عبد الخالق البرزنجي
ذات أمسية معتدلة الهواء من يوم الخميس على
الجمعة لشهر نيسان، وفي أعقاب تناول وجبة العشاء.. انهمك دارا، وعائلته، وأفراد
بيت والده، بتجاذب أطراف الحديث فيما بينهم بفرح غامر .
أدارت والدة دارا طلعتها نحو ابنها دارا قائلة: يا بني، لِمَ لا نَقُوم بسفرة إلى مدينة (قلعة دزة).. لكي نتفسح قليلاً ونشترِي لأنفسنا شيئاً من الكماليات البيتية، والسلع الإيرانية الجميلة؟..
حدّق أفراد الأسـرة ببعضهم البعض مشدوهين.. لكن قبل أن ينطق دارا، قاطع والده حديث والدته، قائلاً لها: يا امرأة، ألا تدرين بأن نجلك دارا قد
اشترى هذه السيارة المستهلكة عبر الاقتراض والاستلاف من هذا وذاك، وأن أسـرته تعتاش
على هذه السيارة، وعلى راتبه المتواضع، بشق الأنفس؟! الآن ليس زمن السبعينيات، بل نحن
في زمن الثمانينيات.. الحرب المستعرة وصلت إلى حد الغليان.. الحكومة تستشيط غضباً
مع كل صغيرة وكبيرة، وتستفز المواطنين العزّل بالحجج الواهية.. وها أنتِ ترين آثار
الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على العراق.. حصار اقتصادي داخلي خانق، التف حول
رقبة الشعب المظلوم.. ناهيك عن تجريم التعامل مع السلع المهربة من قبل الحكومة..
أو هل تودين ذر الوحل فوق رؤوس عائلته وعائلتنا معاً؟ دعيه وشأنه، وتخلي عن عنادكِ
وتعنتك، لأن طريق السفر بعيد جداً، علاوة على خطورته!.
ردت عليه والدة دارا قائلة: لا تهول
الأمر، فنحن نذهب لسفرة لا تطول أكثر من يومٍ واحد، ولا نود أن ُنحمل كواهلنا مالا
طاقة لنا به.. نشتري بعض السلع البيتية، وبعض الكماليات، علاوة على تغيير الجو،
والتمتع بالمناظر الخلابة لجبال كوردستان، ثم نعود إلى البيت!..
عقب دردشة عائلية كثيفة، وإصرار والدة
دارا على رأيها.. قبل دارا طلب والدته كُرهاً..
في صباح اليوم التالي، انطلق دارا
بسيارته، ومعه والدته وزوجته وطفلتهما الرضيعة، في مسار قضاء (كويسنجق).. مع أخذ شيء
من الطعام معهم.. خلف جبل (هيبت سلطان)، ترجل الكل من السيارة في موقع ملائم
بالقرب من منتجع (جناروك) المتواضع، وتناولوا الفطور بأسـرع وقت ممكن.. لم يتوقف
دارا في أي مكان آخر حتى وصلوا إلى ناحية (سنكسـر)، بالقرب من (قلعةدزة).. هناك
نزل دارا من السيارة، واستفسـر من أحد المواطنين عن ظروف قضاء (قلعة دزة) الأمنية،
وشـرح له نيتهم في زيارة المنطقة.. فيما رد المواطن عليه بأن ظروف المدينة في
الداخل والخارج غير آمنة.. بينما محيط المدينة لا يسلم من القصف المتبادل بين طرفي
العراق وإيران المتحاربين.. أرواح الناس موضوعة على كف عفريت.. علاوة على حظر بيع
وشـراء السلع المهربة.. أنصحكم ألاّ توقعوا أنفسكم في التهلكة!.. تقبل دارا نصيحة ذلك
المواطن، وقفل راجعاً دون استشارة والدته، حتى بلغ مجمع (تووه سووران) السكني..
هناك في الجانب الأيمن رأوا سوقاً مشيداً بالحصير والألواح المعدنية، مليئاً
بالسلع المهربة.. كانت نقطة تفتيش (تووه سووران - رانية) قريبة من هذا المجمع
المشبوه.. وبناءً على رغبة والدته، ركن دارا السيارة أمام السوق المذكورة.. حينما
ترجلوا من السيارة، ودخلوا السوق جماعياً.. كانت السوق خالية من الزبائن.. لم يدر
في خلدهم ما السبب الذي يقف وراء كساد هذه السوق.. لذا بادروا بشـراء بعض السلع
والكماليات سـريعاً، ثم عادوا إلى داخل سيارتهم، وانطلقوا في مسار نقطة التفتيش
القريبة من هناك..
حين بلغوا نقطة التفتيش، أوقف الجندي
المسؤول سيارة دارا، وقال له:
من أين أنتم عائدون؟
دارا: من (سنكسر).
الجندي: إذاً، لِمَ
دخلتم إلى تلك السوق القريبة من نقطة التفتيش هذه؟
دارا: كلفتني والدتي
بالوقوف إلى جانب السوق لشـراء بعض السلع البيتية، لا أكثر ولا أقل.. إن تود أن
تفتش سيارتنا تفضل افعل ما تشاء، على الرحب والسعة..
الجندي: ألا تعلم بأن
شـراء السلع المهربة محظور؟
دارا: كلاً.. (متجاهلاً
ما كان سمعه في سنكسر)..
الجندي: إذن، ارجع إلى الخلف، واركن سيارتك بالقرب من
غرفة التفتيش، وانتظر!..
حين سمعت والدة دارا،
وزوجته، هذا الحديث، نزلتا من السيارة، وشـرعتا بالتوسل إلى الجندي، وإفهامه بأن
دارا ليس له ذنب، وقالت له والدة دارا بأنها هي التي أرغمت ابنها على الدخول إلى
السوق المذكورة، وإلا لم تكن في نية دارا أن يفعل ذلك!
الجندي: ألا ترون أن لا أحد يتجرأ
بالدخول إلى تلك السوق؟
والدة دارا: نحن لا علم لنا بأنكم وضعتم
الحظر على التعامل مع تلك السوق!
لِمَ لا تنصبون لوحة
الحظر أمامها، حتى لا يدخل إليها أحد..
الجندي: كفاكم ثرثرة..
تفضلوا، اذهبوا إلى داخل السيارة، وانتظروا الإجراءات.. لأن عمر ابنكم قد انتهى
أجله هنا!..أنتم مغامرون عنيدون.. وتتجاهلون كل ما ترونه أمام أعينكم عمداً
.
توسّلت والدة دارا من
الجندي منتحبة، كي يدع دارا وشأنه.. لأنهم ليس لديهم علم بهذه المعمعة.. لكن
التوسلات والبكاء لم تكن ذات جدوى.. وفي هذه الأثناء لمحوا رجلاً مرتدياً الزي
الكوردي.. بدا عليه أنه موالٍ للحكومة.. وهو يقترب منهم شيئاً فشيئاً.. ثم حادث
والدة دارا قائلاً: أختي، أنتم انتظروا داخل السيارة.. أنا كنتُ واقفاً في الطرف
الآخر من الشارع العام أراقب ما يدور بينكم وبين الجندي.. كنتُ أعلم بأن هذا
الجندي يتحرش بكم ويستفزكم.. يتبين لي بأنكم بريئون.. لذا آلمني ضميري ووجداني..
لهذا السبب جئتُ لمساعدتكم.. تفضلوا إلى داخل السيارة، وانتظروا رحمة الله سبحانه
وتعالى..
ردت عليه والدة دارا
قائلة: حسناً أخي.. فداك روحي..
بادئ
الأمر، مضى الرجل إلى دارا وسأله: ابني ما مهنتك، ومن أين جئتم؟
دارا: أنا مدرس، وجئنا من محافظة أربيل.
الرجل: لِمَ جئتم إلى هنا؟.
دارا: من أجل شـراء بعض الحاجيات البيتية.
فهم الرجل قصد دارا.. وعرف بأنهم قادمون
إلى هذه المنطقة بنية حسنة.. ثم عاد إلى جوار الجندي، وحادثه بلسان مرن وهادئ، لكن
الجندي لم يكن يستوعب كلام الرجل، وكانت استجابته صعبة المنال، لذا قال للرجل:
كاكه، دعني وشأني، هؤلاء يتظاهرون بالبراءة، وقد فعلوا المحظور، فلا بد أن ينالوا
جزاءهم.. انظر إلى الطرف الآخر من الجسـر.. ها هي ذي سيارة المخابرات العسكرية
المغلقة قادمة نحونا.. نحن ندفع هؤلاء المتمردين عبر تلك السيارة إلى معتقل
الموت.. دعهم وشأنهم، لأن هؤلاء صم وبكم، ولا يستخلصون العبر من أي شيء.
لكن الرجل المُحسن واصل حديثه مع الجندي،
بلسان لطيف، وأسلوب متسم بالتوسل، وشـرح ظروف وهدف العائلة المنكوبة التي لم ترتكب
أي جنحة متعمدة.. وأضاف: لمَ نجعلهم رماد المتهمين الحقيقيين؟.. كرر توسلاته مرات
عديدة أمام الجندي قائلاً له: أخي الجندي، لأجل خاطري هذه المرة، كن رحيماً معه،
وافرج عنه.. لأنك لو قمت بحجز هذه العائلة هنا.. فلن يجدوا من يوصلهم إلى
مدينتهم.. علاوة على ذلك ستكتب لنفسك إحساناً كبيراً، ربما يغفر لك الله سبحانه
وتعالى ما تقدم من ذنوبك جزاء هذا الإحسان.. أخيراً، استثار وجدان الجندي، وعاد
إلى رشده، قائلاً للرجل: هيا اذهب، وادعوه إلى هنا قبل وصول سيارة الاستخبارات..
في أثناء المحادثة المتبادلة بين الجندي
والرجل ذي اللحية البيضاء، وصلت السيارة المرعبة إلى هناك، ووقفت بجانب نقطة
التفتيش العسكرية.. ثم ترجل السائق من السيارة، وتوجه نحو الجندي قائلاً له: هل
لديك مشكلة ما؟
الجندي: كلا، شكراً، بإمكانك المغادرة.
عرفت أم دارا، وزوجته، بأن الرجل المحسن
قد أقنع الجندي بالعدول عن تصلبه إزاء الموقف المتأزم.. قرأتا الشهادة، وحمدتا
الله عز وجل لنجاتهم من المأزق الذي وقعوا فيه.. ثم جاءتا إلى الجندي، ووعدتاه
بعدم تكرار مثل هذه المخالفات.. وشكرتا الجهود المبذولة للرجل الخَيِّر، ورفعتا
أيديهما بالدعاء له بالخير، وذلك لإخراجه العائلة من المأزق المرعب، وإعادة الحياة
لدارا من الموت المحقق.. بينما بادر الرجل الخيِّر بالحديث مع والدة دارا، قائلاً
لها: أنا يكفيني هذا الدعاء لكي يغفر لي رب العالمين ذنوبي، ويجنبني نار جهنم..
في أعقاب توديع الرجل
والجندي.. ركب دارا وأسـرته السيارة وتحركوا في مسار مدينة (رانية).
كان الوقت ينحدر نحو العصـر.. عرج دارا
بسيارته صوب حديقة عامة داخل مدينة (رانية).. وتناولوا وجبة الظهيرة بعجالة..
بعدها توجه دارا بالحديث إلى والدته قائلاً: أماه، الآن نحن في عصـر متأخر..
والوقت يداهمنا شيئاً فشيئاً.. فلا تكلفيني بالوقوف في أي مكان آخر، لأن نقطة
التفتيش في قضاء كويسنجق ستمنعنا من العبور إلى مسار أربيل بعد أوان غروب الشمس..
ماذا تقولين؟
ردت عليه والدته بالقول: كما تشاء يا بُني
العزيز لن اعترض على رأيك هذه المرة أبداً.. هيا تحرك.. فلتنكسر رقبة الشيطان!..
بلغوا جوار نقطة التفتيش الواقعة خلف
تقاطع (كويسنجق- أربيل- ناحية طقطق) في وقت الأصيل.. توجه مسؤول النقطة بالسؤال إلى
دارا قائلاً: إلى أين تتجهون؟
دارا: إلى أربيل.
المسؤول: ألا تعرف أن الطريق
ينغلق من هذا الوقت فصاعداً؟!
دارا: لا والله ليس
لنا علم بذلك.
المسؤول: ينبغي لكم أن
تعودوا إلى كويسنجق، لكون الطريق نحو أربيل غير آمن.
دارا: أيها الفاضل،
نحن ليس لدينا معارف لكي نبيت لديهم.. ولدينا طفل رضيع.. من الصعب لنا أن نبقى
الليلة هنا.. علاوة على ذلك والدي، وأعضاء أسـرتي، سيظلون في ظروف قلقة بسبب عدم
عودتنا الليلة.
استغرق تبادل الحديث بين المسؤول
والعائلة بعضاً من الوقت.. لكن المسؤول أكد لهم كرة أخرى: الطريق غير آمن.. لعلكم
تواجهون خطر الموت أو الاحتجاز.. أنا أتحدث لمصلحتكم.. لِمَ لا تسمعون كلامي؟!
أصـرت أم دارا على العودة مخافة إدانة
والد دارا لها، لأنه لم يكن راضياً بالقيام بهذا السفر.. في الختام قال لهم
المسؤول: بإمكانكم أن تتحركوا على مسؤوليتكم.. فيما أشاد دارا ووالدته بموقف
المسؤول..
وفي الحال تحرك دارا
بسيارته في مسار ناحية (ديكلة) بأسـرع ما يمكن.
وصلوا إلى المرتفع الذي ينحدر صوب ناحية (ديكله)،
وكانت عُتمة الليل قد غطت بجناحها على السماء تماماً.. كان المصباح الأمامي
للسيارة مضاءً.. حين رأى المسلحون المرتدون للزي الكُوردي، داخل نقطة التفتيش،
سيارة دارا وهي قادمة باتجاههم.. انتشـروا كلهم على جانبيها، ووجهوا فوهات بنادقهم
صوب السيارة، وشـرعوا بإطلاق زخات الرصاص فوقها.. وأشاروا له بإطفاء مصابيح
السيارة الأمامية، كي يتأكدوا فيما إذا كانت السيارة تحمل مسلحين أم لا؟.. اضطر
دارا لإطفاء المصابيح، وانحدر صوب الجسـر، رويداً رويداً، حيث نقطة التفتيش.
كانت قرينة دارا جالسة في صدر السيارة،
وطفلتها الصغيرة ترتمي في حضنها.. كلف دارا قرينته برفع طفلتهما إلى مستوى الزجاج الأمامي
للسيارة، لكي يمنحا الاطمئنان للمسلحين بأن السيارة القادمة إليهم ليست معادية لهم..
فعلت زوجته ما أُمرها به، فيما أخرج
دارا ذراعه اليسـرى، ولوح بيده بقطعة قماش، لكي يمنحهم تطميناً أكثر.. وفي المقابل،
كان المسلحون يواصلون إطلاق زخات الرصاص فوق سيارة دارا.. فيما كان دارا وعائلته قد
انتهبهم الفزع والهلع.. وهم يتضـرعون إلى الله عز وجل أن يحميهم من هذا البلاء
النازل عليهم في هذا الوقت العصيب..
على أي حال شـرع دارا البائس النزول من
التل المتوجّه إلى الجسـر شيئاً فشيئاً، وسلم نفسه إلى قدر الله سبحانه وتعالى.
حين اقتربوا من نقطة التفتيش، وصاروا على بُعد خطوات منها، كان مسؤول النقطة
واضعاً أصبعه على زناد بندقيته وجهاً لوجه زجاج السيارة الأمامي.. لكنه حين رأى
رأس الطفلة الصغيرة، نكَّس فوهة البندقية إلى الأسفل، وتقدم إلى الأمام موجهاً
كلامه إلى دارا بغضب شديد قائلاً: قسماً بالله، لو لم أرَ رأس الطفلة لأطلقتُ
النار عليكم، وبعثتكم إلى جهنم وبئس المصير.
أنزل المسؤول ركاب السيارة بغضب.. وتوزع
المسلحون الآخرون حول السيارة مشدوهين.. فيما رفعت أم دارا أصبعها الأيمن، وقرأت
الشهادة، ثم قالت لمسؤول النقطة: - يا بني، والله اليوم هي المرة الثانية
ننجو من الموت المحقق..
انفجر المسؤول غضباً،
وتوجه بعصبية إلى أم دارا قائلاً لها:
- حسناً.. كيف سمح لكم رجال نقطة تفتيش كويسنجق أن
تتحركوا من هناك باتجاه أربيل؟! هل تودون أن تُخاطروا بأرواحكم، أأنتم إلى هذه
الدرجة من الجنون؟! أولئك الرجال كم هم مجردون من الإحساس والوجدان، ليسمحوا لكم
بالتحرك في هذا الظرف الخطير؟!
- أم دارا:
قسماً بالله نحن نقدر موقفك إزاءنا، وندعو لك بالخير يا أخي.. والآن ها نحن قد اقتربنا
من أربيل.. نرجو أن تسمح لنا بالعودة، لأن أسـرتنا تعيش في قلق كبير هذه الليلة!
المسؤول: لن أسمح لكم بالعبور بأي شكلٍ
من الأشكال.. ستبقون هذه الليلة هنا في (ديكلة)، ولن أكرر خطأ نقطة تفتيش
(كويسنجق) إزاءكم.. لعدم وجود أي ضمان لعودتكم إلى أربيل بسلام.. ما خلا ذلك، إن
تعرضتم في الطريق إلى أي طارئ أو مصيبة فسنتعرض نحن إلى أقصى المساءلة
القانونية!..
فشلت مساعي أمّ دارا
لإقناع المسؤول بالعدول عن رأيه، ولم تجد نفعاً.
قاطع المسؤول كلام أم دارا قائلاً لهم:
تفضلوا اتبعوني..
قادهم إلى بيت مختار
الناحية، وباتوا الليل في ضيافته..
بعد تناول الفطور في صباح اليوم التالي، شكر
دارا ووالدته حسن ضيافة المختار، ثم عادوا إلى أربيل بعد أن مروا بمسؤول نقطة
التفتيش فوق الجسر شاكرين جميله وحماية حياة الأسـرة في الليلة الفائتة.
قبيل الظهر وصلوا إلى أربيل.. كان أفراد
عائلة أم دارا ينتظرونهم بين مصـراعي الباب على أحر من الجمر، واستقبلوهم أحسن
استقبال بمناسبة عودتهم سالمين.. لكن علامات الارتباك والقلق كانت بادية على وجوه
الكل..
سألت أم دارا ابنتها الكبيرة:
- ها
ابنتي، ماذا دهاكم.. هل حدث شيءٌ ما، لا سمح الله؟!
ردت عليها ابنتها
قائلة:
- لم يحدث
أي شيء يا أماه.. لكن عصـر الأمس قدم أحد سعاة البريد إلى بيتنا طالباً والدي،
لكنه لم يكن موجوداً في البيت.. فاضطر أن يُسلمني طرداً وقال لي: حين عودة والدكِ
سلّميه هذا الطُرد دون تأخير..
وفي المساء عندما عاد والدي إلى البيت سلمته
الطُرد.. فارتبك والدي قليلاً ثم قال لي: ابنتي العزيزة، أنت تعلمين أنا لستُ
بقارئ.. افتحي لي الطُرد واقرأي لي مضمونه.. وحين فتحت الطُرد، وقرأتُ مضمون
الرسالة، اضطرب والدي في الحال وامتقعت طلعته.. قسماً بالله نام والدي بقلق بالغ
في الليلة الماضية، وتقلب على جنبيه حتى الصباح..
كان دارا يرهف السمع إلى أخته بدقة،
وقال لها:
ألم يقل ساعي البريد
شيئاً آخراً؟
ردت عليه أخته قائلة:
فقط قال لي هذا تبليغ
لأخيكم الكبير، لا أكثر ولا أقل..
اضطرب دارا أكثر من
والدته، وغرق في بحر من التخيلات لا قاع له.. ريثما عاد والده وقت غروب الشمس لم
يستقر له قرار.. كان يتصور نفسه كائناً ليس له وجود فوق سطح هذه الدنيا.
عاد والد دارا المشدوه والمشتت الفكر
إلى البيت من الكسب المعيشـي اليومي مساءً.. بلا ترحيب بعودتهم، قال لوالدة دارا:
- ماذا
ارتكبتم من أخطاء في سفرتكم النحسة هذه؟!
ردت عليه والدة دارا :
- لم نرتكب
أي شيء.. ألا ترى بأننا عدنا إلى البيت سالمين؟!
والد دارا:
- ألم
أحذركم بعدم القيام بمثل هذه السفرة، لأن الظروف الحالية لا تساعد على ذلك؟!
والدة دارا:
- يا رجل،
الآن نحن عائدون إلى البيت بسلام.. لِم أنت مرتبك هكذا؟!
والد دارا:
- انظري
لهذه الرسالة.. إنها تبليغ من مديرية أمن أربيل لابننا دارا.. ينبغي له أن يحضـر
غداً هناك، ويعطي لهم توضيحاً بخصوص هذه السفرة!
والدة دارا:
- إنه شيءٌ
عادي.. بالطبع ابننا دارا لم يرتكب خطأً مشبوهاً بالنسبة للحكومة.. نحن كنا
مرافقين له.. فليذهب إليهم، ويقدم لهم التوضيح المطلوب ويعود إلى البيت..
في صباح اليوم التالي راجع دارا دائرة
أمن أربيل المرعبة برجليه الاثنتين.. لكنه ما إن وطأت قدماه الدائرة حتى اختفى
أثره ولم يَعُد إلى البيت إلى اليوم.. أما والده البائس، فقد أصيب بالمرض قهراً
وجزعاً.. بعد فترة وجيزة اشتد مرضه، وانتقلت روحه إلى جوار ربها في فراش المرض،
وهو يردد على لسانه أوان الاحتضار: دا.. را..دا..را..أ..ي..ن..أ..ن..ت..يا..دا..را
حتى لفظ أنفاسه
الأخيرة.
أواخر شهر حزيران 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق