطال..
منذ ذلك الزمن البعيد، وحتى لحظات الشيخوخة الراهنة، كان
الكتاب هو محطة الخلاص بالنسبة لي، من الهموم والمتاعب والآلام.. محطة الاسترخاء
والتخفف من عناء الكدح المتواصل واللهاث المحموم..
وما بين (السندباد البحري)، و(ليلى والذئب)، و(الوردة
البيضاء)، وبين (الأجنحة المتكسرة) و(الأرواح المتمردة) لجبران، و(ماجدولين)
و(العبرات) و(الفضيلة) للمنفلوطي، وبين (مائة عام من العزلة) و(خريف البطريق)
لماركيز، و(قصة مدينتين) لديكنز، و(أنا كارنينا) لتولستوي، و(البؤساء) لهوغو، و
(زوربا) لكازانتزاكي.. رحلة متطاولة من الشغف بعشق الكلمة التي تنبض بكل ما هو
مؤثر وجميل ومشحون في هذا العالم..
( 38 )
التقنيات الحديثة تلاحقنا بحصارها.. بضرورات اللهاث
المحموم لتلبية طلباتها.. بالركض المتواصل للاستجابة لمطالبها، التي ما تلبث أن
تنفجر عن المزيد..
نحن جيل كتب علينا أن نعايش زمنين.. زمن الحياة الهادئة
المنسابة ذات الإيقاع البطيء.. وزمن الحياة السريعة ذات القفزات الأسطورية المدهشة
في عالم الاكتشاف والبحث عن الجديد.. لقد أرهقنا هذا التحوّل الفجائي من حالٍ إلى
حال، وجعلنا نتحسر على الزمن الماضي، ونعض على فواته أصابع الندم.. ولكن هيهات،
فها هي مطالب الحياة الجديدة؛ بتقنياتها الأسطورية المتلاحقة كالسيل، بكشوفها
المدهشة التي لا تنقضي، تنقض علينا وترغمنا على مسايرتها، وإلا تعرضنا للضياع!
وعلى ما في التقنيات الحديثة من مكاسب كبرى، أبرزها -
ولا ريب - الحصول على المعلومات بسرعة قياسية، ووضع مكتبات بكاملها بين يدي الباحث
والقارئ وهو جالس في بيته.. وتحقيق التواصل السريع بين الأمم والشعوب، ومنحهم
المتعة والفرح والسعادة.. إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون أحد جانبي الصورة.. الجانب
المضيء.. أما الجانب الآخر المعتم، فهو فتح الأبواب على مصاريعها لسرقة أتعاب
الآخرين، ولتحويل أجيال الباحثين من طلبة الدراسات العليا إلى عالة تسرق جهود من
سبقهم، وإلى أنصاف أميين لا يعرفون كيف يتعاملون مع الكتاب، وحكمها بالإعدام على
العلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية، بوضعها في يد كل واحد منهم جهازاً ينكب
عليه الساعات الطوال، وقد أدار ظهره للآخرين، وانفصل بالكلية عنهم..
ترى ما الذي سيأتي به الزمن القادم؟
( 39 )
أعشق عالم الطفولة، ذكرياتي عنها تمثل منجماً خصباً من
الفرح والغبطة والسعادة والاكتشاف اليومي المتجدد، وخلو القلب من المتاعب
والمنغصات والهموم.. وكلما ضيّقت عليّ الدنيا أبواب التحرر والخلاص، وجدتني أهرع
إلى ذكرياتي عن عالم الطفولة استمد منه السلوى والعزاء..
والآن، فإن هذا العشق انتقل بالضرورة إلى أحفادي.. أنتظر
مجيئهم إلى دارنا في نهاية كل أسبوع.. يصعدون بخفة ونشاط إلى مكتبي في الطابق
الأعلى، لكي آخذهم بالأحضان، وأطبع على خدودهم الطرية قبلاتي الحارة، ثم لأعرض على
كل واحد منهم الأقلام الملونة والأوراق لكي ينبطحوا أرضاً، وينهمكوا بالرسم، ثم ما
يلبثوا أن يتقدموا إلي بنتاجهم الرائع لكي أبدي رأيي فيه، ويغادرون مكتبي وهم
سعداء!
عائشة وطارق وسما ونور وعادل ورفيدة، هذا هو حصادنا
الموعود من ابنتيّ مها وعلا.. ولكل واحد منهم في قلوبنا مكان.. فيا الله على عالم
الطفولة، وبراءته.. يا الله على أقدار الله التي تصوغ بقدرتها المطلقة استمرارية
الحياة وتواصل الأجيال..
( 40 )
رحمك الله يا أبي الغالي.. لقد كنت بحق ليس أباً فحسب،
ولكن مربياً وأستاذاً.. لقد منحت أبناءك هامشاً واسعاً من الحرية وأنت تراقبهم من
بعيد.. ومع الحرية، أعطيتهم السعادة والفرح، بما كنت تغدقه عليهم من الهدايا
والطيبات، وبما كنت تخرج بهم بين الحين والحين للتجوال في أنحاء المدينة وبراريها
الجميلة.. بسماحتك في التعامل معنا كلما تجاوزنا في تصرفاتنا الحدود المرسومة..
ببشاشتك التي لم تفارق وجهك لحظةً واحدةً.. وبعلاقاتك الاجتماعية الواسعة مع كل
رموز المدينة وشخصياتها.. بركضك المتواصل لحل مشاكل المأزومين والتعساء..
وبالتزامك المدهش في أداء ما أمرك الله به من العبادات.. بقدرتك الفذة على التحقق
بالتوازن بين طيبات الحياة الدنيا، وبين الاستجابة لنداءات الآخرة..
لقد كنت بحقّ أباً ومربياً وأستاذاً.. تعلمنا منك
الكثير، وإن كنا قد قصرّنا عن اللحاق بك.. فمن يقدر على اللحاق بالكبار، أولئك
الذين عرفوا كيف يتعاملون مع الدنيا في سقفها العالي.. من؟
ومع ذلك فقد بذلنا جهدنا بما نقدر عليه، وكان في ذلك
عزاؤنا أيها الراحل الجليل!
( 41 )
جدّتي لأمي كانت نموذجاً نادراً بين النساء.. لكأنها
قدمت إلينا من عصر الخلافة الراشدة، ونسائها الفريدات.. لقد فتحت صدرها لكل
التعساء والفقراء واليتامى والمحزونين.. كانت تأتي بهم إلى دارها الواسع، وتسكنهم
هناك الأسابيع، وربما الأشهر الطوال.. تطعمهم وتكسوهم وتسهر على راحتهم.. وكانت
تخرج بين الحين والحين، مستقلة إحدى العربات التي كانت يومها وسيلة النقل الوحيدة
في مدينة الموصل، وهي تحمل أكياس الحنطة والطحين، وأكداس الخبز واللحم، لكي توزعها
على الفقراء والمحتاجين.. لم تكن البشاشة تغادر وجهها.. ولم تترك فريضة ولا نافلة
إلاّ وأدتّها في وقتها.. وكنا نحن الصغار نأوي إليها، ونحن نعرف سخاءها، لكي
تعطينا مما اختزنته الشيء الكثير الذي كان يملؤنا بالغبطة والسعادة.. وعندما
يتهددنا الأب، أو الأم، بالعقاب، ما كنا نجد من يحمينا من غضبهم سوى جدتي.. وعندما
كانت تطل على بيتنا بين الحين والحين، لكي تبقى الأيام الطوال، كان ذلك بمثابة
الفرحة الكبرى لنا نحن الصغار، حيث كنا نسهر في ظلالها الساعات الطوال، وهي تقص
علينا جملة من الأقاصيص الشعبية التي كانت تحفظها عن ظهر قلب..
لك الله أيها الجدة الغالية، التي اختارت أن يتوفاها
الله في دارنا.. وأنا أجلس عند رأسها أدعو الله سبحانه وتعالى أن يخفف عنها سكرات
الموت، فإذا بي أسمعها تردد (من الظلمات إلى النور) (من الظلمات إلى النور).. ثم
ما لبثت أن فارقت الحياة، وسيّال الدموع ينصب من مآقينا ممتزجاً بفرح يصعب وصفه
وهي تتلقى الإشارة بالقبول..
لك الله أيتها الجدة الغالية، التي كانت تؤثرني على كل
أحفادها بمحبتها الخالصة!
( 42 )
ويجيئ الدور على
أخي الغالي نبيل.. يخترقه الموت في عزّ شبابه، وعلى حين غفلة.. وتلك هي أقدار الله
التي لا راد لها، ولله ما أعطى وما أخذ.. لم يكن أخاً فحسب، بل كان صديقاً حميماً،
وداعيةً إلى الله من طراز فريد.. وكان فوق هذا كله كاتباً وأديباً.. وكنا نجتمع
بين الحين والحين لكي نتباحث في شؤون الدعوة والفكر والأدب، وفي مطالعاتنا النهمة
التي لا ترتوي.. وفي تبادل الهموم والأحزان.. بل إننا كنا نقضي الساعات الطوال في
اللعب، متخففين بذلك من هموم الحياة اليومية ومطالبها التي لا تنتهي.
التقيته عند بوابة جامع الملاح في الحي الذي نسكن فيه..
لحظته يعد أحد الطلبة بأنه سيسعى لحلّ أزمته.. وما لبث أن غادر المكان عائداً إلى
البيت، بينما اتجهت أنا إلى بيت عمي لتناول الغداء، وهناك نادتني زوجتي وهي تحبس
دمعتين تريدان أن تنطلقا من أسر الأهداب قائلة: إنك يا عماد مؤمن بالله، وها هي ذي
أقداره تضعنا في قلب الفراق.. أخوك نبيل.. وما لبثنا جميعاً أن اجتاحتنا موجة من
البكاء الحار.. وهرعت إلى دار الأهل، لكي أطبع على جبين أخي وصديقي قبلة الفراق،
وأنا أردد: رحمك الله أيها الأخ والصديق، لقد تركت في قلبي فراغاً أحس أن بمقدوري
أن أضع قبضة يدي فيه.. لقد كان بحق فراغاً كبيراً!
( 43 )
كثيرون من أخوتي، وأصدقائي، وأعمدة الدعوة إلى الله،
رحلوا عن الدنيا.. الواحد أثر الآخر.. أحصيتهم يوماً، فإذا بهم قد تجاوزوا المائة
عدداً.. رحلوا وتركوني وحدي!
كثيرون ملأوا، بكدحهم ونشاطهم في خدمة هذا الدين،
المساحات الواسعة من حياتهم الخصبة ذات العطاء السخي الوفير..
كثيرون ممن كنت التقيتهم بين الحين والحين، أو يجيئون
لزيارتي، لكي أتبادل معهم الرأي في هموم الدعوة والعمل والفكر والحياة.. وها أنا
ذا أنفض يدي منهم.. لقد رحلوا وتركوني وحدي..
عمّن أتحدث؟ وكيف لي عبر أسطر معدودات، أن أوجز سفر كل
واحد من هؤلاء الذين ملأوا الدنيا بعطائهم وفكرهم وإبداعهم وجهدهم اللاحب في
الدعوة إلى الله؟ ومن ثم سأجدني مرغماً للكف عن التفاصيل والاكتفاء بطرح بعض
الأسماء التي كانت أشبه بالقناديل المشتعلة في ليل الزمن المعتم، فعرفت كيف تضيء
السبيل للمدلجين في الظلمات: الشيخ الدكتور فيض الفيضي، خالد عثمان، رعد الحيالي،
الدكتور حازم عبد الله، الأستاذ غانم حمودات، عمر الصيدلي، سالم عبد الرزاق،
الدكتور حازم طه، الأستاذ سعيد الديوه جي، نكتل كشمولة، يحيى علي، ثامر عزيز،
الدكتور عدنان السلمان، الأستاذ عبد الحافظ سليمان، محمد الحسناوي، إبراهيم عاصي،
الدكتور جمال عطية، الدكتور عبد الحليم عويس، الدكتور إسحق فرحان، الدكتور إبراهيم
زيد الكيلاني، كمال رشيد، أديب الدباغ، أورخان محمد علي، الدكتور عمر الساريسي،
الدكتور عبد اللطيف عربيات، فاروق نبهان، وغيرهم كثيرون.. كثيرون جداً..
ودائماً أقول في نفسي، معزياً إياها: لقد سبقتموني إلى
هناك، فهل ستأخذون بيدي عندما تحين ساعة الرحيل إلى الله؟ هل ستأخذون بيدي؟!
( 44 )
رحلة الحياة الدنيا لا تعدو أن تكون سلسلة متلاحقة من
الأفراح والأحزان، من الأفعال وردودها، من المباهج والحسرات، من الانتصارات
والهزائم، من النور والظلمات.. ولن يكون لأحد - كائناً من كان - أن يفلت من قبضتها
التي تطبق على حياته من بدئها حتى منتهاها.. هكذا أريد للإنسان أن يكون، وإلا فقدت
الحياة طعمها وعذوبتها.. وإلا أصبحت شيئاً مسطحاً مكروراً لا لون له ولا طعم ولا
رائحة.
إن الآيتين القرآنيتين الكريمتين تختصران هذه المعادلة
التي كتب على الإنسان أن يدخل أسارها الذي لا مهرب منه: {فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{6} (سورة الشرح: الآيتان
5-6)، وهكذا وعبر مئات الصيغ، وربما ألوفها، يتكرر هذا الالتحام المكتوب على بني
آدم بين اليسر والعسر.. إنها – بحق – رحلة عجيب أمرها، هكذا يتساءل الناس، ولكنهم
لو أنهم أدركوا ما وراء المنظور، وأوغلوا عميقاً في اكتشاف سرّ الظواهر والأشياء
التي تحكم الحياة، لما قالوها، ولأعلنوا قبولهم إياها، لأنهم بذلك فقط سيدركون
مغزى الحياة التي أريد لها منذ البدء أن تكون هكذا.. ولأحسوا حتى أعمق طبقة من
وجدانهم، بأن السعادة الحقيقية، الفرح العميق، التوافق والانسجام.. لن تتحقق ويشعر
الإنسان بطعمها العذب، إلا بعد أن يجتاز سلسلة من الخبرات الصعبة، التي يجيء بعضها
مراً كالعلقم، قاسياً كالجليد المتجمد منذ مئات السنين!
( 45 )
لو أننا فكرنا قليلاً بطبيعة المتع التي كتب علينا أن
نتلقاها ونتعامل معها في حياتنا الدنيا.. لو أننا أوغلنا قليلاً في ملاحقة عمقها
الحقيقي.. لو أننا قسناها بالزمن الطويل نسبياً الذي كتب لكل واحد منا، لوجدناها
لا تعدو أن تكون لحظات من عمر الإنسان.. لحظات سريعة الانصرام، ما تلبث بعد أن
تخفق مرة ومرتين أن تغيب عن العيان.
أكثر من هذا.. هل فكر أحدنا في أننا، ونحن نتناول الطعام
كواحد من المتع المباحة
في حياتنا الدنيا، نسارع في التقامه وكأننا في سباق مع الزمن من أجل الإجهاز على
آخر لقمة فيه؟ هل فكر أحدنا في مساحة اللذة القصوى، ما تسميه كتب الجنس بالذروة،
كيف أننا نريد أن نختزلها اختزالاً، وكأن هناك فوق رؤوسنا من يسوقنا لكي نقطف
الثمرة الحلوة سريعاً.. سريعاً قبل أن تتيبّس وتذبل وتنحسر؟! هل فكر أحدنا، ونحن
نقضي الساعات الطيبة عبر هذه الأمسية أو تلك، أو خلال هذه الرحلة أو المناسبة
الترفيهية، أو الاحتفالية، أو تلك، كيف أنه ينظر إلى ساعته، بين لحظةٍ وأخرى،
وكأنه يستعجل عقربها باللف والدوران، لكي يؤول في نهاية الأمر إلى نهاية المناسبة،
كأنه يتمنى لو تجيء سريعاً؟!
فما من متعة، ما من لذة، ما من فرصة لإشباع النفس
البشرية من الرغبات، إلا وتجيء مقترنة بهذه الرغبة في الاختزال.. في الوصول السريع
إلى نهاياتها، في انطفائها في نهاية الأمر.. فما الذي يدل عليه هذا، إن لم تكن
حياتنا قد عجنت بالسرعة والعجلة، والرغبة المؤكدة في الإتيان السريع على المتع
والملذات؟
ألا يدل هذا على تفاهة هذه الحياة، وأن علينا أن نضعها
تحت أقدامنا بدلاً من وضعها على رؤوسنا؟ ألا يدل هذا على الفارق الكبير بين هذه
الحياة وبين الحياة الأخرى.. الحياة الأبدية التي تتطاول فيها المتع والملذات
الروحية والفكرية والجسدية، وتتطاول حتى لتبدو ألاّ نهاية لها على الإطلاق!؟
( 46 )
الحقد والمحبة.. الكراهية والسماحة.. البغضاء والألفة..
الإثرة والإيثار.. الشح والسخاء.. الجبن والشجاعة.. التردد والإقدام.. الشد
والاسترخاء.. القلق والانسجام.. النفور والتوافق.. الخوف والاطمئنان.. ولو شئت أن
أمضي في استعراض الثنائيات التي تمسك بتلابيب الإنسان، لعجزت عن الإحصاء..
وتلك هي مرةً
أخرى وثانية وثالثة وعاشرة، رحلتنا جميعاً مع الحياة الدنيا، التي وضعتنا – شئنا
أم أبينا – قبالة هذه الحالة المزدوجة، التي تسحبنا إحداها إلى القعر، وتمضي بنا
الأخرى إلى السماء!
والرجل الرجل هو الذي يبذل أقصى ما يقدر عليه من جهد لكي
يقاوم، لكي يحول حياته إلى جهادٍ صعب من أجل أن يتجاوز كل عوامل الشد وإغراءاته،
يتفوق عليها، ويمضي مصعداً إلى السماء..
الرجل الرجل هو الذي يكافح من أجل مدّ مساحات الإيجاب في
حياته، وتضييق الخناق على مساحات السلب.. فمن يدري لعله يخرج منتصراً في المعركة،
فيكون بذلك قد حقق انتصار خفقة الروح في كيانه، على شدّ الطين ولزوجته وعتمته!
من منا لم يحاول اجتياز هذا الخندق العميق بين الحالتين؟
ومن منا لم يتعذب وهو ينزلق صوب القاع والظلمات؟ ومن منا لم يحس بالفرح الذي يجل
عن الوصف، وهو يجتاز قوى الشدّ، ويمضي مصعداً إلى فوق.. إلى سماء الله الكبيرة،
وفضائها الواسع.. من؟
تلك هي - بإيجاز شديد - رحلة حياتنا الدنيا، وعلينا أن
نتعلم من مغزاها، وإلا فهو الخسران المبين.
( 47 )
طبعت نفسي على علاقة نادرة بالطبيعة.. على صداقة حميمة
بالجمال.. على ألفة متميزة بكل ما يخفق في هذا العالم، مومئاً بلغته الخاصة،
بالمدهش والمثير.. انعدم فاصل الألم بيني وبين العالم، وأصبحت جملتي العصبية
مكشوفةً تماماً لأية لمسة، لأي نداء، لأية همسة من همسات دنيا لا تكف عمّن يحسن
الإصغاء إليها، عن تقديم أطباقها الشهية التي ما لها من نفاد!
ألفة ميتافيزيقية، إذا شئتم أن تسمونها، تدخلك في حوار
دائم مع الملكوت.. تضعك في كل لحظة إزاء معطياته المتدفقة كالشلال، لكي تقودك ليس
إلى إشباع أحاسيسك المتلهفة للجمال، بل إلى ما وراء ذلك كله، إلى الله - جلّ في
علاه - الذي ما تنفد كلماته حتى لو استمد حبرها من بحار الدنيا السبعة.. تتجدد
وتنبعث وتعدو وتومئ بالعطاء، وتقول لك بلغة الألوان، والكلمات، والكتل، وعوالم
النبات والحيوان.. بأنه ليس ثمة إلا الله، وأن لا إله غيره - جلّ في علاه -..
من أجل ذلك دخلت عبر حياتي كلها، من أقصاها إلى أقصاها،
في حوار يومي دقيقةً بدقيقة، ولحظةٍ بلحظة، مع الكائنات.. مع كل ما ينبض بالعشق
والمحبة في هذا الوجود.. وتقلبت مع كلماتي، وأنا أعاني الدهشة والغبطة والفرح،
فانعكس ذلك في أعمالي كافةً؛ قصيدةً وقصةً وروايةً ومسرحيةً ورحلةً وسيرةً ذاتية..
بل إنه مضى لكي ينعكس حتى في أعمالي الفكرية والتاريخية والفلسفية.. لقد تغلغل
الإحساس بالجمال في بنيتي، وساقني إلى ما يريده هو.. إلى سماء الله الكبيرة التي
تنبض في كل آنٍ ولحظة بألف نداء ونداء.. وأن علينا أن نستجيب إذا أردنا فعلاً أن
نكون أكفاء إنسانيتنا التي منحنا الله إياها.. جلّ في علاه..
( 48 )
ليس ثمة ما يبقى في هذا الكون والعالم سوى الله.. الكل
ذاهب.. الكل آيل للضياع.. الكل سيكتسحه الفناء.. ولكل مشروع مفتوح لتقبل الموت
والغياب.. ولا يبقى ثمة إلا وجه
الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ{26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{27} (سورة الرحمن: الآيتان 26-27)..
ما من دولة، أو مملكة، أو حضارة، إلا وجرى عليها القانون
نفسه، أمسك بخناقها، وساقها إلى التفتت والزوال.. ما من إنسان، كائناً من يكون؛
زعيماً أو ملكاً أو معبوداً أو قائداً تعبده الجماهير وتضع رؤوسها تحت قدميه، إلا
وتلقى مطرقة الموت، فما لبث أن غاب عن الدنيا.. ما يبدو الآن للوهلة الأولى من
تقدم أسطوري في التكنولوجيا والخدمات والبناء، والعمارات الشاهقة التي تناطح
السحاب، والأبراج الهائلة، والشوارع الفسيحة، والمتنزهات الفارهة، والمصانع
العملاقة، والأجهزة المدهشة.. أنه باق إلى الأبد.. وأنه ماضٍ إلى مزيد من التمخض
والإبداع والتنامي.. فإن كلمة الله سبحانه وتعالى ستكتسحه عبر لحظات من عمر
الزمن.. ستكنسه من الطريق، وتسوي به الأرض، لكي لا يبقى بعدها سوى وجه الله سبحانه
وتعالى.. سوى كلماته التي لا راد لها - جلّ في علاه -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}(سورة الفرقان: الآية
23)، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً{7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً
جُرُزاً{8} (سورة الكهف: الآيتان 7-8).. الكل باطل الأباطيل، وقبض الريح: {إِنَّمَا
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا
أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ}(سورة يونس: الآية 24)..
الدول والممالك والإمارات والحضارات.. الأشخاص والزعماء
والأرباب والطواغيت.. العمالقة والأقزام.. الكل ذاهب، ولا يبقى سوى وجه الله.. لا
يبقى ثمة سوى وجه الله سبحانه وتعالى!
( 49 )
يعجبني أن استرجع شريط ذكرياتي بين الحين والحين، ليس
فقط لكي أهرب من واقعي القاسي، وأستمتع باسترجاع وقائع ومعطيات الزمن السعيد، ولكن
أيضاً لكي أتعلم منه.. فليس ثمة معلم كحياة الإنسان نفسها، وهي تتقلب وتموج وتضطرب
وتتحول من حالٍ إلى حال.. أهرب إليها كلما ضاقت بي السبل، وسدّت أمامي طرق الخلاص،
فأجد فيها السلوى والعزاء، وأتمنى لو يتاح لي أن أرجع ثانيةً لكي أعيش بعض
حلقاتها؛ بكل ما انطوت عليه من سعادة وبهجة وفرح ودهشة وانسجام ورغبة في اكتشاف
سرّ الأشياء، ولكن هيهات.. وأقول في نفسي: لا بأس، فإن مجرد تذكرها عبر لحظات
الشيخوخة.. مجرد استرجاع وقائعها ومفرداتها وخفقانها، كما تشكلت بالفعل، قد يحقق
شيئاً من المطلوب.
يوماً بعد يوم أجد خلاصي في استرجاع شريط ذكرياتي..
حيناً مع حشود الأصدقاء والمعارف الذين رحلوا عن الدنيا.. وحيناً مع الكتب
والروايات التي كان لكل واحدةٍ منها طعم في فمي ووجداني لا يمكن أن أنساه.. وحيناً
ثالثاً مع رحلاتنا العذبة الشهية إلى براري الموصل زمن الربيع.. وحيناً رابعاً مع
جملة من المفارقات والغرائب زمن دراستي الابتدائية أو المتوسطة أو الإعدادية أو
الجامعية.. وحيناً خامساً مع أسفاري إلى خارج العراق، بكل ما انطوت عليه من خبرات
وتفاصيل.. وحيناً، وحيناً.. وفي أعقاب كل جولة مترعة من هذه الجولات، التي لا تندّ
مفرداتها عن ذاكرتي التي احتفظت بها كشيء عزيز.. أرجع، وقد استعدت الكثير من فرحي
وتوازني وانسجامي مع الحياة، وكأنها قد بعثتني من جديد!
( 50 )
تعرّضت للموت، ليس مرةً واحدةً، أو مرتين، أو ثلاث،
وإنما عشرات المرات، وكنت أخرج من كل واحدةٍ منها وأنا أحمد الله وحده على أن
منحني - بسخائه العجيب - فرصة الاستمرار على الحياة!
عشرات المرات وجدتني قبالة الموت وجهاً لوجه، لكي ما
ألبث أن أفلت من قبضته في اللحظة الأخيرة، وأواصل الحياة!
عشرات المرات ويد الله القدير - جلّ في علاه - تمتد لكل
تنتشلني من الهلاك المحتوم، وأقول في نفسي: ما الذي يدل عليه هذا سوى أن إرادة
الله سبحانه وتعالى تحيط بهذا الإنسان أو ذاك، فتحرسه وتحميه وتنقذه من السقوط في
مستنقع الموت؟!
ربما.. ومن يدري؟ لأنه شاء سبحانه وتعالى أن يمدّ في
حياتهم لغرض ما، غرض قد لا يتكشف بسهولة لعيوننا التي علاها الغبار، وقلوبنا التي
أكسدها الصدأ.. ولكنه شيء مؤكد طالما دفعني إلى بذل مزيد من الجهد في الكتابة
والتأليف، لعلّي أفي بشيء من الدين الذي طوقتني به عناية الله.. ومن أجل ذلك.. من
أجل أن أكون وفياً مع سخاء الله، أممت حياتي كلها، عبر جهد مكافح موصول، وأنا
أعاني الآلام والأوجاع، وتحاصرني موجات قاسية من ضيق النفس الذي يسد عليّ منافذ
الهواء، أكافح عبره لالتقاط رشقة واحدة من الأوكسجين الذي يمكنني من مواصلة العمل..
وها أنا ذا أخيراً، بعد أن أوشكت بلوغ الثمانين من عمري،
لا تكف يدي عن الإمساك بالقلم الساعات الطوال، لكي تنجز الكتاب رقم مائة في سلسلة
أعمالي التي لا أبتغي بها سوى أن تكون وفاءً للدين الكبير في عنقي، ذلك الذي طوقني
به الله - جلّ في علاه -.. وهو ينقذني من واقعة الموت المرة تلو المرة؟
فهل يكون جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق