أ. د. فرست مرعي
ينتمي الشيخ عبد الحميد
عبدالخالق البيزلي إلى عشيرة الريكان، وهي إحدى العشائر الكوردية التي تقع ديارها
على الحدود العراقية – التركية، ضمن ناحية نيروه وريكان، التابعة لقضاء العمادية
في محافظة دهوك. وتتكون العشيرة من حوالي (62) قرية، وتنقسم إلى ثمانية بليكات (=
صفوف)، ولكل بليكة رئيس خاص بها، كما للعشيرة رئيس يبت في شؤونها، يطلق عليه الآغا.
ويظهر للباحث أن لفظة (بيلك) ربما جاءت من البايلك، فهو مصطلح تركي قديم، أخذه الأتراك عن المغول والسلاجقة. وأول من تولى إمارة البايلك عند الأتراك هو عثمان بن أرطغرل، مؤسس الدولة
العثمانية، وذلك سنة 1280م. ومصطلح بايلك أصله (بكلك)، وهو مشكل من مقطعين: بك+ لك، فأما بيك – وتلفظ باي – في الأصل، فهو لقب أبناءالسلاطين الحــائزين على لقب البــاشوية وذريتهم، ثم استعمل لقباً لمعظم كبــار الموظفين والقـادة الذين يكلّفون بإدارة الولايات، ويسمّون وزراء الخارج، وقد اعتمده العثمانيون كلقب لحاكم الولاية أو المقاطعة، واشتق منه لفظة بيكلربك التي تعني أمير الأمراء، وهي الرتبة الثانية من رتب الباشوية، وكلمة بايلك صارت اصطلاحاً لكل ما هو مُلك للدولة، فيقال طريق البايلك، وأرض البايلك. ينظر: (فارس كعوان، المصطلحات الإدارية العثمانية في الجزائر).وقد اختلف المؤرخون في التعريف بلفظة الآغا،
فالبعض يقول إن المصطلح فارسي الأصل، ويعني السيد، وجمعه: آغاوات، استعمله الأتراك
لدلالات؛ منها تسمية الضباط الأميين كالإنكشاريين، وقيل: كلمة مشهورة. وأغلبهم
يتلفظونها بالهمز لا بالمد. ينظر (مجلة لغة العرب العراقية، التي كانت تصدر في
بغداد بداية القرن العشـرين). وفي الحقبة الأخيرة من العهد العثماني أطلق اللقب
على ذوي المكانة العالية في المجتمع.
وذكر محمد فريد وجدي: "...
أن
هذه الكلمة محرفة من كلمة (آقا) المغولية“. ينظر: (محمد فريد وجدي، تاريخ الدولة
العلية العثمانية). وكان مدراء مكاتب الوزراء يسمون (آغا أفنديم). أما (آغا باشا)،
فكان يطلق على الوزراء الإنكشاريين. و(آغا بك) يعني الأخ الكبير، يستخدم من قبل
الطبقات الاجتماعية المتوسطة. و(آغا الحرم)، هم الذين يستخدمون في أقسام الحريم في
قصور السلاطين، وهم من الزنوج المخصيين.(علي الكاش، الألقاب الرسمية معناها وأصولهاhttp://www.shbabmisr.com(
يحد قرى عشيرة الريكان من الغرب قرى عشيرة
النيرويي، ومن الجنوب جبل لينك، وهو امتداد لسلسلة جبال (متينا)، التي تنتهي عند (مضيق
رشاوه)، التابع لمنطقة (نهله)، ليبدأ منها جبل لينك. ويحدّ قرى الريكان من الشـرق
قرى عشيرة مزوري
بالَا
(= العليا)، وقرى عشيرة (هركي بنةجة) باتجاه الشمال، بالإضافة إلى مضيق (طلي بالَندة)، ونهر (روي شين) (=
أورمار، سابقاً). ويحدها من الشمال الشـرقي، قرى عشيرة (الدوسكي ذوري)(=
العليا)، بالإضافة إلى الحدود التركية، حيث تقع ثلاث قرى من عشيرة الريكان ضمن
أراضي كوردستان الشمالية (= التركية)، وهي: برجيلة، شيظا رةزا، جانمندا، مجاورة
لعشيرة (الأرتوشي)، التي تقع ديارها إلى الشمال من خط الحدود الذي يقابل عشيرة
الريكان، فيما تقع ديار قبيلة (بنيانش) في كوردستان الشمالية، مقابل أراضي عشيرة
النيروه.
وقد جاء ذكر عشيرة الريكان بصيغة (رادكان) في
كتاب (الشـرفنامه)، الذي ألفه المؤرخ الكوردي الكبير شـرفخان البدليسي(914 –
1012هـ/1534 – 1603م).
وتطرق إليها مؤرخ العراق المحامي عباس العزاوي (1307
– 1391هـ/ 1890- 1971م) في حديثه عن العشائر العراقية، وبالتحديد عشائر العمادية،
بصورة مقتضبة، وجمع بينها وبين عشيرة النيروي، في ناحية تابعة للعمادية. ومما
قاله: "… – نيروا– ريكان، وهذه برياسة (كلحي آغا)، وكان قد حصل على وسام
الرافدين من الدرجة الثانية. وتتكون منها ناحية من نواحي العمادية، وفيها ٧٩ قرية".
(عباس العزاوي، موسوعة عشائر العراق، ج4، ص220). ويبدو أنه يتطرق إلى قرى عشيرتي
الريكان والنيروه معاً. بعدها ذكر العزاوي معلومات أخرى عنهم، نقلاً عن كتاب الشـرفنامه،
بالقول: "ريكان: وجاء في الشرفنامة أنها (رادكان)، وينطق بها الأكراد ريكان-
نيروا، والظاهر أن هذا اسم موطن عرفت به قبائله. والأخيرتان قد تكونت منهما مجموعة
تدعى (نيروا – ريكان)، ومنها الناحية بهذا الاسم. ومركزها قرية (بيبو)".(المرجع
نفسه، ج4، ص221).
ولد الشيخ عبدالحميد بن الخليفة عبدالخالق بن الخليفة نبي بن ملا حجي بن ملا أبوبكر في قرية (بيزلي)، التابعة لعشيرة الريكان، والواقعة ضمن ناحية نيروه ريكان (= بيبو)، التابعة بدورها لقضاء العمادية في محافظة دهوك، في إقليم كوردستان العراق، في سنة 1949م.
وجاء ذكر قرية (بيزلي) في المصادر الإسلامية
المختلفة، فعند ذكر سيرة القاضي كمال الدين بن محمد بن داود البازلي الكوردي
الحموي، الذي تولى نيابة دمشق ومشيخة المدرسة الشامية، يتطرق المصدر إلى التعريف
بقرية البازلي بالقول: "نسبةً إلى قرية في منطقة العمادية التابعة لمحافظة
دهوك في كوردستان العرق، وما زالت عوائل تلك القرية يعرفون بهذا الاسم، وهم من
عشيرة الريكان المشهورة". وجاء التعريف به في مصادر أخرى: "محمد بن داود
بن محمد البازلي، أبو عبد الله، شمس الدين: فاضل، من الشافعية. كوردي الأصل، من
العماديّة. ولد في ضحوة يوم الجمعة سنة خمس وأربعين وثمانمائة في جزيرة ابن عمر (=
جزيرة بوتان)، ونشأ بها، وانتقل إلى (تبريز) في إقليم أذربيجان، فحفظ كثيراً من
الكتب في الفقه والنحو، ودرس المعقولات على: منلا ظهير، ومنلا محمد القنجفاني،
وعثمان الباوي، والمنقولات على: والده نجم الدين الاَشلوبي. ثم قدم حلب والقصير،
وقطن حماة، ودرّس بها وأفتى، وصار شيخها في المعقولات، وتعلم في أذربيجان، وأقام
في حماة من سنة895هـ/1490م، فدرس بها، وأفتى، وصار شيخها في المعقولات، مع فضيلةٍ في
الفقه، وترقّى بعد الفاقَة، وزوج بنته فِي بيت البَارِزِيّ، وهو الآن حيّ في سنة
خمس وتسعين، ويُقال إنّه جازَ الخمسين (على حد تعبير السخاوي في كتابه: الضوء
اللامع لأهل القرن التاسع، ج 7، ص240 برقم 587، وحفظ بها كثيراً من الكتب منها:
الحاوي الصغير، وعقائد
وللبازلي مخطوطة بعنوان (غاية المرام في رجال
البخاري إلى سيد الأنام)، عدد أوراقها: 274، المقاييس: 282 × 185 ـ 220 × 125، عدد
أسطرها: (27). جاء في أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم، رَبِّ يَسـِّر وأَعِنْ،
واخْتم بِخَيْرٍ، يا خَبِيْر يا لَطِيْف. الحمد لله الذي رفع منار الحق ببعثة
النبي، ورحم الخلق بإرسال الرسول الأميّ، وجعل أقواله حجّة، وأفعاله محجة، ففاز
مَن تَبعِه واقتدى، ونجى مَن اقتفى أثره واهتدى… وبعد: فيقول العبد الفقير إلى
الله الغني؛ محمد بن داود بن محمد البازلي؛ جعله الله ممّن سعدَ بإسعادِهِا
الأزليّ، ووالديه ومشائخه ومُحبيه، بحُرمة كل نبي لله وولي: كنت قدَماً مِمَّن
شغفَ بخِدمةِ الحديث، فَبِهَا اشتغلَ، فطافَ البلادَ، وجاب المَهامِهَ، فحصل منه
ما حصَّل، وصـرف فيه عُمرَه، فلله الْمِنَّة على ما منح به وتفضّل. وليس بخاف أن
معرفة رجال الحديث من أهمّ المهمات، وعند أرباب الحديث، من أعظم المرغوبات… فإني
ما وضعت هذا الكتاب إلا ليغني عن كتب الغير… فحاولت أن أجمع كتاباً حافلاً في
مشائخ البخاري وشيوخهم، إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأذكر فيه وفياتهم،
إلا نادراً جدّاً، وبعض أحوالهم ومناقبهم، فإنه بذِكرِهم تنزل الرحمة، وأُطوِّل
الترجمة وأختصـرُها على قدر شهرة الراوي وذِكره، ورتبت الأسماء على حروف الهجاء في
اسم الراوي فقط… وأما الذي بيني وبين
وجاء في آخرها:…" عبد الله بن يوسف أبو
محمد النيسـي، بكسر المثناة والنون المشددة المكسورة بعد المثناة التحتية مهملة:
بلدة من بلاد مصـر، في وسط البحر، وهي من كور الخليج، منسوب إلى نيس بن حام بن
نوح، وهي في جزيرة من جزائر بحر الروم، قرب دمياط… فاتّضح أن المراد بالعجمة
المانعة عن الصـرف؛ غير العجمة الممنوعة عن ورودها في القرآن، فإن المانعة هي التي
اخترعها العجم أعلاماً، والممنوعة هي التي وضعها واضعُ لغة العجم، فتأمل؛ فإنه
والله حقيق أن يكتب ببياض النهار على سواد الليل، ولله الحمد على هذه الفائدة
العظمى التي ما خيب الله تعالى سهري عليها ليالي وأياماً". ينظر: (محمد بن
داود بن محمد الكوردي الحموي الشافعي البازلي، شمس الدين أبو عبد الله (المتوفى
سنة 925 هـ/9151م)، مخطوطة – غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام، الجزء
الأول، عدد الأوراق: 274، المقاييس: 282 × 185 ـ 220 × 125،عدد الأسطر(27).
وهناك ملاحظات مدرجة عن المخطوطة، جاء فيها: "خطّ
الثلث المضبوط بالحركات، وأسماء الأعلام والعناوين مكتوبة باللون الأحمر، وتوجد تصحيحات
على الهوامش، والغلاف جلد عثماني مغلف بالقماش، وعليه تملّك مشوه، ثم تملّك علي
القطان، وقف الصدر الأعظم محمد راغب پاشا. رقم السي دي: 49091".
وعلى أيّ حال، فيعتقد أن مدرسة قرية بيزل أسست
في سنة 921هـ/1516م، في عهد الأمير البهديناني سليمان بن الأمير مبارك بن سيف
الدين أمير الإمارة البهدينانية، الذي حكم لمدة أقل من سنة واحدة (984هـ/1576م)،
بعد الأمير قباد الأول بن حسين بن حسن، الذي حكم بدوره في نفس السنة أيضاً 984هـ/
1576 – 1577م.
وقرية بيزلي تعد إحدى المراكز الدينية في منطقة
نيروه وريكان، لأنها كانت تعج بعدد من علماء الدين الإسلامي، من أُسـر عديدة، كانت
تمتهن التدريس والخطابة والإفتاء في المنطقة، ومن أبرز هذه الأسـر: مالا عباسي،
ومالا زاده، ومالا شيخي، وغيرها، ومن ضمن
هذه الأُسـر، أسرة مالا زاده أسـرة فقیدنا
(الشيخ عبدالحميد)، فضلاً أن مسجدها كان يلحق به مدرسة دينية، تخرج منها العديد من
الملالي والفقهاء، بمختلف درجاتهم العلمية.
وكان نظام التعليم السائد في البلدان الإسلامية،
في العهد العثماني، هو السائد في كوردستان أيضاً، بحكم وقوعها لحوالي أربعمائة سنة
تحت الحكم العثماني(1514 –1918م). وكان هذا النظام يفرض على الطالب أن يدرس في
الكُتّاب أولاً، وكانت هذه الكتاتيب منتشـرة لتحفيظ الأولاد الصغار مبادىء القرآن
الكريم، يشـرف عليها مدرّس للقرآن يسمى مُلّا (تحريفاً لكلمة مولى). ثم ينتقل
الطالب بعد ذلك إلى المدارس الملحقة بالمساجد، وهذه المدارس هي التي قادت الحركة
العلمية والأدبية، وكانت تخرّج أفواجاً من طلبة العلم، وتثقفهم بالثقافة العقلية
والنقلية. ينظر: (عبدالرزاق الهلالي، تاريخ التعليم في العراق، ص80 – 93).
وكانت قرية بيزل تعد المركز الديني الرئيس في
منطقة نيروه - ريكان، قبل أن تقوم الحكومة العراقية بنقل أهاليها، وغيرها من
المناطق الكوردية الملاصقة للحدود التركية، إلى مجمعات سكنية، في سنة 1978م، تقع
أسفل المناطق المشارة إليها آنفاً؛ بسبب انطلاق الحركة الكوردية من جديد (القيادة
المؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني في 26 أيار عام1976م)، ومحاولتها لمّ شتات
الحركة الكوردية من جديد، التي تم إخمادها في أعقاب اتفاقية العراق والجزائر في 6
آذار عام 1975م.
وكانت القيادة العراقية تعتقد بأن انهيار الحركة
الكوردية عام 1975م قد قضـى إلى الأبد على كل أمل لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء،
أي انطلاق الحركة الكوردية من جديد، ولكن يبدو أن تهجير المناضلين الكورد، الذين
شاركوا في الحركة الكوردية التي انطلقت من عام 1961 لغاية 1975م، إلى جنوب وغرب
العراق، ومحاولات الأجهزة الأمنية للنظام العراقي السابق؛ من أمن واستخبارات،
امتهان كرامة المواطنين الكورد، ربما عجل في انطلاق الحركة الكوردية، للوقوف في
وجه هذه المخططات غير الإنسانية وغير المسؤولة تجاه مواطني البلد نفسه.
وكان ميشيل عفلق (1910 – 1989م)، مؤسس حزب
البعث العربي الاشتراكي وأمينه العام، قد صـرح لمجلة (المعلم الجديد) العراقية في
عام1976م، بأنه إذا تعاملنا مع الكورد بعدالة الخلفاء الراشدين، فإن العراق سوف
ينعم بالأمن والاستقرار، ولن تقوم قائمة للحركة الكوردية!، وكان عفلق نفسه قد صـرح،
قبل ذلك بعدة سنوات، وتحديداً في 10/6/1969م، بالقول ما نصه: " …الأكراد هم
مواطنون عرب مسلمون، كغيرهم من العرب المسلمين، لا يوجد أي فرق بينهم، عندما كانت
البلاد العربية تشكل دولة أو دولاً عربية إسلامية. وفي العصـر الحديث كانت الدول
الغربية الاستعمارية هي البادئة بإيجاد الفروق وعوامل التمييز بين العرب والأكراد،
سواء باضطلاعها بمهمة التنقيب عن المميزات التاريخية واللغوية والعرقية للأكراد،
لتكوّن من ذلك منطلقاً للانقسام في بلدان المنطقة، التي كانت هذه الدول تخطط
لاستعمارها منذ القرن الماضي، وسواء بتوجيهها للحكومات والقيادات العربية، بعد
دخولها هذه البلاد، كما فعلت في مناطق أخرى من العالم، وفي البلاد العربية بالذات،
حيث حاولت نفس المحاولة مع البربر في شمال أفريقيا، وقبائل جنوب السودان. ولكن هذا
لا يعني أن الاستعمار يستطيع أن يخلق ظاهرة تاريخية، فالظاهرة القومية هي من ظواهر
العصور الحديثة، ودور الاستعمار يقتصـر على استغلالها، ومحاولة الانحراف بها عن
طريقها السوي، وتسخيرها لمصلحته”. (ميشيل عفلق، في سبيل البعث – المسألة الكوردية والثورة العربية، 1969م، ج5،
ص37).
وعلى أي حال، فقد خططت الحكومة العراقية لإنشاء
مجمعات سكنية، تمّ إنشاؤها لاحقاً في مناطق عديدة؛ لتسهيل مهمة السيطرة على الكورد
عامة، والحركة الكوردية خاصةً، ومنعهم من القيام بأي نشاط قومي للحصول على الحقوق
السياسية للشعب الكوردي في العراق. ومن جانب آخر، فإن القرى الكوردية الآنفة الذكر
كانت دون شك مصدراً لإسناد واحتضان الثوار الكورد، سيما وأن قرية (بيزل)، والقرى
المجاورة لها، كانت حاضنة للأنشطة المختلفة التي كانت تقوم بها الحركة الكوردية،
كما أن موقع هذه القرية الحدودي كان يساعد الثوار الكورد في تنقلاتهم عبر الحدود
العراقية – التركية.
وبخصوص موضوع بحثنا حول السيد عبدالحميد
وعشيرته الريكان، فقد تم إسكانهم في عدة مجمعات سكنية، منها:
مجمع شيلادزي، الواقعة شـرقيّ قضاء العمادية،
والمطلة على نهر الزاب الكبير، ويحدها جبل لينكي من جهة الشمال، وهو امتداد لسلسلة
جبل متينا باتجاه الشـرق.
مجمع سيريي، الذي بدوره يقع شـرقي مجمع شيلادزي،
في مدخل (كلي بالنده)، الذي كان يسمى في السابق (كلي أورمار).
مجمع ديرالوك، وهي ناحية تابعة لقضاء العمادية،
وتقع إلى الشـرق منها، في الطريق المؤدي إلى شيلادزي وسيريي وكلي بالنده.
مجمع باكيرات، وهذا المجمع يقع إلى الشمال من
ناحية زاويتة، على الطريق الرئيس الذي يربط مدينة دهوك بمدينة العمادية، ضمن منطقة
عشيرة الدوسكي.
ويبدو أن سكان قرية بيزلي قد انتشـروا في
المجمعات الآنفة الذكر، ولكن صاحب السيرة بعد نقله من جامع الفضل في بغداد إلى
محافظة دهوك، استقرت أسـرته في مجمع باكيرات، مع أخوته، وأبناء عمومته.
وكان جد السيد عبدالحميد (الخليفة نبي) قد أخذ
الطريقة القادرية من لدن شيوخ الطريقة القادرية في قرية (بريفكا)، ولا تسعفنا
المصادر في تحديد اسم الشيخ الذي سلم الطريقة إليه، ولكن والد الشيخ عبدالحميد:
الخليفة عبد الخالق (1905 – 1982م)، كان قد أخذ الطريقة القادرية من يد الشيخ
عبيدالله بن الشيخ نور محمد الدهوكي البريفكاني(1885 – 1954م)، وقد اختاره الشيخ
عبيدالله خليفةً له في منطقة نيروه وريكان.
وكان لجد الشيخ عبدالحميد (الخليفة نبي)،
وقريبه وزميله (الخليفة سعيد)، علاقات خاصة مع الشيخ أحمد البارزاني، شيخ بارزان
وشيخ الطريقة النقشبندية في المنطقة، بحكم الانتماء إلى التصوف، كل حسب طريقته.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك علاقة قديمة بين
والد عبدالحميد (الشيخ عبد الخالق نبي) مع الأسـرة البارزانية، وتحديداً شخص
الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني (1903 – 1979م)، بحكم علاقات الجيرة والانتماء
إلى التصوف القادري والنقشبندي. وكان الشيخ عبدالخالق قد زار، بمعية قريبه
(الخليفة نجم الدين)، الملا مصطفى البارزاني في بغداد، عام 1958م، بعد عودته من
الاتحاد السوفيتي.
عاش السيد عبد الحميد سنوات طفولته الأولى في
قريته، وفي بداية مشواره، درس عبدالحميد القرآن الكريم والكتب الأخرى التي اعتاد
طلاب العلم على دراستها في الحجرات العلمية (= المدارس المسجدية)، مثل: فتح القريب
في الفقه الشافعي، والأربعين النووية في الحديث، ومتن الأجرومية في النحو، وكانت
دراسته الأولية على يد كل من والده الشيخ عبد الخالق، وأخيه الأكبر الملا نوري
(1940 –2008م).
ومن جانب آخر، فإن الصـراع الذي عصف بالمنطقة إثر
قيام الحركة الكوردية في شهر أيلول عام1961م، وما قبلها، جعل الكثير من أفراد
عشيرة الريكان يدخلون إلى تركيا، بعد مهاجمة العديد من العشائر الكوردية الأخرى
الموالية للحزب الديمقراطي الكوردستاني، بقيادة الملا مصطفى البارزاني، لقراهم،
بسبب خلافات عشائرية قديمة. وقد نشـرت جريدة (ميلَيت Milliyet)
التركية
تقريراً للكاتب التركي (نجم الدين أونور / Nacmadin Onur)،
حول تصـريحات (كلحي آغا)، رئيس عشيرة الريكان، في 27/7/1961م، للصحافة التركية،
جاء فيها: "أياً ما يقوله جمال باشا، وما يقوله الشعب، سنفعله (= جمال جورسل؛
قائد انقلاب 1960م التركية، ورئيس الجمهورية التركية بعد ذلك)، السبب الوحيد لهذا
هو الحكومة العراقية. عشيرة البارزاني متحكمة في كل شيء بالمنطقة التي نتواجد
فيها، وكل ما يريده ملا مصطفى (= البارزاني) يفعله. هاجمونا بقوة قوامها 3 آلاف
شخص. ضـربنا من أربعة جبهات. قتل منا 60 شخص، وأُسـر 200 شخص. وجدنا الحل في الهرب.
إذا استمرت الحرب، فإن الجميع سيهربون". ويستطرد قائلاً: "ما لم يتم
القضاء على عشيرة البارزاني، ويموت الملا بارزاني، لن يعود إلى العراق".
ينظر: (دلشاد م. صالح بابلا، موقف جريدةميلَيت Milliyet التركية من
الحركة الكوردية وثورة أيلول في العراق(1958-1963)، ص10 -11).
وينقل التقرير، على لسان بعض اللاجئين من أفراد
عشيرة الريكان، أن الحرب بين العشائر قد اشتدت في العراق، وقتل في صفوفهم 18 شخصاً
آخرون، ولم يبق من عشيرة كلحان (كلحي) آغا في العراق سوى 1000 شخص، يقاتل منهم
150-200 فقط قوات البارزانيين. كما أن هذه القوات أيضاً ستنسحب لنفاذ الذخيرة
لديها. وأشار التقرير أيضاً إلى قرار كلحي آغا بأنه سيعود إلى العراق في حال عودة
الاستقرار إليها، نظراً لوجود أموال وأراضي العشيرة فيها. ينظر: (دلشاد م. صالح
بابلا، موقف جريدة ميلَيتMilliyet التركية من الحركة الكوردية وثورة أيلول في
العراق 1958-1963، ص10 -11).
واستناداً إلى ما تقدم، فقد دخل المئات من
أفراد عشيرة الريكان إلى الأراضي التركية، في شهري حزيران وتموز عام1961م، بقيادة
رئيس العشيرة كلحي آغا الريكاني (المتوفى في 7/12/1961م)، بعدها دخلوا إلى العراق
من جديد، عن طريق قرية دشتان الحدودية – كاني ماسي – جبل سـر العمادية – العمادية.
وبعد اشتداد القتال بين الحركة الكوردية والجيش
العراقي في سنة 1963م، والهجمات العنيفة التي شنها الجيش العراقي، في أعقاب حكومة
البعث الأولى في شهر حزيران عام 1963م، هاجر قسم آخر من عشيرة الريكان إلى تركيا،
هرباً من جحيم القتال، في صيف سنة 1963م، وكان من ضمن اللاجئين: الملا نوري بن
الخليفة عبدالخالق، مع أفراد أسـرته، فلحق به أخوه الأصغر منه سناً (عبدالحميد)،
حيث دخلوا القرى الكوردية الملاصقة للحدود التركية مقابل قرى عشيرة الريكان، وبعد
دخولهم إلى تركيا قامت الحكومة التركية بإعادتهم إلى الأراضي العراقية من جديد، عن
طريق المعبر الحدودي الواقع على نهر الهيزل، قبل إنشاء المعبر الحدودي في إبراهيم
الخليل، حيث دخلوا منها إلى قرية بيدار المسيحية الكلدانية، التي كانت واقعة آنذاك
على مسافة عدة كيلومترات غرب مدينة زاخو، والآن تقع ضمنها كإحدى محلاتها. وبعد
عملية استقرار مؤقتة في بعض القرى الواقعة على طريق زاخو – الموصل، انتقلوا إلى
الموصل، حيث استقروا هناك.
وفي الموصل كانت تنتظر السيد عبد الحميد مهام
جديدة، وهي الدراسة لدى علماء الموصل، لتكملة دراسته التي بدأها - كما ذكرنا آنفاً
- في مدرسة قريته بيزلي، الملحقة بمسجدها. وكما هو معروف، فإن مدينة الموصل مدينة
عريقة، لها تاريخ حافل بكثرة مساجد وجوامعها ومدارسها العلمية، فضلاً عن العلماء
والأدباء والكتاب الذين تخرجوا منها، فدرس على يد عدة علماء عرب وكورد، منهم:
العالم الكبير الشيخ بشير الصقال(1324- 1407هـ/ 1906 – 1986م)، والملا عثمان بن
محمد الجبوري (1327- 1405هـ/ 1909- 1984م)، والملا عيسى إسماعيل حسن الخوركي
المزوري(1322 -1433هـ/ 1914 – 2012م)، والشيخ حسن أحمد الآسيهي السليفاني، والملا
نوري البيزلي الريكاني (1352ـ1428هـ/1933- 2008م)، علوم اللغة العربية والإسلام:
النحو، والصـرف، والعقائد، وأصول الفقه، والتفسير.
وكانت الإجازات العلمية تعطى للطلاب الذين
يكملون المرحلة الدراسية، وتهيئهم عند ذلك كي يقوموا بالتدريس والخطابة والوعظ.
فكان يجتمع لشهود تلك الإجازات علماء البلدة وأعيانها. وكانت الإجازات هذه تكتب
بيد الشيخ أو الملا، يعترف فيها بتدريسه علوماً معينة للطالب المجاز على أساس
الرواية التي أخذها عن أسلافه من العلماء. (محسن عبد الحميد، الآلوسي مفسراً، ص36).
وبعد دراسة السيد عبد الحميد لعدة سنوات
(دوازده عيلم - العلوم الاثنا عشـر)، مُنح
الإجازة العلمية من قبل الملا عثمان محمد الجبوري سنة1968م، في حفل أقيم في مسجده
الكائن في مدينة الموصل. وكان الشيخ عبدالحميد قد ألقى أول خطبة جمعة في مسجد (قضيب
البان)، عام 1966م، في الموصل، وبعدها تم تعيينه من قبل الشخصية الموصلية حجي
سعدون في مسجده، الذي يحمل اسمه.
وفي السنوات 1969- 1971م دخل المعهد الإسلامي
في محلة (النبي شيث) في الموصل، تحت اسم المدرسة الأحمدية الدينية الوقفية،
التابعة لرئاسة ديوان الأوقاف، وتخرج منها في الشهر الثامن من عام 1971م. بعدها
انتقل إلى بغداد للدراسة في كلية الإمام الأعظم (= كلية الشـريعة)، وبعد دراسة خمس
سنوات (1971 – 1972م/1976- 1977م)، حصل على شهادة البكالوريوس في الشـريعة الإسلامية.
وكان من أقرانه في الكلية كل من: الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي، الأمين
العام الحالي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والملا محمد بن الملا أحمد العقري،
رئيس اتحاد علماء الدين الإسلامي السابق في كوردستان العراق، الملا مصطفى حسن
الريكاني( المتوفى سنة 1433هـ/2022م)، الملا مهدي الزيباري (المتوفى سنة1423هـ/
2020م)، وآخرون. وكان من أساتذته في الكلية كل من: الدكتور حمد عبيد الكبيسي،
والدكتور أحمد ناجي القيـسـي، والدكتور أحمد عبيد الكبيسي، والدكتور هاشم جميل عبد
الله القيسـي، والدكتور عبد الله الجبوري، والدكتور حارث الضاري، والدكتور محمد
رمضان عبد الله الكركوكي، والشيخ عبد اللطيف البرزنجي. ومن الأساتذة المصـريين:
الشيخ عبد الرحمن محمود، والدكتور عبد الفتاح بركة، والدكتور عبد المنعم الشافعي،
والدكتور سيد ندا الأزهري.
وكان السيد عبدالحميد قد درس علوم اللغة
العربية والفقه الشافعي على يد كل من العلامة عبدالكريم المدرس(1905 –2005م)، في
الحضـرة الكيلانية في بغداد، ودرس العلوم الإسلامية على يد الملا عبدالمجيد ملا
عبدالله ملا عبدالكريم (1920 -1994م)، وحاز منه على الإجازة العلمية الثانية، بعد
إجازته الأولى في مدينة الموصل على يد الشيخ عثمان محمد الجبوري.
وتجدر الإشارة إلى أن السيد عبدالحميد درس علوم
اللغة العربية من النحو والصـرف والبلاغة، وغيرها، على يد العلامة الموصلي الشيخ
بشير الصقال - رحمه الله -، وعلامة العراق عبدالكريم المدرس -رحمه الله- كما
أسلفنا؛ وهذا ما جعله ملماً بعلوم اللغة العربية، ومتفوقاً على أقرانه في هذا
المجال. وهذا لا يقلل من أستاذيته في المذهبين الفقهيين: الشافعي؛ بحكم دراسته في
كوردستان والموصل وبغداد، والحنفي؛ بحكم عمله في الدراسة والوعظ والخطابة في كل من
الموصل وبغداد، بحكم كون غالبية علمائها على المذهب الحنفي، الذي كان مذهب الدولة
الرسمي أيام الدولة العثمانية حتى انتهاء حكمها على العراق عام1918م، وبداية الحكم
الوطني من 1920م لغاية سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي عام2003م.
وكان الشيخ عبدالحميد أثناء دراسته الجامعية،
يلقي الخطب في (جامع الحيدرخانة) في بغداد. وبعد تخرجه تم نقله إلى (جامع الفضل)
بصفة إمام وخطيب، وبقي فيه إلى عام 1982م، حيث طلب نقله إلى مسقط رأسه في محافظة
دهوك؛ إثر تعرّضه لضغوط عديدة من جانب وزارة الأوقاف العراقية آنذاك للإشادة
بالرئيس العراقي السابق صدام حسين أثناء إلقاء خطب الجمعة، وخاصة والحرب العراقية
– الإيرانية كانت في أوجها.
وفي سنة 1978م قبل الشيخ عبد الحميد في قسم
المخطوطات وتحقيق النصوص في كلية الآداب/ الجامعة المستنصرية، وتخرج منها سنة
1980م بحصوله على شهادة الدبلوم العالي، بإشـراف الأستاذ الدكتور صلاح الدين
الناهي.
وكان نتاج ذلك هو تحقيقه لكتاب (أحكام الصغار)،
للفقيه الحنفي محمد بن محمود بن حسين الأسـروشني (المتوفى سنة632هـ/ 1235م)، الذي
يعد من أهم نتاجاته العلمية.
ومؤلف الكتاب هو محمد بن محمود بن حسين، مجد
الدين الأسـروشني: فقيه حنفي، نسبته إلى (أسـروشنة) الواقعة شـرقي سمرقند. وأُسْـروشَنَة،
أو أشـروسنة، أو سـروشنة، الاسم القديم لمنطقةٍ في ما وراء النهر، بين سمرقند
ونهر سيحون، وقد تبقت الآن منها آثار بالقرب من (خجند) في (طاجيكستان). ويرى
المستشـرق الروسي (فاسيلي بارتولد)(1869 – 1930م) أن الأطلال القائمة بالقرب من
موضع يدعى (شهرستـان)، في الجنوب الغربـي من (أوراتبه)، تعـود إلى (أسـروشنـة).
وذكر اسم أسـروشنة في القرون الماضية، وفي
المصادر المختلفة، بأشكال مختلفة. وقد ذكرتها المصادر الفارسية القديمة بهذه
الصورة، أو سـروشنة. ولكن أقدم مصدر عربي ذكرت فيه هذه المنطقة، استناداً إلى
المصادر المتوفرة، هو كتاب (صورة الأرض) للخوارزمي، حيث ذكرها باسم أُشـروسنة.
وبعد ذلك تكرر هذا الاسم في المصادر الجغرافية والتاريخية، وخاصة في القرون
الأولى (البلاذري، ابن خرداذبه، ابن قدامة، الاصطخري، البتاني). وكان ياقوت
الحموي قد أشار إلى موضعها في بلاد ما وراء النهر، دون أن يحدد موقعها، مثلما فعلت
المصادر التاريخية والجغرافية التي سبقته، وكان القائد الإسلامي المشهور قتيبة بن
مسلم الباهلي هو الذي فتحها سنة 85هـ.
للأسـروشني عدة مؤلفات منها: كتاب الفصول، وهو
مخطوط في المعاملات، ضمّه ابن قاضي سنماونة إلى كتاب(الفصول) للعمادي، وسماهما
(جامع الفصولين – مطبوع)، و(أحكام الصغار – مطبوع) في الفروع، و(الفتاوي – مخطوط)
و(قرة العينين في إصلاح الدارين – مخطوط).
والكتاب يشمل كل ما يخص الصغار من أحكام؛
كالطهارة والعبادات، والأحوال الشخصية (النكاح، الرضاع، الميراث…)، والمعاملات
والحدود وغيرها، وهو بهذا يعد موسوعة متكاملة تشمل الأحكام المتعلقة بالصغار. ولقد
سبق المؤلف عصـره في تأليفه لهذه الموسوعة، التي سبقت القوانين والتشـريعات التي
كتبت بعدها بقرون. ولقد أحسن الشيخ الاختيار عندما تولى تحقيق مخطوطة هذا الكتاب،
ولإخراجه من رفوف المكتبات، ليقدمه كهدية ثمينة للعلماء والباحثين وطلبة العلم
ورجال الشـريعة والقانون.
ونلخص
هنا منهج الشيخ، وجهوده، في تحقيق الكتاب، واعتمدنا في ذلك على ما كتبه الشيخ في
مقدمة الكتاب:
1- جمع ست مخطوطات للكتاب، من مكتبات مختلفة.
2- تحليل نصوص الكتاب، وبيان المسائل الغامضة
فيه، وإضافة المصادر إلى المواضع التي لم يشر فيها المؤلف إلى المصدر.
3- ترتيب النص،
وتنقيطه بعلامات التنقيط.
4- الفصل بين المسائل، ووضع عنوان لكل مسألة،
لتسهيل الوصول إليها.
5- المقابلة بين نسخ الكتاب، والإشارة إلى
الاختلافات الموجودة بينها.
6- تخريج الآيات القرآنية الواردة في الكتاب.
7- تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب.
8- تخريج النصوص المنقولة من المصادر،
والتعريف بتلك المصادر.
9- إضافة بعض المسائل المتعلقة بمواضيع
الكتاب، وفات المؤلف ذكرها.
10- تعريف الأعلام
الواردة في الكتاب.
ونظراً
لقيمة الكتاب العلمية، وأهميته، فقد أوصت الجامعة المستنصـرية بطبعه على نفقتها.
ولقد طبع بناءً على تلك التوصية في عام 1982م، في أربعة مجلدات.
وبعد أن عانى الشيخ عبد الحميد من مضايقات قوى
الأمن التابعة لحكومة حزب البعث، بسبب مواقفه المعارضة لسياساتهم، وعدم استجابته
لطلباتهم بضـرورة الدعاء للرئيس الأسبق صدام حسين، أثناء الحرب العراقية – الإيرانية؛
اضطر إلى مغادرة بغداد في عام 1982م، وانتقل إلى محافظة دهوك، وبالتحديد أصبح
إماماً وخطيباً في جامع مصيف (سوارتوكا)، الواقع شماليّ مدينة دهوك بحوالي 25كم
تقريباً
وفي عام 1989م انتقل إلى مركز محافظة دهوك، وأصبح
إماماً وخطيباً لجامع دهوك الكبير القديم، واستمر فيه لمدة ثلاثين سنة، أي حتى عام
2019م.
يعد الشيخ عبدالحميد أحد مؤسسي كلية الشـريعة
والدراسات الإسلامية في دهوك سنة 1992م، وابتدأ التدريس فيها، حيث نقل خدماته
الوظيفية من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في إقليم كوردستان، إلى وزارة
التعليم العالي والبحث العلمي. واستمر بالتدريس في قسم اللغة العربية في كلية
التربية جامعة دهوك، فضلاً عن إشـرافه على مكتبة الكلية. وبعد تأسيس جامعة زاخو
عام 2010م، نقلت خدمات الشيخ إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب – جامعة زاخو.
وبعد أن تأسس قسم الدراسات الإسلامية في فاكولتي العلوم الإنسانية – جامعة زاخو،
نقل الشيخ إلى القسم المذكور، حسب تخصصه. إلى أن تقاعد من الخدمة الجامعية في عام
2014م، علماً بأنه كان مستمراً في الإمامة والخطابة تطوعاً، أثناء خدمته الجامعية.
ترأس لجنة الإفتاء في اتحاد علماء الدين الإسلامي
- فرع دهوك لفترات طويلة، في أواخر التسعينيات من القرن العشـرين وبداية الألفية
الثانية. وكان سبق له أن شارك في المؤتمر الأول الذي عقده علماء الدين الإسلامي في
كوردستان العراق في قصبة (كلاله)، مقر الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني في 21
شهر أيلول/ سبتمبر عام 1970م، بمشاركة 640 شخصية دينية علمية، والذي تمخض عنه
تأسيس (اتحاد علماء الدين الإسلامي في كوردستان العراق).
لقد كان تأسيس اتحاد علماء الدين الإسلامي،
كمؤسسة علمية ومهنية في كوردستان، خطوة مهمة في اتجاه ترسيخ دور علماء الإسلام في
تعزيز مبادىء العقيدة والشـريعة، ونشـر ثقافة التعايش وحب الإنسانية، وفي توعية
المواطنين في عموم مناطق ومدن وقرى كوردستان. وبموازاة ذلك أدى علماء الدين الإسلامي
أدواراً مشهودة في مراحل النضال والثورة، وفي رفع مستوى الوعي الديني والوطني لدى
الناس، والتعريف بالحقوق الشـرعية، ورفض الظلم والاستبداد والطغيان.
وكان دوره يتلخص في
الحفاظ على الهوية الإسلامية للشعب العراقي عامة، وللشعب الكوردي خاصةً، لأن
الإسلام هو دين الغالبية العظمى لهذا الشعب، سيما وأن عدداً لا بأس به من كبار
علماء الإسلام في بغداد كانوا من أصول ٍ كورديةٍ، ولذا تبوأوا مناصب الإفتاء
والقضاء فيها، أمثال: محمد فيضـي الزهاوي(1808–1890م)، الذي استمرّ في منصب
الإفتاء من سنة 1856 لغاية وفاته سنة 1890م، ونجله محمد سعيد الزهاوي (1869–1921م)،
الذي تولى منصب مفتي بغداد إلى وفاته، ونجله أمجد الزهاوي (1882–1967م)، الذي كان
مفتي العراق حتى وفاته، ومحمد القزلجي (1895–1959م)، الذي كان المرجع الديني
لعلماء أهل السنة والجماعة في بغداد، والمدرس الأول للمدرسة القادرية في الحضـرة
الكيلانية، وهو من المؤسسين لجمعية الهداية الإسلامية في بغداد، وكان عضواً في
جمعية إنقاذ فلسطين ورئيساً لجمعية الهدي المحمدي بالأعظمية، وكان سبق له أن زار
جامعة الازهر والتقى بالعلامة محمد رشيد رضا، صاحب تفسير المنار، والشيخ مصطفى
المراغي شيخ الأزهر، وغيرهم من كبار العلماء في مصـر، الذين
أشادوا بفضلهِ وعلمهِ، وأخيراً وليس آخراً العلامة عبدالكريم المدرس (1905 –
2005م) مفتي العراق، وصاحب التصانيف الكثيرة في اللغات الكوردية والعربية
والفارسية، ومدرس الحضرة الكيلانية، وغيرهم.
وغني عن القول أن الإسلام
- طيلة العهد الملكي في العراق، بعد سقوط الدولة العثمانية - كان يشكل المرجعية
العليا للشعبين العربي والكوردي في العراق على حدٍ سواء، ولكن قيام ثورة 14 تموز
عام 1958م، وبروز دور الحزب الشيوعي العراقي بشكل كبير، مع غيره من الأحزاب
الاشتراكية والقومية العربية، وما رافق ذلك من تأسيس الأحزاب الكوردية المختلفة؛
من ماركسية وقومية وعلمانية، والخلاف الذي جرى بين حكومة الزعيم الركن عبدالكريم
قاسم؛ رئيس الوزراء العراقي في حقبة ما بعد النظام الملكي، وقيادة الحزب
الديمقراطي الكوردستاني، بقيادة الزعيم الكوردي الملا مصطفى البارزاني، في سنوات
1959 – 1961م، لأسباب كثيرة لا مجال لبحثها الآن، وانطلاق الحركة الكوردية في 11
أيلول/سبتمبر عام 1961م، للمطالبة بالحقوق السياسية للكورد؛ أسهم كل ذلك في انحسار
المرجعية الإسلامية، وبالتالي فإن الأحزاب القومية والعلمانية أصبحت بمثابة مرجعية
للشعبين الكوردي والعربي في العراق، وإلى حد كتابة هذه الأسطر.
لذا، فإن العبء أصبح
كبيراً على علماء الإسلام في التصدي للموجات الإلحادية والعلمانية التي غزت
المجتمعات الإسلامية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن المهمات
اليومية في إقامة الصلاة وإلقاء المواعظ المناسبة لكافة شؤون الحياة، وإلقاء خطب
الجمعة، والدروس في المدارس المسجدية الملحقة بالجوامع، وإلقاء المحاضرات في كليات
الشـريعة والدراسات الإسلامية، والتصدّي للفكر التغريبي بنشـر البحوث
والمقالات المختلفة.
ومن هذا المنطلق، فقد
كان للشيخ عبد الحميد العديد من الصولات والجولات في هذا المجال، فقد استغل وقته
في بغداد، في إلقاء العديد من الخطب والمحاضرات والمواعظ في صوت الإذاعة الكوردية
في بغداد في الحقبة ما بين 1978 الى 1985م، عندما كان متواجداً كإمام وخطيب في (جامع
الفضل) في بغداد، وحتى بعد انتقاله كإمام وخطيب إلى محافظة دهوك، جنباً إلى جنب مع
الشيخ عبدالحميد الأتروشي قاضي بغداد الأول (1904 - ؟)، والشيخ عمر مولود الديبكي (1919
– 2002م)، والملا مصطفى حسن الريكاني، والأستاذ أبو زيد السندي، حيث خدم الشـريعة
الإسلامية باللغة الكوردية على أتم ما يكون. ومن ضمن تلك المواعظ عشـرات الحلقات
من تفسيره (الحياة مع القرآن). وسمى الشيخ تفسيره (ذيانا دطةل قورئانا ثيروز) أي:
الحياة مع القرآن الكريم، ويمكن تلخيص منهجه في تفسيره للقرآن الحكيم بالنقاط
الآتية:
1- يبيّن الشيخ في مقدمة التفسير، سبب قيامه بهذه المهمة الشاقة،
فيقول: أردت أنْ أقدم خدمة لبني جلدتي المحبين للإسلام، وأن أكون عوناً لهم على
فهم معاني كتاب الله عزَّ وجلَّ.
2- بدأ الشيخ تفسيره بذكر بعض التعاريف
المهمة المتعلقة بالتفسير، وبيان الفرق بين التفسير والتأويل، وشـروط المفسر، ومن
ثَمَّ بيان فضل القرآن الكريم، وفضل تفسيره.
3- يبدأ الشيخ تفسير السورة ببيان مكيتها أو
مدنيتها، ثم يتطرّق إلى بيان فضل السورة، فمثلاً يشير إلى مكية سورة الفاتحة،
ويتجنب الخوض في ذكر الآراء المرجوحة التي تقول بأنها مدنية، ثم يذكر بعض الأحاديث
عن فضلها، مثل حديث عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: [بينما جبريل -عليه
السلام- قاعد عند النبي – صلى الله عليه وسلم – سمع نَقِيضَاً من فوقه، فرفع رأسه،
فقال: هذا باب من السماء فُتِحَ اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه مَلَكٌ،
فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلم وقال: أبشـر بنُورين
أُوتِيْتَهُما لم يُؤتهما نَبِيٌّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخَوَاتِيمُ سورة البقرة،
لن تقرأ بحرف منها إلا أُعْطِيتَهُ]. رواه مسلم في صحيحه.
4- يذكر الشيخ الأسماء الأخرى لسورة الفاتحة،
وهي: أم الكتاب، أم القرآن، السبع المثاني، الصلاة، الشافية، الكافية، الواقية.
5- يتطرق إلى ذكر المسائل الفقهية التي تشير
إليها الآيات، ففي سورة الفاتحة يبين حكم قراءة سورة الفاتحة في الصلاة. وفي آيات
الحج والصوم في (سورة البقرة) يذكر أحكام الحج والصوم بشيء من التفصيل.
6- يذكر سبب نزول الآية أحياناً، ولا سيما
إذا كان ذلك ضـرورياً، مثلاً في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن
شَعَائِرِ اللَّهِ…} البقرة: 158، ويذكر الشيخ رواية عاصم بن سليمان، قال: سألت
أنساً عن الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام
أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ
اللَّهِ…}.
7- القارئ لتفسير الشيخ يرى أنّه قد بذل
جهداً كبيراً، ولا سيما في زمن كانت القراءة والكتابة باللغة الكوردية والاهتمام
بها ضعيفاً إلى أبعد الحدود.
8- يركز الشيخ في تفسيره على الجانب الدعوي
والتربوي، ويرد على المشككين والمغرضين من أعداء الدين.
9- سألت الشيخ عن التفاسير التي اعتمد عليها
في تفسيره، فكانت إجابته: استفدت من الكثير من التفاسير، ولكن الاعتماد الأكبر كان
على تفسير (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (المتوفى سنة 671هـ)، وتفسير (القرآن
العظيم) لابن كثير (المتوفى سنة774هـ)، و(التفسير الكبير) لفخر الدين الرازي (المتوفى
سنة606هـ)، و(في ظلال القرآن) لسيد قطب (المتوفى سنة1966م).
10- هناك بعض
الأخطاء الإملائية البسيطة، غير المؤثرة، في تفسير الشيخ، ومن السهل تصحيحها.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ للشيخ، فضلاً عن تفسيره،
كتابات أخرى، منها تحقيقه لكتاب (أحكام الصغار) للأسـروشني، كما أسلفنا القول، و(عناصـر
القوة في الإسلام) (= عبارة عن خطب منبرية).
مواقف الشيخ عبد الحميد:
للشيخ عبدالحميد مواقف كثيرة في الدفاع عن المظلومين ونصـرة قضاياهم، فعلى
سبيل المثال كانت له مواقف مشهودة في التصدّي لمخططات النظام العراقي السابق، في
محاولته القضاء ليس على الحركة الكوردية فحسب، بل وأد كل تحرك أو صوت كوردي معارض
لمخططاتهم الجهنمية في ترويض الكورد كشعب، بحجة تمرده وتصديه للسلطة العراقية، في
المرحلة الأولى. وفي المرحلة الثانية، اتهامهم الحركة الكوردية بدعم الإيرانيين،
وجيشهم، وميليشياتهم، في محاولة غزو الأراضي العراقية، أثناء سنوات الحرب العراقية
– الإيرانية (1980 – 1988م).
كان للشيخ عبد الحميد مواقف واضحة وصـريحة في
عدم الاستجابة لمطالب الجهات الأمنية في محافظة بغداد، أثناء إمامته وخطابته في
جامع الفضل في وسط بغداد، وتم استدعاؤه مرتين من قبل مديرية الأمن العامة بشأن الدعاء
للرئيس العراقي آنذاك، وعلى أيّ حال فإن الشيخ لم يستجب لهذه المطالب.
وفي السياق نفسه، فقد تم استدعاء الشيخ إلى إحدى
الجهات الأمنية في بغداد مرة ثالثة، بحجة أنه يحمل جريدة (طريق الشعب)، الناطقة
بلسان الحزب الشيوعي العراقي، وكان الشيخ في قرارة نفسه يغلف الكتب الإسلامية
الممنوعة وغير المرغوبة عند البعثيين بالجرائد، إخفاءً لها، ولم ينتبه إلى كونها
تمثل جهة معارضة للسلطة القائمة آنذاك؛ لذلك فبعد أن زادت الضغوط عليه، وهو في
مكان بعيد في بغداد؛ لذا قرر في نهاية الأمر
حسم الأمر بنقل خدماته إلى مسقط رأسه في محافظة دهوك، وبالتحديد إلى جامع مصيف
سواره توكا (تبعد زهاء 25 كم شمال مركز مدينة دهوك)؛ للتخفيف من وطأة تلك الضغوط،
وتمت الإشارة إلى ذلك آنفاً.
وبعد الانتقال إلى محافظة دهوك، فإن مواقف
الشيخ لم تتغير، وإنما زادت صلابةً، لأنه رأى بأمّ عينيه ما يعانيه أبناء قومه
وعشيرته من تدمير القرى، وتهجير وإسكان أهاليها في مجمعات قسـرية، وكان الشيخ قد
استقر في إحداها مع أهله وأبناء عمومته، وهو مجمع (باكيرات)، الواقع على بعد 20 كم
شمالي مركز مدينة دهوك.
وقد تعرّض الشيخ، وإخوانه وأبناء عمومته، إلى
ضغوط كبيرة من قبل منتسبي الأجهزة الحزبية والأمنية، لثني مواقفهم في الدعاء
للرئيس العراقي، وتلبية رغباتهم في الطلب من سكنة مجمع باكيرات الالتحاق بمعسكرات
الجيش الشعبي وألوية المهمات الخاصة، أو الدخول إلى منازل المواطنين بدون استئذان،
بحجة المسح الأمني والسكاني، ولكن وقوف الشيخ عبدالحميد، وأخيه العالم الرباني
المشهور ملا نوري (المتوفى سنة 2008م)، أحبط هذه المخططات.
فعلى سبيل المثال، عندما قتل وزير الدفاع
العراقي: عدنان خيرالله طلفاح، في حادث طائرة الهيليكوبتر في4/5/1989م، تفوه شخص
من عشيرة الريكان بكلمات معبرة عن الظلم الواقع على الشعب، في جامع باكيرات، يفهم
منها أنه انتقاص من المقتول. ونقل أحد الوشاة، من وعاظ السلاطين، هذه المعلومة إلى
منظمة حزب البعث في مجمع باكيرات، ونسبها إلى الملا نوري (أخا الشيخ)، ظلماً
وزوراً، فتم استدعاء ملا نوري على الفور إلى الفرقة الحزبية في ناحية مانكيش،
الواقعة على بعد حوالي 50 كم شمال غرب مدينة دهوك، للتحقيق معه، دون النظر إلى
مركزه الديني كإمام وخطيب جامع مجمع باكيرات، أو سنّه. لذلك رافق الشيخ عبد الحميد
أخاه إلى المكان المطلوب، وبعد تحقيق قصير، تمكن الشيخ بأسلوبه الراقي، وهيبته، من
إنقاذ أخيه من براثنهم.
وفي المرة الثانية، عندما مات الأمين العام
ومؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي (ميشيل عفلق) في 23/6/1989م، وكان مسيحياً وفق
مذهب الروم الأرثوذوكس، ومن أهالي مدينة دمشق، تم الإعلان في الإذاعة العراقية
رسمياً بأنه قد أسلم!، وتم إجراء مراسيم صلاة الجنازة الإسلامية عليه من قبل أحد
أزلام السلطة البعثية آنذاك (وعاظ السلاطين). وكان عبدالحميد الملا نوري، قد تفوه
للمرة الثانية بكلمات أمام بعض الناس، مضمونها بأن عفلق قد مات على نصـرانيته ولم
يسلم، ونقل بعض عملاء حزب البعث من وعاظ السلاطين هذه المعلومات إلى الأجهزة
الحزبية والأمنية، فتم استدعاء الملا نوري، والشيخ عبد الحميد، ونجله الكبير (عبدالمنعم)،
الطالب في المرحلة الإعدادية، بواسطة المنظمة الحزبية في مجمع باكيرات، إلى الفرقة
الحزبية في ناحية مانكيش، التابعة لقضاء مركز دهوك، للتحقيق معه.
كما لا يمكن نسيان موقف عقيلته (والدة
عبدالمنعم)، في منع أزلام البعث من الدخول إلى منزلهم، أثناء عدم تواجد الشيخ في
البيت. ولكن هيبة الشيخ، ووقاره، وإلمامه الكامل باللغة العربية الفصحى، وقدرته
على الإقناع، مكنته من التخلص من هذه المكيدة، وتم الاعتذار له من قبل أمين سـر
الفرقة الحزبية.
وعندما جرت عمليات ما يسمى بالأنفال في كوردستان
العراق، وكان آخرها أنفال منطقة بهدينان، في محافظة دهوك، في 25/8/1988، واستمرت إلى
6/9/1988، وكان يطلق عليها الأنفال الثامنة، وهي خاتمتها، حيث تم سوق الآلاف إلى
حتفهم في صحارى جنوب العراق، ظلماً وزوراً، وبدون وجه حق، مثلهم في ذلك كمثل أصحاب
الأخدود، {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ
هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ (7)} سورة البروج.
وبخصوص منطقة بهدينان، فقد تم نقل الآلاف من
الأبرياء؛ من النساء والشيوخ والأطفال، إلى منطقة بحركي، الواقعة شمال غرب مدينة
أربيل، حيث وضع آلاف من الناس في منطقة سهلية مملوءة بالأشواك والأحجار، لا تتوفر
فيها وسائل العيش (صحراء قاحلة)، ولا حتى ظلٍ يقيهم حر الشمس اللاهبة، فضلاً عن
عدم توفر المياه والخيم وما إلى ذلك؛ حيث تم وضعهم في معسكرات مسيجة بالأسلاك
الشائكة حتى ينتظروا مصيرهم المعروف، دون أي وازع من دين أو إنسانية أو ضمير. ولكن
وقوف أهالي أربيل الأوفياء بكل شهامة وكرامة، من خلال دعمهم اللامحدود لكل متطلبات
الحياة التي لا تخطر على البال؛ حال دون وقوع الكارثة، وتم إنقاذ حياة هؤلاء
البؤساء، مع ما رافق ذلك من تفشـي الأوبئة والأمراض المعدية السارية، التي قضت على
حياة المئات من الأطفال والرضع وحتى الشيوخ. لذلك هبّ علماء الدين الإسلامي في
منطقة دهوك، ومن ضمنهم، وعلى رأسهم: الشيخ عبدالحميد، وإخوانه: الملا محمد شـريف
محمد طاهر البانصوري الدوسكي إمام وخطيب جامع صدام حسين (= آزادي حالياً)، والملا
رشيد عثمان سكيري إمام وخطيب الجامع الكبير في العمادية، والملا مصطفى حسن
الريكاني خطيب جامع الإمام حمزة، والملا علي نبي كرمافي الدوسكي إمام وخطيب جامع
كريباصي، والملا زاهد عابد الكوهرزي إمام وخطيب جامع الشهداء، مع زملائهم الآخرين
من العلماء، وغيرهم من الشخصيات في مختلف طبقات المجتمع، لنصـرة هؤلاء المظلومين
من بني دينهم وقومهم، والطلب من الناس بمساعدتهم بكل ما يتوفر لديهم من متطلبات
الحياة المختلفة؛ من غذاء وماء ودواء وخيم وغيرها من وسائل السكن، حتى يمكن إنقاذ
ما يمكن إنقاذه من الأرواح قبل كل شيء.
ومن جهة أخرى، فقد زار الشيخ - برفقة الملا
محمد شـريف الدوسكي، والملا رشيد السكيري - قيادة مكتب تنظيم الشمال، العائد لحزب
البعث في كركوك، للطلب من مسؤوله (حسن العامري) بجمع شمل العوائل التي تفرق
أفرادها ما بين معسكر بحركي، ومعسكرات الاعتقال الأخرى في قلعة مفرق دهوك، والقلاع
الأخرى الواقعة في مدن وقصبات منطقة بهدينان. ويبدو أن النجاح كان مصير خطوة علماء
الدين الإسلامي المذكورين، رغم ما رافق هذا الاقتراح أو الالتماس من خطورة على
حياتهم، بسبب اتهامهم بدعم الاتجاهات المعارضة للسلطة آنذاك، في إشارة إلى ثوار
ومؤازري الحركة الكوردية.
ومن مواقف الشيخ الجديرة بالذكر، عدم رغبته في
الانتماء إلى الأحزاب، ولا سيما حزب البعث، وكان يتعاون ويتعامل مع جميع الأحزاب
في سبيل المصلحة العامة. وانتمى الشيخ لمدة سنتين إلى (الحركة الإسلامية في كوردستان
العراق)، في نهاية سنة 1991م، وكان هذا الانتماء عائداً إلى العلاقة القوية التي
كانت تجمع بينه وبين بعض العلماء من قادة الحركة، أمثال: الشيخ عثمان بن عبدالعزيز،
مرشد الحركة، وشقيقه: علي بن عبدالعزيز، نائب المرشد. ودفعت هذه العلاقات قيادة
الحركة لترشيحه لمجلس شورى قيادة الحركة، رغم عدم تواجده في كوردستان آنذاك (بسبب انشغاله
في رحلة الحج، في شهري أيار وحزيران عام1991م)، وعمل مع الحركة الإسلامية إلى أن
حدثت بعض المشاكل بين الحركة الإسلامية والاتحاد الوطني الكوردستاني، تطور إلى
قتال بين الجانبين في 3/12/1993م؛ ولكن هذا القتال المؤسف بين أبناء الشعب الواحد،
كان له تأثير سلبي في وجدان الشيخ، الذي كان لا يتصور حدوث هذا الأمر الجلل، وسقوط
العشـرات من الضحايا بين الجانبين، وحدوث تجاوزات خطيرة على حرمات بعض الضحايا.
ودفعت هذه الأحداث المؤسفة في منطقة (بيتواتة)،
التابعة لمحافظة السليمانية (مقر قيادة الحركة الإسلامية، آنذاك)، ولكي لا تنتقل
هذه الأحداث إلى منطقة دهوك، ذات الصبغة المحافظة، دفعت الشيخ إلى الابتعاد عن
العمل التنظيمي، وركَّز أكثر على العمل العلمي والدعوي، من خلال التدريس في كلية
الشـريعة والدراسات الإسلامية، التي تأسست في هذه الحقبة، عام 1992م، فضلاً عن خطب
الجمعة والمحاضـرات والمواعظ المختلفة بعد الصلوات. وكان لهذه الأحداث المؤسفة،
التي لم يكن لها أي مبرر معقول يستحق كل هذه التضحيات، تأثير على مواقف الشيخ، لا
سيما وأن الكورد قد خرجوا للتو من مآسي حلبجة والأنفال وغيرها؛ كل هذه التداعيات
والنتائج أوصلت الشيخ عبدالحميد إلى قناعة أن الموقف الأمثل هو استقلال عالم الدين،
مما يجعله مقبولاً من قبل الجميع، وأكثر تأثيراً في الآخرين.
وكان صاحب هذا البحث قد زار بمعية الشيخ
عبدالحميد الديار المقدسة، حيث وجه الديوان الملكي السعودي الدعوة إلى (الحركة الإسلامية
في كوردستان)، وبعض رؤساء العشائر الكوردية، برئاسة الشيخ حسين آغا السورجي،
وشخصيات مستقلة (الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صديق البارزاني)،
ابن عم السيد مسعود البارزاني، لزيارة المملكة العربية السعودية بقصد الحج. وفعلاً
ففي حوالي الثلاثين من شهر أيار/ مايس عام 1992م، زار حوالي (50) شخصاً من كوردستان
العراق تركيا، ومن هناك أقلّت أعضاء الوفد طائرة سعودية خاصة إلى مطار جدة الدولي،
بعدها انتقل أعضاء الوفد إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
وفي الأيام التي سبقت شعائر الحج، زرت برفقة
الشيخ عبد الحميد، وأعضاء الوفد، سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ
عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز في مقر إقامته في مسجده في منطقة العزيزية في مكة
المكرمة، بعدها زرنا سماحة العلامة الشيخ محمد صالح العثيمين، وبعد تبادل كلمات
المجاملة، سأل الشيخ عن الكورد وكوردستان وأحوالهم، فرد الشيخ عبدالحميد، نيابة عن
أعضاء الوفد الكوردي، وتطرق إلى بيان أحوال الشعب الكوردي، وما كان يعانيه من ظلم
وإجحاف بحقه من قبل حكومة صدام حسين، وغيرها من الحكومات، وأن الكورد يطالبون
بحقوقهم الطبيعية التي أقرها لهم الإسلام لا غير. وعندما سأل الشيخ ابن عثيمين عن
اللغة الكوردية وأصلها، قام صاحب هذه الأسطر بالإجابة على سؤاله، بالتطرق إلى بيان
الفرق بين اللغة العربية،؛ لغة القرآن الكريم، التي هي من فصيلة اللغات السامية،
وأن اللغة الكوردية هي من قسم اللغات الهندو – إيرانية التي تنتمي إلى فصيلة اللغات الهندو - الأوروبية، وأن القاسم
المشترك الذي يجمع بين الشعبين العربي والكوردي هو الإسلام والتاريخ المشترك
والجيرة، وأن الكورد – بحمد الله – شعب مسلم يفتخر بانتمائه الإسلامي؛ وأنه طالما
دافع ونافح عن الإسلام في وجه مخططات أعدائه من الغزاة والمارقين.
وكان أعضاء الوفد برئاسة الشيخ علي بن
عبدالعزيز، قد زاروا عدداً من الشخصيات السعودية وغير السعودية المتواجدين في
المملكة، لبيان أحوال الشعب الكوردي وما يلاقيه من شظف العيش، وأن على المسلمين
مساندته للوقوف على قدميه. وتطرق الشيوخ: علي بن عبدالعزيز، وعبداللطيف البرزنجي،
والشيخ عبدالحميد الريكاني، إلى عدم التفرقة بين الشعوب الإسلامية من ناحية الدعم
والإسناد، ففي حين تتم الإشارة إلى الشعوب الإسلامية المضطهدة في كل من كشمير،
والفليبين، والشيشان، وغيرها، لا يتطرق الإعلام الإسلامي، ولا المؤتمرات الإسلامية
الرسمية، ولا الشعبية، البتة إلى الشعب الكوردي.
وفي اليوم الأول من عيد الأضحى المبارك، استقبل
الملك فهد بن عبدالعزيز رئيس الوفد الكوردي الشيخ علي بن عبدالعزيز، مع غيره من
رؤساء الوفود الإسلامية، في حين زارنا في مقر إقامتنا في مشعر مِنى صاحب السمو
الملكي الأمير تركي الفيصل بن عبدالعزيز لتهنئتنا بمناسبة العيد.
وبعد انتهاء شعائر الحج زار أعضاء الوفد
المدينة المنورة للصلاة في المسجد النبوي وزيارة قبر الرسول محمد بن عبدالله - عليه
الصلاة والسلام -، وبعد انتهاء الزيارة في حوالي السابع عشـر من شهر حزيران عام
1992م، أقلت الوفد طائرة خاصة من مطار المدينة المنورة إلى مطار أنقرة الدولي،
تمهيداً للعودة إلى كوردستان، في حين تخلف من أعضاء الوفد ثلاث شخصيات، وهم كل من:
الشيخ علي بن عبدالعزيز، والشيخ عبداللطيف البرزنجي، والشيخ عبدالحميد البيزلي
الريكاني، حيث تم نقلهم إلى الرياض لإلقاء الخطب والمواعظ في مساجد وجوامع مدينة
الرياض حول معاناة الشعب الكوردي وظروفه المعيشية الصعبة، تمهيداً لدعمه.
وبعد تقاعد
الشيخ عبدالحميد عن التدريس في (جامعة زاخو)، سنة ٢٠١٤م،
استمر في إلقاء الخطب وإمامة المسلمين في الصلاة في جامع دهوك الكبير حتى سنة
٢٠١٩م، ولكن الشيخوخة والمرض جعلتاه لا يستطيع المضي في ذلك، إذ لم يلبث أن أصيب
في بداية شهر تموز عام ٢٠٢١م بجلطة دماغية، ورغم جهد الأطباء وإجراء عملية جراحية
عاجلة له، فإن القدر لم يمهله طويلاً، حيث فارق الحياة على إثرها في 27/7/2021. وهكذا
رحل الشيخ بعد حياة حافلة بالعطاء والتقوى والنشاط الإسلامي العلمي والدعوي والإرشادي..
فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق