03‏/10‏/2022

بمناسبة ذكرى تحرير مدينة القدس والمسجد الأقصى بقيادة صلاح الدين الأيوبي في 2/ أكتوبر/ 1187 المصادف ليوم 27 رجب 583هـ .. قيادة صلاح الدين الأيوبي النموذجية وضرورة الاستلهـام منها لهذا العصر

 د. هادي علي
قليلون أولئك القادة العظام في التاريخ القديم والحديث، الذين يكونون موضع الإعجاب والاحترام لدى الأصدقاء والأعداء في آن واحد، وعلى مستوى عال جداً، مثل شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي يعترف أعداؤه قبل أنصاره ومحبيه بقيادته النموذجية، ودوره في توجيه مسار الأحداث التي مرت بها الأمّة الإسلامية في مواجهة غزو خارجي استهدف وجودها ومستقبلها..
   ومن جانب آخر، فإن شخصية هذا القائد العظيم ليست مجرد حدث وقع في الماضي وانتهى، بل لنا أن نقول بأنه يمثل ظاهرة حية وضرورية لكيفية نهوض الأمّة وبلوغها قمة الانتصار بعد حالة الانحطاط والانكسار التي دامت لعقود من السنين، بحيث جعلتها فريسة سهلة في أيدي أعدائها..
   لقد ظهر القائد صلاح الدين الأيوبي في منطقة الشام ومصـر، التي  تمثل قلب منطقة الشـرق الأوسط على مرّ الزمان، في مرحلة تاريخية حساسة ومعقدة، ومشابهة كثيراً للظروف والأوضاع التي تمرّ بها المنطقة في هذا العصر.
   لذلك، فإن محاولة فهم هذه القيادة، وكيفية ظهور هذه الشخصية على مسـرح الأحداث، ضرورية ومفيدة لفهم طبيعة هذا العصـر، وكيفية مواجهة التحديات والتعامل معها..
   إن شخصية هذا القائد ما كانت حدثاً منفرداً حدث فجأة واستطاع أن يلعب هذا الدور التاريخي المشهود له بالعظمة، بكلّ ما في معنى الكلمة من معان وأبعاد، بل كان ظهوراً طبيعياً نابعاً من تسلسل الأحداث والتغيرات التي حصلت خلال الحقبة الزمنية التي تعاقبت على المنطقة نتيجة للهجمات الأوروبية التي باتت معروفة بـ(الحروب الصليبية)، والتي قادتها الكنيسية الكاثوليكية ضد العالم الإسلامي، وتمكنت خلالها من السيطرة على مناطق شاسعة ومهمّة على سواحل البحر المتوسط، ومن ضمنها احتلال مدينة القدس والمسجد الأقصـى المبارك، بعد أن قاموا بارتكاب أبشع جرائم القتل الجماعي داخل المدينة المقدسة.
 هذه الأوضاع الشاذة على المنطقة، والجرائم الأليمة بحق سكانها، أحدثت صدمة كبيرة لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي في حينها، بحيث أيقظتهم من سباتهم وغفلتهم. وعلى أثر هذه الأحداث، بدأت محاولات النهوض التي كانت تهدف إلى تقوية روح المقاومة ومواجهة الأعداء المحتلين، والتي تحولت فيما بعد إلى قضية أساسية لعموم المسلمين في ذلك العصر.
وقد مرت حالة النهوض هذه والوصول إلى القدرة على مواجهة الأعداء وإنجاز الانتصارات بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: بدأت بحالة اليقظة، ومن ثمّ ظهور علماء ومرّبين كبار؛ من أمثال الأمام أبو حامد الغزالي، والشيخ عبدالقادر الكيلاني، وغيرهم، الذين لعبوا دوراً أساسياً في إصلاح المجتمعات المسلمة، وتربية جيل جديد من المسلمين، وإعداد قادة سياسيين وعسكريين قادرين على إحداث تغييرات جذرية في الواقع السياسي المتخلف، بهدف توجيه الطاقات والإمكانات لمواجهة الأعداء ومقاومتهم؛ ابتداءً من (عماد الدين الزنكي)، وابنه الملك (نور الدين الزنكي)، الذي مهّد السبيل لبروز القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي استطاع بحكمته وحنكته القيادية أن يعمل على إنهاء الدولة الفاطمية، التي كانت تسيطر على مناطق واسعة في مصـر وشمال أفريقيا لأكثر من قرنين من الزمان، ممّا ساعده على استخدام الطاقات المجمدة والثروات المخزونة لتلك الدولة في خدمة أهالي تلك البلاد، وإنشاء القلاع، والإعداد لمواجهة الصليبيين.
   وفي مرحلة ثانية، وبعد موت الملك (نور الدين محمود الزنكي)، عمل صلاح الدين على ملء الفراغ القيادي الذي تركه (نورالدين) في بلاد الشام، واستطاع أن يسيطر على الدويلات والإمارات المتناحرة والمتصارعة فيما بينها، والتي كثيراً ما كانت قيادات بعض تلك الإمارات تستنجد بالأعداء من أجل بقائها وبسط نفوذها على حساب المصالح العليا للمسلمين.
   وبعد ذلك عمل صلاح الدين على توحيد بلاد الشام ومصـر، بالإضافة إلى مناطق الحجاز وكوردستان واليمن وغيرها، وتكوين جيش قوي، تمهيداً للمواجهة الكبرى ضد الصليبيين.
والمرحلة الثالثة والأخيرة، هي مرحلة التحرير، أي تحرير المناطق المحتلة من قبل الصليبيين، والتي بدأت بالمعركة الفاصلة في جبل (حطين)؛ تلك المعركة المشهورة التي انتهت بانتصار حاسم لصالح المسلمين، ودحر القوات المعادية، والتي أصبح الطريق بعدها مفتوحاً لتحرير مناطق واسعة كانت ترزح تحت الاحتلال الصليبي منذ عشـرات السنين، وصولاً إلى تحرير مدينة القدس والمسجد الأقصـى المبارك، وذلك في 2/ أكتوبر/1187 الميلادية، المصادف لـ 27/ رجب/583 هجرية.
  و كما أشـرنا إليه في البداية، فإن شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي ما كانت حدثاً عابراً في الماضي القديم وانتهى، بل هو يمثل ظاهرة حية جديرة بالاقتداء والاستلهام ومحاولة تكرارها بصورة أو بأخرى من قبل الشعوب المسلمة، خاصة في هذا العصـر، وفي منطقة الشـرق الأوسط بالذات، التي تمر بظروف مشابهة لتلك الظروف التي كانت تعاني منها شعوب المنطقة في تلك المرحلة التاريخية التي ظهر فيها القائد صلاح الدين الأيوبي. فوجود دولة الاحتلال الإسرائيلي، ووقوع مدينة القدس والمسجد الأقصـى مرّة أخرى تحت الاحتلال، وتعرّضها  للاعتداءات المتكررة من قبل العصابات الصهيونية بين حين وآخر، والصمت المشبوه والمقصود من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي وكثير من حكومات المنطقة.
هذا الواقع المرير يذّكرنا بضـرورة الاستلهام من التاريخ، ومن العصـر الذي ظهر فيه صلاح الدين، والاستفادة منه، في ثلاثة أبعاد مختلفة:
البعد الأول هو بعد إسلامي عام، حيث إن الظروف الشاذة والاستثنائية التي تمر بها الشعوب الإسلامية في هذه المنطقة، بحاجة ماسة إلى حالة من اليقظة والنهوض التي تمهد لإحداث إصلاحات وتغييرات جذرية، خاصة في الواقع السياسي السـيء والمتخلف، بهدف تهيئة الظروف والأسباب الضـرورية للتقدم وتحقيق العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى الإعداد لمواجهة المخططات المعادية التي تستهدف إبقاء حالة التخلف والفوضى والتبعية السياسية والاقتصادية التي تعاني منها شعوب المنطقة.
  البعد الثاني يتعلق بالشعب الكوردي، الذي ينتمي إليه القائد صلاح الدين والأسرة الأيوبية، وقيادته لشعوب المنطقة في تلك المرحلة التاريخية الحساسة التي مرّ بها العالم الإسلامي. وهذا الأمر بحد ذاته مفخرة وموضع اعتزاز لهذا الشعب، حيث إن قسماً من أبنائه تمكنوا من بناء دولة مترامية الأطراف، وقادوا شعوب المنطقة، لتحقيق إنجازات سياسية وانتصارات عسكرية مهمّة ضد الاحتلال الصليبي. ومعلوم أن الكورد شاركوا بشكل فعّال مع صلاح الدين في المجالات العسكرية والإدارية؛ من أربيل جنوباً، وحتى الهكاري شمالاً.. ممّا يدلّ على أن هذا الشعب بإمكانه أن يلعب أدواراً مهمة في مراحل تاريخية أخرى، وأن يكون جزءاً فعالاً ومؤثراً، كغيره من الشعوب الإسلامية في المنطقة.
  والبعد الثالث والأخير يتعلق بقضية فلسطين، خاصة مدينة القدس والمسجد الأقصـى، والتي - كما هي عليه الحال - تعاني من الاحتلال، وذلك بمساندة القوى الغربية؛ وريثة القوى الصليبية التاريخية، مستغلين ضعف وصمت بعض الأنظمة العربية والإسلامية. وهي حالة مشابهة تماماً لما كانت عليه هذه المنطقة في زمن صلاح الدين الأيوبي، غير أن هذه الأوضاع السيئة هي بلا شك أوضاع غير طبيعية، فرضت على المنطقة بشكل أو بآخر، ولا بد أن تشهد تغيرات ضرورية وجذرية بالاتجاه الصحيح لصالح الشعوب وقضاياها، وعلى رأسها قضية مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، وتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني.
    لهذه الأسباب نرى أنه من الضـروري أن تعمل الشعوب المسلمة، ونخبتها المثقفة والمخلصة، على الاستفادة من نموذج قيادة صلاح الدين الأيوبي، وكيفية مواجهة الأحداث في عصـره، بهدف استلهام الدروس في كيفية النهوض ومواجهة التحديات، والخروج من هذه الأوضاع المقيتة التي تعاني منها هذه الشعوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق