03‏/10‏/2017

السياسة الأمريكية في العالم وفي المنطقة الإسلامية (محاولة للفهم)

أحمد البياتي
تدور في المنطقة، والعالم، أحداث كثيرة، قسم منها طبيعي، بحكم تسلسل الأحداث، وقسم آخر يكتنفه الغموض، وله أبعاد لا نملك لها تفسيراً واضحاً.. ونرى أن من يفهم السياسة الأمريكية، وأهدافها في المنطقة، والعالم، يستطيع أن يضع تحليلاً لكثير من الأحداث التي تدور في المنطقة، ليس من باب نظرية المؤامرة، بل من باب التحليل السياسي والمنطقي، إذ إن من أولويات كل قوة، صغيرة كانت أم كبيرة، إذا أرادت النمو، فلا بد أن تخطط في مسارين: الأول: تقوية نفسها. والثاني: إضعاف خصمها .
تعيش (الولايات المتحدة) اليوم مفصلاً مؤرقاً، فهي أكبر قوة على الأرض، تحلم بقيادة نصف الأرض الذي يقطنه النصارى، وبعض الدول المنضوية تحت ظلها، لتعيد مجد الرومان، الذين استمروا - ولحقبات من الزمن - ينافسهم الفرس، ثم المسلمون.. وأن لا يخرج نصف الكرة الأرضية الثاني عن طور سيطرتها.
وهم اليوم يمتلكون كل مقومات القوة العسكرية والمالية والعلمية  والتقنية والبشـرية، مما يؤهلهم لذلك،  وهم يكافحون للاستمرار في المحافظة على موقعهم هذا، وكيلا يبلغوا مرحلة الانهيار، كما انهارت واضمحلت كثير من الحضارات على مر العصور  .
وقد دأبت مراكز البحوث والدراسات الأمريكية بالوقوف على الحقيقة المؤلمة، والمأساة  القادمة، ووضع الحلول الناجعة لتلافيها، فكتبوا كثيراً، وحللوا أسباب نمو وسقوط الحضارات، وخلصوا إلى النتيجة التي تشير إلى أنه للحفاظ على حضارتهم (الأمريكية الجديدة) في المرتبة الأولى، فعليهم تحقيق الهدف الاستراتيجي، وهو ديمومة السيطرة على العالم، وهذا يتطلب أن تستحوذ على أركان السيطرة الثلاثة، وهي :
1. المال.
2. الطاقة.
3. الديموغرافية (القوة البشرية).
فإذا ما تحققت هذه الأركان الثلاثة، عندئذ تتربع على عرش إمبراطورية العالم، ولكن ليس بالشكل القديم الكلاسيكي الظاهري، بل بالشكل الحديث، الذي لا يسمح لأيّ شاردة وواردة في العالم أن تمر إلا من خلالها :
فلا يستثني الهدف الاستراتيجي ركناً واحداً،أو ركنين، فإنها ستكون حضارة عرجاء تؤول للسقوط، بل لابد أن تسير الأركان الثلاثة بشكل متواز .
فلتقوية هذه الأركان، وتغذيتها، لابد أن تسير بمسارين:أحدهما إيجابي، والآخر سلبي، وهما: (تقوية الذات، وإضعاف الخصم المنافس)،لكي تبقى ذا سبق، ويبقى المنافس يجر أذيال الخيبة، والحاجة المستمرة إلى القوى المتنفذة.
فلتقوية الركن الاقتصادي والمالي، تتفنن (الولايات المتحدة) في أساليب كسبها طرقاً شتى من عرق جبينها، ومنها ما تجبيه من الدول الأخرى، بطرق قانونية ملتوية، تبع للهيمنة الأمريكية، سواء عن طريق التوفير الإجباري لأموال النفط الكبيرة، من الدول المنتجة للنفط  في البنوك الأمريكية، إو عن طريق عمولات تحويل الدولار عن طريق البنك المركزي الأمريكي، أو تحديد التعامل بالدولار أمام الذهب، أو ما يطبقه البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، من سياسات جعلت أكثر الدول تدين بالتبعية لها، نتيجة القروض ذات الفوائد المركبة، والتي أثقلت بها كاهل كثير من الدول، فعجزت عن تسديدها، فترزخ عندها تحت طائلة الديون، فتقع أخيراً في المصيدة الأمريكية ، إضافة إلى جبايتها  الأموال الطائلة بحجة حمايتها من الإرهاب، فابتزت دول الخليج –ولا تزال - وهم الشاكرون لها، ومن خلال إشاعة الفتن والحروب الداخلية والخارجية، بواسطة سماسرة الحرب، والتي هي إحدى وسائل إضعاف الشعوب، مادياً وديموغرافياً، كي تدير  خطتها من (واشنطن)، ولا يسع هذه الدول إلا أن تنشغل بقضاياها الداخلية، وتحاول بناء ما تخربه الحروب.. هكذا يسير العالم من حرب إلى حرب، ومن فتنة إلى أخرى، وتبقى أمريكا متربعة على عرش السلطة والتمكين .
وركن الطاقة لا يقل أهمية عن ركن المال، فنضوب مصادر الطاقة في العالم، جعلها تستميت من أجل النفط والمعادن الأخرى، وترى أن لها حقاً في كل منابع الطاقة في العالم .
والركن الثالث، والذي أنا بصدده، لا يقل أهمية عن سابقيه، بل هو الركن الأهم، وهو مفهوم (الديموغرافيا)،أو القوة البشـرية، إذ عرفها علماء الاجتماع اصطلاحا: "هي الخصائص السكانية، مثل إحصائيات زيادة السكان، والكثافة السكانية، والتوزيع السكاني، ونسب المواليد والوفيات، والهجرات بأنواعها، وأسبابها، ونسب العمر، ومستوى الدخل ... إلخ"، وخلصوا إلى أن كل حضارة، لكي تديم حضارتها، يجب أن لاتقل نسبة الإحلال فيها، والتي هي (نسبة الولادات إلى نسبة الوفيات) عن 2.11% ، فعندما تمّ قياس نسبة الإحلال في كل دول العالم، صعقوا لما عرفوا أن نسب الإحلال في الدول الأوربية والأمريكية لا تزيد عن 1.6%، وهناك دول نسبة الإحلال فيها هي 1.3% ، وهذا يعني أن الدول هذه سائرة إلى الاضمحلال.. ووجدوا أن دولة مثل (هولندا)، في عام 2025، ستكون نسبة النصارى فيها 50%، وهناك 3 ثلاث دول أوربية ستتحول في عام 2050، ديموغرافياً، إلى دول مسلمة  .
وبالمقابل وجدوا أن نسبة الإحلال في الدول الإسلامية لا تقل عن 5.5%، مما يؤدي إلى تحدّ مستقبلي كبير، ومخيف، لهم، إذ يعني تحول الهيمنة وزمام الأمور من الغرب إلى المسلمين خلال نهاية هذا القرن والقرن القادم، فأرّق هذا الأمر مضاجعهم .
فسدّاً لهذا النقص، فتحوا أبواب الهجرة إلى أوربا، وكندا، وأمريكا، واستراليا، وغيرها، فهاجر خلق كثير، طلباً للعيش الرغيد، أو هرباً من ظلم حكامهم، ليتأقلموا مع الحياة الجديدة، وبهرجتها، وما توفره لهم من إمكانات تبهرهم، إضافة إلى تعمّد تشتيتهم على المدن والقرى، ليبقوا وحيدين، غرباء، ضعفاء، فيسهل تذويبهم، وترويضهم، فنسي كثير من المهاجرين في هذا الخضم دينهم ومعتقداتهم الأصلية، وتراثهم، وخصوصاً عند من لم تكن لها الأهمية والأولوية في أذهانهم، فذاب كثير من الناس، وضاعوا  في الحضارة الغربية.. وإذا حاول الجيل الأول جاهداً المحافظة على دينهم، فلا يستطيع الجيل الثاني، أو الثالث، ذلك.. فعوّضت هذه العملية النقص الحاصل عندهم في نسبة الإحلال .
فتشجعوا وعمدوا إلى افتعال أزمات سياسية، وإنشاء دكتاتوريات ظالمة، وحروب، وفتن، في بقاع كثيرة، لتسهل هجرة جماعات من عوام الناس، وممن يشعرون بظلم مجتمعاتهم، وحكامهم، ليسهل تذويبهم كرّدة فعل على بيئتهم القديمة التي ظلمتهم. وكل ذلك يتمّ حسب خطة سنوية.. إلا أن خطتهم هذه لم تفلح إلا لمدى قريب.. وذلك بعد أن كثرت الهجرات، وكثر الوافدون، مما استدعى تكوين تجمعات إسلامية، بنت لنفسها مساجد، ومراكز إسلامية، ومدارس، فأصبحت محاضن ترعى أبناءها، وحافظت على دينها وتراثها، فضعفت بذلك، أو على الأقل تأخّرت عملية  تذويبهم، أو تذويب أبنائهم، أو أحفادهم، في الحضارة الغربية .
بل تعدى الأمر إلى تحوّل النصارى إلى الدين الإسلامي، بجهود الدعاة الذين تميزوا بنشاطاتهم الدعوية والإنسانية، فأخلّ ذلك بعملية معالجة نسبة الإحلال المطلوبة، مما أثار حفيظتهم .
وتوصلوا إلى أن الإسلام والمسلمين هو التحدي الرئيسـي لهم، عندما رأوا أن جلّ المتحولين من النصارى، يتحولون إلى الدين الإسلامي، فعمدوا إلى وسائل إرهابية، كتفجيرات سبتمبر، وأنفاق لندن، وجاءت أخيراً شارل هيبدو، وغيرها، ونجحوا إلى حد معين بتخويف ذوي النفوس الضعيفة، إلا أن كل محاولاتهم كانت تنجح لأمد قصير، ثم تنقلب ضدهم، وكما يقول المثل: انقلب السحر على الساحر، واتسع الخرق على الراقع.
فعمدوا مجدداً إلى مخطط يهدف إلى تقليل نسبة الإحلال في المناطق الإسلامية، بخلق حروب وفتن ونزاعات إسلامية-إسلامية مستمرة، ليس فيها رابح وخاسر، مستفيدين من النزاعات الطائفية والعرقية، وتمّ دعم جهات متطرفة للقيام بالمهمة المقدسة، بحجة الجهاد والخلافة الإسلامية، لتكون سلاحاً ذا حدين، ولتستنزف أرواح أكبر عدد ممكن من شبابها، فتخلّ بنسبة الإحلال في المناطق الإسلامية،إضافة إلى جذب الناشطين  الإسلاميين من بلاد الغرب، ليتم التخلص منهم، ويستنزفوا في هذه البلاد، ولا يسمح للناجين بالرجوع إلى أوربا وأمريكا، فيكونون بذلك قد ضربوا عصفورين بحجر واحد .
ولتحقيق بقاء هذه الأركان  في قبضتها، فهي تتخذ كافة الإجراءات لاستيعاب وتسيير كل الأهداف الإقليمية التي تصب في هذه الأركان الثلاثة، أولها: استنزاف أكبر قدر ممكن من الناس، والحصول على المال والقوة الاقتصادية، أو للحصول على الطاقة السهلة والرخيصة، وتمنع وتحد كل هدف إقليمي لا يصب، أو يعارض، مخرجات الأركان الثلاثة.
والأهداف الإقليمية كثيرة، وهي على نوعين: الأول: (الحكومات العادلة، المصالحة الوطنية، التعايش السلمي، استقلال الكيانات الصغيرة، كالدولة الكوردية، وإنشاء الأقاليم، كالإقليم السني، والإقليم الشيعي، وغيرها). والنوع الثاني: (تصدير الثورة، أطماع بعض الدول بأراضي جيرانها، وخوف بعض الدول من سطوة جيرانها، ومحاولة تقسيم وتفتيت دول المنطقة، استنزاف الدول المحيطة بإسرائيل، النعرات الطائفية، النعرات القومية والعرقية...  وغيرها).
فالنوع الأول من الأهداف الإقليمية تؤدي إلى استقرار شعوب المنطقة، وهذا لا يصبّ في الأركان الثلاثة، وخصوصا ركن الاستنزاف، وتقليل نسبة الإحلال، فتحاول جاهدة لتأخير هذه الأهداف، والمماطلة فيها، وتبقى تؤمل الأطراف المتنازعة بأن لها حق الحياة، والعيش بسلام، وتقرير المصير، دون الوصول إلى نتيجة، حتى استنزاف آخر قطرة دم .
وأما أهداف النوع الثاني، الموجبة لإثارة الحروب، كالنعرات الطائفية، والتكفير، وتصدير الثورة، و(داعش)، والثورات العربية، أو الربيع العربي، وتفريغ المنطقة المحيطة بإسرائيل، والحرب الدائرة في العراق وسوريا، والحرب الحوثية، وتخويف العرب من إيران، وإثارة نعرات تسليم العراق واليمن وسوريا إلى إيران تارة، وإلى السنة تارة أخرى، مما يثير كوامن الطرفين للتحفيز للنزاع، وهذه كلها تؤدي الغرض من موضوع الركن الثالث: (الديموغرافية)، فينفخوا فيه لتحقيق الفوضى العارمة، وبشرط أن لا تخرج عن سيطرتهم، وكما يسميها البعض: الفوضى الخلاقة .
فهكذا ستبقى المنطقة في دوامة الصراع والانشغال، فلا تكاد تخرج من أزمة إلا وتبتلى بأزمة جديدة، وليس هناك رابح أو خاسر، وهذا حال كل الحروب خلال القرن الماضي وإلى اليوم..

فلا بد أن يعي حكام وشعوب المنطقة حجم المؤامرة، كي يستطيعوا أن يدركوا الحل،  والحكيم يدرك أن الحروب ليست في صالح أحد. وأن التهدئة هي المطلب العقلي في كل وقت {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق