03‏/10‏/2022

قراءات في كتب إسلامية

أ. د. عماد الدين خليل

زاد الذاكرين والذاكرات، للأستاذ نكتل يونس كشمولة:

يعرّف المؤلف (ذِكْر الله) بأنه "ليس مجرد الذكر بالشفة واللسان، بل هو ذكر بالجنان"، وأنه "إن لم يرتعش له الوجدان، وتهتز له أوتار

القلب، وتعش به النفس... إن لم يكن مقروناً بالخشوع والخضوع والتقوى... فلن يكون إلاّ أصواتاً لا معنى لها، وحركات لا فائدة منها. إنما الذكر هو التوجّه إلى الله بكنه الهمة والانقطاع عمن سواه، كي يحضـر القلب حيّاً مع الربّ، خالصاً من كل شاغل... ولا يتم إلاّ باستحضار جلال الله، وعظمته، والحياء منه، واستحضار المخافة لغضبه وعقابه... حتى يصفو الجوهر الروحي في الإنسان، ويتصل بمصدره الأصيل".

وهو تعريف دقيق، مرسوم بعناية تغني عن كل لجاجة أو جدل. ولسوف يجد القارئ نفسه - وهو يتعامل مع الكتاب - إزاء منظومة من الضوابط المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، تجعل النشاط الروحي للمسلم يتدفق في قنواته الصحيحة بعيداً عن الشطط والانحراف.

وبالتالي، فإن معطيات الكتاب ستصبّ - بشكل من الأشكال - في سياق التراث الروحي ـ الوجداني للإسلام، وستلتقي مع النشاط (الصوفي)، ليس على سبيل الاتّباع الذي يتمرد على الضوابط والمعايير، وإنما على سبيل الدعوة لجعل النشاط الصوفي نفسه يأتمر بكتاب الله وسنة رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام -، ويتحقّق بالانسجام والتوافق مع مطالبهما، ويتأبّى - بالتالي - على أية محاولة تسعى لأن تندفع به ذات اليمين أو ذات الشمال.

وقد يفسـّر هذا لجوء المؤلف حتى إلى (ابن القيّم الجوزية) يستمدّ منه التعاليم، تماماً كما فعل الأخ الشيخ (فيضـي الفيضي) في بحثٍ له عن ابن تيمية وتوجّهاته الصوفية (!!)، فيما قد يدهش له من يرى في الرجلين - رحمهما الله- أعمدة ما اصطلح عليه بالفكر السلفي الذي يرفض التصوّف ويدينه.

والحقّ أنه ليس ثمة خط فاصل بين السلفية والتصوّف الحق المنضبط بمعايير الكتاب والسنّة.. ها هنا حيث يصير قطبان كابن تيمية وابن القيّم معلّميْن للزهد والتصوّف والإيغال في مراقي الروح، وحيث يصير إمام كالغزالي، ومتصوّف أستاذ كالكيلاني، سلفيين من طراز أوّل، يعلّمان الناس كيف يكون كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ولا شيء قبلهما، ومعهما، وبعدهما - الهادي والدليل في رحلة الحياة الدنيا ودروبها المتشعبّة، وفي التعامل مع مفرداتها وتفاصيلها التي ما لها من نفاد.. وكيف تكون (لا إله إلا الله) خفقة للفؤاد، وحياة الروح !

لقد آن الأوان، كرة أخرى، لتحقيق الوئام في سياقات الأنشطة الإسلامية المخلصة التي تبتغي وجه الله وحده، فلا يميل بها هوى أو جوْر.. تتجاوز الجدل العقيم.. تهدم الجدران الفاصلة بين الأصوات التي تنبض بالتوحيد المطلق، وتمضـي قدماً لتحقيق كلمة الله في القلب والعقل والوجدان.

إنها - كلّها - إذا أردنا الحق، روافد من الماء الفرات، تفترق هنا وهناك.. تتدفق تياراتها بإيقاع خاص، كلّ يحمل طعمه وعذوبته المتميزة، لكنها جميعاً تصبّ في البحر الواحد.. تؤول إلى الهدف الواحد.. وتصير ممرّاً إلى قاعدة هذا الدين ومرتكزه: شهادة (لا إله إلا الله)، هذه التي يسميها (غارودي) التأسيس الأكبر والأخطر لهذا الدين.. هذه الشهادة التي تستطيع - إذا أحسن التحقّق بها - أن تنقل الجبال عن مواضعها !

والكتاب ينتمي - بشكل من الأشكال - إلى ما اصطلح عليه بأدب الرقائق، الذي يمثل نمطاً من الإبداع الأدبي يستهدف ترقيق الإحساس الإيماني، وجعله ينبض بالوجد والمحبة الإلهية لكل الخلائق والظواهر والموجودات والأشياء، متوسّلاً إلى ذلك بالتعابير والمفردات العذبة، مستخدماً تقنيّات البلاغة العربية الخصبة، محاولاً اعتماد: القصة القصيرة، والموعظة الحسنة، والحدث المؤثّر، والخبرة الحيوية، والواقعة التاريخية المركّزة، والحكمة المأثورة، لإغناء نسيجه، وجعل كلماته قديرة - فعلاً - على تحقيق هدفها المنشود: شفافية الروح، ووهج الوجدان الإيماني، قبالة كثافة المادة، والتكاثر بالأشياء التي تحاصر الإنسان، وظلمات الليل البهيم الذي يفترس عالماً لا إيمان فيه !

المنهج الذي يعتمده الكتاب يغطي مفردات الذكر كافة، ويتابعها في كل مكان: في الكتاب والسنة وكتب القدماء ومعاجم اللغويين، وهو يخصّص مقاطع لأثر الذكر في حياة المؤمن، وشفاء النفس، وإصلاح القلب، ويتحدث عن أساليب الذكر في تفاصيله الإجرائية، ودور المرشد ، أو (المعلّم)، في توجيه أنشطته.. موثقاً ذلك كله بمعطيات القرآن والسنة وكتب القدماء ومعاجمهم..

والعنوان يحمل دلالته ولا ريب.. إنه زادٌ للذاكرين والذاكرات.. فهو خطاب للمرأة، كما هو للرجل.. سواء بسواء.. فليس ثمة في ثوابت التصوّر الإسلامي فئة أعلى، وفئة أدنى.. في الخطاب الإلهي الموجّه لبني آدم، يصير الكل سواء..

وحجم الكتاب مناسب.. وضروري.. إنهم في الغرب يسمّونه (كتاب الجيب).. يضعه المرء في جيبه حيثما سار.. لكي يقرأ فيه كلّما أتيحت له فرصة للقراءة، في زمن الضـرورات الضاغطة، والوقت الشحيح.. من ثم، فإن كتباً كهذه ستكون أكثر رواجاً.. ولقد جرّبها المؤلف مع كتابه السابق (دعاء المضطرين) فنفذ من السوق في أسابيع قلائل، وأعيد طبعه مرة ومرتين وثلاثاً..

ويزيد الكتاب قيمة أن يلحق الأخ المؤلف به، لأوّل مرة، مخطوطة موجزة بعنوان (بشائر الخيرات)، منسوبة للشيخ عبد القادر الكيلاني - رحمه الله - تتضّمن منظومة من الصلوات والأذكار، يبدأ كل مقطع منها بالصلاة والسلام على سيدنا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، الذي جاء يحمل (البشـرى) للمؤمنين، الأوّابين، المخلصين، الخاشعين، الصابرين، المتقّين، المخبتين، الكاظمين، المحسنين، الشاكرين.. إلى آخر الصفات التي تجعل من (المؤمن)، في هذا العالم، منار هدى للمدلجين في رحلة الحياة الدنيا.. يضـيء الدرب، ويدلّ الحيارى على الطريق.. ليس بكلمات تقال، وعبارات تزجى، ولكن بالفعل، والمجاهدة، والتحقّق، والبذل والعطاء، والأسوة الحسنة.. إنه فعل متواصل في صميم الصيرورة الخلقية والروحية والوجدانية، تلك التي اتهمنا العقل الغربي النصـراني بتضّحلنا، وفقرنا فيها، والتي قال - على لسان عدد من أصحابه - إن عطاءها لا يكاد يقارن بما تقدّمه النصرانية لأتباعها!

لقد كذبوا.. فها هي ذي كتب الرقائق تملأ رفوف مكتباتنا.. وها هو الشيخ الكيلاني، من بين عشـرات ومئات وألوف من أساتذة الخبرة الروحية الذين تحدّثتْ عنهم كتب التراجم، يردّ ، بدعائه العذب في (بشائره)، محاولاً أن يضع نفسه، وأتباعه، ومريديه، والمؤمنين في العالم: قبالة الرسول المعلّم الذي انطوت خبرته الروحية والوجدانية على أسرار الكون، واجتازت مغاليق الملكوت، وصعّدت في المراقي صوب سدرة المنتهى.. وهو القائل: (لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً)..

اقرأوا هذا النشيد العذب للكيلاني، مرة ومرتين وثلاثاً، تمعّنوا في كلماته، فإنكم غير واجدين فيها شطحة أو انحرافاً مما جاءتنا عدواه من إشراقيات الغنّوصيين ووصفات الأفلاطونية المحدثة، التي يختلط فيها فكر اليونان الوثني، بتحريفات القدّيس بولس، بهوس بعض المحسوبين على هذا الدين.

إننا ها هنا في قلب التوحيد.. قبالة اثنتين لا ثالث لهما: كلمات الله سبحانه، وهدْي رسوله الأمين (صلى الله عليه وسلم) ، الذي يستمد بشرياته من الله وحده -جلّ في علاه-.

إن (زاد الذاكرين والذاكرات) لهو - بحقّ - محاولة مخلصة على طريق اللقاء الموعود.. اللقاء الذي لا خيار فيه بين أبناء هذا الدين وفئاته جميعاً. فما داموا يبتغون وجه الله وحده.. ويرجون إليه الوسيلة أيّهم أقرب.. ويحرصون على رضاه.. ما داموا يتوسّمون، أو يحاولون في الأقلّ، أن يسلكوا الدروب والمعارج التي مضـى رسولهم المعلّم (صلى الله عليه وسلم) مصعّداً في مراقيها.. ما داموا - جميعاً - يعرفون جيداً أن شهادة (لا إله إلا الله) هي الأمانة الكبرى في أعناقهم، وأن أي انحراف عن مطالبها، بأيّ قدرٍ كان، مهما ضؤل وتخفّى، يقودهم إلى البور والخسران.. فإنهم في عباداتهم.. في أذكارهم.. في خفقان قلوبهم.. في توهّج أرواحهم، وهي تخفق وتضطرب مسبّحة بحمد الله، شاكرة نعماءه، منزّهة توحّده المطلق.. أخوة على طريق واحد.. بعضهم يسلك هذا الدرب، وبعضهم يسلك ذاك.. لكن الدروب جميعاً تؤول في نهاية الأمر، إلى الهدف الواحد، وتتمحور عند النقطة المركزية التي يقوم عليها الكون والوجود، وتدور بها الأفلاك والمقادير.

(لا إله إلا الله) مرّة أخرى وثانية وثالثة، حيث تصير الكلمة فعلاً روحياً قديراً - كما يقول غارودي - على تحويل الجبال عن مواضعها !

ألم يأن الأوان بعد لتجاوز الجدل العقيم، والتحوّل بدلاً عنه، إلى حالة من الحوار الفعّال الذي يتأسّى بأدب الخلاف العفّ الذي علمنا إياه الأجداد، ويمضـي للتحقّق بالتصالح والوفاق بين أبناء هذا الدين قبالة كل قوى العالم المضادة التي تحدّ أنيابها لتمزيقهم والإتيان عليهم؟

ألم يأن الأوان بعد؟

 

 كلمات في التصوّف، للشيخ فيضي الفيضي

على صغر حجم الكتاب، فإن المرء يتبيّن فيه أكثر من قيمة إسلامية يؤكدها المؤلف

حيناً، ويكشفها للناس حيناً آخر، بعد إذ كادت أن تطمس عليها الجهالة والأهواء والضلالات.

فثمة، من جهة، تأكيد على رؤية الإسلام الشمولية التي حققت ذلك الوفاق المدهش بين سائر الثنائيات التي تمزّق الحياة البشـرية، والتي ما قدر دين أو مذهب، غير الإسلام، أن يلّمها في سياق ويمنحها التوحد واللقاء.

فإن السماء والأرض، الآخرة والدنيا، الروح والجسد، الباطن والظاهر، الإيمان والعقل، الفرد والجماعة، الحرية والعدل، وسائر الثنائيات الأخرى، تجد في هذا الدين فرصتها لتجاوز الصـراع والاقتتال.

إننا نتذكر هنا عبارات، سيلتقي بها القارئ، للشيخ أحمد الرفاعي؛ المتصوّف المعروف: "لا تقولوا كما يقول بعض المتصوّفة: نحن أهل الباطن، وهم أهل الظاهر. هذا الدين الجامع باطنه لبّ ظاهره، وظاهره ظرف باطنه. لولا الظاهر لما بطن، ولولا الظاهر لما كان ولما صحّ. القلب لا يقوم بلا جسد، بل لولا الجسد لفسد، والقلب نور الجسد "!

وهو يتساءل بكلمات تحمل دلالتها فيما نحن بصدده : "أي حالة باطنة للقوم لم يأمر ظاهر الشـرع بعملها؟ واي حالة ظاهرة لم يأمر ظاهر الشـرع بإصلاح الباطن لها؟". ثم يخلص إلى القول الفصل: "لا تعملوا بالفرق والتفريق بين الظاهر والباطن، فإن ذلك زيغ وبدعة".

كما أننا نتذكر هنا استنتاجاً للمستشـرق البريطاني المعروف السير (هاملتون كب ورد)، في كتابه (دراسات في حضارة الإسلام)، يرى فيه أن التصوّف الإسلامي تأسّس بقوة على الاستبصارات الحدسية في القرآن، وأنه تحرك داخل مواقف الإسلام الدينية الأساسية، وهو بهذا العمل كان يكمل التوحيد.

وعلى هذا، فإن الإسلام فتح الطريق لسائر الصيغ والممارسات التي تعين المؤمن على التحقّق، والانسجام، والتعبير عن توقه للالتزام بالشـريعة، والصعود إلى سماوات الروح والإيمان العليا.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنشاط التعبّدي والأخلاقي الذي يشكل محور الكتاب، فإن المرء يلحظ كيف يضمً الإسلام جناحيه على حشود لا تحصـى من النماذج البشـرية التي يكتفي بعضها بالوقوف، وفقاً لطاقاته ومطامحه، عند حدود الشعائر والالتزامات الأخلاقية المحدّدة، لا يزيد ولا ينقص، بينما يمضـي الآخر صعداً، بقوة الروح وطموحها، مجتازاً محطات الإيمان، والتقوى، وصولاً إلى الإحسان الذي هو الهدف - القمة ، هنالك حيث يجد الإنسان نفسه قبالة المشيئة الإلهية التي لا يخفى عليها شيء في الأرض ولا في السماء..

فما يسمى بالسلفي، وما يدعى بالصوفي، وهي مسميات جاءت متأخرة بعض الشـيء، إنما هما - في ضوء هذه الحقيقة - أبناء هذا الدين وأصحابه، ولا يخرج منهم عن الجادة، أو يحكم عليه بالخروج، إلاّ من وسوس الشيطان فارتضـى لنفسه أن يخالف عن أمر الله بالقول أو الفعل.

أن أبا يزيد البسطامي (المتصوّف)، والشافعي (الفقيه)، رحمهما الله ، يحسمان الأمر بهذه الكلمات التي قالاها، كما لو أنهما يلتقيان على ميعاد: "لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغترّوا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي " !

كما أن متصوفاً معروفاً، كالشيخ عبد القادر الكيلاني - رحمه الله -، يعلن بوضوح وحسم أن "ترك العبادات المفروضة زندقة، وارتكاب المحظورات معصية. لا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال ".

هذا ما أراد المؤلف أن يقوله وهو يتعامل مع موقف ابن تيمية - رحمه الله - من التصوّف، أو بعبارة أدق، هذا ما أراد ابن تيمية نفسه أن يقوله.

والكتاب، بتوجّهه هذا، إنما يكشف بالمنهج السليم عن واحدة من الحقائق المهمة المتعلقة بشخصية هذا الإمام الكبير وفكره، والتي كاد أن يضيعّها غبار الخلافات على الجزئيات والفروع. ويقيناً فإن الكثيرين لم يكونوا على معرفة واضحة، حتى لحظة صدور الكتاب، بموقف ابن تيمية من التصوّف، ورأيه فيه !

والكتاب، بعد هذا وذاك، محاولة جادة لإعادة الوفاق بين تيارين من تيارات هذا الدين، اصطرعا طويلاً - للأسف - متشبثين برؤية أحادية الجانب تعمل بمبدأ (إما هذا، أو ذاك)، ولم يقل أحد منهما: (هذا وذاك).. الالتزام والتصوّف.. الأسلاف والتابعون لهم بإحسان، ما داموا جميعاً يمضون على الجادة ملبّين أمر الله وحده، عاملين بتعاليم رسوله الكريم - عليه أفضل الصلاة والسلام-.

إنها بادرة طيبة لتصفية حساب قديم، عانت ديار الإسلام من وطأته منذ زمن بعيد، ولا تزال..

وإذا كان ابن تيمية نفسه، هذا المعلم الكبير، يقول عن الصوفية ما تجدونه أمامكم في هذا الكتاب، فهل يبقى ثمة مبّر للخلاف الذي يتجاوز دائرته المباحة، صوب الكراهية والخصام؟

ولعلّ الفرصة أمام القارئ تكون أكثر غنى وخصباً بصدور الكتاب الذي وعد به المؤلف عن الإمام، والذي لا يعدو هذا الكتيب أن يكون فصلاً من فصوله. وحينذاك سنجد أنفسنا إزاء واحد من النماذج البـشرية الفذة التي صاغها هذا الدين، وهو قادر على أن يصوغها في كل زمن ومكان.

وإنها - والحق يقال - لفرصة جيدة لتصفية حسابات قديمة في هذه المدينة، وكل المدن الإسلامية الأخرى، من أجل العودة إلى الوفاق.. والأسباب قائمة، والهدف واحد.. خطوة من هنا، وخطوة من هناك، يمكن أن تقودنا إلى ما نتمناه جميعاً: التوحّد في دائرة عقيدة كبيرة شاملة، عرفت كيف تضمّ جناحيها على النظام والحرية.. الشـريعة والحقيقة.. الالتزام والانطلاق.. والصـرامة والمرونة..

ذلك بعض ما نتلقاه من هذا المعلم الكبير.. رحمه الله..


حول النظام الإسلامي، للشيخ محمود الآلوسي

يعالج الكتاب، كما يدل عليه عنوانه، جوانب من النظام الإسلامي المتجذر في العقيدة، بدءاً بتوحيد الله سبحانه وعبادته، وانعكاس ذلك على نظام الإسلام والحياة الإسلامية، مروراً بقضية المرأة، والقيم الخلقية، والموقف من ثنائيتي العلم والجهل، والعمل والكسل، وانتهاء بالتشـريع في مصادره، وبعض معالجاته للممارسات الخاطئة، المنحرفة، ذات التأثير المدمر للحياة البشرية، كالزنا وشرب الخمر والسـرقة..

وهكذا، فإن الكتاب لا يستهدف الاستفاضة في دراسة النظام الإسلامي دراسة مستقصية شاملة، وإنما هو - كما يدل عليه العنوان كذلك - عرض لبعض جوانب هذا النظام، قد تتبعه محاولات أخرى لمعالجة الجوانب المتشعبة الخصبة لهذا النظام الإلهي المدهش، الذي لم يكد يترك صغيرة ولا كبيرة في مجرى الحياة البشرية إلاّ أحصاها.

يعتمد الباحث على جملة طيبة من المصادر والمراجع أعانته على متابعة الجوانب التي عالجها بقدر ملحوظ من الاستقصاء والتنويع. وهو لا يكتفي بالاعتماد على النصّ وحده، وإنما يدخل بين الحين والحين لكي يقارن ويحلّل ويستنتج، أو ينتقد ويقوّم، وإن كان المرء يتمنى أن لو كان حضوره داخل البحث أوسع مساحة وأكثر اتساعاً، ولعلّ ذلك يتحقق بالمران الدائب على البحث، في محاولات أخرى قادمة يعد بها هذا الشيخ الشاب الذي يتميز بعشق ملحوظ للبحث، وإقبال نهم على القراءة والاستيعاب.

والحق أن الموضوعات التي اختارها في كتابه هذا تنطوي على أهميتها البالغة، وتأخذ في سلّم الأولويات مكاناً متقدماً، ليس فقط في دائرة النظام الإسلامي، وإنما في النظم والممارسات البشـرية كافة. فمن منا اليوم ينكر الأهمية البالغة لقضية المرأة التي ضلّت بها سبل الوضعيين المعوجة، وفاءت بها الهندسة الإسلامية إلى الصـراط ؟ أو مسألة القيم الخلقية التي انهارت في الحياة الغربية، وأخذت تنذر بالويل، بينما قدر هذا الدين على حمايتها وديمومتها من خلال تجذرها في العقيدة؟ ومن ينكر - كذلك - أهمية العلم الذي يمسك الغربيون اليوم برقابنا بواسطة أعّنته المحكمة، والذي كان كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قد أكدا عليه تأكيداً يوحي بأن أي تهاون معه سيقود الأمة إلى الدمار.. والأمر نفسه بالنسبة للعمل الذي هو أساس الفعل الحضاري، وبغيابه أو تباطئه تنهار الحضارات وتنسحب من التاريخ.

وفق الله الأخ الباحث للمزيد من العطاء، وتنفيذ طموحه بتقديم حلقات أخرى، يستكمل فيها الجوانب العديدة الأخرى لنظام الإسلام الفريد..

ومن الله وحده التوفيق..


تقريظ لكتاب (النقد بين البناء والهدم: رؤية إسلامية)، للدكتور رائد أمير الراشد 

 يأتي هذا الكتاب في سياق (أدب الخلاف) الذي أسَّس له الأجداد، ثم جاء المعاصـرون لكي يضيفوا إليه تقعيداً وتأصيلاً..

وعنوان الكتاب نفسه يسلّم قرّاءه المفتاح الذي به يدخلون، فهو عرض للنقد بين البناء والهدم من زاوية الرؤية الإسلامية، حيث ينطلق من تحديد مفهوم (الخطأ)، الذي هو مناط الأمر كلّه، ثم ينتقل لتحليل النقد البّناء؛ مصطلحاً وتعريفاً ومشـروعية وأنواعاً وضـرورة وشـروطاً وآداباً، لكي ما يلبث - بعد أن يشبعها بحثاً - أن يتحوّل إلى (النقد الهدّام)؛ في أعراضه وأسبابه وأضـراره ووسائل علاجه.

وبهذا يستقصـي جوانب الموضوع بمفرداته وحيثياته كافة، كطبيب متمكن يعرف جيداً كيف يشخص الحالة التي بين يديه، ويحدّد لها أسباب العلاج.

والمؤلف يملك نفساً طويلاً في متابعة كل مفردة من مفردات موضوعه هذا، فلا يكاد يدع جانباً، أو حلقة منه، إلاّ وضعها تحت الأنظار، معتمداً في ذلك صيغة فنية في العرض تقوم على الترقيم، لكي يضبط المعالجة فلا تفلت منها شاردة ولا واردة.

فهو في حديثه عن مفهوم الخطأ، يلفت الانتباه إلى حقائق ينبغي الوقوف عندها، ويعدّد أربعاً منها، وهو في استقصائه لشـروط النقد، يقف عند ستة منها، وهو في متابعته لآداب النقد يضع يديه على ثمانية منها.

ونحن اليوم – وبخاصة في مدينة الموصل – بأمّس الحاجة إلى تحديد ضوابط النقد، كي

لا يشط بنا النوى، ونمارس هدماً، ونحن نريد بناءً.. وما أكثر الذين انجرفوا، وهم ينقدون، في الاتجاه الأوّل، فآذوا أنفسهم من حيث إنهم أرادوا إيذاء الآخرين، وآذوا – قبل هذا وذاك – الحقيقة الموضوعية التي تعاملوا معها، فشوّهوها وانحرفوا بمعطياتها عن مسارها الصحيح.

ها هو ذا المؤلف يبذل جهده الملحوظ، ومن خلال رؤية إسلامية أصيلة، لتحديد ملامح ومسارات العملية النقدية في اتجاهيها، من أجل أن يضع بين أيدينا جميعاً، المعايير السليمة والعادلة، التي يتحتم أن نتعامل بها مع الآخرين، وإزاء الظواهر والأشياء.

ويظل الطريق مفتوحاً لقول المزيد، ما دام أن هذا الدين لا يبخل علينا بتقديمه معايير النقد الهادف الأصيل.

وما هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه، وكما يقول مؤلفه في المقدمة، سوى محاولة "لتحديد صورة ملامح النقد في الإسلام، في ضوء المبادئ والقواعد الأساسية في عملية التغيير والإصلاح، في سبيل توحيد وتقريب المبادئ والمفاهيم، والانطلاق بها  إلى جادة الصواب وبرّ الأمان ".

وإنه – والحق يقال – هدف عزيز، يستحق أن يبذل من أجله الكثير.. وإلى الله وحده نتوجّه بالكلمات والأعمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق