03‏/04‏/2023

مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني

بقلم : أ. د. عماد الدين خليل

   ها هنا أيضاً يعتمد كتاب الله الزمن الكوني، وليس الأرضي، الذي بني فيه العالم من أجل تهيئته لاستقبال الإنسان، الزمن الذي يغدو فيه اليوم الواحد كألف سنة مما نعد، وقد يتجاوزها لكي يصبح خمسين ألف سنة، أي ثمانية عشـر مليوناً ومائتي ألف يوماً أرضياً، ومن ثم فلا يهولنا الأمر وقد حسم في كتاب الله، ما تطرحه النظريات الجيولوجية حول الزمن الذي

استغرقه بناء العالم، والذي قد يتجاوز الأربعة بلايين وخمسمئة مليون سنة، وغيره من الأرقام الممتدة على مدى مليارات الأيام: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (سورة فصلت: الآيات 9-12).

وبهذا تكون تهيئة العالم لاستقبال الإنسان قد اقتضت أربعة أيام، بينما استغرق بناء الكون يومين فحسب... وإنه لفارق يثير الدهشة، ويعطينا الجواب حول القيمة العليا لهذا الكائن الذي سيبعث في العالم الذي سخر له عبر هذه الأيام المتطاولة في عمر الزمن، والتي تجاوزت المدى الذي تم فيه بناء الكون. ومن أجل ذلك تتكرر الثيمة القرآنية عبر هذا السؤال الاستنكاري:
(أفلا يشكرون)، (أفلا يعقلون)، (أفلا يتدبرون)... أفلا ... أفلا ... مقترنةً بتأكيد القرآن الكريم على المكانة العليا التي احتلها الإنسان في هذا العالم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(سورة الإسراء: الآية 70).

وفي أربعة مواضع أخرى يدمج كتاب الله الزمن الذي استغرقه بناء الكون والعالم في رقم واحد، هو الأيام الستة: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ...}(سورة يونس: الآية 3). {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً...}(سورة هود: الآية 7). {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}(سورة ق: الآية 38). {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ...}(سورة الحديد: الآية 4).

ذلك كله من أجل اختبار الدور الإنساني في العالم، لمعرفة أيهم أحسن عملاً. وذلك الجهد الهائل كله يتحقق بإرادة الله سبحانه وتعالى، دون أن يمسّه - جلّ في علاه - أي قدر من التعب والإعياء، وحاشاه.

"هناك مبدأ اكتشفه الفيزيائيون في الثمانينيات، وسمي بالمبدأ الإنساني، أو مبدأ التسخير، وهو أن الأرض معدة ومصممة لكي يوجد عليها كائن عاقل ذكي... فللأرض غلاف جوي يقوم بمهمة عظيمة، وقد تبيّن أن سمكه، مقارنة بجسم الأرض، هو 15/1000... وهو غلاف متميز، لاحتوائه على كل الغازات التي تساعد وتسبب وجود الحياة. فسمكها وضغطها مقدر بحيث يتناسب مع نشوء الحياة. وقطرها 12 ألف كم، ويقوم بنشـر الضوء... أما الشهب المتساقطة من السماء، فهي إما أن تتبخر في الغلاف الجوي، أو تصل وهي صغيرة جداً، ولولا الغلاف الجوي لأصبحت رؤوسنا كالغرابيب، أي لتم ثقبها، ولانعدمت الحياة من كثرة تساقط حباتها المتشظية من انفجار النيازك والشهب. هذا إلى أن طبقة الأوزون الموجودة في الغلاف الجوي، والتي هي بسمك 3 كم، وتبعد عنا بـ 36 كم، هي التي تحمينا من كل تلك الاشعاعات القصيرة القاتلة والحارقة.

هذا إلى أن الأرض محاطة بغلاف مغناطيسـي، أو درع مغناطيسـي، مهم جداً، ينتج من مغناطيسية الأرض، يحمينا من الرياح الشمسية، وهي شحنات وأيونات موجبة وسالبة، بمعنى أنها ضباب وصواعق محرقة، وهي تأتي إلى الأرض، لكنها تنعكس عنها بواسطة هذا الدرع المغناطيسـي حول الأرض، والذي يقوم بتحريف الشحنات السالبة والموجبة، وحماية الأرض من الرياح الشمسية، التي هي عواصف كهرومغناطيسية ساحقة"([1]).

يطرح القرآن الكريم، بعد هذا التأسيس الكبير، شبكة من التفاصيل التي يتحدث فيها عن بناء العالم من أجل أن يكون صالحاً للمسعى البشـري، قديراً على الاستجابة لتحدياته؛ ابتداء من تشكيل الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار والجبال الرواسي، وتمهيد الأرض، وإنزال الأمطار، وإخراج النبات، وخلق الحيوان، وتهيئة الأرزاق والمعايش، وإتقان الصنع، واللمسات الجمالية للخلق، وتواصل الخلق والإبداع، والملكية والهيمنة، والجدّ والحضور الدائم، والعلم المطلق، والسجود لله - جلّ في علاه - الذي خلق هذا كلّه، بأمره، وحوّله من حالٍ إلى حال، وانتهاء بوقفات القرآن العديدة، ذات الدلالة على البعد الحضاري لخلق الإنسان، ودوره في العالم: الاستخلاف، والتسخير، والاستعمار (بدلالته اللغوية، وليست الاصطلاحية)... ثم الأجل المسمى لهذا كله: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ}(سورة الأحقاف: الآية 3)، منهياً الأمر كله بهذا التحدي، الذي يجابه به الطواغيت، والأرباب والآلهة المزيفة، ومرتزقة الأديان المحرفة: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ؟...}(سورة لقمان: الآية 11).

فلنبدأ رحلتنا مع هذه الشبكة المحكمة والمعجزة من المعطيات، التي مكنت فيها إرادة الله سبحانه وتعالى كرتنا الأرضية من استقبال الإنسان، وفتح الطريق أمامه واسعاً عريضاً لأداء مهمته الاختبارية، التي خلق العالم من أجلها... ولنبدأ بالإجابة على هذا السؤال الذي يطرحه (أحمد خيري العمري)، في كتابه الذي يحمل عنوان: (ليطمئن عقلي) : "ما الذي جعل الحياة ممكنة على كوكب الأرض؟"، مستشهداً بالعديد من المراجع الأجنبية التي صدرت حديثاً. ونظراً لخطورة الإجابة الموثقة هذه، وأهميتها البالغة في الموضوع الذي بين أيدينا، فسوف نتيح لأنفسنا النقل الحرفي الطويل نسبياً: "فالحياة على الأرض ظاهرة معقدة، لا يمكن فهمها من خلال بعدٍ واحد، توصيف هذه الظاهرة من كل جوانبها، سيمنحنا القدرة على فهم التداخل في العوامل التي أدت إلى جعل الحياة ممكنة على كوكب الأرض... من أهم هذه العوامل:

أولاً المسافة المناسبة التي تفصل الأرض عن الشمس، والتي جعلت درجة الحرارة على الأرض مناسبة للمحافظة على الماء في الحالة السائلة (وهو متطلب أساسي بالنسبة للحياة، بشكلها الذي نعرفه)... المسافة الأقرب كانت ستجعل الماء سريع التبخر، والأبعد كانت ستجعله متجمداً تماماً.

ثانياً وجود قمر بحجم كبير (بالمقارنة ببقية أقمار كوكب المجموعة الشمسية)، وعلى مسافة مناسبة، لعب دوراً مهماً في تثبيت ميل محور دوران الأرض، الذي يعتقد أنه كان من دون وجود القمر سيكون عشوائياً... هذا الثبات وفّر مناخاً مستقراً، بفصول متعاقبة، سهلت من نشوء الحياة واستدامتها، بينما عشوائية المحور كانت ستؤدي إلى نتائج مناخية لا يمكن معها نشوء الحياة كما نعرفها. الشمس -مثلاً-، في هذه الحالة، ستشرق مباشرةً على القطبين، وليس على خط الاستواء. كما ساهم القمر مباشرةً في تكوين ظاهرة المدّ والجزر، والتي يعتقد أنها لعبت دوراً مهماً في نشوء الحياة على الأرض، وانتقالها من الماء إلى اليابسة.

ثالثاً حجم الأرض مناسب لتكوين جاذبية أرضية كافية للمحافظة على الغازات الضرورية للحياة التي تجعل من الكوكب قابلاً لوجود الحياة. فلو كانت الأرض أكبر حجماً ، لكانت جاذبيتها أشد، ولاحتفظت بغازات الهيليوم والهيدروجين التي كانت الأكثر انتشاراً في البداية ، ولذلك تكون الحياة كما نعرفها أمراً مستحيلاً.

رابعاً المجال المغناطيسـي للأرض، والذي لعب دوراً مهماً في حماية الكائنات الحية من الأشعة الكونية المضرة التي تنبعث من الشمس... حيث إن الـ DNA سيكون معرضاً للدمار، بسبب أشعة غاما والأشعة فوق البنفسجية الصادرة من الشمس... دون وجود حماية للمجال المغناطيسـي، كما لعب هذا المجال دوراً في حماية مناخ الأرض ومحيطاتها.

خامساً وجود الماء في الأرض، وعلى نحو يغطي أكثر من 70% من سطح الأرض، حيث كل أنواع الكائنات الحية تحتاج إلى شكل من أشكال الماء في وجودها واستمرارها بالحياة، ويتميز الماء بأنه يمكن أن يتواجد في حالاته الثلاث (السائلة، والغازية، والصلبة) ضمن اختلاف درجات الحرارة على كوكب الأرض، وهذا بدوره حافظ على وجود الماء في الكوكب، حيث إن كوكباً بدرجات حرارة مختلفة كان يمكن أن يحول الماء إلى حالة واحدة (متجمدة) في كوكب بدرجة حرارة منخفضة، وغازية بدرجة حرارة مرتفعة، لكن تنوع درجات الحرارة في الأرض ساهم في تدوير الحياة وديمومتها على سطح الأرض.

سادساً وجود الكربون كوحدة أساسية للحياة. لعب تحرر الكربون من باطن الأرض دوراً مهماً في نشوء الحياة، إذ تعتبر الحياة على الأرض مبنية على الكربون، ولهذا تسمى (الحياة الكربونية)، فكل الجزيئات المعقدة تحتوي على الكربون مرتبطاً مع عناصر أخرى. ويعود تميز الكربون عن بقية العناصر الكيمائية إلى قدرة ذراته على الارتباط بعدد لا نهائي من ذرات الكربون، وتكوين سلاسل يمكنها الارتباط بذرات من عناصرٍ أخرى، وهو بذلك المكون الأساسي للسكريات والبروتينات والدسم والحمض النووي، والنسج، والعضلات.

ويرتبط وجود الأوكسجين بوجود ثاني أوكسيد الكربون في الجو، كما يساهم ثاني أوكسيد الكربون فيما يعرف بظاهرة (تأثير البيت الأخضـر)، وهي الظاهرة التي تقوم فيها غازات معينة (ثاني أوكسيد الكربون، وبخار الماء، والميثان) بحبس الحرارة، التي يفترض أن تخرج من الأرض إلى الفضاء، وبالتالي ستحافظ على درجة حرارة الأرض. وبدون هذا التأثير ستنخفض درجات الحرارة إلى معدلات لا يمكن للحياة أن تستمر فيها. كذلك، فإن نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجو مناسبةً لإحداث هذا الأثر الحابس للحرارة، دون أن تزيد عن ذلك، فتؤدي إلى ارتفاعها لدرجة تؤدي إلى تبخير مياه المحيطات.

سابعاً العلاقة بين الصفائح (التكتونية) العملاقة، التي يتكون منها غلاف الأرض الصخري: حيث تتحرك هذه الصفائح، وعلى النحو الذي شكل القارات، وسلاسل الجبال العملاقة، ومختلف التضاريس، وبسبب هذه التحركات، وانزلاق أجزاء من الصفائح تحت أخرى، تكونت البراكين، التي ساهمت في إطلاق الغازات المخزونة تحت سطح الأرض، وتشكيل المناخ الأرضي المكون من نتروجين وثاني أوكسيد الكربون، وهو المناخ المناسب لنشوء الحياة على سطح الأرض. وهذه الحركة المستمرة تساهم في إعادة تدوير ثاني أوكسيد الكربون في المناخ الأرضي، وتعمل على تجديد وإعادة تدوير القشـرة الأرضية، على نحوٍ يجعل الأرض حية ومتحركة داخلياً. والصفائح التكتونية تتطلب جملة من الشـروط لكي تحدث (حجم الكوكب، وحجم القشـرة، وجود الماء بكمية كافية)، وهذا يجعل من الأرض الكوكب الوحيد المعروف الذي حدثت فيه هذه الظاهرة.

ثامناً التركيب الضوئي، وظهور الأوكسجين: قرابة نصف عمر الكرة الأرضية مضى دون أن يكون هناك أوكسجين في الغلاف الجوي للأرض، إلى أن ظهر قبل 2.4 مليار سنة، أي بعد ملياري سنة من نشوء الكرة الأرضية، ويفسـر ظهور الأوكسجين (الغاز الذي لا يمكن أن نحيا بدونه) بالحياة نفسها.

كل هذه العوامل ساهمت بتداخل كبير، في إمكانية نشوء الحياة على كوكب الأرض، وهي عوامل جعلت من كوكب الأرض مميزاً حتماً عن بقية كواكب المجموعة الشمسية، وربما عن كواكب بقية المجموعات في المجرة، أو المجرات الأخرى"([2]).

فما الذي يقوله كتاب الله عن شبكة الظواهر التي جعلت كرتنا الأرضية هذه صالحة للحياة... ولنبدأ بظاهرة الليل والنهار... إذ لولا تدوير الأرض، وحركتها حول نفسها وحول الشمس، ميلها بزاوية مرسومة لمنح الفصول الأربعة رحلتها الدورية هذه... ولولا وضع الشمس في مكانها تماماً دون زيادة أو نقصان، لما كان هناك في كرتنا الأرضية ليل أو نهار، ولما كانت فرصة - بأية درجة من الدرجات - لساعاتٍ يسكن فيها الناس من عناء النهار، تقابلها ساعاتٍ أخرى يكدحون فيها لتسيير شؤون حياتهم، ولما كانت هناك أية مساحة للنوم وأخرى للعمل، ولا أية فرصة لمعرفة السنين والحساب... إنها إرادة الله - جلّ في علاه - التي ساقت هذه الكرة إلى اختلاف الليل والنهار، منذ لحظاتِ الخلق الأولى، وإلى أن يقوم الحساب... فلنر: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}(سورة يونس: الآية 6).

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}(سورة يونس: الآية 67). {... وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}(سورة إبراهيم: الآية 33). {... يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة الرعد: الآية 3). {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ...}(سورة الأنبياء: الآية 33). {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِـرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}(سورة الإسراء: الآية 12). {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ...}(سورة الحج: الآية 61). {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}(سورة النور: الآية 44). {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}(سورة الفرقان: الآية 62). {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِـراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(سورة النمل: الآية 86). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ...}(سورة لقمان: الآية 29). {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}(سورة الشمس: الآيتان 3-4). {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}(سورة الليل: الآيتان 1-2). {وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}(سورة الضحى: الآيتان 1-2). {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً..}(سورة الأنعام: الآية 96). {... يُغْشـِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً...}(سورة الأعراف: الآية 54). {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ... }(سورة النحل: الآية 12). {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}(سورة الفرقان: الآية 47). {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِـرُونَ. وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(سورة القصص: الآيات 71-73). {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ}(سورة ياسين: الآية 37). {... وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ...}(سورة ياسين: الآية 40). {... يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ...}(سورة الزمر: الآية 5).

فلم نكن إذن بحاجة إلى الصليبي المبشـر السفاح (ماجلان) لاكتشاف كروية الأرض، كما كنا نتلقى عن معلمينا في المدارس.. ها هو ذا كتاب الله يؤكد الأمر في هذه الآية الكريمة، التي تدل بمفردتي التكوير على كروية الأرض.. ومهما يكن من أمر، فإن معجزة خلق الليل والنهار، وجعلهما ثابتتين على الدوام، يعقب أحدهما الآخر دونما أي خلل في تعاقبهما، فيقدمان بذلك خدماتهما للإنسان ليلاً ونهاراً.. إظلاماً وإشـراقاً.. ولذا، يعقب كتاب الله على معجزته هذه بأن الأمر جد، وأنه ليس ثمة أية مساحة للصدفة أو العشوائية في هذا الإحكام لرحلة الليل والنهار: {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}، {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}، {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}، {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، {أَفَلَا تَسْمَعُونَ}، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، {وَلَعَلَّكُمْ  تَشْكُرُونَ}.

أما الشمس والقمر، فتلك معجزة أخرى تنتفي بوجودها أية مساحة للصدفة على الإطلاق، يكفي أنها من صنع الله الذي أتقن كل شيء.

لقد وضعت الشمس في مكانها تماماً.. هذا الفرن الذري الذي يتفجر في كل لحظة بمليارات السعرات الحرارية، والذي يقدم خدماته الرباعية للإنسان: الإضاءة، والتدفئة، والتبخير، وصناعة الطعام، بامتزاج الضوء بالكربون بمادة الكلوروفيل الخضراء.. فماذا لو كانت الشمس أبعد قليلاً عن موضعها الراهن، ألا تتجمد الحياة على سطح الأرض في دقائق معدودات؟ وماذا لو كانت أقرب قليلاً، ألا يقود ذلك إلى ارتفاع رهيب في درجات الحرارة تستحيل معها الحياة؟ أية صدفة هذه التي وضعت هذا الفرن الذري الذي لا تنقضي عجائبه، ولا ينقطع سخاؤه، في هذا الموضع المناسب تماماً لاستمرارية الحياة على الأرض؟ ألا يدعونا هذا للتفكير والتدّبر في خلق الله - جلّ في علاه -، ذلك الذي يضع الأمور في نصابها تماماً.. لا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير؟ "إن الشمس هي من الجيل الثاني أو الثالث من النجوم، مكونةً من عناصر كيمياوية أخرى، بعد الهيدروجين والهيليوم، وهي تولد كمية كبيرة من الطاقة، وتخسـر من طاقتها التي تصدرها كل يوم بمقدار 4 مليون طن في الثانية الواحدة! لكن بسبب كتلتها الهائلة، فإنها تستطيع إنتاج الطاقة لمديات زمنية متطاولة. والشمس متذبذبة، فهي تنكمش وتتسع قليلاً، باستمرار، وهذا ما يساعدها على عدم الانفجار. فبسبب الانفجارات النووية داخل الشمس، يزداد الضغط عليها، وفي داخلها، وبذلك تتمددّ قليلاً، وعند التمدد يتم تبريدها، وبالتالي تقلّ معدلات الاندماجات النووية، وبالتالي يقل الضغط، وبسبب ذلك يحصل انكماش، فتزداد الجاذبية، ويزداد الضغط عليها، وبالتالي تزداد معدلات الاندماجات النووية، وهكذا تتكرر العملية باستمرار. فهذا التوازن الهيدروستاتيكي هو الذي يساعدها في محافظتها على كيانها. ولكن هذه العملية لا تستمر إلى الأبد، لأن كمية الهيدروجين محددةً داخلها، مهما كانت كبيرة.. وبالتالي ستتناقص إلى أن تصل إلى درجة جعلها غير قادرة على خلق اندماجات نووية، وبالتالي تتوقف الانفجارات النووية، فيبقى داخل الشمس كمية كبيرة من الهيليوم، وهو بطبيعته أثقل من الهيدروجين أربع مرات، فتتولد فيها قوة جاذبية شديدة تجعلها تعمل على سحب الشمس نحو الانكماش، والتحول إلى مرحلة التكوير، كما بيّنها القرآن الكريم بقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}(سورة التكوير: الآية 1)، وهي ضم الشـيء بعضه إلى بعض. فانكماش الشمس انكماشاً عظيماً يجعل الضغط داخلها يتزايد، ودرجة الحرارة ترتفع إلى 25 مليون درجة، وبما أنه أصبح في باطنها نسبة كبيرة من الهيليوم، وقليل من الهيدروجين، فهذا ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة باطن الشمس، فيندمج الهيليوم (ثلاث ذرات من الهيليوم)، وتتحول إلى كاربون، فتتولد طاقة هائلة، وعصف نووي، وضغط مئات أضعاف من اندماج الهيدروجين. فمن مميزات الهيليوم أنه عندما يكون تحت ضغط هائل، ويحدث فيه انفجار نووي، يؤدي بالضـرورة إلى انفجار كل الهيليوم الموجود في باطن الشمس. وبالتالي، ستتحول الشمس من جسم منكمش، إلى جسم منتفخ انتفاخاً سـريعاً جداً، بسبب الضغط الهائل من الانفجارات الهيلومية، فتقوم بابتلاع كوكبي (عطارد والزهرة)، وتقترب اقتراباً شديداً من الأرض. فعندما تتضخم الشمس وتنتفخ، يتحول قطرها من (مليون و 400 ألف) كم، إلى (300 مليون) كم، وفي فترة قصيرة جداً جداً، ربما ساعات، مما يؤدي إلى غيابها وطلوعها عندنا وكأنها تطلع من المغرب"([3]).

أما القمر، فتلك معجزة أخرى، بالنور الذي يبثّه على الأرض، عبر لياليها المعتمة، وبدورانه حول الأرض شهراً بعد شهر، فيما يعطي البشـرية القدرة على حساب الأيام والأشهر والسنين، وفيما يقوم به في عملية المدّ والجزر، في البحار والسطوح المائية، فيسقي الأرض بعد مواتها؟ ألا يدعونا هذا إلى التدبر في خلق الله المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ إذن لنتابع الآيات التي تحدثنا عن الشمس والقمر: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ..}(سورة يونس: الآية 5)، {... وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى..}(سورة الرعد: الآية 2)، {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ..}(سورة إبراهيم: الآية 33)، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(سورة الأنبياء: الآية 33)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ..}(سورة الحج: الآية 18)، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً}(سورة الفرقان: الآية 61)، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}(سورة العنكبوت: الآية 61)، {.. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى..}(سورة لقمان: الآية 29)، {.. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}(سورة الزمر: الآية 5)، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}(سورة الرحمن: الآيتان 5-6)، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً}(سورة نوح: الآية 16)، {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}(سورة النبأ: الآية 13)، { فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}(سورة الانشقاق: الآيات 16-18)، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}( سورة الشمس: الآيتان 1-2)، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(سورة الأنعام: الآية 96)، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة النحل: الآية 12)، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(سورة ياسين: الآيات 38-40).

ها هنا أيضاً، يدين كتاب الله أولئك الذين وضعوا غشاوة الجهل والإنكار على أعينهم وأبصارهم، فلم يعد بمقدورهم أن يروا معجزة الشمس والقمر، كما تتبدى واضحةً لكل ذي عقلٍ ونظر: {... فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}(سورة العنكبوت: الآية 61)، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}(سورة الرحمن: الآية 13)، {... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة الرعد: الآية4)!!

وتمتد يد الله القديرة فتضبط حركة الشمس والقمر وفق مسافاتٍ لا تتزحزح ولا تميل، فهما يجريان في أفلاكهما التي صممت لحركتهما الدائبة التي لا تتوقف حتى أجلها المقدّر في علم الله الأزلي، وهما تمارسان سياحتهما عبر السماوات في مجالاتٍ محددة، لا تند ولا تخرج عن المساق.. ومن ثم يجيئ هذا التسخير المعجز واحداً من بين عشرات بل مئات غيره من معجزات الخلق وآيات الله في الأنفس والآفاق.

وثمة اللمسات الجمالية لهاتين الكتلتين المدهشتين، فليست المنفعة وحدها هي التي تحكم وظيفتهما، على جلالة قدرها، وإنما هنالك إلى جانبها ما تبثانه من جمال يؤكد غائية الخلق بما لا يقبل مماحكة ولا جدلاً: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً..}(سورة يونس: الآية 5)، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً}(سورة نوح: الآية 16)، {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}(سورة النبأ: الآية 13)، {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}(سورة الانشقاق: الآيات 16-18)، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ..}(سورة الأنعام: الآية 96)، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}(سورة ياسين: الآية 39).. وكلنا قرأ عشرات القصائد ومئاتها، تلك التي تغنى بها الشعراء بضوء القمر، وبنوره الذي ينثّه على الكائنات والأشياء عبر الليالي، ولا تزال قريحتهم - وستظل - تتغنى بهذه الظاهرة الفريدة في بنيان الكون والعالم: {... مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ..}(سورة يونس: الآية 5)، ومن ثم دعيت الشمس والقمر، جنباً إلى جنب مع النجوم والجبال والشجر والدواب للإذعان لأمر الله والسجود له - جلّ في علاه -، أليستا هما من صنعه وبتقديره، فماذا لو لم يشهد عالمنا هذا شمساً ولا قمراً؟ كيف سيكون الحال؟: {... ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(سورة الأنعام: الآية 96).

ونجيئ إلى معجزة الخلق الأخرى في هذا العالم: البحار، ذلك الخزين الاستراتيجي من الماء الذي يغطي خمسة أسداس الكرة الأرضية، يتبخر ويفيض خيراته على البشرية مطراً غزيراً منذ آلاف السنين، فلا ينقص ولا يغيض، يقدم للإنسان خدماته الكبرى يوماً بيوم، وسنة بسنة: امتطاء لظهره بقدرة الله وحده، واستخراجاً لكنوزه من اللؤلؤ والمرجان لتزيين الحياة، وإطعاماً لملايين الناس بأسماكه التي تظل تتكاثر وتتكاثر وتزداد عدداً رغم ما يلاحقها من صيد الصيادين.

ولطالما حدثنا كتاب الله عن هذه الوظيفة الرباعية للبحار: التبخير، والنقل، والإطعام، والزينة، وأدار كاميرته المدهشة لالتقاط الشواهد عليها.. ولطالما حدثنا عن تسخير الله لهذه الظاهرة الكبرى، ورحمته بالناس بشكمها، وهي المترعة بالملوحة، عن أن تطغى على المياه العذبة، وتدمر الحياة.. وعن الرياح التي يسيّرها - جلّ في علاه - لتمكين المراكب ذات الأشـرعة من اجتياز المسافات الطوال في المحيطات والبحار، والتنقل من قارة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان. وقال مندداً بالذين يخالفون عن أمره، بأنه: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}(سورة الشورى: الآية 33). وقد يقول قائل من أولئك المتشككين: وماذا في ذلك؟ فإن سكون الريح، إذا كان يؤثر على السفن الشـراعية، ويوقف حركتها الأيام والأسابيع الطوال، فإنه لن يؤثر بحالٍ على السفن البخارية، ومن بعدها الكهربائية والذرية. ولكن القرآن الكريم يدير المنظور فيصفع هؤلاء بإجابته القاطعة: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}(سورة الشورى: الآية 34)، حيث يسقط حجتهم، ويبيّن لهم أن هنالك أكبر بكثير من سكون الريح، ووقف السفن الشراعية.. هنالك ضرب السفن، وتفكيكها، وإغراقها بمن عليها وما فيها، في دقائق ولحظات، أياً كانت هذه السفن؛ بخارية، أو كهربائية، أو ذرية.. وما أكثر السفن والغواصات التي أغرقها الله في القرنين الأخيرين، حيث لم يتبق مكان للسفن الشراعية التي تدفعها الريح.. وليست حادثة الغواصة الذرية السوفياتية ببعيدة عن الأذهان، وليست واقعة السفينة الأسطورة (تايتانيك)، عام (1913 م)، ببعيدة عن الأذهان هي الأخرى.. لقد بنيت لكي تكون أكبر سفينة يشهدها التاريخ البشـري على الإطلاق.. وأقلعت من ساحل (إيرلندة) لكي تجتاز المحيط الأطلسـي في طريقها إلى أمريكا، ويقف صاحبها الملياردير على سياجها وهي تبدأ رحلتها تلك، لا ليسمي باسم الله، ولكن ليقول بأن الضمانات التي وضعت فيها تتحدى أي شيء، لا بل إنه مضـى في تبجحه إلى القول بأنه يتحدى الإرادة الإلهية إن كانت قديرةً على إغراق سفينته العملاقة تلك!

وفي داخل السفينة وهي تجتاز المحيط، في صالاتها وباراتها، ومواخيرها وغرفها.. مضـى المسافرون يرقصون ويشربون ويغنون ويضربون المواعيد.. و .. و .. مطمئنين أشد الاطمئنان إلى أن ناقلتهم تلك لن يصيبها أذىً، وأنهم سيصلون آمنين إلى أهدافهم، وإذا بها على حين غفلة تضرب جبلاً جليدياً لا يظهر منه سوى الخمس، والأخماس الأخرى مخفية تحت الماء، فيشطرها شطرين، ويقودها بمعظم من فيها، وهم آلاف مؤلفة، إلى القاع: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}(سورة الشورى: الآية 34).

وحقاً إن الله سبحانه وتعالى، الغفور الودود الرحيم، عفا عن الكثير من الحالات
المشابهة، فوصلت السفن إلى أهدافها بسلام دون أن يصيبها أذى، رغم ما جرى فيها من موبقات، ولكنه -جلّت حكمته - يريد أن يقدم وسيلة إيضاح بين الحين والحين، يسّد بها أفواه أولئك المتشككين، أو المتشبثين بالرؤية الأحادية العوراء، فيقود هذه السفينة أو الباخرة أو الغواصة إلى مصيرها المفجع.

وثمة ملاحظة يتحتم أن تقال في معرض حديثنا هذا، حيث تأكيد القرآن الكريم على الفلك التي تحملها المياه، وعلى تسخير البحر لتجري فيه المراكب.. ألم يكن أولى بنا أن نكتشف نحن القاعدة الفيزيائية التي تمكن المياه من حمل الأثقال؟ أكان يتحتم لمكتشف كـ(أرخميدس) أن يقوم بهذا الكشف؟ وكذلك الحال في الآيات التي تتحدث عن الطيور التي تسبح في الفضاء: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}(سورة الملك: الآية 19)، أفلم يكن أولى بنا أن نسبق الآخرين في اكتشاف قدرة الهواء على حمل الأجسام، قبل أن يكتشفها الغربيون؟! صحيح أن محاولاتٍ أولية جرت في هذا الاتجاه، كتلك التي نفذها الأندلسـي عباس بن فرناس، وذهب ضحيتها.. ولكن هذا وحده لا يكفي، فإن الكشوف لن تتحقق، وتؤتي ثمارها، إلا بالجهود المتواصلة، والمثابرة المحمومة للوصول إلى الأهداف.

يكفي أن كتاب الله يعطينا الإشارات، ويقدم لنا الشفرات، وهو يتحدث عن شبكة من الأمور التي تعنى بها الفيزياء والرياضيات.. ولقد جهد أجدادنا، زمن تألقهم الحضاري، في الاستجابة لهذه الإشارات، وفك رموز جانب من الشفرات، ولكنهم لم يواصلوا الطريق، لجملة من الأسباب التي قادت حضارتنا إلى ما يشبه الشلل، بينما مضـى الغربيون بجهودهم المدهشة يبحثون وينقبون ويكتشفون.. ألم يكن ابن غانم الموريسكي قد ألّف كتاباً بعنوان: (العلم النافع في صناعة المدافع)، تلك التي ترمي بالبارود، فسبق بها الغربيين، ولكن نكستنا في الأندلس، وخروجنا منها؛ قتلاً أو تنصيراً أو ترحيلاً إلى الشمال الإفريقي، أوقف محاولات كهذه من أن تواصل الطريق، وتصل إلى الثورة الصناعية، فتسبق دول أوروبا الغربية.. ولكن للتاريخ، وللفعل الحضاري، سننه ونواميسه ولا ريب.

فلنتابع جملةً من الآيات التي تتحدث عن تسخير البحار بأمر الله - جلّ في علاه -: {... وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ..}(سورة إبراهيم: الآية 32)، {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}(سورة الإسراء: الآية 66)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ..}(سورة الحج: الآية 65)، {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً}(سورة الفرقان: الآية 53)، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشـِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(سورة الروم: الآية 46)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ..}(سورة لقمان: الآية 31)، {... وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}(سورة غافر: الآية 80)، {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(سورة الجاثية: الآية 12)، { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ}(سورة الرحمن: الآيتان 19-20)، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(سورة النحل: الآية 14)، {... وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً..}(سورة النمل: الآية 61)، {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}(سورة المؤمنون: الآية 22)، {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}(سورة ياسين: الآيات 41-44)، {... وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}(سورة الزخرف: الآيتان 12-13).

والمهم أنها إرادة الله وحده، وآياته البينات، ما يفسـر لنا - فيزيائياً - قدرة المياه على حمل الأجسام الثقيلة، وإلا ما كان هذا الذي نشهده بأمّ أعيننا، لعلنا نشكر الله - جلّ جلاله - على سخائه، ونعمائه.. لعلنا..

ثم يجيء الدور في بناء العالم على ما تمثله الجبال من وزن حركة كرتنا الأرضية، التي لولاها لظلت تميد بنا، وبالكائنات كافة، ذات اليمين وذات الشمال، فيما يستحيل معه القيام بأي نشاط حضاري، وفيما يحول حياتنا على الأرض إلى جحيم لا يطاق، وقلق أبدي من الاهتزاز الدائم الذي لا يستقر على حالٍ.

أهي الطبيعة التي نفذت هذا (البلانس)، من أجل استقرار حركة الأرض، وتمكين البشـرية من مواصلة طريق الحياة والتقدم والرقي؟ أم هي الصدفة العمياء التي صنعت هذا كله؟ فمهما قيل بهذا الصدد من نظريات وأطروحات كافرة فاجرة، تسعى إلى سحب يد الله المبدعة - جلّ جلاله -، وحاشاه، من صياغة العالم الآمن المستقر السعيد، فهي لن تكون في بدء التحليل ونهايته سوى عبث صبياني لا يمكن التسليم به بحالٍ من الأحوال. وها هي الكشوف الأكثر حداثةً في ميدان الجيولوجيا، وفي ساحات فلسفة العلم، تؤكد أن تلك المعطيات الساذجة لا تعدو وأن تكون، بتعبير (سوليفان)، في (حدود العلم): "نظريات السخف الطائش"!

والآن، فإن لنا أن نتابع إرادة الله سبحانه وتعالى، التي شاءت لكرتنا الأرضية هذه ألاّ تبتلى بالتأرجح الدائم الذي تستحيل معه الحياة، وأن تمارس بناء العالم بأكبر قدر من الدقة والإحكام: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ..}(سورة الرعد: الآية 3)، {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ..}(سورة الأنبياء: الآية 31)، {... وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ..}(سورة لقمان: الآية 10)، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(سورة النحل: الآية 15)، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً..}(سورة غافر: الآية 64)، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ..}(سورة ق: الآية 7)، {... وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ..}(سورة الحجر: الآية 19)، {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ..}(سورة المرسلات: الآية 27)، {... وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ..}(سورة النمل: الآية 61)، { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً}(سورة النبأ: الآيتان 6-7)، {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}(سورة النازعات: الآية 32)، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}(سورة الغاشية: الآية 19)، {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً..}(سورة النمل: الآية 61).

وبمجرد إلقاء نظرة بانورامية، من الطائرة، على توزيع الجبال وسلاسلها على القارات، تتبين لنا عدالة صنع الله سبحانه وتعالى في بناء العالم، وحمايته من التأرجح الدائم، حيث لا تكاد قارة من القارات، أو حتى مساحة متسعة من الأرض، تخلو من الجبال، التي تتراوح بين تلك الجبال الشامخة في ارتفاعها، وتلك المتوسطة أو المنخفضة، وهي - في كل الأحوال - وزعت هذا التوزيع العادل، لكي تكون رواسي لكرتنا الأرضية، وأوتاداً تمسك بها عن التأرجح والميل، فيقر قرارها، لقد نصبت الجبال بإرادة الله وحده، في سياق بنائه للعالم وفق أكثر الطرائق إحكاماً وإعجازاً!

ثم ماذا عن تمهيد الأرض، وجعلها صالحةً للتنقل والحركة والذهاب من مكانٍ إلى مكان، فيما تقتضيه ضرورات الحياة البشـرية، والفعل الحضاري، حيث كان يمكن أن يكون سطح الكرة الأرضية على درجة كبيرة من التعقيد الطوبوغرافي، بحيث أن تكنولوجيا العالم كله لو سخرت لإزالته وتسويته لاستحال عليها ذلك، لكنها إرادة الله وحده التي صممت العالم هذا التصميم المدهش، الذي مكن الإنسان من مواصلة الحياة والإعمار على سطح كرته هذه، التي مهدت له مسبقاً هذا التمهيد المحكم.. فلنرى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ..}(سورة الرعد: الآية 3)، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ..}(سورة ق: الآية 7)، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً..}(سورة طه: الآية 53)، {... وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}(سورة الأنبياء: الآية 31)، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(سورة الزخرف: الآية 10)، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا..}(سورة ق: الآية 7)، {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}(سورة الذاريات: الآية 48)، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(سورة الملك: الآية 15). {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}(سورة نوح: الآيتان 19-20)، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً}(سورة النبأ: الآية 6)، {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}(سورة الغاشية: الآية 20)، {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}(سورة الشمس: الآية 6)، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً..}(سورة البقرة: الآية 22)، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(سورة النحل: الآية 15).

كل الضمائر المعتمدة في الآيات السالفة تقود إلى الله - جلّ في علاه -.. فأية صدفة هذه التي صنعت هذا كله؟ وأية طبيعة عمياء أمرت به، وهي لا تملك عقلاً يمكنها من تحديد الأفعال؟ وأي سخف طائش هذا الذي يقول به الملاحدة، فتتلقفه منهم معظم القنوات الفضائية، وتمضي معصوبة العينين، دون أن تلتفت مجرد التفاتة إلى صنع الله القدير - جلّ في علاه -؟!

ومرة ثانيةً، وثالثةً، ورابعةً: إن بناء العالم، بهذا القدر المحكم من الصياغة، والتي سنواصل متابعتها عبر هذا البحث، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يجيئ نتيجة صدفة عمياء، أو طبيعة خرساء، أو سخف طائش، رغم أن أتباع المدرسة المادية الفاجرة هذه، يظلون يرددون هذا مع أنفسهم ومع الآخرين، ويظلون يرددونه حتى أصبح بالنسبة إليهم بمثابة الحقائق المطلقة المسلّم بها، والتي لا تقبل، رغم سخفها وفجاجتها، ارتطاماً بطبائع الأشياء، وبنسق الخلق ونواميسه، جدلاً ولا نقاشاً.

فماذا عن الأمطار التي لولاها، ولولا استمراريتها في إيصال القطرة العذبة إلى أفواه الإنسان، وضرعه، وزرعه، لما قامت للحياة قيامة؟

نحن نعلم، على مستوى الرياضيات والفيزياء، أن حدوث ظاهرةٍ ما بمفردها، قد يكون وليد الصدفة التي لا هدف لها ولا غاية.. ولكن عندما تنبني عليها ثانيةً، لكي تقودها إلى هدف محدد، فإن الصدفة تضعف وتغيب وتتلاشى.. فكيف إذا انبنت عليها ثمانية حالات توافقية أخرى؟ ألا يتوقف مؤشر الصدفة عند نقطة الصفر المطلق، لكي يسمح للغاية أن تعمل عملها في هذه الظاهرة المدهشة، التي طالما نبّه كتاب الله عليها قرّاءه، في أكثر من مائة وستين آية أو مقطع قرآني، لكي يتأكدوا - بما لا يسمح لأي مجال للجدل والمناقشة - أن وراء ظاهرة الأمطار هذه، إرادة علوية قديرة فاعلة مبرمجة، هي التي ترتب الأسباب على المسببات، وتسوق المقدمات إلى نتائجها المحتومة؟!! وهي ها هنا: إيصال الماء العذب للإنسان والحيوان والنبات، على السواء، بعد جملة من العمليات الكبرى، التي يعقب بعضها بعضاً، والتي - في حالة غياب أية حلقة منها - ستبوء المحاولة إلى الفشل المحتوم؟!

إننا هنا بإزاء ثمانية حلقات محكمة الأداء، يقوم بعضها على البعض الآخر، لكي ما تلبث أن تؤول في نهاية الأمر إلى المطلوب، والمطلوب هو إدامة الحياة البشـرية والطبيعية، بإيصال الماء العذب لسقيها وإدامتها، والذي لولاه لتوقفت عجلة الحياة في أيام معدوداتٍ.. فها هي ذي الحياة تجتاز آلاف السنين وهي ضامنة حقها في الحصول على الماء من لدن خالق السماوات والأرض، ومبدعها - جلّ في علاه -..

نقطة البداية تتمثل في تكوين هذا الخزين الاستراتيجي الهائل من الماء في البحار والمحيطات، التي تغطي خمسة أسداس كرتنا الأرضية هذه، فلا يتعرض للنفاد أو الجفاف، حتى لو مضـى عليه آلاف السنين ومئات آلافها، إنه بحق خزين استراتيجي محسوب حسابه في علم الله الأزلي.. ومن أجل أن تظل أعماق هذا الخزين صالحةً للحياة، فإن مياهه المتجمدة يخف وزنها بإرادة الله وحده لكي ما يلبث أن ترتفع إلى السطح، ويبقى ما دونها في حالته السائلة.. ولكن السؤال الذي يبرز ها هنا: ماذا لو تحرّك هذا الخزين في عمليات سونامي شاملة كبرى، وطغى على السدس المحسور من اليابسة، ألا يعني ذلك غرق الحياة، وبوارها، في دقائق معدودات؟

ها هنا، وبعد التخزين الكبير، تجيئ موافقة أخرى تنبني عليه.. إنها (التسكين)، الذي طالما حدثتنا عنه آيات القرآن الكريم: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً}(سورة الفرقان: الآية 53)، {.. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً..}(سورة النمل: الآية 61)، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ}(سورة الرحمن: الآيتان 19-20).

إذن، بعد عملية التخزين الكبير، تجيئ عملية التسكين المدهش، الذي يلجم مياه البحار والمحيطات عن أن تتحرك وتثور وتطغى على اليابسة، فتقضـي على الحياة.. هذا إلى دقة وإحكام التوزيع الحراري للكرة الأرضية، الذي يحمي الكتل القطبية من الذوبان والطغيان على اليابسة.

ونحن نعلم أن الماء الساكن سرعان ما يتعرض للفساد، ويصبح بيئة صالحة للعفن، ولأنواع لا تحصـى من الميكروبات، التي بمقدورها أن تغزو اليابسة، وأن تدّمر الحياة على الأرض، في مدياتٍ زمنية قصيرة، وقصيرة جداً.. وهنا تجيئ العملية الثالثة (التمليح): وضع الملح في مياه البحار والمحيطات، لحفظها من الفساد، حتى لو مضـى عليها آلاف السنين.. فأية صدفة هي تلك التي ترتب الأسباب على المسببات، فتخزن، وتسكن، وتملح، وفق ترتيب قصدي، تديره إرادة عليا، وتغيب فيه أية صدفة على الإطلاق؟

ولكن، ماذا عن تحويل هذا الماء المالح، الذي لا يمكن شـربه، إلى ماء عذب صالح للشرب، والسقي، والاستخدام اليومي؟ ها هنا تنبني عملية رابعة على مسار الظاهرة، وهي عملية (التبخير) التي تفك الارتباط بين ملوحة مياه البحار والمحيطات وبين عذوبتها، بتسليط قدر مناسب من الحرارة على سطح هذا الخزين الهائل من الماء، وتحويله إلى حالة بخارية خفيفة، تمكنها من الارتفاع إلى فضاء البحار والمحيطات، وقد رشح منها ملح البحار؟!

فمن الذي وضع الشمس، هذا الفرن الذري المتفجر منذ آلاف السنين، والموضوع في مكانه المناسب تماماً من الأرض، والذي يدفع إليها بالنسبة المعقولة من الحرارة، لكي تمارس عملية التبخير، فضلاً عن إسهامها في عملية التمثيل الكلوروفيلي، الذي تتشكل بموجبه الثمار والبذور، والتي بدونها لن تتمكن الحياة من الاستمرار لأسابيع معدودات؟ ومن الذي وضع الأرض في مكانها المناسب من الشمس؟ فلو أنها ابتعدت عنها قليلاً لتجمدت الحياة وقضـي عليها، ولو أنها اقتربت منها قليلاً لتعرضت للاحتراق؟

ولكن، رغم هذه العمليات الأربع، لم يصل بعد شيء من الماء العذب إلى الإنسان، وإلى ضرعه، وزرعه.. هنا تجيئ العملية الخامسة، بإرادة الله وحده: (التحريك)، وذلك بتسخير الرياح، لتحويل هذا الكم الهائل من البخار المعلق في سماوات البحار والمحيطات، إلى سماء اليابسة، استعداداً لنزول المطر، وإذا بنا نجد أنفسنا قبالة رياح تتشكل وتتحرك باتجاهات مختلفة، تذكرنا بآليات المكائن والأجهزة الميكانيكية التي تتحمل مسؤولية الحركة ذات اليمين وذات الشمال، وإلى أعلى وإلى أسفل.. فهناك الرياح الموسمية، والعكسية، والتجارية، والإعصارية.. و.. و.. تندفع بكل اتجاه لكي تمارس مهمتها بالعدل والقسطاس، فتوزع السحب على أكبر قدر من اليابسة([4]).. ولكن، مرةً أخرى، فرغم هذه العمليات الخمس، فإن الناس وضرعهم وزرعهم لم يتلقوا بعد شيئاً من الماء العذب الذي يديمون به حياتهم، ويقضون حاجاتهم، فما تلبث الحلقة السادسة أن تجيئ: تحويل الحالة البخارية للماء المعلق في سماوات الأرض القريبة، إلى حالة سائلة، بتلقيح السالب بالموجب، وتشكيل القطرات العذبة الثقيلة التي تشدها جاذبية الأرض إلى التساقط مطراً على الأرض: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}(سورة الحجر: الآية 22).

إن بيت القصيد في الحلقات الثمانية هو (المطر)، فهو الذي طالما وصفه القرآن الكريم بأنه يحيي الأرض بعد موتها، ويسقي الأناسيّ والأنعام والزرع، ويخرج الثمرات المختلفة الألوان، ويمنح الرزق للعباد، ويزين الحياة الدنيا، وينبت الحدائق ذات البهجة، ويبدع الأزواج من شتى الصنوف، ويفتح على الناس البركات، ويملأ ساحات العالم بالخضرة الواعدة، وينشئ جنات النخيل والأعناب والحبوب والزيتون والرمان؟

والآن، فإن تكنولوجيا العالم كله، على تقدّمها الأسطوري المدهش، لا يمكن أن تقوم مقام الصنع الإلهي بإنزال المطر بهذا الكم الهائل الذي يغطي مساحات الأرض.. ولقد جرت محاولات في هذا السبيل، ولكنها - في نهاية الأمر - لم تأت بطائل على الإطلاق. ومن ثم كان الإذعان لأمر الله سبحانه وتعالى حتى من أشد الناس كفراً ومروقاً: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(سورة العنكبوت: الآية 63)، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشـْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ. لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}(سورة الواقعة: الآيات 68-70).

في الحلقة الثامنة من هذا المسلسل المدهش، ينقسم الماء النازل من السماء مطراً، ولحكمة الله ورحمته بعباده، إلى ثلاثة أقسام، كي لا يذهب هدراً إلى البحر: يمضـي قسم منها ليشكل الأنهار، ويغذيها بالماء، ويمضـي القسم الآخر إلى باطن الأرض، وتجاويفها، لكي يخزن هناك، ثم ما يلبث أن يتدفق آباراً ومجاري وعيوناً لتلبية حاجات الإنسان، بوسيلة آلية أو بغير ما وسيلة، إنها ما يسميه الجيولوجيون وعلماء الري: (المياه الجوفية)، التي تعين الأنهار على تأدية وظيفتها الأساسية في إدامة الحياة([5]).

يقول رئيس قسم الجيولوجيا (طبقات الأرض)، في كلية العلوم بجامعة الموصل، عن آخر كشف لعلماء الجيولوجي: إنه جدار طيني، غير مسامي، عازل، وهو الجدار الثالث لمخازن المياه الجوفية، والذي يمنع تسـرّب قطرة واحدة من الماء في التجاويف الأرضية، ويحمي هذا الخزين لحين الإفادة منه في إدامة الحياة، حيث قد لا تكفي، أو تصل، مياه الأنهار، إلى كل بقاع الأرض. فكأنه بذلك يؤكد الآيات الأربع التي تتحدث عن هذه الظاهرة المدهشة: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}(سورة الحجر: الآية 22)،  {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}(سورة الكهف: الآية 41)، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}(سورة المؤمنون: الآية 18)، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}(سورة الملك: الآية 30).

وأما القسم الثالث من مياه الأمطار النازلة من السماء، فيذهب إلى أعالي الجبال والمناطق الباردة، حيث درجات الحرارة المنخفضة تسوقه إلى التجمد في كتل هائلة، تمثل هي الأخرى خزيناً دائماً يتدفق مجاري وشلالات، لكي يغذي الأنهار في مواسم الحرّ والجفاف والصيهود، ينخفض مستواها من جهة، ويتعرض الثلج المتجمد للذوبان، من جهةٍ أخرى.

فيا سبحان الله على هذا الإحكام، في واحدة فحسب من الظواهر الطبيعية، والذي تنتفي معه الصدفة رياضياً وفيزيائياً بأي شكل من الأشكال، وتتأكد الغائية التي تسوق الظاهرة عبر مراحلها المتعاقبة المبنية بعضها على بعض، بإرادة فوقية، إلى هدفها المرسوم.

والآن، وبعد أن اكتمل معمار العالم عبر الزمن المتطاول الذي اجتازه، وخلق الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار والجبال الرواسي، ومهدت الأرض، وأنزلت الأمطار، يجيئ الدور على إطعام الجوعى، وتقديم أطباق الفواكه والأثمار، وتنويع هذه الأطباق، والسخاء في توفيرها للناس والحيوان، والتفنن في طعومها وأشكالها وألوانها، وفي عرضها سائغةً لكل جائع، معروضةً لكل طالبٍ، فلا تشح ولا تغيب.. ها هي الآن تعرض نفسها لكل من يريد.. هينةً، لينةً.. إنها مرةً أخرى صنع الله الذي أتقن كل شيء، وسخاؤه الكبير الذي ما له من حدود.. فما من كائن على هذه الأرض، ولا من دابةٍ إلا على الله رزقها.. فهو - جلّ جلاله - يضرب بعمله الجليل هذا النظريات الوضعية التي تقوم على الظن والهوى والتخمين، بما فيها نظرية (مالثوس) التشاؤمية، التي قال فيها بأن اليوم الذي سيغيب فيه التناسب بين الانفجار السكاني وحاجة الناس للغذاء سيجيئ، طال الوقت أم قصـر، فيما يقود الحياة البشرية إلى البوار.

مع هذه الأطباق السخية التي ما لها من نفاد، ومن ورائها يد الله القدير والمبدع - جّل في علاه -، فليس ثمة ما يوحي بانعدام التكافؤ بين الناس، وبين ما يمكنهم من مواصلة الحياة.

ونجيئ من ثم إلى دنيا النبات، التي تمثل واحدةً من أهم صفحات خلق العالم، وتكوينه، وقدرته على الاستمرار، ولولاها لما قامت للحياة على إطلاقها قيامة، ولانطوت صفحتها في أيامٍ قلائل، ولربما في ساعاتٍ معدوداتٍ، فهو الذي يموّن الحياة بالخزين الغذائي الدائم، الذي يقوم قوامها عليه؛ إنساناً وضرعاً وزرعاً.. هذا الخزين المتجدد بإرادة الله وحده، والذي يمنح الحياة الدنيا قدرتها على مواصلة البقاء..

يحدثنا كتاب الله، في عدد كبير من آياته البينات، كيف يتشكل، وكيف يتنوع، وكيف يتوزع بالعدل والقسطاس، فلا يتخم الواجدون، ولا يتضور المحرومون جوعاً.. وكيف يقدم المنفعة والجمال معاً للحياة الدنيا، فيزيدها بهجةً وألقاً؟ وكيف يضـرب به الأمثال على التنامي والذبول، وكيف تصير مجالاً للعطاء، الذي يقود صاحبه إلى الفلاح، والشح الذي يقوده إلى التهلكة.. وبسبب من هذا كله، من الدور الكبير الذي تمارسه دنيا النبات في هذه الحياة الدنيا، يجيئ التحدي الإلهي لكل الادعياء الذين يبررّون فك الارتباط بين هذا الخلق المعجز في تكوين العالم، وبين مبدعه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}(سورة لقمان: الآية 11).

فلنتابع، عبر رحلتنا هذه في خلق العالم، جانباً مما حدثنا عنه القرآن الكريم بخصوص دنيا النبات: {... وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..}(سورة الرعد: الآية 3)، {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة الرعد: الآية 4)، {... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ..}(سورة إبراهيم: الآية 32)، {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ. وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}(سورة الحجر: الآيات 19-21)، {... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}(سورة طه: الآيتان 53-54)، {... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(سورة الحج: الآية 5)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(سورة الحج: الآية 63)، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}(سورة الشعراء: الآيتان 7-8)، {..وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}(سورة النمل: الآية 60)، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(سورة العنكبوت: الآية 63)، {... وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ..}(سورة لقمان: الآيتان 10-11)، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(سورة ياسين: الآية 36)، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}(سورة السجدة: الآية 27)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا...  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(سورة فاطر: الآيتان 27-28)، {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضـَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ}(سورة ياسين: الآية 80)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ..}(سورة الزمر: الآية 21)، {... وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ..}(سورة فصلت: الآية 47)، {... وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(سورة ق: الآية 7)، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ}(سورة ق: الآيتان 9-10)، {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(سورة الذاريات: الآية 49)، {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}(سورة الواقعة: الآيتان 63-64)، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}(سورة الواقعة: الآيتان 71-72)، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً}(سورة نوح: الآيتان 10-12)، {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}(سورة النبأ: الآيات 14-16)، {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا}(سورة النازعات: الآيتان                30-31)، {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبّاً. مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}(سورة عبس: الآيات 24-32)، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(سورة قريش: الآيتان 3-4)، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم.. }(سورة المائدة: الآية 66)، {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(سورة الأنعام: الآية 95)، {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(سورة الأنعام: الآية 99)، {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسـْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(سورة الأنعام: الآية 141)، {... فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ..}(سورة الأعراف: الآية 57)، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً..}(سورة الأعراف: الآية 58)، {... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ..}(سورة البقرة: الآية 22)، {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة النحل: الآيتان 10-11)، {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة النحل: الآية 67)، {فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ}(سورة المؤمنون: الآيتان 19-20)، {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}(سورة ياسين: الآيات 33-35).

عبر هذه الآيات المزدحمة، والتي تدير المنظور على ظاهرة الإنبات من جوانبها كافة، يحدثنا كتاب الله عن جملة من الأمور التي تبدأ بمعجزة الزوجية، التي تتنامى بواسطتها الحياة، وبالماء الواحد الذي يخرج جنات الأعناب والزرع والزيتون والنخيل ومن كل الثمرات مختلف ألوانها، متشابهة وغير متشابهة.. ليس هذا فحسب، بل يفضل بعضها على بعض في الأكل، وتلك هي معجزة أخرى في عالم الخلق.. وبالوزن المرسوم الذي يحكم به عالم النبات القادم من خزائن الله فما ينزل إلا بقدرٍ معلوم، وفق حاجة الإنسان والحيوان، لا يزيد ولا ينقص إلا بإرادة الله.. وبالأرض الهامدة التي إذا ما تلقت الماء اهتزت وربت وأخضـرت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.. وبالجمال المرتبط بظاهرة الإنبات، من أجل بث البهجة التي ما كان للناس جميعاً أن ينبتوا شجرها.. وبحياة الأرض القاحلة الجرداء بعد موتها، حيث ينزل الماء ليبعث فيها الحياة.. وبمعجزة الشجر الأخضـر الذي يصير ناراً يوقد عليها الناس.. ومن ثم يجيئ التحدي الكبير: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟}(سورة الواقعة: الآيتان 63-64)، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ؟}(سورة الواقعة: الآيتان 71-72)، حيث لا جواب، إنما هي إرادة الله وحده التي تصنع هذه الأعاجيب في دنيا النبات، والفرص الكبيرة التي يمنحها الله سبحانه وتعالى لأولئك الذين يلتزمون صراطه المستقيم، فيغدق عليهم نعمه، مخاطباً إياهم: {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً}(سورة نوح: الآيتان11-12)، {... لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم..}(سورة المائدة: الآية 66)، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً..}(سورة الأعراف: الآية 58).. وبالمياه الدافقة التي تنزل من السماء بإرادة الله فتخرج الحب والنبات والجنات الملتفة.. ويدعو الإنسان إلى أن ينظر إلى معجزة إطعامه هذه؛ كيف يصب الله سبحانه وتعالى الماء صباً. وكيف يشق الأرض شقاً. فينبت فيها عنباً وقضباً. وزيتوناً ونخلاً. وحدائق غلباً. وفاكهةً وأباً.. الطعام المعروض للناس، ولضرعهم، على السواء.

والله وحده - جلّ في علاه - هو الذي يفلق الحب والنوى، تماماً كما يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.. وثمة آية تثير الدهشة في (سورة الأنعام)، تجيئ علوم النبات المعاصرة فتؤكد ما ورد فيها حرفاً بحرف، تلك التي تقول: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضـِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً..}(سورة الأنعام: الآية 99)، ها هنا حيث لا تتشكل ثمار النبات إلاّ بعد أن تجتاز ثلاثية التعامل مع ضوء الشمس وثاني أوكسيد الكربون ومادة الكلوروفيل الخضـراء، ولهذا يجيئ إخراج الحب المتراكب بعد إخراج الخضر.

وثمة - فضلاً عن المنفعة التي يقدمها النبات - تأكيد في كتاب الله على الجانب الجمالي، الذي يضـرب ما يقوله الملاحدة والطبيعيون؛ القائلون بعبثية الخلق وقيامه على الصدفة، ويجعل له هدفية وقصداً ومغزىً: {... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(سورة الحج: الآية 5)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟}(سورة الحج: الآية 63)، {..وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا..}(سورة النمل: الآية 60)، {... وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(سورة ق: الآية 7)، {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ}(سورة ق: الآية 10)، {... انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ..}(سورة الأنعام: الآية 99)!!

إن الذي يبني داراً، أو قصـراً كبيراً، لاستقبال الساكنين.. ألا يهيئ لهم الموائد والأطباق العامرة لكي يستمتعوا ويشبعوا بطونهم، ويتمكنوا بعدها من ممارسة أعمالهم المتشعبة.. كذلك شاءت حكمة الله - جلّ في علاه - في تقديم هذه الوجبات السخية من الطعام لساكني الكرة الأرضية، لكي يتمكنوا من مواصلة مشوارهم الحضاري.. ومن أجل هذا يجيئ التأكيد أكثر من مرة على أن هذه الظاهرة الفذة في الخلق، لا يدركها ويقدرها حق قدرها إلا أولو العلم والنهى.. ومن ثم تتردد هذه الثيمة القرآنية: {... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة الرعد: الآية 4)، {... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}(سورة طه: الآية 54)، {... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(سورة النحل: الآية 79)، {... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة الرعد: الآية 3)، {... لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(سورة الأنعام: الآية 152).. وفي مقابل هذا سيل من الآيات التي تدين من لا يملكون بصائر وعقولاً ترى معجزة الخلق هذه مكشوفةً أمامهم على مصراعيها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}(سورة الشعراء: الآية 8)، {... بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}(سورة النمل: الآية 60)، {... بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(سورة العنكبوت: الآية 63)، {... أَفَلَا يُبْصِرُونَ}(سورة السجدة: الآية 27)، {... فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(سورة الأنعام: الآية 95)، {... أَفَلَا يَشْكُرُونَ}(سورة ياسين: الآية 35).

ومن أجل ذلك كلّه جاءت كلمات الله لتؤكد: {... إِنَّمَا يَخْشـَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..}(سورة فاطر: الآية 28)، فليس علماء الشـريعة وحدهم الذين يستحقون هذه الصفة، إنما أصحاب العلوم الصـرفة؛ من فلك، وجغرافيا، ونبات، وحيوان.. ومن أجل ذلك تحداهم كتاب الله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(سورة الأحقاف: الآية 4).

وثمة منحة إلهية أخرى، تجيئ بعد اكتمال معمار العالم، وبموازاة دنيا النبات.. إنها عالم الحيوان، الذي أريد به إطعام الإنسان والحيوان، وتهيئة وسائط النقل لهذا الكائن الفريد الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وفضله على كثير من الخلق تفضيلاً.. فضلاً عن إشباع حاجته للجمال، والشفاء، والتدفئة، والفرش، والبناء، والتأثيث.. وهو - جلّ جلاله - ينوع في خلقه هذا؛ ما بين دابة تمشـي على بطنها، وأخرى على رجلين، وثالثةً على أربع، ورابعة تطير في الهواء وهي تخفق بجناحيها، فلا تمسكها عن السقوط إلا إرادة الله.. وينوع - جلّت قدرته - في أشكالها، وألوانها، التي تبهر العين، وتشبع حاجتها للجمال.. وكلنا رأى على شاشات التلفاز تلك العروض اللونية الباهرة للكائنات المائية، وهي تسبح في مياه البحار والمحيطات، فتأخذنا الدهشة لهذه القدرة التي لا نهاية لإبداعها وتنويعها، وكلمات الله التي ما لها من نفاد!! وهو - جلّت قدرته - أعلن ضمانه لإدامة رزق الإنسان والحيوان، وإطعامهما المستمر، فليس ثمة ما تقوله بعض النظريات الظنية، كنظرية مالثوس، من أنه سيجيئ اليوم الذي تزداد فيه كثافة البشـرية، فلا يعود الطعام كافياً لإشباعها، فتتعرض للانقراض والزوال.. ها هنا شيء آخر يضـرب هذه الظنون بالحقيقة الثابتة، وهي إرادة الله التي كفلت الزرق للإنسان والحيوان معاً، ما دام هنالك نفس في هذه الدنيا: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا..}(سورة هود: الآية 6).

وكل هذه الكائنات الحية تمارس إذعانها لأمر الله، وطاعتها له - سبحانه وتعالى بالسجود، والتسبيح، كل على طريقته الخاصة، التي قد لا نفقه نحن لغتها ، ولكنه الأمر الواقع الذي تشير إليه وتؤكده أكثر من آية، كما سنرى.

ويبدو، في ضوء هذه المعادلة المدهشة، سخف أولئك الفلاسفة النباتيين، الذين يحرمون ما أنزل الله، فيمتنعون عن أكل اللحوم، إشفاقاً على الحيوانات.. وأكثر سخفاً منهم، تلك الطائفة الهندوسية التي تحرم أكل لحم البقر، وتدعها تسـرح في مدنهم وقراهم، وتلحق الأذى بالناس، وعروض التجارة، وليس ثمة من يمدّ يده لمنعها، والذين يجرأون على ذلك تطالهم سكاكين الطائفية، فتذبح منهم العشـرات والمئات.. وأكثر سخفاً وفجاجةً من هؤلاء وأولئك، تلك الطوائف التي تنزل بعبادتها إلى درك البهيمية، فتعبد هذا الحيوان أو ذاك، وتتخذ لهم أصناماً تسجد لها من دون الله.. بل إن بعض الطوائف الضالة تذهب بهم عبادتهم بعيداً باتجاه الأعضاء التناسلية لهذا الحيوان أو ذاك!

أفلا يتحتم بعد هذا كله، ومع هذا كله، أن نتوجه بالشكر والامتنان لله الذي منحنا نعمه الكبيرة هذه، وفي المقدمة فئة العلماء الذين يدركون جيداً، بسبب دراساتهم المعمقة، وآلياتهم الدقيقة، أسـرار هذا الكائن العجيب، الذي ما كان يمكن أن يكون لولا إرادة الله سبحانه وتعالى الذي لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، ولو جيئ بمثله مدداً !!

وثمة لمسات تحدثنا عن معجزة الخلق في أكثر من اتجاه، فضلاً عن التنويع والتلوين.. ذلك الحليب الأبيض الصافي الذي ينطوي على العديد من الفوائد، والذي يخرج من بين فرثٍ ودمٍ لبناً سائغاً خالصاً للشاربين.. من الذي جعله يخرج بهذه الصفة المدهشة، من بين أكداس من الفضلات والدماء، غير إرادة الله؟ والعسل، الذي يحدثنا كتاب الله أن فيه شفاء للناس، والذي كتبت في ذلك مئات البحوث، وأخرجت عشرات الانسكلوبيديات، من الذي أوحى لصانعيه من النحل، سواء اتخذت الجبال بيوتاً أو الشجر أو مما يعرش الناس، أن تقدم هذا الطعام اللذيذ، الذي جرّبنا جميعاً، كيف يشفينا من الأوجاع والأسقام.

ومن أجل ذلك كله، طالما نادتنا آيات القرآن الكريم، بل نادت أولئك الضالين الذين غطوا أعينهم بطبقة من الرماد، وقلوبهم بالران والقار.. أن يبصـروا إبداعية الله في الخلق، وأن في ذلك كله لآيات لقومٍ يتفكرون: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}(سورة ياسين: الآيات 71-73).

إن عالم الحيوان هذا أمر مستودع في كتاب الله، سواء في رزقه أم في مستقره، وهو يتشكل من أمم أمثالنا.. ثم إلى ربهم يحشـرون.. فلتطمئن تلك الطوائف الساذجة من الناس، والداعية إلى عدم قتل الحيوان وسفك دمه إشفاقاً عليه.. لتطمئن، فهي بمجرد أن تشغل عقولها بذكاء، وتتجاوز العمى الذي حجبت به على أعينها، سترى رأي العين الحكمة من هذا كله، الذي يجري على مسرح الحياة، أو يمدّها بالبقاء والجمال.

يوماً ، وأنا أتلو هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}(سورة البقرة: الآية 26)، فيعترض عليّ أحد المتشككين قائلاً: حقاً أن البعوض يمثل مشكلة فلسفية! فقلت له: كيف؟ أجاب: كيف تبرّر أسباب خلق هذا الكائن التافه الصغير، الذي طالما أقلقنا خلال النوم، وطن في آذاننا الساعات الطوال، وامتص دماءنا، ولم يدعنا نغفو لحظةً واحدة.. هل ثمة مبرر لخلقه على الإطلاق؟

قلت له: ارجع إلى الآية القرآنية التي تتحدث عن هذا الكائن الصغير، فستجد الجواب على سؤالك المحير، والإجابة على ما تسميّه معضلة فلسفية. فلما تلوتها عليه، لم يكد يفقه منها شيئاً، وأعاد القول بأنها معضلة ليس لها من جوابٍ شافٍ!

أجبته: ولهذا ضرب القرآن الكريم بها مثلاً، وجعل الناس ينقسمون إزاءها إلى صنفين: المؤمنون الذين (يعلمون) أنه الحق من ربهم، والكفار الذين يقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ ولاحظ معي صفة (العلم) التي ألحقها بالمؤمنين، وكأنه يريد أن يقول: إنه بالإيمان والعلم معاً يمكن أن نعثر على الجواب.

الإيمان بالتسليم المطلق لحكمة الله - جلّ جلاله - في الخلق، بدءاً بأكبر الكائنات الحية حجماً، وانتهاءً بأصغرها.. والعلم الذي سيكشف لنا حيناً بعد حين أبعاد الحكمة من خلق كائنات كهذه.. هذا إلى أن البعوض، وكل الحشـرات المؤذية الأخرى، تمثل تحدياً للإرادة البشـرية، وتتطلب استجابة من نوعٍ ما.. ومن مجموع هذه الاستجابات تتشكل الحضارات البشـرية.. إنني أتذكر هنا ما ذكره المؤرخ البريطاني المعاصر (ارنولد توينبي) من أن الحضارة المصـرية، التي هي واحدة من أقدم الحضارات في العالم، ما كانت لتتحقق لولا قدرة المصـريين القدماء على الاستجابة لتحديات البيئة المصـرية الصعبة المترعة بالمستنقعات والبعوض والملاريا.. فشمروا عن ساعد الجد، وطمروا المستنقعات، ولاحقوا البعوض، وأوقفوا زحف الملاريا، وصنعوا حضارتهم المصرية تلك. وأتذكر أيضاً كيف أن الصين أعلنت يوماً عن حملة شاملة لمحو الذباب المتكاثر في البيئة الصينية، وابتكرت لذلك الوسائل، وأخذت بالأسباب، وأعلنت عن سلسلة من النشـرات التي تلقفها الصينيون، ولاحقوا الذباب، وكادوا أن يأتوا عليه.. وغير هذين المثالين عشـرات بل مئات الأمثلة، ليس أقلها خطراً الإفادة من سموم العقارب والحيات لتصنيع الأمصال المضادة للسم ونجاحها المدهش.

ثم إن هذه الكائنات التافهة، كما قد يخيّل للبعض، كشفت المتابعات العلمية في تركيبها الحيوي المدهش، في صنعها وتصميمها، بما في ذلك خراطيمها التي تعد بالعشـرات، والتي تصنف وفق وظائفها، فبعضها للمس، وبعضها الآخر للامتصاص، وفئة ثالثة للتحليل، فكأنها معمل كيماوي في أقصـى درجات التعقيد. والقرآن الكريم عندما يقول: {فَمَا فَوْقَهَا}، فإن دلالة الكلمة تذهب إلى الكائنات الأصغر منها حجماً، والتي تحتوي هي الأخرى - بقوة الكشف العلمي - على تركيبها المدهش..

إن عالم الطبيعة ينطوي على شبكة من التوازنات الحيوية، من أجل إدامة الحياة، وتوفير لقمة العيش للكائنات جميعاً. فلا يقل أحد من أن الكائن الفلاني لا حكمة من خلقه، وحاشا لله. وثمة فارق كبير بين أمة استفزها الذباب، فقررت أن تعلن الحرب عليه، وبين أمة أخرى تركته يتكاثر في ديارها، ويتساقط على أطعمتها، فيلوثها بالميكروبات، ويسوق آلاف المواطنين إلى زنزانات الأوجاع والأمراض.. أكان يمكن أن يحدث هذا لو أن الإنسان أدرك الحكمة التي تكمن وراء خلق البعوض والذباب؟!

والآن، فإلى هذه المنظومة المنتقاة من الآيات القرآنية الخاصة بدنيا الحيوان: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(سورة هود: الآية 6)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ..}(سورة الحج: الآية 18)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(سورة النور: الآية 41)، {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشـِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة النور: الآية 45)، {... وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ..}(سورة لقمان: الآية 10)، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِـرُونَ}(سورة السجدة: الآية 27)، {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشـَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(سورة فاطر: الآية 28)، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{79} وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ..}(سورة غافر: الآيتان 79-80)، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}(سورة الملك: الآية 19)، {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}(سورة الغاشية: الآية 17)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَـرُونَ}(سورة الأنعام: الآية 38)، {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ..}(سورة الأنعام: الآية 142)، {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْـرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(سورة النحل: الآيات
5-9)، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ}(سورة النحل: الآية 66)، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة النحل: الآيتان 68-69)، {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}(سورة النحل: الآية 80)، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(سورة المؤمنون: الآية 21)، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (سورة ياسين: الآيات 71-73).

وامتداداً لتقديم أطباق الفواكه والثمار واللحوم، وتزيين الحياة الدنيا بألوان الجمال المدهشة وصنوفه المبدعة، هنالك تأكيد القرآن الكريم على مبدأ استمرارية الرزق في الحياة الدنيا، ومع الرزق أنواع النعيم التي لا تعد ولا تحصـى، والتي تتدفق على البشرية ليلاً ونهاراً، وصباحاً ومساءً.. والتي يصعب إحصاؤها، لغزارتها وتنوعها، والتي تقدم بسخاءٍ عجيب، والتي أسبغت علينا ظاهرةً وباطنةً، والتي تجيئ في كثير من الأحيان موازيةً للجهد البشـري في الاستقامة على الطريق، والاستجابة لدعوات الأنبياء ( عليهم السلام ).

إنه عطاء الله سبحانه وتعالى الذي ما له من حدود.. ذلك الذي جعل لنا ما في الأرض جميعاً، وذرأ لنا ما فيها مختلفاً ألوانه، وخلق لنا الأزواج كلها، مما تنبث الأرض، ومن أنفسنا، ومما لا نعلم..

الرزق والعطاء الدائم الذي ما له من نفاد.. من أجل إدامة الحياة، وتطمين حاجات الناس والحيوان إلى الطعام والشـراب والملبس والمسكن، وتعشقهم للزينة والجمال.. ومن ثم يجيئ التحدي الكبير في كتاب الله، لكل أولئك الذين يرون هذا بأم أعينهم، ويلمسونه بأيديهم، ولكنهم ينكرونه.. يطلب منهم البرهان، إن كانوا صادقين.. فهل قدروا أو يقدرون على الردّ إزاء هذا التحدي؟  {... وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(سورة النمل: الآية 64)، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟}(سورة الملك: الآية 21).

ولكن أنى لهؤلاء الذين اختاروا العمى على الإبصار أن يروا ويقدّروا هذا كله؟ فلنقرأ في كتاب الله بعيون مفتوحة، وعقل يعرف كيف يرى الظواهر والأشياء على حقيقتها.. فحينذاك سيسوقه هذا الذي يراه بعينه وعقله إلى شهادة لا إله إلا الله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(سورة هود: الآية 6)، {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا..}(سورة إبراهيم: الآية 34)، {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً}(سورة الإسراء: الآية 100)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..}(سورة لقمان: الآية 20)، {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ..}(سورة سبأ: الآية 24)، {... وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(سورة النمل: الآية 64)، {... يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(سورة الشورى: الآية 12)، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ..}(سورة الملك: الآية 21)، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً}(سورة الجن: الآية 16)، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(سورة قريش: الآيتان 3-4)، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم..}(سورة المائدة: الآية 66)، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}(سورة الأعراف: الآية 10)، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(سورة الأعراف: الآية 96)، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً..}(سورة البقرة: الآية 29)، {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}(سورة النحل: الآية 13)، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(سورة النحل: الآية 18)، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(سورة ياسين: الآية 36).

وثمة وقفاتٍ عديدة في كتاب الله عند المسألة الجمالية في بناء العالم، وما ذلك إلا لتأكيد قصدية الخلق وغائيته، وإلا لو كانت الطبيعة العمياء هي التي خلقت هذه الكائنات، كما يرى دعاة الصدفة الحمقاء، لما كان الأمر بحاجة إلى إقامة هذا المهرجان الرائع من التزّين والتجميل على صفحات الكائنات، وفي تكوينها وممارساتها، والذي يصل حدّ الإعجاز، ويثير الدهشة في عيون وبصائر كل من يرى ويبصر!! فما الذي يدل عليه هذا؟

إن بناء العالم يقوم على ركيزتين أساسيتين، هما: المنفعة والجمال.. وجهان لحقيقة واحدة.. وبإيجازٍ شديد، فإن هناك هدفاً من وراء هذا كله، يقودنا ولا ريب إلى أن الذي أقام بنيان العالم وفق هذه الثنائية، إنما هي إرادة مسبقة تنطوي بالضرورة على قصدية للغاية التي أنشئ لها العالم، من أجل أن يليق بالكائن القادم الذي فضل على كثير من الخلائق، وأريد له أن يحيا حياة آمنة سعيدة مترعةً بالبهجة والفرح، حيث تنتفي الصدفة من عملية الخلق.. فهل تملك الطبيعة العمياء ذائقة جمالية لكي تصنع هذا كله، أم تحكمها الفوضى لا الصدفة التي لا تملك من أمرها شيئاً؟!

والآن لنأتي للتأشير على بعض ما أراد الله أن يقوله بخصوص الجمال؟ السماء الدنيا القريبة زينت بكواكبها ومصابيحها للناظرين إليها من الكرة الأرضية.. والأرض الموات ينزل عليها الماء من السماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوجٍ بهيج.. والخليقة؛ بنباتها وحيوانها وإنسانها وتكوينها الجيولوجي، أريد لها أن تتزين وتتنوع بالألوان المختلفة والغرابيب السود.. والناس والدواب والأنعام تختلف أشكالها وألوانها.. والنخل باسقاتٍ لها طلعٌ نضيد.. والله - سبحانه وتعالى - يقسم باثنتين، تثيران الدهشة لما تنطويان عليه من جمالٍ ساحر: الشفق، والقمر إذا اتسق.. وثمة نداء في كتاب الله يحمل دلالته فيما نحن بصدده: {..انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(سورة الأنعام: الآية 99)، والأنعام التي تقدم لنا منافع كثيرة، بما في ذلك الدفء والطعام.. تنطوي هي الأخرى على بعدها الجمالي، حيث إن لنا فيها جمال حين تريح، وحين تسـرح.. والخيل والبغال والحمير لتركبوها، وزينة.. والبحار التي تقدم هي الأخرى خدماتها المنفعية للناس كافة؛ ركوباً وإطعاماً، وتقدم معها الحلية التي تتزين بها النساء؛ من لؤلؤ ومرجان.. وثمة حركة الظل والنور، بكل ما تنطوي عليه من هدوء وانسيابية وجمال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً. ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}(سورة الفرقان: الآيتان 45-46).

"إنها حركة يبلغ من لطفها أنها تكاد لا تتحرك! ويزيد من لطفها والإيحاء ببطئها الشديد كلمة (ساكناً)، مع أنها لا تتم في واقع الأمر: {... وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً!}، فمع أنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعله ساكناً، إلا أن وجود اللفظة يلقي ظلها في النفس، وهذا بعض المقصود من إيرادها. وظلها هو تبطئة حركة الظل حتى لتشبه السكون. وتلك حقيقة (طبيعية)، فحركة الظل وئيدة جداً لا تكاد تظهر، لكن التعبير يجسد هذا البطء ويعطيه (مساحةً) في الخيال، لم يكن ليكتسبها لو كان الوصف تجريدياً بحتاً بغير تصوير ولا تخييل.. وكذلك تتم صورة البطء بتكملة الحركة في الاتجاه الآخر: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}(سورة الفرقان: الآية 46). ولكن لفظة معينة هنا تعطي المشهد كله معنى عميقاً عجيباً يغيّر (نغمة) اللوحة كلها، ويعطيها روحاً جديدة لا يتيسـر بيانها بالألفاظ! إنها كلمة: {إِلَيْنَا} {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا}هذه، الكلمة تخرج اللوحة من نطاق الأرض المحدود الذي كانت فيه، فإذا بها أمر آخر غير هذه الأرض. إنها يد الله سبحانه وتعالى تمتد لتقبض الظل {إِلَيْنَا}، إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يتحدد بمكان ولا حيز ولا نطاق! إن الظل (المتجسم) هنا في الأرض، لم يعد كائناً أرضياً محدود النطاق، ولكنه صار.. صار ماذا؟ صار شيئاً كونياً غيبياً، مبدؤه هنا في الأرض، ونهايته عند الله سبحانه وتعالى، الذي ليس لـه انتهاء! وهذا كله يتناسق مع سياق الآية الذي ترد فيه مشاهد الطبيعة في صورة الرحمة الإلهية على الناس.. وهي جو كله رحمة وعطف وودّ وإيناس" ([6]).

ها نحن إذن ازاء المهرجان الجميل الـذي أزينت به حياتنا الدنيا، من أجل أن تتأكد لنا قصدية الخلق وآيات الله في العالم.. ودائماً كان الخطاب القرآني متوجهاً إلى العلماء: {... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..}(سورة فاطر: الآية 28)، {... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(سورة الروم: الآية 22)، لأنهم الأقدر على سبر غور هذا المهرجان، وإدراك سرّه المعجز، وغايته التي تكنس في طريقها كل سخفٍ طائش، أو صدفة عمياء.. فلنتابع ذلك كله في كتاب الله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}(سورة الحجر: الآية 16)، {... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(سورة الحج: الآية 5)،   {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ...}(سورة فاطر: الآيتان 27-28)، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}(سورة الصافات: الآية 6)، {... ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ..}(سورة الزمر: الآية 21)، {... وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(سورة فصلت: الآية 12)، {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ}(سورة ق: الآية 6)، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(سورة ق: الآية 7)، {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ}(سورة ق: الآية 10)، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ..}(سورة الملك: الآية 5)، {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}(سورة الانشقاق: الآيات 16-18)، {... انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(سورة الأنعام: الآية 99)، {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(سورة النحل: الآيات 5-8)، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا..}(سورة النحل: الآية 14)، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(سورة الروم: الآية 22).

ومن الواضح كما يقول (سوليفان)، في (حدود العلم)، أن حقيقة كون العلم مقصوراً على معرفة البنى، هي حقيقة ذات أهمية إنسانية عظيمة، لأنها تعني أن مشكلة طبيعة الحقيقة لم يبت فيها بعد، ولم يعد يطلب إلينا الآن أن نعتقد بعدم وجود مقابل موضوعي لاستجابتنا للجمال، أو شعورنا السحري بالاندماج مع الله سبحانه وتعالى.. إن مثل هذه الأمور يمكن أن تكون مفاتيح لطبيعة الحقيقة، وقد اعتبرت كذلك في كثير من الأحيان. وهكذا، فإن تجاربنا المختلفة قد أصبحت كما كانت على قدم أكثر تساوياً..

إن تطلعاتنا الدينية، وحسّنا الجمالي، ليسا بالضـرورة ظواهر وهمية، كما جرى الافتراض في السابق. وإن من حق الرؤى الباطنية (Mystics) أن يكون لها مكان في هذا العالم العلميّ الجديد([7]).

إن تطلعاتنا الدينية، وحسنا الجمالي - إذاً - ليسا ظواهر وهمية، كما جرى الافتراض في السابق، يوم أن اندفع العلم المراهق والنظريات الاجتماعية والنفسية التي بنيت عليه، يضـرب هذه التطلعات، ويسقط تلك الأحاسيس، رادّاً الحياة البشـرية إلى مجموعة ميكانيكية محددة صارمةً من الأفعال وردود الأفعال.. مسطحاً هذه الحياة الكثيفة المعقدة المتشابكة، مدمراً امتداداتها المتقاطعة، جاعلاً إياها تتحرك على خطٍ واحد، وفق امتدادٍ واحد، وبأقل قدر من تبادل التأثير بين الذات والموضوع، وأشده انحساراً.. والإنسان، ذلك المجهول - إذا استخدمنا تعبير كاريل - أصبح ظاهرة مادية أخضعت للتحليل والاختبار، من أجل الوصول بالقسـر والإكراه، إلى تفسير نهائي لسلوكه.. فكان يندفع حيناً بتأثير دافعه الجنسـي، وكان يتحرك حيناً آخر على هدى ضـرورة عمياء للبقاء والارتقاء، وكان يتطور حيناً آخر، مسلوب الإرادة، بضغط التبدل في وسائل الإنتاج، وكان يمارس حياته حيناً رابعاً من خلال عقل جمعي لا يأبه بحياة الأفراد وخصوصياتهم.

إن الكشوف الفيزيائية الأكثر حداثةً تترك لنا مجالاً أكبر من الحرية، لكي نضفي الاعتبار أو المغزى التقليدي على خبراتنا حول الجمال والدين، أو لنقل بالاختصار: إنها لا تعزز بصورة إيجابية أياً من التفسيرات التي جاءت بها الأديان للعالم، لكنها تقطع الطريق على تلك المناقشات التي قامت لتثبت أن أياً من هذه التفسيرات (الدينية) ما هو مجرد وهم. لقد فعلت هذا عندما أظهرت أن العلم لا يعالج إلا ناحية جزئية من الحقيقة، وأنه لا يوجد أدنى سبب يبرر الافتراض بأن كل ما يجهله العلم، أو يتجاهله، هو أقلّ حقيقة مما يعرفه([8]).

وثمة ما يرتبط بالظاهرة الجمالية في بناء العالم، ذلك هو إتقان الصنع، ووزن الخلائق والأشياء، فإن كل شيء عند الله سبحانه وتعالى بمقدار: {... وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(سورة الرعد: الآية 8)، وكل شيء خلقه بقدر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(سورة القمر: الآية 49)، وكل شيء موزون، وفي موقعه تماماً: {...وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}(سورة الحجر: الآية 19)، وما ينزل إلا بقدر معلوم: {...وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}(سورة الحجر: الآية 21)، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}(سورة النمل: الآية 88)، ذلك أن الذي يطل على العالم من فوق، برؤية طائر، يرى هذا الذي يتحدث به القرآن الكريم. أما على مستوى الرؤية البشـرية من الأرض، فإن الأمر يختلف، ذلك أنها لا ترى هذه الحركة الانسيابية البديعة المتوافقة مع دوران الأرض حول نفسها، ومن ثم يكون هذا الشاهد دليلاً قاطعاً على مصداقية موقف القائلين بالتفسير العلمي لكتاب الله.. حيث هنالك العشـرات والمئات من اللقطات القرآنية التي جاء العلم الحديث لكي يؤكدها.

ونمضـي مع آيات كتاب الله في تأكيد إتقان الصنع، ووضع الخلائق والأشياء كل في مكانه المرسوم من خارطة بناء العالم: الإمساك بالسماء أن تقع على الأرض: {... وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ..}(سورة الحج: الآية 65)، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ..}(سورة المؤمنون: الآية 71)، {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(سورة الذاريات: الآية 47)، {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}(سورة الذاريات: الآية 48)، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ}(سورة الرحمن: الآيتان 19-20)، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{72}(سورة القصص: الآيتان 71-72).

إن بناء العالم ليس حالة استاتيكية ساكنة، إنما هو الخلق المستمر، حيث لا يكفي أن يقول الله سبحانه وتعالى للخلائق والأشياء كوني فتكون، ولكنه يصيّرها من حالٍ إلى حال. فالكينونة والصيرورة هما المبدآن اللذان قامت عليهما شبكة السماوات والأرض.. وهذه الرؤية القرآنية لمسألة الخلق تنفي بالضـرورة ما يسمى بنظرية الساعة، التي يقول أصحابها بأن الله سبحانه وتعالى خلق الكون والعالم، ووضع فيهما القوى والعوامل التي تسيرهما ذاتياً وسحب يده (وحاشاه) من التدخل في مسيرتهما.. فها هي إرادة الله - جلّ في علاه - بعد خلق الكون والعالم، ماضيةً في فاعليتها، وحضورها الدائم، ورقابتها الأبدية التي لا تندّ عنها صغيرة ولا كبيرة، مهما دّقت وتضاءلت.. وفي خلقها وإبداعها المتواصل دقيقة بدقيقة، ويوماً بيوم، فيما نعلم وفيما لا نعلم، فيما نرى ونحس، وفيما لا نرى ولا نحس.. في المجرات والسدم والنجوم، عبر مساراتها، وكتلها الكبرى، وفي النيوترونات والبروتونات، وهي تجري بخفاء في مساراتها التي لا ترى داخل الذرات..

إن الله - جلّ في علاه - حاضر بعلمه وإرادته معاً في تسيير شؤون الخليقة.. بخلقه وأمره معاً، في توجيهها صوب الوجهة التي يريدها وحده، إلى أجلها المسمى في علمه. فأي سخفٍ هذا الذي ينطلق منه أولئك القائلون بنظرية الساعة: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}(سورة النجم: الآية 23).

وها هي آيات القرآن الكريم تدير كاميرتها على هذه الظاهرة من أطرافها كافة، وهي كثيفة مزدحمة، ولذا سنكتفي بمتابعة بعض شواهدها فحسب: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(سورة النحل: الآية 40)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(سورة الحج: الآية 65)، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(سورة الحج: الآية 70)، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}(سورة المؤمنون: الآية 17)، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}(سورة النور: الآية 44)، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(سورة العنكبوت: الآية 19)، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة العنكبوت: الآية 20)، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ...}(سورة لقمان: الآية 27)، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}(سورة الكهف: الآية 109)، {... وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(سورة فاطر: الآية 11)، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...}(سورة الزمر: الآيتان 62-63)، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(سورة غافر: الآية 57)، {... وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ...}(سورة فصلت: الآية 47)، {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(سورة الذاريات: الآية 47)، {...يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(سورة الحديد: الآية 4)، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(سورة ياسين: الآية 40)، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ...}(سورة الملك: الآية 21)، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}(سورة الملك: الآية 30)، {... يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(سورة الأعراف: الآية 54)، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(سورة النحل: الآية 17)، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(سورة الروم: الآية 27)، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(سورة ياسين: الآية 36).

يكفي أنه إذا أراد شيئاً أن يقول له : {كُن فَيَكُونُ}.. فكيف تتوقف فاعليته بعد خلق الكون والعالم؟ يكفي أن الفلك تجري في البحر بأمره، بهذا الفعل الذي يدل بانفساحه على المدى أنه ماضٍ في الحاضر والمستقبل.. يكفي أن يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فيما يمثل رقابة إلهية دائمة وماضية إلى أجلها المسمى.. يكفي أنه بعد خلق الطرائق السبع، عقّب على ذلك بقوله: {... وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}(سورة المؤمنون: الآية 17)، فكيف يسحب يده، وحاشاه، وهو يطلق هذه المقولة؟ يكفي أنه - جلّ جلاله - يقلب الليل والنهار، فيما يدل على الفاعلية الدائمة في هذا التقليب المعجز.. يكفي أنه يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، وأن ذلك عليه يسير يسير.. يكفي أنه يبدأ الخلق ثم ينشئ النشأة الأخرى، وأنه على كل شيءٍ قدير.. يكفي أنه ما من أنثى تحمل أو تضع إلاّ بعلمه، وما يعمر من معمر أو ينقص إلا بعلمه.. يكفي أنه خلق كل شيء، وأنه على كل شيءٍ وكيل، وأن له مقاليد السماوات والأرض.. يكفي أنه ما من ثمرة تخرج من أكمامها إلا بعلمه.. يكفي أنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وأنه معنا أينما كنا، بصير بأعمالنا، خبيرٌ بنبضات أفئدتنا وقلوبنا.. يكفي أنه يتكفل بإرسال رزقه إلينا صباح مساء، وبإمدادنا الدائم بالماء، الذي هو أساس الحياة.. يكفي أن السماء - التي بناها بيديه جل شأنه - تتسع يوماً بعد يوم.. يكفي أن الشمس والقمر والنجوم مسخراتٍ بأمره، وأن له الخلق والأمر.. يكفي أنه سبحانه وتعالى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض، ومن أنفسنا، ومما لا نعلم.. هكذا عبر الأفق الزمني المفتوح.. وأخيراً وليس آخراً أفلا يكفي أن خلقه سبحانه وتعالى يتجدد باستمرار، ويمضـي في طريقه مبدعاً معجزات الخلق التي لا أول لها ولا آخر، وهو القائل - جلّ في علاه -: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ...}(سورة لقمان: الآية 27)، وهو القائل - جلّ في علاه -: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}(سورة الكهف: الآية 109).

 بعد هذا العطاء الغزير، والدائم، والمتجدد، والماضي إلى يوم الحساب، ألا يحق أن يتلقى الملاحدة والكفرة والشكوكيون والقائلون بنظريات السخف الطائش القائم على الصدفة والتخلّق الذاتي للطبيعة، بعيداً عن إرادة الله.. ألا يحق أن يتلقى هؤلاء صفعةً قويةً لعلّها تردّهم إلى الصواب: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(سورة النحل: الآية 17).

والآن يجيئ الدور لاستكمال الحديث عن منظومة خلق الكون والعالم في المنظور القرآني، وذلك بتحليل مثلث الاستخلاف، والتسخير، والاستعمار (بدلالته اللغوية، لا الاصطلاحية)، والذي أريد منه بناء الدور الحضاري للإنسان في عمران العالم.. فلقد استخلف الله - سبحانه وتعالى - الإنسان في هذا العالم، وأناط به مهمة تطويره، وإعماره، وتذليل صعابه، والاستجابة لتحدياته، من أجل تسوية أرضيته، كي تكون أكثر ملاءمةً لحياةٍ مطمئنة تعلو على الضـرورات، بعد أن تتحرر منها، وتكون أكثر قدرةً على التوجه إلى السماء، إلى خالقها جل وعلا، دون أن يحني ظهورها ثقل الجاذبية وضرورات المادة الصلبة.. إن مبدأ الاستخلاف يتكرر أكثر من مرة في القرآن الكريم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ...}(سورة فاطر: الآية 39)، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ...}(سورة الأنعام: الآية 165)، {... وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(سورة الأعراف: الآية 69)، {... قَالَ عَسـَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(سورة الأعراف: الآية 129)، {... وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(سورة النمل: الآية 62).

ومسألة الاستخلاف تبدو، من خلال هذه الآيات، مرتبطةً بالخيط الطويل العادل من طرفيه: العمل والإبداع ومجانبة الإفساد في الأرض، من جهة، وتلقي القيم والتعاليم والشـرائع عن الله سبحانه وتعالى، والالتزام الجاد بها خلال ممارسة الجهد البشـري في العالم، من جهةٍ أخرى.

والعلاقة بين هذين الطرفين علاقة أساسية متبادلة، بحيث إن افتقاد أي منهما سيؤول إلى الخراب والضياع في الدنيا والآخرة، ويقود إلى عملية استبدال للجماعة البشـرية بغيرها، ممن تقدر على الإمساك بالخيط من طرفيه: العمل والجهد والإبداع، والتلقي الدائم عن الله لضبط وتوجيه هذا العمل والجهد في مسالكه الصحيحة التي تجعل الإنسان يقف دائماً بمواجهة خالقه، خليفة مفوضاً لإعمار العالم: {... قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...}(سورة هود: الآية 61).

ولن يكون بمقدور المسلم تنفيذ مطالب مهمته الاستخلافية ومنحها الضمانات الكافية، وإعانتها على تحقيق أهدافها، ما لم يضع خطواته على البداية الصحيحة (للتحضـر) فيكشف عن سنن العالم والطبيعة ونواميس الكون القريب، من أجل الإفادة من طاقاتها المذخورة، وتحقيق قدر أكبر من الوفاق بين الإنسان وبين محيطه. وبدون هذا فإن مبدأ الاستخلاف لن يكون بأكثر من نظرية أو عقيدة تسبح في الفراغ.

أما مبدأ التسخير، فيرتبط بسابقه أشد الارتباط، ويعد بدوره ملمحاً أساسياً من ملامح التصوّر الإسلامي للكون والعالم والحياة والإنسان، ويتطلب اعتماد مناهج العلم وآلياته لتحويله إلى أرض الواقع، والتحقق بعطائه السخي.

إن العالم والطبيعة، وفق المنظور الإسلامي، قد سخرّا للإنسان تسخيراً، وأن الله سبحانه وتعالى قد حدد أبعادهما وقوانينهما ونظمهما وأحجامهما بما يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان العمرانية في العالم، وقدرته على التعامل معه تعاملاً إيجابياً فاعلاً. وهناك آيات ومقاطع قرآنية عديدة سبق وأن مرّت بنا تحدثنا عن هذا التسخير، وتمنحنا التصور الإيجابي لدور الإنسان الحضاري، ينأى عن التصوّرات السلبية للعديد من الفلسفات والمذاهب الوضعية التي جرّدت الإنسان من كثير من قدراته الفاعلة وحريته في حواره مع كتلة العالم، وتطرّف بعضها فأخضعه لمشيئة هذه الكتلة، وإرادة قوانينها الداينامية الخاصة، التي تجيئ بمثابة أمر لا راد له، وليس بمقدور الإنسان إلاّ أن يخضع لهذا الذي تأمر به.

إننا نشهد في كتاب الله صيغةً أخرى للعلاقة بين الإنسان والعالم، تختلف في أساسها: صيغة السيد الفاعل الذي سخرت له، وأخضعت مسبقاً، كتلة العالم لتلبية متطلبات خلافته في الأرض، وإعماره للعالم على عين الله.. إن (التسخير) هو الموقف الوسطي الفعال الذي يقدمه القرآن الكريم بصدد التعامل مع العالم، بدلاً من الخضوع والتعبد، أو الغزو والانشقاق، اللذين هيمنا على المذاهب الأخرى.

ويجيئ (الاستعمار)، بدلالته اللغوية لا الاصطلاحية: {... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...}(سورة هود: الآية 61)، لكي يستكمل فيه كتاب الله أضلاع المثلث الحضاري لفاعلية الإنسان في العالم، وتنميته الدائمة، ليكون البيئة الصالحة لعبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}(سورة الذاريات: الآيتان 56-57)، العبادة؛ بفضائها الواسع، وسمائها الكبيرة، ونبضها الحضاري الذي يرفض الطقوسية، ويجعل كل فاعلية يمارسها الإنسان مبتغياً فيها وجه الله - جلّ في علاه -، عبادة يتقرب بها إليه، جنباً إلى جنب مع تنمية النشاط العمراني، وإعمار العالم.

وأخيراً، ومن أجل استكمال الحديث عن منظومة خلق الكون والعالم في المنظور القرآني، لا بدّ من الوقوف عند جملة من المسائل التي ترتبط بالظاهرة أشد الارتباط، والتي يمكن إجمالها بالملكية، والهيمنة، والجد، والعلم، والقدرة المطلقة، ومن ثم سجود الكائنات جميعها، أي إعلان عبوديتها لله، وتسبيحها له - جلّ في علاه -. ولنتابع الأمر في كتاب الله: {إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...}(سورة التوبة: الآية 116)، {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...}(سورة يونس: الآية 55)، {... لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ ...}(سورة يونس:          الآية 68)، {وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...}(سورة النحل: الآية 52)، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}(سورة طه: الآية 6)، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ...}(سورة سبأ: الآية 1)، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(سورة ياسين: الآية 83)، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}(سورة الصافات:الآية 5)، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{62} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...}(سورة الزمر: الآيتان 62-63)، {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...}(سورة الشورى: الآية 12 ). {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا...}(سورة الزخرف: الآية 85)، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...}(سورة النجم: الآية 31)، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة الملك: الآية 1)، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}(سورة النبأ: الآية 37)، {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ...}(سورة الأنعام: الآية 3)، {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...}(سورة الأنعام: الآية 13)، {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ... {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}(سورة المؤمنون: الآيتان 84-85، والآيتان 88-89)، {... وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة الرعد: الآية 41).

هذا عن ملكية الله المطلقة للكون والعالم، وهيمنته على مقدراتهما.. وأما عن الجدّ المطلق الذي تنتفي معه أية مساحة على الإطلاق للعبث والفوضى والضـرب على غير هدىً، كما يدعي فلاسفة الغرب ومفكروه وكتابه الطليعيون والعبثيون.. وكما ترى وتمارس جماهير الوجوديين، الذين يرون الحياة عبثاً وسخفاً.. فما دمنا نموت، يقول زعيمهم (كامو)، فليس لأي شيء معنى.. وغير هؤلاء كثيرون من البهائم التي تقلدهم في ديارنا على غير هدىً، دون أن تحاول لحظةً واحدةً، تشغيل عقولها، لكي تعيد النظر في هذا السخف الذي خدعوا به، لكونه امتطى مركب الفلسفة التي هي في معظمها ظنون وأهواء.. ولنقرأ في كتاب الله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ. بَلْ نقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(سورة الأنبياء: الآيات 16-18)، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(سورة المؤمنون: الآية 115)، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}(سورة ص: الآية 27)، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(سورة الدخان: الآيتان 38-39)، {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ...}(سورة الأحقاف: الآية 3)، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ...}(سورة المؤمنون: الآية 71).

وأما عن قدرة الله المطلقة، والعلم الإلهي الشامل، المحيط بمقدرات الكون والعالم، ومجريات أموره، بدءاً من السدم والمجرات والنجوم المنبثة في الكون على مسافاتٍ هائلة يعجز عنها التصوّر البشـري، ويلاحق العلم بمسابيره حافاتها القريبة، وصولاً إلى خفقان النيوترونات والبروتونات في مجاريها الخفية داخل الذرات.. وما بين هذا وذاك كل ما يخفق في جنبات الكون والعالم.. ومن ثم يعلنها القرآن الكريم متحدثاً عن جبروته، مديناً أولئك الأنعام الذين غطوا أعينهم بطبقة من الصدأ والتراب، فأصابهم العمى، ولم يعودوا يقدرون على تقديم اعترافهم بعظمة الله - جلّ في علاه - حيث يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ... }(سورة الزمر: الآية 67).

ولنرحل في كتاب الله لمطالعة جانب من الشواهد الكثيرة في سوره ومقاطعه وآياته عن هذا العلم، الذي لا يند عنه مقدار ذرة في السماوات والأرض، ولا أكبر من ذلك ولا أصغر.. لنرى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(سورة الحج: الآية 70)، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}(سورة المؤمنون: الآية 17)، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(سورة العنكبوت: الآية 19)، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة العنكبوت: الآية 20)، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(سورة لقمان: الآية 16)، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}(سورة سبأ: الآية 2)، {... لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(سورة سبأ: الآية 3 )، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...}(سورة فاطر: الآية 1)، {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...}(سورة فاطر: الآية 38)، {... وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(سورة ياسين: الآية 12)، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(سورة ياسين: الآية  82)، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(سورة غافر: الآية 57)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(سورة هود: الآية 6)، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}(سورة الزخرف: الآية 84)، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(سورة الأنعام: الآية  59)، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ...}(سورة الروم: الآية 25)، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(سورة الروم: الآية  27)، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(سورة النحل: الآيتان 17-18).

بعد هذا كله، أفندهش إذا رأينا كيف تسبح السماوات والأرض، ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، وأن تمارس سجودها الدائم لخالقها - جلّ وعلا -.. وأن تعلن بهذا وذاك طاعتها وخضوعها وانقيادها لأمره؟ ومن ثم تتوالى الآيات وهي تتحدث عن هذا التسبيح والسجود الذي يشمل الخلائق جميعاً؛ أشياء وموجودات وكائنات حية، وهي تعلن - بلسان الحال، أو المقال - تلبيتها لأمر الله، وتعظيمها له - سبحانه وتعالى-: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}(سورة النحل: الآية 48)، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}(سورة الإسراء: الآية 44)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ؟}(سورة الحج: الآية 18)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(سورة النور: الآية 41).

ومن ثم تجيئ هذه الحلقة التي كشفت البحوث العلمية وفلسفة العلم النقاب عن جانب منها، بعدما فاء العلم إلى حظيرة الإيمان عبر القرنين الأخيرين.. تجيئ هذه الحلقة لاستكمال المنظور القرآني لبناء الكون والعالم، والذي يقوم على هذا القدر المدهش من الدقة والنظام والإحكام، فيما يتطلب الإذعان لخالقه - جلّ جلاله -، والخضوع لأمره؛ سجوداً وتسبيحاً..

إننا لنقف هنا خاشعين أمام واحدة من جوانب الإعجاز القرآني، تلك المجموعة الكريمة من الآيات التي تحدثنا عن (تسبيح) الكون والذرات والحيوان والأشياء للخالق العظيم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(سورة الحديد: الآية 1، الحشر 1، الصف 1)، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ...}(سورة الإسراء: الآية 44)، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ...}(سورة الرعد: الآية 13)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(سورة النور: الآية 41)، {... يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(سورة الحشـر: الآية 24، وانظر: الجمعة 1، التغابن 1)، {... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ...}(سورة الأنبياء: الآية 79)، {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِـيِّ وَالْإِشْرَاقِ}(سورة ص: الآية 18)، {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}(سورة الرعد: الآية 15)، {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ. وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}(سورة النحل: الآيتان 48-49)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ...}(سورة الحج: الآية 18)، {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}(سورة الروم: الآية 26)، {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}(سورة الرحمن: الآية 6).

إن (التسبيح)، أو (السجود)، ها هنا، لا يقتصر على كون الذرات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعها الله فيها، فهي بهذا تسبّح لله سبحانه وتعالى، وتسجد لإرادته. فقد يكون هنالك ما هو أبعد من هذا، وأقرب إلى مفهوم التسبيح الحرّ، والتقديس الواعي.. إن هذه الموجودات تمارس تسبيحها وتقديسها بالروح، وربما بالوعي الذي لا تستطيع استيعاب ماهيته، وإن هذا ليقودنا ثانيةً إلى مقولة (أدينغتن): "إن مادة العالم هي مادة عقلية"، كما يقودنا إلى الآية الكريمة: {... وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ...}(سورة الإسراء: الآية 44).

حقاً! إن إدراك الطرائق التي تعمل بها الذرات والأجسام لمما يصعب تحقيقه.. ومهما تقدم العلم وخطا خطواته العملاقة، فسيظل جانب من أكثر جوانب التركيب المادي بعيداً عن التكشف النهائي، مستعصياً على البوح بالسرّ المكنون.

ومهما يكن من أمر، فها هو العلم الحديث، في كشوفاته الأخيرة، يؤكد على الحقائق الأساسية التالية: ليس بمقدور العلم التوصل إلى الحقائق النهائية، وليس بمقدوره أن ينفي الدين، أو أياً من الخبرات الإنسانية، اللامادية، الأكبر حجماً منه.. وأن ما يجهله ليس أقل حقيقةً من معطيات العلم نفسه.. ويؤكد بالمقابل أهمية الخبرة الدينية، وضرورتها للحياة البشـرية، ويكشف عن البطانة الروحية للعالم المنظور، فيلتقي ثانيةً مع الدين!!



([1]) هافال عارف برواري : إشاراتٍ كونية من القرآن ، ص 97-99.

([2]) أحمد خيري العمري : ليطمئن عقلي : ص 109-113.

([3]) هافال عارف برواري : إشارات كونية من القرآن ، ص 92-93.

([4]) تنظر الآيات : الأعراف 57 ، الروم 48-49 ، فاطر 9 ، الفرقان 48 ، النمل 63 ، الروم 46 ،
فاطر 9، الجاثية 5.

([5]) تنظر الآيات : البقرة 74 ، 60 ، الأعراف 160 ، الإسراء 90 ، الحج 45 ، المؤمنون 50 ، الشعراء 133-134 ، الزمر 21 ، الدخان 25-26 ، النازعات 31 ، القصص 23.

([6]) محمد قطب : منهج الفن الإسلامي ، ص 222-223.

([7]) حدود العلم ، ص 39-40.

([8]) المرجع نفسه ، ص 48-49.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق