03‏/04‏/2023

ابن عربي ووحدة الوجود بين مؤيديه وخصومه - دراسة تحليلية مقارنة

أ. د. فرست مرعي

تمهيد

لقد شاع استخدام مصطلح (وحدة الوجود) في أغلب الدراسات والأبحاث التي اهتمت بالفكر الصوفي في الإسلام باعتباره مفهوماً مركزياً ثابتاً، ينتظم نسق أغلب القضايا والمسائل التي يدور عليها كلام المتصوّفة في الوجود والألوهية وعلاقة الله بالكون والإنسان. ويطلق هذا المفهوم أساساً على التصوف المعرفي الذي يجيء على هيئة خطاب فلسفي، يصطلح عليه ضمن هذه الدراسات بـ(التصوف

الفلسفي).

وقد أصبح مفهوم (وحدة الوجود) مفهوماً إجرائياً وظيفياً تفسـر به الدراسات والأبحاث المعاصرة غموض الفكر الصوفي، وتقرأ في ضوئه دقة اللغة الصوفية ورمزيتها، ويستخدم في شـرح ما استعصـى على الفهم والبيان في مسائل الألوهية والوجود والإنسان، حتى إن بعض هذه الدراسات صار يستعمل مفهوم وحدة الوجود من دون أن يحدّد ماهيته، أو يضبط مرجعياته المعرفية أو الدينية، أو يستخدم هذا المفهوم بالمعنى ذاته الذي يحيل عليه مفهوم الوحدة المطلقة، من دون إدراك الفروق الجزئية والدقيقة بينها.

وغني عن القول أن عبارة (وحدة الوجود) لم ترد في مؤلفات ابن عربي أصلاً، لا سيما أعظم كتبه وأضخمها (الفتوحات المكية)، الذي يعد بحق أعظم مؤلف صوفي في الثقافة العربية الإسلامية، رغم أنه قد ضمنه محتوى عقيدة الوجود، وأصَّل أصولها، وفصَّل فصولها، وشـرح معانيها، وانبرى لها مدافعاً ومؤيداً، ومسدداً، معتبراً إياها عقيدة خلاصة خاصة الخاصة، فقال عنها في الفتوحات: "وأما التصـريح بعقيدة الخلاصة، فما أفردتها على التعيين لما فيها من غموض، ولكن جئت بها مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبينَّة، لكنها كما ذكرنا متفرقة. فمن رزقه الله الفهم فيها، يعرف أمرها ويميّزها عن غيرها. فإنّها العلم الحق، والقول الصادق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير والأعمى، تُلحِق الأباعد بالأداني، وتُلجِم السافل بالأعالي"([1]).

ورغم أن ابن عربي، وهو من أبرز من تم تصنيفهم ضمن القائلين بـ(وحدة الوجود)، لم يستعمل هذا المصطلح، ولم يرد ذكر هذا المركب الاصطلاحي في مؤلفاته إطلاقاً، فإن أغلب من اهتموا بدراسة فكره انطلقوا من مسلمة مفادها أن ابن عربي من القائلين بوحدة الوجود، ويردّون كل فكره وكل ما قال به في باب العلوم الإلهية والحكمة الإشراقية إلى مبدأ (وحدة الوجود). ولما كان هذا المفهوم في أصله سابقاً على ابن عربي، وقديماً قدم خوض الوعي البشـري في مسألة الحقيقة، فإن هذه الدراسات - بوعي أو عن غير وعي - تقول تارة إن ابن عربي حاكى المذاهب القديمة في القول بـ (وحدة الوجود)، من دون أن تحدد صيغة ذلك، وطوراً تؤكد أن ابن عربي أول من ابتدع هذا المفهوم([2]).

 

وقد كان ابن تيمية (ت ۷۲۸هـ /1240م)([3]) أول من أطلق مصطلح (وحدة الوجود) على تصوف ابن عربي، ليصير هذا المفهوم في ما بعد بمثابة العكازة الدينية الفكرية التي يعتمد عليها في تكفير ابن عربي، باعتبار أن المتصوفة الحكماء يرون أن "عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السماوات والأرض هو نفس وجود المخلوقات"([4])، فعلى هذا النحو تم اختزال كل الفكر الصوفي النظري في هذا المفهوم.

وفي التاريخ الحديث يظهر أن أول من اعتمد هذا المفهوم، ورسّخه، في قراءة فكر ابن عربي، وشـرح مقالته في الميتافيزيقا والإلهيات، هو المستشـرق البريطاني المختص بالتصوف (رينولد نيكلسون) (المتوفى سنة 1945م)، الذي كان قد نشـر ديوان (ترجمان الأشواق) لابن عربي، معتبراً مقولة (وحدة الوجود) بمثابة مقدمة نظرية لدراسة (الفلسفة الصوفية) لابن عربي. وسار على منواله المستشـرق الإسباني (آسين برسيوس) (1871 1944م)، في كتابه (ابن عربي؛ حياته ومذهبه). وقد حذا حذو (نيكلسون) في ذلك الدارسون العرب الأوائل، وفي طليعتهم الباحث المصـري أبو العلاء عفيفي(1897 1966م)، الذي أعد أطروحة دكتوراه تحت إشـرافه، كان موضوعها الفلسفة الصوفية عند محي الدين بن عربي. وفي السياق ذاته، كانت دراسات كل من الباحثين المصـريين: إبراهيم مدكور (1902 1995م)، في كتابه (في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق)، وعبد القادر محمود، في كتابه (الفلسفة الصوفية في الإسلام)،  والإيراني سید حسین نصـر (1933 -؟)،  في كتابه (ثلاثة حكماء مسلمين)، وغيرهم من الدارسين الذين انخرطوا في تبني فكرة (وحدة الوجود) بمفهومها الغربي  Pantheism  وسارعوا في تطبيقها على تصوف ابن عربي .

ولو أردنا النظر في هذا المفهوم من جهة بنيته ودلالته، لوجدنا أنه يتركب من مقطعين هما: Pan بمعنى شامل أو عام، و Theism بمعنى إله، أي شمول الألوهية لكل شيء، أو "أن وجود  الله ووجود العالم ضـرب واحد من الوجود"([5]).

ويلاحظ أن وحدة الوجود "قد مثلت تاريخياً مذهب أولئك الذين يوحدون الله والعالم، ويزعمون أن الكون هو الله. ويذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن تصور وحدة الوجود قد نشأ في المدرسة الإيلية، إذ إنهم ردوا الوجود إلى واحد، وكانت لدى طاليس Thales، واکسنوفانس Xenophanes، بعض الأفكار عن الوحدة، فقد قال (طاليس) بأصل واحد للكون، وهو الماء. وكذلك عرض (اكسنوفان) لتلك النظرية في وحدة الوجود، حين انتقد هزيود Hesiod  وهوميروس Homers فيما يتعلق بالخلود والتشبيه الذي خلعاه على آلهة الأولمب. وقال (أرسطو) إن اكسنوفان كانت لديه نظرية شمولية للكون، عندما ذهب إلى أن الواحد One هو الله God([6]).

وقد ظهر القول بوحدة الوجود بشكل واضح في العقيدة الفيدنتية لدى الهنود، عندما تحول هذا المذهب إلى فكرة تقوم على الإيمان بأن (براهما) هو الحقيقة اللانهائية التي ليس من الممكن تعريفها. وتصوّر النصوص الفيدنتية عملية الخلق في هذه الأنشودة، التي تقول إحدى فقراتها:

كان ظلام ... في أول مرة مختفياً في الظلام

هذا الكل كان عماء غير مميز

كل ما وجد آنذاك، هو الفضاء واللاشكل   ...

وبالقوة العظمى الباعثة للحرارة

وجدت الوحدة([7]).

وتعود عقائد الفيدانتا إلى الأوبنشاد، وهو أقدم المذاهب التي تعنى بهوية الله باعتبارهما وجوداً موحداً، وهو ما دارت حوله فلسفة (سانكارا)، و (رامنجا)، إذ تقول الماندوكا أوبنشاد: "كل ذلك هو برهمان"، ونجد في سفتسفاتارا أوبنشاد الفقرة التالية :

إنك أنت النار

وأنت الشمس

 وأنت الهواء

وأنت القمر

وأنت الفلك المرصع بالنجوم.

أنت برهمان الأعلى

 أنت المياه

أنت خالق كل شيء

أنت المرأة، وأنت الرجل([8]).

وقد شهد مذهب (وحدة الوجود) تطوراً كبيراً في الفكر الحديث، إذ صار مبدأ مهماً لدى (ديدرو) و(سبينوزا)، اللذان يفسّـران الصلة بين الله والعالم باعتبارها تقوم على الضـرورة السببية لحركة الطبيعة، وهو ما اصطلح عليه بـ(الطبيعة الطابعة)، أو (الطبيعة المطبوعة). ويعني ذلك أن الله ماثل في الطبيعة، وأنه هو والعالم شيء واحد، وأن العالم خاضع لضـرورة الطبيعة الإلهية"([9]).

ورغم هذا التباين بين ما قصده ابن عربي، وما استقر عليه (سبينوزا) في فهم علاقة الله بالعالم، فإن (نيكلسون) يرى أن لدى ابن عربي ما من شأنه أن يذكرنا بسبينوزا. وتبعه في ذلك الباحث المصـري إبراهيم مذكور، إذ يقول: فالحق عند ابن عربي يساوي تماماً الطبيعة الطابعة التي قال بها سبينوزا([10]).

إن النظر العميق في فكر ابن عربي، الذي يستأنس بالمنهج المقارن بين مفاهيم هذا الفكر وما يناظره في الأنساق المعرفية الأخرى، يقودنا حتماً إلى أن نستنتج مدى التعسف الذي تمت ممارسته على نصوص مدونة ابن عربي؛ من جهة اعتبارها قائمة على الاعتقاد بوحدة الوجود، على الوجه الذي بينا أعلاه. ذلك أن ابن عربي ينزه الذات الإلهية، ويعلي من شأنها، ويجعلها في ماهيتها، وفي غيب وجودها، تستعصـي على كل إدراك محيط، وأنها تحيط بالعالم، وتتجلى فيه، من دون أن تشاركه في الماهية، "والموجودات كلها - في نظر ابن عربي - كلمات الله التي لا تنفذ"([11])، كما أن وجود الله متعال، وليس مشروطاً بوجود العالم، وإن كان يسعه.

 أما بالنسبة إلى الفكرة التي جعلها ابن عربي مبدأ أهل الاختصاص، وجاءت مبثوثة في كتابه (الفتوحات)([12])، فإنها لا تعني إطلاقاً وحدة الوجود، كما فهم ذلك أبو العلاء عفيفي، بل تعني نظريته في التجلي ومراتبه، وتختزل فلسفته في الحقيقة المحمدية. فعقيدة أهل الاختصاص تعني حقيقة الولاية باعتبارها قبساً من النبوة، ودليلاً حياً على وجود الله، وهي حقيقة الحقائق المتمثلة في (الكلمة الجامعة)، جوهر علم النبوة، و"بؤرة الحكمة" التي نبعت منها الأديان كلها، وتصدر عنها المعرفة، وتنتهي إليها همم العارفين ببصائرهم.

ونفس الفكرة تقريباً قال بها ابن سبعين (المتوفى سنة669هـ)، ضمن ما اصطلح عليه حرفياً بـ(الوحدة المطلقة)، التي هي مبدأ نظري ذوقي، يرجع كل موجود إلى الله، إذ يرى أنه ما ثم سوى الله، وهو معنى من معاني التوحيد المطلق. وهذا ما يكشف عنه كلام ابن سبعين نفسه: "... إنا الآن نقول: هو هو. ثم نقول: هو، ونصمت، ثم نشير، ثم نقطعها. ثم لا ثمّ إلا الحق المحض، ثمّ لا إله". وهذا بدوره يندرج ضمنه مفهوم (الإحاطة)، حيث تحيط القدرة الإلهية بالعالم، وتستغرقه، من دون تماه معه. وهكذا، فإن كل المداخل النظرية المتعلقة بهذه المسألة، في نصوص ابن سبعين، تنتهي إلى توكيد النتيجة ذاتها، وهي أنه ليس ثم إلا الوجود المطلق(٢).

وفي هذا السياق نشير إلى الدراسات والأبحاث التي حسمت في أمر نسبة وحدة الوجود إلى ابن عربي، وغيره من أهل التصوف النظري كابن سبعين، والششتري(المتوفى سنة 668هـ)، وجلال الدين الرومي( المتوفى سنة 672هـ)، أو استعاضت عنها بمفاهيم أخرى تكون أكثر تجانساً مع فكر ابن عربي وأقرب إلى روح هذا الفكر. فقد آثر المستشـرق الفرنسي (هنري كوربان)(المتوفى سنة 1978م) الإبقاء على الثنائية: الله في مقابل العالم، مع القول بـ (وحدة الوجود)، التي حاول تفسيرها تفسيراً يتناسق مع الروح الإيمانية لفكر ابن عربي بالإله الواحد الخالق([13]). وأكد المستشرق البريطاني (آرثر آربري) (المتوفى سنة 1969م) أن فكر ابن عربي فكر توحيدي (Monistic  لا فكر وحدة وجود.

وفي السياق ذاته، حاول الباحث السوري المختص بابن عربي (عثمان يحيى) (1919 1997م) إيجاد دلالة أخرى لما يصطلح عليه بوحدة الوجود عند ابن عربي، من خلال ترجمتها إلى الفرنسية بـ( L'unité transcendantale de l'étre  ومعناه (الوحدة المتعالية للوجود)، وهذا يخالف معنى وحدة الوجود(Pantheism)([14]).

كما لم يتبنَّ الباحث المصـري نصر حامد أبو زيد (1943 2010م) الرأي الذي يعد ابن عربي من أصحاب (وحدة الوجود). فحتى لو اعتمدنا - في رأيه - هذا المصطلح مدخلاً إلى دراسة فكر ابن عربي، فإنه يجب أن يفهم فهماً خاصاً، يتباعد به عن أي تصوّر مسبق لوحدة الوجود في الفلسفة الغربية الحديثة أو المعاصرة أو الوسيطة أو القديمة، ذلك لأن ابن عربي ينطلق من ثنائية حادة واضحة يقيمها بين الذات الإلهية والعالم، من جهة، وبينها وبين الإنسان، من جهة أخرى([15]).

 وحاول بعض الباحثين التونسيين مثل: مقداد منسية، وعبد الجليل بن سالم، أن يعطي لوحدة الوجود لدى ابن عربي مفهوماً خاصاً، يتجانس مع الروح الإيمانية لفكر ابن عربي، ويظهر ذلك من قوله: "تعني وحدة الوجود -كما تمثلت لدى ابن عربي على الأقل - أن الحقيقة الوجودية لا يمكن أن تكون مزدوجة (الله والعالم)، أو متكثرة المخلوقات. ويورد قول ابن عربي: "فما في الوجود إلا الله وصفاته وأفعاله، وأنه عين الوجود". وكذلك قوله: "إن كل الموجودات مظاهر لتجلي الوجود الحقيقي، وظهوره". ومن ثم تكون الكثرة الملاحظة في الوجود بحسب عبارة مقداد منسية بسبب الاعتبارات والنسب والإضافات. وفي السياق نفسه، ذهب (محمد بن الطيب)، في أطروحته حول (وحدة الوجود في التصوف الإسلامي)، إلى القول: "إن نصوص الصوفية ذات الصلة بوحدة الوجود، لا تستجيب لمثل هذا الفهم المادي الاندماجي. وإن قراءة وحدة الوجود الصوفية الإسلامية في ضوء المفاهيم الغربية لوحدة الوجود، مزلّة أقدام، ومضلّ أفهام، وإن ذلك يحتاج الى مراجعة أصبحت متأكّدة"([16]).

لذلك اختلف المؤرخون في تقدير عقيدة الشيخ محيي الدين بن عربي (558 638هـ/1164- 1240م)، ومذهبه، اختلافاً شديداً، حتى انقسموا إلى معسكرين يصعب الجمع بينهما. ومرد هـذا الاختلاف في نظرنا إلى أن الشيخ كان شديد التناقض فيما يكتب، كثير التقلب بين الالتزام بالشرع وحدوده مرة، وتجاوز ما تعارف عليه الفقهاء والعلماء من رسوم الدين وحدوده، مرة أخرى. ولأن ابن عربي صوفي أصالة، "يأخذ بمنهج التصوير العاطفي، والرمز، والإشارة، والاعتماد على أساليب الخيال، في التعبير، باعتبار أن ما يعالج من المسائل يستعصـي على العقل غير المؤيد بالذوق أن يدركها، ويستعصي على غير اللغة الرمزية أن تفصح عن أسـرارها"([17])، فقد تفاوت الناس في فهم مقاصده: هل المراد من أقاويله ظواهرها البادية، أم أن الأمر يحتاج إلى فهم أشمل وأدق، لا يكون إلا بالتأويل والتفسير، باعتبار أن ما يقوله من (متشابه القول)([18])، الذي لا يستقيم فهمه إلا بضـروب من التأويل. ولعل إلى هذا الازدواج في لغة التعبير، أشار المؤرخون، عندما وصفوه بأنه "ظاهري المذهب في العبارات، باطني النظر في الاعتقادات"([19]). 

يضاف إلى ما سبق، أن الشيخ الأكبر له رغبة في إخفاء مذهبه في وحدة الوجود، وخوف من التصـريح به في صورة واضحة متكاملة في كتاب، أو جزء من كتاب، خشية اعتراض المعترضين، وإنكار المنكرين: "فقد أذاعه مشتتاً بين ثنايا التفصيل. مختلطاً بمسائل الفقه والحديث والكلام والتفسير وغيرها... وليس من شك في أنه تعمد هذا التشتيت لعناصر مذهبه إمعاناً في إخفاء حقيقته الكاملة، وضناً به على من ليس أهلا ً له"([20])، ولو شـرح "مذهبه بلغة واحدة، لوضحت معانيه، وارتفع الشك في أمره"([21])، وصار من السهل على الباحث أن ينتهي في شأنه إلى حكم محدد ودقيق.

 

ابن عربي بين خصومه ومؤيديه:

    يعـد ابن عربـي من الشخصيات القليلة في العالم الإسلامي التي لازمها - دون انقطاع - اهتمام خاص، منذ أن كانت على قيد الحياة إلى يومنا هذا. وتنوع هذا الاهتمام وتعدد؛ مـن تأيـيد، وموالاة، ونصـرة، وكثرة تلاميذ، إلى إنكار، ومعارضة، وخصومة، ونقد بلغ درجـة الـتكفير. ولقـد كان تأثيره - على غير العادة - في جل التيارات الإسلامية ومذاهـبها؛ سنية وشيعية، ظاهرية وباطنية. وبتعدد الأتباع والمؤيدين، تعدد الخصوم، وقـد كـان دوماً بين هؤلاء وأولئك شد وجذب، كانت الغلبة فيه أحياناً للأتباع، وأحـياناً للخـصوم، بحـسب جملـة من الظروف والمعطيات: المذهبية، السياسية، الاجتماعية، والحضارية... إلخ.

بالرغم من أن خصوم ابن عربـي يتوزعون في مذاهب مختلفة، إلا أن أغلبهم يتركـز في مدرسـة الحنابلة([22])، ويعود الإنكار على ابن عربـي إلى الفترة التي كان فيها على قيد الحياة. وقد تكون رحلته من المغرب إلى المشرق بسبب سلطة الفقهاء بالمغـرب، وكثـرة تربصهم بالصوفية، وبأهل النظر عموماً. كما أن تجربة ابن رشد، ومحنته، التي وإن انتهت بسلام وبعفو سلطاني، غير أن لفظ التراب المراكشـي لجثمانه، ونقلـه إلى (قرطبة)، ومن قبله استدعاء السلطان الموحدي لـ (أبـي مدين شعيب بن الحسين الأنصاري) (520هـ/ 1123م - 594 هـ/ 1197م) إلى بلاطه للمحاكمة، كما ذهب إليه البعض، وإن كـان هناك من ذهب إلى أن تلك الدعوة كانت بهدف معالجة الخليفة، الذي يبدو أنـه كان مريضاً نفسياً.. كل هذا دفع بابن عربـي إلى الهجرة نحو المشرق، خاصة وأن هناك دلائل على أن ابن عربـي لم تكن له علاقة ود مع البلاط الموحدي. ولكـن رحلته إلى المشرق لا تعني أن خصومة الفقهاء له، وحتى مناكفة بعض الصوفية له، قد انقطعت، بل حصل العكس، إذ سجن في (مصـر) بوشاية بعض الفقهاء، لما سمعـوه مـنه في علم الأحوال. وقد سعى (علي بن فتح البجائي)، أحد علماء المغـرب، إلى السلطان، في إطلاق سـراحه. ولاطلاع فقهاء ومتصوفة مصـر على ما يزخر به المغرب من أرباب الحقائق، ألف ابن عربـي (رسالة روح القدس)، وبعث بها إلى صاحبه الصوفي: عبد العزيز بن أبـي بكر القرشي المهدوي. ونظراً لتربص الفقهـاء به، ما كانت الشروحات التي يقوم بها ابن عربـي، من حين لآخر، لبعض مـؤلفاته، أو التي يقوم بها تلامذته، إلا محاولة توضيح آرائه، والدفاع عنها. ولقد كان بعـض تلامذتـه، مـثل: بدر الحبشي، وابن سودكين، نذرا نفسيهما للدفاع عن شـيخهما، وتكفلا بنقل انطباعات قرائه إليه، خاصة من الفقهاء الذين ينكرون عليه بعض آرائه الصوفية التي تميز بهما.

وفي الفقهـاء، يعد ابن تيمية (661هـ/ 1263م 728هـ/ 1328م) النموذج الأمـثـل لخـصوم ابن عربـي، بل يعد المرجع الأساس في الحكم عليه بالكفر والزندقة، وعلى فتاويه يستند جل مكفري ابن عربـي، ومن على شاكلته من المتـصوفة والفلاسفة وعلماء الكلام: من (المعتزلة)، إلى (الأشاعرة)، إلى (الشيعة)، و(الفارابــي)، و(ابن سينا)، فـ (الغزالي)، و(ابن الفارض)، و(الصدر الرومي)، و(ابن سـبعين)، وغيرهـم. ولم يسلم من نقد ابن تيمية ربما إلا الرعيل الأول من السلف الــصالح، وبعـض ممن هم على مذهبه، والمعتدين بمنهجه. وكان ابن عربـي من أكثـر مـن صب عليهم (شيخ الإسلام) جام غضبه، وسلط عليهم سيف تكفيره، وسوط الحكم بالخروج عن الملة([23]).

حـتى أن كتب (ابن تيمية) تكاد لا تخلو من ذكر (ابن عربـي)، والرد عليه، في جـل المسائل التي طرقها. ولم يكتف بالرد عليه في نصوص مبثوثة في فتاويه، حتى خصه بعناوين من تصانيفه، مثل: (رسالة في الرد على ابن عربـي)، رسالة رد فيها ابن تيمية على ابن عربـي في فكرة إيمان فرعون، وأحاط خلالها بمسائل أخرى، مثل (ختم الولاية)، وعلاقة النبوة والولاية، ومصدر علم الولي... إلخ من المسائل المرتبطة بقضية الإيمان والكفر، التي بنى عليها ابن عربـي موقفه من مسألة إيمان فرعون، وبنى عليها ابن تيمية موقفه من الإبقاء على تكفير فرعون، وتكفير من شك في كفره، ناهيك عمن قال بإيمانه.

 وذهـب ابـن تيمية في نقده لابن عربـي إلى القول بأن تعلق صاحب (فصوص الحكم) بالفلسفة، وحسن ظنه بها، دون أصول الإسلام، أخرجه إلى الإلحاد المحض. وللـرد على تكفير ابن عربـي، قام ابن عطاء الله السكندري (658- 709هـ/ 1260- 1309م) بالدفاع عن شيخه، وناظر ابن تيمية، وحاول معه جاهداً إقناعه بأن الفصوص كالفتوحات لم يخرج فيه ابن عربـي عن النص، ذلك لأن ابن تيمية ذهب في إحدى رسائله إلى القول بأن ضلال ابـن عربــي، وأفكـاره الـتي يكفـر لأجلها، تضمنها كتاب الفصوص، لا كتاب الفـتوحات، بـل ذهب إلى حد القول إنه كان يحسن الظن بابن عربـي، وإنه طالع بعض كتبه ولم يجد فيها ما يسيء الظن به، حتى اطلع على الفصوص، فوجد فيه ما يجب تكفيـر ابـن عربـي لأجله. وفي هذا الصدد قال ابن تيمية: "وإنما كنت قديماً ممن يحـسن الظن بابن عربــي، ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد، مثل كلامه في كثير مـن (الفـتوحات)، و(الكنة)، و(المحكم المربوط)، و(الدرة الفاخرة)، و(مطالع النجوم)، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص، ونحوه"([24]).

يـبـدو في هـذا الـنص مدى اطلاع ابن تيمية على مؤلفات ابن عربـي بـتعدادها، وذلـك ليـبين بأن تكفيره له ليس لمجرد آرائه الصوفية، بل لما جاء في (فـصوص الحكم)، وليبين بأن جل ما جاء في (الفتوحات المكية) لا يخدش عقيدة صاحبها، بل يعظمه ويجله، وهو موقف لا يشاطره كل الفقهاء الذين تصدوا لابن عربـي. حتى أن البعض من مناصري الشيخ، مثل (الشعراني) (898 973هـ)، في دفاعهم عنه، قالوا بأن بعض ما في الفتوحات قد يكون مدسوساً عليه، وبهذا تكون قصة تكفير ابن تيمية لابن عربـي مردّها ما في كتابه (فصوص الحكم)، أكثر من باقي أعماله الكثيرة. لهـذا قـال له ابن عطاء الله السكندري (709هـ/ 1309م) بأن كل ما في الفـصوص من نصوص مطابق لما في الفتوحات، وهي تحتاج إلى عمق في الفهم والتأويل فقـط، ومـرافعة التلميذ عن الأستاذ. لذلك خلص ابن تيمية، حسب ما ورد في المناظرة التي جرت بيـنهما، إلى القول لـ (ابن عطاء الله السكندري): "أحسنت والله، إن كان صاحبك كما تقول، فهو أبعد الناس عن الكفر، ولكن كلامه لا يحمل على هذه المعاني فيما أرى". ليخـتـم الصوفي، في الأخير، دفاعه عن ابن عربـي بقوله: "إن له لغة خاصـة، وهـي مليئة بالإشارات والرموز والإيحاءات، والأسـرار والشطحات". ونتـيجة المناظـرة بـين الرجلين كانت: إنه لو كان ابن عربـي كما يدافع عنه تلميذه فهو بريء من كل ما وجه إليه من تهم تكفّره وتخرجه من الملة.

ومـن خـصوم ابن عربي، الذين لهم وقع خاص، وكان تكفيره له رد فعل واضـح، هـو: (برهان الدين البقاعي) (809 -885هـ/ 1406 1480م)، صـاحب كتاب: (مصرع التصوف، أو تنبيه الغبـي إلى تكفير ابن عربـي، وتحذير العـباد من أهل العناد). فلقد ترك هذا الكتاب أثراً كبيراً، سواء على المؤيدين له، أو على الخـصوم والمنكـرين على ابن عربـي، أو على المعارضين من المنتصرين له، المـدافعين عنه. وقـد برز كل ذلك في الرد المكثف على صاحب هذا الكتاب، وباستخدام المفردات نفسها، مثل: (تنبيه الغبـي بتبرئة ابن عربـي)، و(تنبيه الغبـي في تنـزيه ابن عربـي). ولم تتوقف الردود عند هذا الحد، بل استمر الحوار بظهور مؤلفات تكفر، وأخرى تبرّئ إلى يومنا هذا.

ويــشاطر (البقاعي)، صاحب (الفتاوى)، في أن دواعي تكفير ابن عربي تضمنها كتابه (فصوص الحكم) أكثر من غيره من المؤلفات، حيث قال: "وكفـره في كـتابه الفـصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهـراً، حـتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره، وضلاله"([25]). ولكثرة تركيزه على (الفصوص) أشار (البقاعي) إلى أنه يمكن اعتبار كتابه (التنبيه) رداً علـى الفصوص فقط، حيث قال: "وسميت هذه الأوراق: تنبيه الغبي علـى تكفــيـر ابـن عـربـي، وإن شئت فسمّها النصوص من كفر الفصوص، لأني لم أستشهد على كفره وقبيح أمره، إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه"([26]).

ويذكر أحد الباحثين الجزائريين بأن انتقاد البقاعي لابن عربي يشبه إلى حد كبير انتقاد ابن تيمية له: مـا يلاحـظ على ما جاء في كتاب برهان الدين البقاعي أنه يشبه إلى حد كبير ما وجّهه ابن تيمية لابن عربـي من مكفرات، وما تجعله أهلاً لكلمة وحكم الـزنديق، بالـرغم من أنه لم يستند على أقوال ابن تيمية، وكأنه أراد القول بأن تكفــيـر ابـن عربـي ليس مسألة تعني ابن تيمية فقط، بل هي مسألة يجمع عليها الفقهـاء، وهذا ما يفسـّره ورود العدد الهام من الأسماء التي كفّرت ابن عربي في کـتابه، وكذا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال العلماء التي استند عليها في الحكم على ابن عربـي بالكفر والزندقة.

وقـبل أن يتـناول بعض المسائل والآراء الأكبرية بالنقد، بيّن البقاعي بشكل مجـرد من هو الكافر، ومن هو الزنديق، ثم راح يسقط أقوال ابن عربي، وبعض آرائـه الـصوفية والكلامـية، على تلك المعايير، ليجعل القارئ يستنتج بمفرده كفر وزندقة ابن عربـي. ومن المسائل التي كفّر البقاعي ابن عربـي بهـا، مسألة التنـزيه والتشبيه، وعده فيها في زمرة القرامطة من الإسماعيلية، بل عده أكثر انغماساً في أفكار الباطنية من الباطنية الذين امتزجت آراؤهم العقدية بالأفكار الفلسفية الوثنية. ومن المسائل التي كفّره لأجلها أيضاً: فكرة الإنسان الأكبر والعالم الأصـغر، ونظـرته لآدم الجامـع لصورة العالم والحق... إلخ من المسائل والآراء الأكبرية([27]).

ولتدعيم موقفه من ابن عربـي حشد (البقاعي) فريقاً من أسماء العلماء وأقـوالهـم فـيه، منها: فتوى زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (725 806هـ/ 1325 1406م) بتكفير ابن عربـــي، في حديثه عن قوم نوح، وفي فكرة (الوحدة) المدركة في نصوصه النثرية، وخاصة في أشعاره. وكذلك فتاوى كل من: بدر الدين حسين بن الأهذل (المتوفى سـنة 855هـ/ 1451م)، والعز بن عبد السلام (المتوفى سنة 660هـ/ 1262م)، وابـن الجزري الشافعي، وأبو حيان بن يوسف الأندلسي، وابن عبد السبكي، والفاسي، وعيسى بن مسعود الزواوي، والقائمة طويلة.

لم يكـن موقف البقاعي هذا من ابن عربـي قد انتظر طويلاً، لتظهر الكتب الكـثيرة في الرد عليه. بل ولأنه أفتى بتكفير الغزالي أيضاً، أقام له بعض العلماء - بزعامة الـشيخ تقي الدين بن قاضي عجلون (841هـ- 928هـ/ 1438م 1522م)-، جلـسة مع جمع العلماء والقضاة بـ(الجامع الأموي)، في شهر رجب من سنة 884هـ، الموافـق لشهر سبتمبر 1479م، للنظر فيما صدر منه من فتاوى، وتمّ في الأخـير إصـدار فتوى بتكفيره. ونجم عن ذلك أن هجمت جماعة الناس على برهان الدين البقاعي في بيته بدمشق، وأساءوا إليه إساءة بالغة([28]).

بعـد ابـن تيمية والبقاعي، فإن كل الفتاوى الصادرة في ابن عربـي لفكره الفلـسفي الصوفي، تدور في فلك فتاوى هذين العلمين، وبصورة خاصة فيما صدر عن ابن تيمية، لأنه أكثر تدقيقاً في أفكار ابن عربي، وأكثر الفقهاء تنقيباً في الفكر الفلـسفي والكلامـي، حـتى أضـحى مرجعاً هاماً في نقد الفلاسفة والصوفية ومـناهجهم. ومـا نقـده للمنطق الأرسطي، ولأفكار الفلاسفة وعلماء الكلام في نظريات: (الجوهر الفرد)، و(قدم العالم)، و(علم الله بالجزئيات)، وغيرها من النظريات والأفكـار، إلا أكبـر دلـيل على ذكاء الرجل، وإحاطته بالفكر الفلسفي والصوفي والكلامي؛ لهذا فإن كل الانتقادات الموجهة لابن عربـي، منذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر ميلادي) لا تخرج في مجملها، ولا تبلغ - في جل الأحيان - الجدية التي انتقد بها ابن تيمية ابن عربـي، وسائر الصوفية والفلاسفة، وبقي كل من يروم نقد ابن عربـي، يردد أحياناً مقالة برهان الدين البقاعي، وما استشهد به من آراء بعض العلمـاء، وفي جـل الأحيان يردد ما قاله ابن تيمية، ولا يتعداه، سواء في التدقيق أو التعليل، حتى يومنا هذا.

وتجدر الإشارة إلى أن كتب ورسائل البقاعي انتقلت من مصـر إلى الحجاز، وأعيد نشـرها من جديد، وبحث بعض الطلاب عن رسائل مصـرية قديمة كُتبت زمن تلك الفتنة، فأعيد نشـر وتحقيق بعض الرسائل التي أُلفت في ذمّ ابن عربي، واعتبار كتاباته (قبوحات هلكية) لا (فتوحات مكية).

وقد أحصـى البعض، عدد العلماء الذي يعتقدون في ولاية ابن عربي، من المشـرق والمغرب، أن عددهم زاد على (180) عالمًا، وأن عدد من يميلون لابن عربي، ولم يصنفوا في تفسير وشـرح كلماته، (30) عالمًا.. من بين هؤلاء من كان مذهبه شافعيًا وحنبليًا، ومن كان من أهل الحديث، ومن كان من أهل الفقه، ومن كان من القضاة. كل هؤلاء في وقت واحد، على اختلاف مشاربهم وعلومهم، اتفقوا على أن هذا الرجل عبقرية قلّ أن يجود الزمان بمثلها.

ونبّه أحد الباحثين المصـريين المعاصرين إلى أن رسالة البقاعي، لاقت ذيوعاً وانتشاراً واسعاً عند خصوم التصوف، وأن آراءه وأفكاره حول مخالفة التصوف الوجودي للثوابت من عقائد الإسلام اعتمدت من قبلهم بحفاوة، دون أن يتم الالتفات إلى صوفية البقاعي، التي يظهرها كتابه (عنوان الزمان في تراجم المشايخ والأقران)، وكذلك تفسيره للقرآن الكريم، وهو - بحسب إقراره، وتأكيد علماء عصـره - لم يكن ليحمل قيمة علمية لولا اعتماده على الحرّالي المراكشـي الصوفي (المتوفى سنة638هـ)، صاحب كتاب (مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل)، والمشهور بإتقانه لعلم الحروف من منطلق صوفيّ، وهو من المدرسة الصوفية الحاتمية نفسها! فلماذا يتمّ اعتماد كلام البقاعي في مسألة، ولا يلتفت إلى الأخرى؟ ألا يثير ذلك في النفوس سؤالاً حول حقيقة التكفير ودواعيه، وبحث المسألة بشكل أوسع اعتمادًا على وثائق اجتماعية وتاريخية([29])؟!

ففي عام 1952م نشـر عبدالرحمن الوكيل(1913 1971م)، رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في (مصـر)، كتابين للبقاعي؛ هما: تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد، وعنون نشـرته بـ(مصرع التصوف). جاءت هذه النشـرة كإعلان عن موقفه إزاء التصوف، فبعد أن تلقّى تعليمه في الأزهر، أنعم الله عليه بصبح جديد، كما يذكر في مقدمة هذه النشـرة، بالتعرف على الشيخ محمد حامد الفقي (1892 1989م)، رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية الأسبق في مصـر، الذي أحبّ من خلاله نصوص ابن تيمية، وتبنّى موقفه العقدي من ابن عربي. كان عبدالرحمن الوكيل من خصوم التصوف المشاهير في وقته، وتزامن مع نشـرته للنصوص التراثية للبقاعي، إصداره كتيبًا لنقد أفكار الصوفية، وإظهار معايبهم، حمل عنوان (صوفيات)، وسّعه - فيما بعد - نظرًا لإقبال الناس عليه في مصـر والشام، وأصدره بعنوان جديد عام 1955م، يلخّص رؤيته للتصوف: (هذه هي الصوفية)، سـرعان ما انتشـر هذا الكتاب في مصـر، وأعيد طبعه في سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية.

ولا بد من الإشارة إلى أن المؤرخ الكبير ابن خلدون أدلى بدلوه في هذه، وقد مال ابن خلدون إلى إثارة الشك في إمكان المعرفة الصوفية، ويظهر ذلك من استعماله لفعل (زعموا ... يزعمون) عند حديثه عن مضمون مؤلفات متصوفة المعرفة والنظر، كما جردهم من كلّ خصوصية أو إضافة، حيث ردّ آراءهم إلى الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي، وأرجع الكثير من أفكارهم واصطلاحاتهم إلى مقالات الشيعة الإمامية. ويبدو هجوماً على أهل الصوفية المتفلسفين أثناء إقامته بمصـر، يتضح هذا من قوله: "وأما تأليفهم مثل (الفصوص) و(الفتوحات) لابن عربي، و(البد) لابن سبعين، و(خلع النعلين) لابن قسـي، و(عين اليقين) لابن برّجان، فيجب إذهاب أعيانها - متى وجدت- بالتحريق بالنار، والغسل بالماء، حتى ينمحي أثر الكتابة، لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين والعقائد، ويتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعاً للمفسدة العامة "([30]).

وبهذا يكون ابن خلدون قد استقر بموقفه من التصوف على الموقف ذاته الذي انتهت إليه الدوائر الفقهية المالكية المحافظة في الأندلس والمغرب، وفي إفريقية، ممثلة في مقالة الشاطبي، الذي يرى" أن الصوفي من استقام على الشـريعة"([31])، وأنه لا بد من إخضاع أقوال الصوفي وأفعاله إلى حاكم يحكم عليها، ما إذا كانت من جملة ما يتخذ ديناً أم لا، والحاكم هو الشـرع. وقد صنف الشاطبي المتأخرين من المتصوفة ضمن "من اتبع الهوى والتقليد، وزل بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال"، وهم في نظره "نابتة متأخرة الزمان، ممن يدعي التخلق بأخلاق تصوف المتقدمين". ولئن اعتبر الشاطبي التصوف مرتبة عليا من مراتب التدين، تقوم على الأخذ بالعزائم، واجتناب الرخص، والاستباق إلى الخيرات، والنزوع إلى الكمال البشـري، بمراعاة حقوق الله، وتفضيل الآخرة على الأولى، إلا أنه قد قرّر - من ناحية أخرى- عموم الشـريعة لجميع المكلفين، وشمولها لعالمي الغيب والشهادة، إذ رد إليها كل ظاهر وباطن، وحكّمها في شتى المبادئ والأصول الصوفية، بأن جعلها مقياساً لسائر المقامات والأحوال، ومحكَّاً للكشف والكرامات وخوارق العادات([32]).

ومن النماذج المعاصرة الناقدة لابن عربـي: الباحث المصري الأزهري (كمال أحمد عون)، صاحب كتاب (الفتوحات المكية، وما وراءه من أيادٍ خفية)، ردّد فيه أحكام ابن تيمية، وزاد مركزاً على مسائل في الفـروع، وعلـى بعض المسائل التي طبعت فلسفة ابن عربـي؛ كوحدة الوجود، ومـسألة الصفات، وفكرة إيمان فرعون.. إلخ، منتهياً إلى دعوة السلطات منع تداول مؤلفات ابن عربـي. ولا ينأى عنه ناقد ومكفر آخر لابن عربـي، بكتابه: (نظرات في معتقدات ابـن عـربـي)، مرتكـزاً - أيضاً - على فتاوى ابن تيمية، وبعض المعارضين للنهج الكـشفي الصوفي من الدارسين المعاصرين، ومتوقفاً مع بعض المسائل، منها: الوسيلة الـتي يزعم ابن عربـي أنه تلقى علومه ومؤلفاته عن طريقها، وهي (الإملاء الإلهي)، أو (الإمداد الـرباني)، ومـسألة الأسماء والصفات، وحضورها القوي في فلسفة ابن عربـي الـصوفية. ثم أورد جملة من أقوال كثيرة التردد لبعض العلماء، في ابن عربـي، وفي التـصوف. في حين ذهب أحد المعاصرين المتبنين لمذهب ابن تيمية، إلى استخلاص النتيجة التالية، وهي: "لا شك أن الشيخ السلفي لم يتجن في حكمه، لأن صاحب المـذهب - ابن عربـي - يقرّ بوقوعه في حيرة... وكان شيخ الإسلام يستند إلى الآيات القرآنية، ليبرهن على زيف الكشف والإلهام الذي يدعيه صاحب مذهب وحدة الوجود، فيهاجمه بعنف، ويضعه في مصاف الزنادقة المتشبهين بالعارفين، أتـباع فـرعون والقـرامطة الباطنيين"([33]). وهكذا، يبدو من خلال هذا النص -وبوضـوح- أن هذا الدارس لم يكتف باجترار وتكرار ما قيل منذ القرن الثالث الهجـري - وكان ابن تيمية في ذلك مجتهداً -، ولكنه يبدو أيضاً أنه غير مطلع ولا مدرك لمعنى اصطلاحات: (الحيرة)، (القلق)، و(الحركة)، في فلسفة ابن عربـي. ومـن ثم يبدو أنه غير مدرك لمحتوى وحقيقة الانتقادات التي وجهها ابن تيمية، ومدى تعمقه في فهم مراد ابن عربـي في كل هذه القضايا المطروحة للدراسة والنقد([34]).

ما يلاحظ في نقد المكفّرين لابن عربـي، تكرار المسائل نفسها المترددة في فلسفة ابن عربـي الصوفية، مثل: الأسماء والصفات، علاقة وجود العالم بأسماء الله وصفاته، ومصدر معرفته الـتي كـثيراً مـا قال إنها (وهب إلهي)، وأحياناً: إملاء من الرسول(صلى الله عليه وسلم)، وبعض التأويلات لنصوص قرآنية وأحاديث نبوية، تتماشى ومنحاه الصوفي الفلسفي، ثم فلسفته في علم الحروف، وما تعلق بها من رمزية حيرت الأتباع قبل الخصوم، خاصة وأن ابن عربـي يتحدث عن إمكانية التصـرف بعالم الحروف في الواقع، وغيرهـا مـن المسائل العقدية، وحتى الفقهية. هذا بالرغم من أن ابن عربـي كان صريحاً في المسائل الاعتقادية، بأن نادى بالإيمان الفطري الخالي من التأويل، كما أنه في الفقـه تغلـب علـيـه نـزعة نصية ظاهرية واضحة، بحكم البيئة التي نشأ فيها، خصوصاً أنه في تعاملـه الخاصة، في تعمقه وباطنتيه، لا يهمل الظاهـر بالكلية. سواء في الفقه، أو في أي ميدان معرفي كان، فالظاهر والباطن يؤلفان، ولا كمال بانعدام أحدهما.

ولهذه الأسباب نرى المؤرخين له يقفون منه أحياناً موقف الحيرة: يقول ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852هـ/ 1449م)عنه: "قال أشياء عدّها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة، وعدّها طائفة من العلماء من إشارات العارفين ورموز السالكين، وعدها طائفة من متشابه القول، وإن ظاهرها كفر وضلال، وباطنهـا حق وعرفان"([35]).

 وقال (المنّاوي)، في (طبقات الأولياء): "وقد تفرق الناس في شأنه شيعاً، وسلكوا في أمره طرائق قدداً، فذهبت طائفة إلى أنه: زنديق لا صديق، وقال قوم: إنه واسطة عقد الأولياء، ورئيس الأصفياء. وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته، وتحريم النظر في كتبه"([36]).

وهكذا نجد الشيخ يؤكد تارة الالتزام بظواهر الشـرع وحدوده، ويرد كل حقيقة لا ترتبط بالشـريعة أصلا ً، فيقول: "إياك أن ترمي ميزان الشـرع من يدك في العلم الرسمي، بل بادر إلى العمل بكل ما حكم به، وإن فهمت منه خلاف ما يفهمه الناس، مما يحول بينك وبين إمضاء ظاهر الحكم، فلا تعول عليه، فإنه مكر إلهي بصورة علم إلهي، من حيث لا تشعر. ثم قال: واعلم أن تقديم الكشف على النص ليس بشـيء عندنا، لكثرة اللبس على أهله، وإلا فالكشف الصحيح لا يأتي قط إلا موافقاً لظاهر الشـريعة، فمن قدم كشفه على النص، فقد خرج عن الانتظام في سلك أهل الله، ولحق بالأخسـرين أعمالاً"([37]). ويقول في الفتوحات: "وكل مجاهدة وخلوة وتصفية نفس على غير شـريعة، ولا مؤمن بها، على ما هي عليه في نفسها، فإن العلم الذي يكون عليه، ويجده عند هذا الاستعداد، ليس بعلم ميراث، ولا للحق إليه نظر نبوي..."([38]). ويقول في مكان آخر: "فأصل رياضتنا ومجاهدتنا، وجميع أعمالنا، أعطتنا هذه العلوم والآثار الظاهرة علينا، إنما كان من عملنا بالكتاب والسنة، وفيضنا روحاني إلهي، لكوننا سلكنا على طريقة الهيئة تسمى شـريعة، فأوصلتنا إلى المشرع، وهو الله تعالى، لأنه جعله طريقاً إليه".

ولعل تمسك ابن عربي بالشـريعة على هذا النحو، هو ما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أشد خصومه، يعترف له بأنه أقرب متفلسفة الصوفية للإسلام، لأنه يقرر الأمر بالشرائع، أكثر بكثير مما يأمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات"([39]).

وهكذا استطاع ابن عربي - بما ألف وكتب - أن يؤثر في التصوف الإسلامي؛ منهجاً ومعرفة وسلوكاً، وقد تعدى أثره المشـرق العربي إلى فارس عن طريق عبد الرحمن جامي (817-898 هـ/ 1414 1492م)، الشاعر الفارسي المعروف، الذي كتب شـروحاً وتعليقات على مؤلفات ابن عربي، منها شرح الفصوص بالعربية، وشـرح آخر بالفارسية (شرح نقش الفصوص). كذلك امتد أثره إلى بلاد الأناضول، من خلال كتابات الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي (المتوفى سنة 672هـ/ 1273م)، وتلاميذه: صدر الدين القونوي (672هـ/1274م)، وشمس تبريزي(645هـ/1248م)، وشـراحه ومريديه، الذين حاولوا فهم ديوانه (مثنوي معنوي) في ضوء الفصوص، وعلى طريقته. وهكذا استطاعت شخصية ابن عربي الفذة أن تجذب إليه عدداً من التلاميذ المعجبين به، تأثروا به، وأخذوا عنه، فتألفت منهم طريقة صوفية، عرفت فيما بعد باسم (الطريقة الأكبرية)، لم يكتب لها الانتشار الواسع بين جماهير الناس، كما انتشـرت طرق صوفية أخرى معاصـرة  ولاحقة لها: كالقادرية، والرفاعية، والبدوية، والشاذلية، والنقشبندية، بسبب اتهام الفقهاء له؛ في حياته، وبعد مماته([40]).

 

 

تحليل فلسفة ابن عربي في وحدة الوجود

   فلسفة ابن عربي الصوفية تتجه إلى بيان قضايا ثلاث، تتشابك في مجموعها، وتتشعب عن مشكلة رئيسية شغلت فكره، وجهد هو من أجل توضيحها في صورة مذهب فلسفي متماسك الأجزاء، أعني مذهب وحدة الوجود، وما تفرع عنه من القول بوحدة الأديان، وقِدَمِ النور المحمدي. ولقد سبقت الإشارة إلى جوانب من مذهبه في القول بوحدة الأديان وقدم النور المحمدي، ويهمنا الآن تبسيط الكلام في مذهبه في الوحدة، تلك القضية التي، كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي: "ملكت عليه زمام تفكيره، فصدر عنها، وعاد إليها، في كل ما قاله، وما أحس به"([41]).

ومذهب الوحدة المطلقة لم يكن له وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل ابن عربي، فهو الواضع لدعائمه، والمؤسس لمدرسته، والمفصل لمعانيه ومراميه، والمصور له بتلك الصورة النهائية، التي أخذ بها كل من تكلم في هذا المذهب من المسلمين من بعده. "فقد قرر المذهب في صورته النهائية، ووضع لها مصطلحاً صوفياً كاملا ً استمده من كل مصدر وسعه أن يستمد منه؛ كالقرآن، والحديث، وعلم الكلام، والفلسفة المشائية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والغنوصية المسيحية، والرواقية، وفلسفة فيلون اليهودي، كما انتفع بمصطلحات الإسماعيلية الباطنية، والقرامطة، وإخوان الصفـا، ومتصوفة الإسلام المتقدمين عليه"([42]). ولهذا صار أيضاً من العسير، في حياته وبعد مماته، أن يربط المذهب بجهة دون أخرى، كما ادعى المستشـرق النمساوي (فون كريمر) (المتوفى سنة1889م)، حيث ربط القول بوحدة الوجود بأصول بوذية. وكما فعل المستشرق البريطاني (مرجليوث) (المتوفى سنة1940م)، حين زعم بأن البحث النظري في عقيدة التوحيد كافٍ في تفسير نشأتها وتطورها. وكما فعل المستشـرق الألماني (أدالبير ميركس) (المتوفى عام 1909م)، الذي انتهى إلى أن مذهب وفكرة وحدة الوجود في الإسلام، يونانية في الصميم، وأنها مستمدة من الكتابات المنسوبة إلى ديونيسيوس الأريوفاغي([43]).  

والقول بوحدة الوجود، كمذهب في الميتافيزيقا يحاول تفسير الوجود، قديم جداً، وقد عرف الفكر الفلسفي صوراً وأشكالاً مختلفة منه، وهذه الأشكال المختلفة للمذهب تتخذ في الأساس إحدى صورتين:

الأولى: صورة الاعتقاد بأن الله هو الطبيعة، فالحق هو الجامع لكل شيء في نفسه، الحاوي لكل وجود، الظاهر بصورة كل موجود، يتخلل ويسـري في كل صور وأشكال الموجودات. وبناء على هذا تستحيل الطبيعة إلى مجرد وهم وحلم وخيال يخترعه العقل، ويصير وجودها كوجود الظلال بالنسبة لأشخاصها، وصور المرايا بالنسبة للمرئيات، وهكذا لا يكون للعالم المادي المتكثر وجود حقيقي منفصل قائم بذاته، بل باعتبار أنه: إما وجوه وتجليات عقلية (للجوهر الكلي)، أو صفات وأحوال (للكل الإلهي الواحد). وتغدو الألوهية الحقيقة الكلية المطلقة الأزلية الأبدية التي تستوعب الكون كله، فكل الأشياء في العالم واحد، والله هو الكل في الكل. وتعرف هذه الصورة من المذهب بـ(نفي العالم - A cosmism)، وهي صورة موغلة في الروحانية الخالصة، وهذا اللون من القول بالوحدة المطلقة مذهب لا يؤمن بالخلق أصلاً، سواء اتخذ الخلق صورة: الخلق الإبداعي دفعة واحدة (الخلق من العدم على مذهب المتكلمين)، أم صورة الخلق الفيضـي المتدرج في الكمال (على مذهب الفلاسفة الفيضيين)، أم بالتولد الذاتي، ذلك لأن كل تصور للخلق ينتهي بداهة إلى القول بطرفين للوجود: الخالق والمخلوق، وهو أمر هنا لا ينسجم مع القول بوجود واحد مطلق، بل ومناقض له أصلاً([44]).

والثانية: وهي الصورة المقابلة للوحدة الروحية المطلقة، وفيها تغدو الألوهية اسماً على غير مسمى، وينحصـر الوجود فيما يتناوله الحس، وتقع عليه التجربة، ويصبح العالم المادي هو "الكل الواحد الحقيقي، ولا شيء سواه"، وتعرف هذه الصورة في الفكر الفلسفي (: (pan – cosmism أو  (Naturalism. ومذهب الشيخ الأكبر من صور النوع الأول فهو روحاني خالص ينكر العالم الظاهر، ولا يعترف بالوجود الحقيقي إلا الله الحق، أما الخلق فظل للوجود الحق، ولا وجود له بذاته. وقد جاء ابن عربي بمذهبه في الوحدة المطلقة مشتتاً بين ثنايا (كتبه ورسائله)، لا سيما في كتابيه (الفتوحات المكية)، و(فصوص الحكم)، وذلك مخافة عرضه في صورته المتكاملة دفعة واحدة في كتاب أو جزء من كتاب، تحاشياً لسخط الفقهاء واتهامهم. فيقول في الفتوحات: "وأما التصـريح بـ (عقيدة الخلاصة)، فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبينة، لكنها متفرقة، فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها، ويميزها عن غيرها، فإنها العلم الحق، والقول الصدق، وليس وراءها مرمى"([45]).

وهكذا يرى ابن عربي ألا موجود إلا الله، فهو الوجود الحق، والوجود المطلق، وجوده أزلي أبدي، بل هو الوجود كله، ولا موجود سواه: "وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله؛ ونحن إن (كنا موجودين فإنما كان وجودنا به، فما ظهر من الوجود بالوجود إلا الحق، فالوجود الحق وهو واحد، فليس ثم شيء هو له مثل)، لأنه لا يصح أن يكون ثمَّ وجودان مختلفان، أو متماثلان.. إن الحقيقة الوجودية واحدة لا كثرة فيها ولا تعدد، والكثرة التي تشهد بها الحواس، إنما هي مجرد صور ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية، أو أوهام يخترعها العقل، وليس ثمة فرق بين الحق والخلق، اللهم إلا بالاعتبار والجهة، فالله حق في ذاته، وخلق من حيث صفاته، وهذه الصفات نفسها عين الذات، وبذا يجتمع الواحد والكثير، والقديم والحادث، والباطن والظاهر.

يقول ابن عربي: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها":

فالحق خلق بهذا الوجه فاعتـبروا          وليس خلقاً بذاك الوجه فاذكروا

جمع وفرق، فإن العين واحــدة             وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر

وبناء على تصوره هذا للوجود، فليس ثمة خلق، ولا وجود من عدم، على نحو ما يذهب إليه المتكلمون، بل مجرد فيض وتجل. "وما دام الأمر تجلياً أزلياً، فلا محل لمادة أو صورة، ولا لعلة أو غاية، ولا لاتفاق أو مصادفة، وإنما يسير العالم وفق ضـرورة مطلقة، ويخضع لحتمية لا تخلف فيها، وعالم هذا شأنه لا يتحدث فيه عن خير وشـر، ولا عن قضاء وقدر، ولا عن حرية أو إرادة، ذلك لأن الكائنات كلها تخضع (لقانون الوجود العام). إذن، فلا حساب، ولا مسؤولية، ولا مدلول لطاعة أو معصية، ولا ثواب ولا عقاب، بل الجميع في نعيم مقيم، والفرق بين الجنة والنار في المرتبة لا في النوع، ورحمة ربك وسعت كل شيء. وهكذا نشأت في مجال (الأخلاق) جبرية صارمة هيمنت على الوجود كله، وتعطلت معها إرادة الإنسان، وتوقف تفكيره، وامتنعت التفرقة بين الخير والشـر، وسقطت قيمة الإلزام الخلقي، وارتفعت المسؤولية الأخلاقية بزوال ركنيها الرئيسيين: العقل، وحرية الإنسان"([46]).

يقول ابن عربي:

الحكم حكم الجبر والاضطرار          ما ثم حكم يقتضي الاختيار

إلا الذي يعزى إلينا، فـــفــي         ظــاهـــره بـأنـه عن خيــار

لو فكر الناظر فيما رأى                  بأنه المختار عن اضطرار([47])

ويؤكد أستاذ الفلسفة المصـري علي سامي النشار (1917 1980م) أن مصدر هذه الفكرة هي الفلسفة الأفلاطونية المحدثة. وكما هو معلوم، فإن صاحب فكرة تأثير الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، والغنوصية المسيحية، هو الباحث المصري (أبو العلا عفيفي)، التي أدرجها في مقدمة تحقيقه لكتاب (فصوص الحكم) لابن عربي([48]).

ويضيف النشار بأن ابن عربي ليس في تصوفه الفلسفي صوفياً مسلماً، إنما هو يشبه في التصوف ابن سينا في الفلسفة، فابن سينا - فيلسوف الإسلام، كما يدعي - هو امتداد للفلسفة اليونانية، كذلك محيي الدين بن عربي إنما هو فيلسوف متصوف لا يمثل الإسلام السني أو الشيعي بشـيء، بل إن تصوفه ينتهي بسـرعة خطيرة إلى مذهب فلسفي يضعه في نسق الفلسفة العام، لا الفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص، فهو ليس رجل تصوف وزهد، بل هو فيلسوف غنوصي صناعي ممتاز، مجمع، موفق، متسق([49])، نراه يقول:

كنت قبل اليوم أنكر صاحبي           إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة          فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان، وكعبة طائف،            وألواح توراة، ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت          ركائبه، فالحب ديني وإيماني

ويستطرد الباحث الفلسفي المصري (النشار) بالقول، إن هذه المحبة ليست دينية، إنما هي وحدة الوجود، والفلسفة فقط. أو حين يقول: "خلقني وخلقته، ولقد أوجدني وأوجدته". فهذا فيلسوف لا يمت إلى الإسلام بصلة، وإن كان هو يدعي أن تصوفه هو الإسلام وحده، وهو الذي حوى كل ما قبله من ديانات، وأن المسيحية أخطأت خطأها الكبير حين قالت: "إن الله هو المسيح، بينما الوجود واحد، أو الوجود إله"([50]).

لذلك، يعد الباحث التونسي (محمد الكحلاوي) رأي (سامي النشار) الأكثر غرابةً وطرافةً من رأي أستاذه  المصري (أبو العلا عفيفي)، حين يعقد موازنة بين مصطلحات الفيلسوف اليهودي (فيلون الأسكندري)(20 ق.م 50م)، وما يقابلها من مصطلحات لدى الشيخ ابن عربي، أي بعبارة أخرى: أن ابن عربي استمد معالم النظرية الإلهية في الكلمة (اللوغوس) من مؤثرات يهودية، كما فعلها سلفه الحلاج (المقتول عام 309هـ/922م) حينما يقول([51]):

               مزجت روحك بروحي              كما تمزج الخمرة بالماء الزلال

 ومن جهة أخرى، فقد نبّه أحد الباحثين المصـريين المختصين في التصوف، إلى سؤال وجهه بعض الطلبة إلى الدكتور (علي جمعة)، مفتي الديار المصـرية السابق، حول الموقف من ابن عربي وفلسفته، بالقول: "حمل بعضُ الطلاب إلى الدكتور علي جمعة سؤالاً، قرأه في مصنف يخاصم فكر ابن عربي على الأرجح، ويتناص مع ما رواه السخاوي (المتوفى سنة 902هـ/ 1492م)، في القول المبني عن ترجمة ابن عربي، يستفسـر فيه الطالب عن إمكانية تأويل كلام ابن عربي، وكيف يمكن ذلك؟ وقد نصّ العلماء على أن التأويل يلتمس فحسب لكلام المعصوم، وصاحب العصمة التامة هو النبي، أما دون ذلك، فلا حاجة بنا إلى التماس تأويل، فيمن نطق بما يشبه الكفر، أو ألغز في كلامه، وأثار جدلاً، فالبعد عنه أولى"([52]).

التمس الدكتور علي جمعة في إجابته، من أقوال علماء الفقه وأصوله، ما يشير إلى اجتهاد ابن عربي، مثله مثل ابن حزم، اجتهد وأصاب أو اجتهد وأخطأ فهو مأجورٌ، لأنه بين الصواب والخطأ، لا بين الحقّ والضلال، كما يتحدث البعض قديمًا، أو كما يعاد الحديث عن ذلك اليوم.

وفي إجابة الشيخ جمعة أكد أن ظاهرية ابن عربي أثّرت فيه، فنحا في كثير من مسائل العقيدة إلى الفكر الظاهري. على أن الأكابر من العلماء عرفوا للشيخ جمعة قدره ولم ينكروا عليه، ومن ذهبوا إلى تكفير الدكتور علي جمعة هم قلّة، ممن لم يفهم عبارته([53]).



[1]-  ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق وتقديم: عثمان يحيى، تصدير ومراجعة: إبراهيم مدكور، المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع معهد الدراسات العليا بالسوربون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1405هـ/1985م، ج1، ص173

[2] - محمد الكحلاوي، الفكر الصوفي في إفريقية والغرب الإسلامي (القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 2009م، ص115.

[3] - ابن تيمية، الرسائل والمسائل، بيروت، دار الكتب العلمية، 2000م، ص185.

[4] - المصدر نفسه، ص180.

[5] - صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت، الشركة العالمية للكتاب، 1994، ج1/ ص569، عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984م، ج2، ص624 625، حيث ينسب وحدة الوجود إلى سبينوزا ودولباك وديدرو واليسارية الهيغلية ؛ عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة.

[6]- يوسف زيدان، الفكر الصوفي بين عبدالكريم الجيلي وكبار الصوفية، الزقازيق، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1419هـ - 1998م، ص205.

[7] - المرجع نفسه، ص206.

[8]- ولتر ستيس، التصوف والفلسفة، ص260.

[9]- الكحلاوي، الفكر الصوفي في إفريقية، المرجع السابق، ص117.

[10]- إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، القاهرة، سمير للطباعة والنشر، 1983م، ج1، ص74.

[11] - ابن عربي، فصوص الحكم، مصدر سابق، ج1، ص142.

[12] - ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق وتقديم، يحيى عثمان، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع معهد الدراسات العليا بالسوربون، 1405هـ - 1985م، المجلد الأول، ص313.

[13] - الكحلاوي، الفكر الصوفي في إفريقية، المرجع السابق، ص118.

[14] - عثمان يحيى، مؤلفات ابن عربي، نقله إلى العربية: أحمد الطيب، دار الصابوني، 1991م، ص17.

[15]- نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، ص21.

[16] - الكحلاوي، الفكر الصوفي في إفريقية، المرجع السابق، ص119.

[17]- أبو العلا عفيفي، مقدمة فصوص الحكم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، 1365هـ - 1946م، ص9.

[18] - ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ج5، ص310.

[19] - المقري، نفح الطيب، ج2، ص362؛ الكتبي، الوافي بالوفيات، ج2، ص478.

[20] - أبو العلا عفيفي، ابن عربي في دراساتي، مقالة في الكتاب التذكاري، ص16؛ عرفان عبد الحميد فتاح، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، المكتب الإسلامي، بيروت، 1394هـ - 1974م، ص224.

[21]- المرجع السابق، ص13؛ وانظر: أبو العلا عفيفي، مقدمة فصوص الحكم، ص9

[22] - ساعد خميسي، ابن العربي المسافر العائد، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1431هـ - 2010م، ص15 .

[24] - مجموع الرسائل والمسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، ج1، ص179.

[25]- البقاعي، برهان الدين، مصرع التصوف أو تنبيه الغبي الى تكفير ابن عربي، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، بيروت، دار الكتب العلمية، 1400هـ - 1980، ص18 19.

[26]- المصدر نفسه، ص22.

[27]- ساعد خميسي، ابن العربي المسافر العائد، ص20 21.

[28] - المرجع نفسه، ص21 22.

[29]- حقق محمادي بن عبدالسلام الخياطي تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير، ونشره في كتاب يحمل هذا العنوان مقارنًا بين نصوصه والنصوص الواردة عند البقاعي، طُبع الكتاب ضمن منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي الرباط، الطبعة الأولى: 1418هـ/1997م.

[30]- ابن خلدون، المقدمة، ديوان العبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ج1، ص362.

[31]- الكحلاوي، المرجع السابق، ص110 نقلاً عن الشاطبي في كتابه( الاعتصام)، ج1، م1، ص242.

[32]- توفيق بن عامر، مواقف الفقهاء من الصوفية في الفكر الإسلامي، حوليات الجامعة التونسية، الرقم 18، 1995م، ص59.

[33]- مصطفى حلمي، ابن تيمية والتصوف، دار الدعوة، الإسكندرية، 1982م، ص327.

[34]- ساعد خميسي، المرجع السابق، ص24.

[35]- ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ج5، ص310.

[36]- ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج5، ص192؛ المناوي، جامع كرامات الأولياء، ص119.

[37]- اليواقيت والجواهر، ص31.

[38]- عرفان عبد الحميد، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ص225 226، نقلاً عن مقالة محمد غلاب، المعرفة عند محيي الدين بن عربي، الكتاب التذكاري،  القاهرة، 1969م، ص198.

[39]- ابن تيمية الحراني، جامع الرسائل والمسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، 1969، ج1، ص176.

[40]- أبو الوفا التفتازاني، الطريقة الأكبرية، الكتاب التذكاري، 1969م، القاهرة، ص 295 353.

[41]- أبو العلا عفيفي، فصوص الحكم، ص24.

[42]- المصدر نفسه، ص7.

[43]- نيكلسون، في التصوف الإسلامي، ص73 وما بعدها.

[44]- عرفان عبد الحميد فتاح، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ص237.

[45]- المرجع نفسه، ص238 نقلاً عن كتاب الفتوحات المكية، ج1، ص47.

46- محمد توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق الصوفية عند ابن عربي، الكتاب التذكاري، 1969م، ص179.

[47]- ديوان ابن عربي، ص217.

[48]- أبو العلا عفيفي، مقدمة فصوص الحكم، ج1، ص7.

[49]- علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام،القاهرة، دار المعارف، الطبعة التاسعة، ج3، ص31.

[50]- المرجع السابق، ج3، ص31.

[51]- المرجع السابق، ج3، ص32.

[52] - لعل علي جمعة يستند في إجابته إلى ما روي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (823-926هـ / 1420-1520م) من أقوال فيما يخصّ مطالعة كتب ابن عربي وابن الفارض، وقد حظيت هذه الأقوال بعناية بعض الباحثين في الأزهر، فخصص جزءًا من دراسته عن زكريا الأنصاري لدراسة هذه المسائل. ينظر: خالد محمد عبده، ابن عربي في مصر، ضده الإخوان، دبي، مركز المسبار للدراسات والبحوث، نوفمبر/ كانون الأول 2019م.

[53] - خالد محمد عبده، ابن عربي في مصر، المرجع السابق، مركز المسبار للدراسات والبحوث.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق