أبو بكر كارواني
ترجمة:
سالم الحاج
ذكرتُ
في كتاب (من تراث الجماعة إلى الحزب المعاصر
ذي المرجعية الإسلامية)، الذي صدر في عام 2010، أنني اعتقد أن التعددية الإسلامية،
بشكلها الحالي في كوردستان، لم يعد لها مبرر.. وذلك لعدة أسباب، أبرزها:
1-
التقارب الحاصل بين الأحزاب الإسلامية، سواء في المنظومة
الفكرية، أم في آليات العمل، حيث لم يعد هناك وجود لحركات مسلحة وأخرى مدنية،
فكافة الأحزاب الإسلامية العاملة اليوم على الساحة الكوردستانية، هي أحزاب مدنية
تعمل في إطار القوانين السائدة.
2-
إن هذه التعددية الموجودة على الساحة أفرزت عدداً من
النتائج السلبية، مثل كونها أصبحت مصدراً للإنغلاق الفكري، ومانعاً من التوجه نحو الانفتاح
والتجديد، بسبب توجّس كل طرف من غيره من الأطراف
الأخرى، وخوفه من أن يكون ذلك
مثاراً للمزايدة والتنافس غير الشريف.
ومثل:
ظهور بوادر التحسس والحساسية من الأطراف الأخرى ...
ومثل:
محدودية القدرة على التنافس مع الأحزاب الأخرى، خارج الإطار الإسلامي، أثناء الانتخابات، والحصول على ثقة
الناخبين، بحكم أن جماهير هذه الأحزاب الإسلامية متقاربة في توجهها، ورؤيتها،
وبالتالي في تصويتها، وأنها كانت توجه قوتها ضد منافسيها ضمن التيار الإسلامي..
لكل
ما سبق، فإني أدعو كافة الإسلاميين إلى
التفكير ملياً في هذا الواقع القائم، ووضعه تحت طائلة المسائلة، في ضوء الواجب
والدور الذي ينتظرهم في المستقبل.
وبالطبع،
فإني عندما أتحدث عن التعددية الإسلامية بهذا الشكل، معدّداً آثارها السلبية، فهذا
لا يعني أنني ضد التعددية الإسلامية،
كمبدأ، بل إننا يجب أن نكون مع كل أنواع التعدديات: الإسلامية والقومية والدينية
والمذهبية والفكرية والسياسية، وبخلاف ذلك سنكون على الضد من سنن الله الكونية.
ما
أريد الإشارة إليه هو ضعف المبررات التي تستند إليها التعددية السياسية الإسلامية
في كوردستان تحديداً، وليس إنكار التعددية نفسها.. فهذا نداء إلى تجميع الطاقات
والقوى الإسلامية بأسلوب جديد، لكي نعطي معنى جديداً وحقيقياً للتعددية، ولكي يصبح
الإسلاميون، والشرائح المحافظة في المجتمع، طرفاً معتبراً، ومحترماً، وصاحب هوية،
ومشروع، وطرفاً مؤثراً في الأوساط الوطنية والسياسية والجماهيرية، يحسب له حسابه..
ومن
جانب آخر، فإنني لست مع طريقة البيان والخطاب الذي يتخاطب به الإسلاميون فيما
بينهم، والتي تشدّد على الواجب، ووحدة المسلمين، والأخوة الإسلامية، والابتعاد عن
التفرّق والتشرذم، والتي أثبت التاريخ أنه لم يكن مؤثراً، ولم يستطع أن يحقّق
الهدف الذي كان يرمي إليه.
وقناعتي
هذه مبنية على ما يلي:
1- إنّ هذا الخطاب ينتمي إلى زمن كان يشار فيه إلى الحالة
الإسلامية تحت مسمّيات وأوصاف (الحركة)، و(النهضة) و(الجماعة).. وفضاؤها، وإطارها،
وشعارها، وأهدافها، وأسلوب عملها، يختلف عمّا هو عليه في الوقت الحالي، في أوجه
عديدة.
2- هذا الخطاب فيه نفس طائفي، وتمييز عن المسلمين والمجتمع
بعامة، وكأن الإسلاميين فقط هم أخوة، وليس كافة المسلمين، وكذلك بالنسبة للأمور
الأخرى.
3- الخطاب في الأصل لا يؤمن بالتعددية، ويعتبرها ظاهرة غير
إسلامية، ويعتبر الوحدة في ذاتها واجباً إلهياً ومقدساً. وهذا ما جعل الإسلاميين، ليس
في كوردستان فحسب، بل في كل العالم الإسلامي، يكثرون من الحديث عن الوحدة والاتحاد
عن طريق الشعارات، دون أن يخطوا باتجاهها عملياً، بل حتى دون أن يفكروا في الوصول
إلى مجموعة آليات مناسبة ومؤثرة، يستطيعون عن طريقها إدارة اختلافاتهم بطريقة
إسلامية وعقلانية، ويبتعدوا عن الصراع، وكسر الآخر، والخراب.
4- هناك مخاوف من أن يستغل هذا الخطاب سياسياً،
من أكثر من وجه. على سبيل المثال: تستطيع قوة أن ترفع هذا الشعار(الوحدة)، وتتهم
خصومها بأنهم لا يلتزمون بالأحكام الإلهية، ولا يستجيبون لنداء الله، وتستغل ذلك
لتجميع الأصوات، واتهام القوى الأخرى. بينما الأمور في العمل السياسي والحركي هي
نسبية واجتهادية، ولا يجب أن نصل إلى اتهام إيمان أحد ما، أو انتماء ونيّات طرف ما.
5- هذا الخطاب كثيراً ما يتم التعامل معه كبديل عن البحث عن
وسيلة فعالة لتحقيق الوحدة عملياً.. بحيث يصبح نوعاً من إرضاء الوجدان، وإبعاد
المسؤولية عن الذات.. في حين إن مسألة الخروج من الدوائر الصغيرة، والتفكير في وضع
إطار مشترك واسع، يحتاج إلى تفكير جدي في الدوافع والمشاكل والموانع والضرورات،
ولا يتحقّق بمجرد إثارة الإحساسات الإيمانية المؤقتة.. بل يحتاج إلى إجراء دراسات
وبحوث، وإلى عمل حقيقي وواقعي، وأما الإحساسات الإيمانية فتكون خميرة للتحفيز
والإصرار والتحمّل.
الاتحاد
والوحدة بحاجة إلى صيغة جديدة، ونفس وتفكير متجددين!
عندما
نتحدث عن ضعف مبررات التعددية الإسلامية، وأضرار تشتت وتفرّق الإسلاميين، وعدم
وجود إطار مشترك لتجميع قواهم وطاقاتهم، وتوجيهها، وإعادة الاستثمار فيها، فإننا
لا نتحدث عن توحيد الإسلاميين، بهذا الشكل الحالي، في كيان دعوي وسياسي جديد، وذلك:
1- إن هذه القوى لها مشاكلها الداخلية، ولها مع بعضها البعض
حساسياتها، وشكوكها، وتناقضاتها، بمستويات مختلفة.. وهذا ما يعني أن ينتقل كل ذلك
إلى الكيان الجديد.
2- كان لنا في الماضي تجربة اتحاد من هذا النوع، والتي
عرّضتها الأحداث والمتغيّرات إلى التفكّك وعدم النجاح. كما شاهدنا في تجربة اتحاد
(الحركة الإسلامية) و(حركة النهضة الإسلامية).
3- أظهر واقع الإسلاميين عندنا، في كوردستان، وفي عموم
المنطقة، أن تاريخ التطورات والمتغيّرات قد تجاوز هذا الشكل من عمل الإسلاميين،
والذي أحد سماته البارزة اختلاط شكل ومقاييس وتربية الجماعة والدعوة مع العمل
الحزبي والسياسي. إن قدرة هذا الشكل على النمو والتطور صعبة جداً، لأنه في ذاته
أصبح منبعاً لظهور أنواع المشاكل والتفسخات الداخلية. لا يمكن أن يكون أحد أشكال
العمل في مشكل، ونظن أننا بتوسيعه وتكبيره نعالج مشاكله، ونحلها. لا، بل إن مشاكله
يمكن أن تتفاقم أكثر، وتتنوع. وهذا ما يعني أنه عدا تحقيق بعض الأهداف الصغيرة،
فإن الوحدة والاتحاد لا تستطيع أن تحقّق أهدافها المبتغاة، والمتمثلة بزيادة قدرة
الإسلاميين على التأثير في الحياة السياسية والروحية للمجتمع، وفتح آفاق جديدة
أمام التطور والتجديد. بل ثمة مخاوف من أن تحدث خيبة أمل كبيرة، نتيجة فشله..
على
ضوء ما أشرنا إليه، يجب أن نوسع من رؤيتنا، ونضالنا، من أجل مسألة وحدة
الإسلاميين، لا بل أن نترك أساساً مفهوم وشعار الوحدة، وننتقل إلى مستوى تكوين
إطار سياسي ودعوي مشترك، وتأسيس كيان جديد. بمعنى آخر، أن ندع هذا الخلط في
الطاقات، وقيادتها، على الصورة الحالية، بأن نعيد تعريف الأدوار، من جديد، ونقرأ
الواقع، وآفاق المستقبل، ومتطلبات نمو العمل الدعوي والسياسي، قراءة شاملة وعميقة،
ومن هناك نعيد التفكير في توظيف الطاقات بشكل جديد، أكثر إنتاجية وثمرة.
بمعنى
آخر، قبل أن نتحدث عن الوحدة، يجب أن يكون لنا فهم جديد للواقع، ولمضمون مفهوم
الإسلامية، ولذلك الدور الذي من الضروري أن يقوم به تيار إسلامي وطني، ويجسّده، في
ظروف تاريخية مثل حاضر وطننا.
نعم،
قبل ذلك يجب أن يكون لنا موقف فكري نقدي تجاه هذا الشكل الحالي لعمل الإسلاميين،
الذي تعرّض للجمود، والذي لا يتفق مع أهدافهم المعلنة، ولا مع شروط تطوّرهم.. يجب
أن تكون خصائص وصفات ذلك النموذج الإسلامي
الوطني الجديد، واضحة لدينا، ذلك النموذج الذي من الضروري أن نبني أنفسنا على
ضوئه، ومن منطلقه.
إعادة
توظيف الطاقات والإمكانيات، وبداية تاريخ مشترك جديد:
وأقصد
بذلك – كما أشرنا - أن نخرج بتفكيرنا ومخيالنا السياسي من ثلاث مستويات، ونحلّق في
مديات وآفاق جديدة، وهذه المستويات الثلاث التي ينبغي أن نتجاوزها، ونحن في الطريق
إلى تأسيس إطار مشترك سياسي ودعوي جديد، هي:
أولاً: ترك الأوضاع على ما هي عليه الآن، مع بعض التنسيق
والعمل المشترك.
ويجب
علينا أن لا نراهن على هذا الاختيار، بسبب:
أ-
إن شكل وإطار العمل الحالي بلغ طريقاً مسدوداً، وكافة
القوى تعاني من مشاكل وأزمات بمستويات مختلفة.
ب-
إنْ لم يحذروا، فستتحول هذه القوى - مع مرور الأيام -
إلى دكاكين سياسية، أو على الأقل نتخوّف أن يجري التعامل معها على هذا الأساس، أو
أن يتم تصويرها بهذا الشكل، ومن ثم تظهر وكأنها تابع أو رديف للقوى والأطراف
الأخرى. وهناك حالياً بعض الملامح من هذا، والتي تتجسّد من خلال بعض الأمور، مثل:
1-
ذلك الصراع والتهافت غير الصحي على المناصب الحكومية
والمكاسب الشخصية. فعلى سبيل المثال، فإن قليلاً من الأحزاب حصل عندها مشاكل كالتي
حصلت عند الحزبين الإسلاميين (الاتحاد الإسلامي، والجماعة الإسلامية)،
أثناء تشكيل الكابينة الثامنة،
إلى الدرجة التي أصبح ذلك مما يعابون عليه..
2-
طمع بعض الأطراف والجهات في التدخل في الشؤون الداخلية
لهذه القوى، وتوجيه مؤتمراتها، وانتخاباتها الداخلية، بل والتدخل في تعيين بعض
المسؤولين فيها.
3-
انتشار نوع من القلق والتردد والضغط النفسي الملحوظ، لدى
الكوادر الإسلامية لهذه الأحزاب.
4-
أثبت التاريخ أن بعض التنسيق، وحتى العمل المشترك، في ظل
الاستمرار في التعددية السياسية بهذا الشكل، وأسلوب القيادة الحالي، لا يستطيع أن
يعمّق من روح الأخوّة، والمصير المشترك، ولا أن يزرع الثقة بين هذه الأطراف، بل
سيبقى في حالة من المد والجزر الراكد والعقيم. بل إنه يكاد يُلمس - في بعض
الأحيان، والأماكن - أنه أصبح مصدراً لسوء الظن وانعدام الثقة المتزايد بالبعض.
ومن هذا المنطلق، فإن ما أطلق عليه في الماضي اسم (مشروع التعاون
الإسلامي)، يجب أن يصبح شيئاً من التاريخ، لأنه كان يفتقد إلى النية والإرادة
الجديّة والضرورية لوحدة الموقف والعمل المشترك، ولذا من الضروري أن توجه إليه
سهام النقد.
ثانياً: توحيد القوى والشخصيات والمنظمات في إطار منظمة واحدة جديدة.
ولكن ذلك، كما أوضحنا آنفاً، لن يكون في مستوى التوقعات التي ننتظرها، أو
التي تُنتظر من التيار، وربما جرّت وراءها انكساراً وخيبة أمل.
ثالثاً: الجبهة الإسلامية: بمعنى اجتماع وتعاون المنظمات والأطراف الإسلامية في إطار اتفاقٍ أقوى من
التنسيق، والمحافظة في نفس الوقت على استقلال كلّ منها، مع استمرار بقاء هذه
المنظمات والقوى على الشكل الذي هي عليه.
وهذا الاختيار أيضاً يجب أن يتمّ تجاوزه، من منطلق أنه لن يأتي بأيّ تغيير
جوهري في شكل العمل وأسلوب القيادة، أو في معالجة مشكلة الدعوة والسياسة، أو تكنيك
العمل السياسي المعاصر.. وليس ثمّ ضمان أن لا يتحوّل الاختلاف في الآراء
والمصالح، إلى سبب في تفكك الجبهة، أو في
ضعفها.. وآنذاك يتمّ تشويه صورة التيار الإسلامي أكثر أمام الرأي العام، وتقل
قيمته وثقله في أعين النخبة السياسية..
ولذلك يجوز أن ينظر إلى التنسيق والعمل المشترك، وحتى تأسيس الجبهة، كخطوة
ممهدة، وكجزء من متطلبات المرحلة الانتقالية للتيار.. ولكن لا يجوز أن يكون ذلك
بديلاً لما هو واجب، والذي يتمثل - في رأينا - في أن يوضع التيار في مرحلة
انتقالية، على أن يعيد تنظيم نفسه على أساس جديد، وفي شكل مختلف، وأن يمر بمرحلة
مخاض ولادة جديدة، مليئة بالأمل.. وأن يتجاوز هذا الشكل الجديد مشكلة الدعوي
والسياسي، ولا يبقى شيء من هذا الانقسام والعناوين الحالية..
وفي هذا السياق، فإن
ما ينبغي أن يكون هدفاً، في
ضوء قراءة نقدية وجديدة للذات والواقع والمستقبل، هو التفكير الجدي، وتحديد خارطة
طريق، لتجاوز كل هذه الأطر والانكسارات الحالية، والخروج من الدوائر الضيقة
المخنوقة، وعدم تصوير الواقع الوطني كأنه خراب، وفتح الباب أمام ولادة التيار
بصورة هادرة، وذلك بتأسيس حزب وطني ديمقراطي، بمرجعية إسلامية، من القوى والطاقات
- المنظمة وغير المنظمة- والشرائح المحافظة للمجتمع، بعيداً عن المقاييس
التقليدية، وتربية الجماعات الدعوية، وبالاستناد إلى القيم الإسلامية والإنسانية
الواسعة والواعدة، بالإضافة إلى تدشين تيار دعوي، وبدء فصل جديد من الخدمة الروحية
والأخلاقية الإسلامية، في قالب منظمات المجتمع المدني، وبرائحة وعطر كورديين،
وبالاستفادة الجذرية - من بعد القرآن الكريم- من (رسائل النور)، والعرفان المحلي..
إن مسألة فصل العمل الدعوي عن العمل الحزبي، ومراعاة خصائص كل منهما، من
حيث الخطاب والإدارة والقيادة والمتطلبات، تستطيع أن تفيد التيار بصورة متنوعة.
فتاريخ أكثر من بلد وتجربة إسلامية، يخبرنا أنه خارج هذا الشرط المسبق: أي استقلال
كل من العمل الدعوي والسياسي والحزبي، ليس من السهل التفكير بأيّ تقدم حقيقي وعميق
ومستمر في أيّ من هذين السبيلين، وذلك لما يلي:
أ-
إن العمل الحزبي والدعوي المختلط، بالصورة التي يظهر
عليها العمل الإسلامي في كوردستان، هو في نظر نسبة كبيرة من مواطني الإقليم، وخاصة
الأجيال الجديدة منهم، له مشاكل عميقة مع القومية والديمقراطية والحريات وحقوق
المرأة والفنون، كونه يطالب بتأسيس الدولة الإسلامية، وتطبيق الفقه الإسلامي عن
طريق القوة والبوليس!! حتى لو كان واقع الإسلاميين – من عدة وجوه - مختلفاً عن هذا
الفهم. إن هذه الصورة ينتج عنها النتائج السيئة الآتية:
1-
الحملات الإعلامية، والحرب النفسية، التي تشن من قبل
الأحزاب الأخرى المنافسة، خلال الصراع السياسي والحزبي، في محاولة لإظهار التيار
الإسلامي وتصويره كقوة غريبة، وكخطر على المستقبل، وذلك بهدف أن لا يصبح
الإسلاميون جزءاً من التركيبة الطبيعية السياسية والجماهيرية والروحية للمجتمع..
2-
يتم إفراد الإسلاميين، وتصويرهم كقوة آيديولوجية، خاصّة
بشريحة محدودة من المجتمع، بحيث إن قلّة من الناس خارج تلك الشريحة يجرؤون على
التفكير بالدخول ضمن الإسلاميين.. أو حتى إذا أرادوا ذلك، أن يكون له مكان بينهم.
3-
يمكن بكل سهولة - أثناء الأزمات، وبعض الظروف الصعبة -
تجييش جزء من المجتمع ضدهم، لمعاداتهم، وحتى الهجوم عليهم، ونهب مقراتهم، وحرقها.
ويكونون عرضة أكثر لبعض الخطط والأجندة الخارجية.
ب-
إن البقاء على الوضع الحالي يصبح سبباً لهدر بعضٍ من
الإمكانات والطاقات، وضياعها، وتسرّب الكفاءات، وخروجها، من منطلق يأسها من
المستقبل، ولأن كثيراً منها يرى أن استمرارها بهذا الشكل لن يساهم في تحقيق ذواتهم
داخل التيار بالشكل الذي يتمنونه، وبالطريقة التي يريدون أن يمارسوا فيها أدوارهم،
ويوظفوا طاقاتهم. لذلك نرى أن المئات من الكوادر الإسلامية تركوا العمل، وذهبوا
إلى الأجهزة والمؤسسات الأخرى، أو قعدوا يفكرون في تكوين أطر أخرى للعمل. وبعض هؤلاء
الذين لا يزالون يمارسون عملهم ضمن الإسلاميين، من منطلق إحساسهم بالواقع،
وأسئلته، وآماله غير المتحققة، فإنهم يمضون أيامهم في حالة من الترقب والقلق.
إن إحدى مبررات هذا النداء، هو معالجة مشكلة محدودية استيعاب الإسلاميين
لكوادرهم، وضعف القدرة على الاحتواء. إن الإسلاميين - بشكل عام - لا يستطيعون
إقناع غيرهم، وضمهم إلى صفوفهم، ليس ذلك فحسب، ولكنهم فقدوا حتى قدرة ضم وتوجيه بعض
كوادرهم وأعضائهم. نعم، صحيح إن بعض أسباب ذلك تعود إلى الوضع المالي، والموقع
الضعيف للإسلاميين في السلطة، ولكن أحد أقوى الأسباب يعود إلى تمسكهم
بنوع من التنظيم والقيادة والعمل، يفتقد القدرة على الاستجابة لتوقعات الشرائح
الحيّة من كوادرهم وأعضائهم.
إن ضمّ واستيعاب الكوادر والأعضاء داخل الأطر الحزبية الضيقة الحالية، وفي
ظل بقاء الخلط بين الدعوة والسياسة، والوقوف في مرحلة ما بين الجماعة والحزب، عمل
ليس بالسهل. لأن العمل السياسي العلني خلال السنين الماضية، والصراعات، والتطور
الفكري، والتأثر بالمحيط المعاش، وانعكاس بعض أوجه العولمة على الواقع، كل ذلك،
وغيره، ترك آثاره، بحيث بات من غير الممكن، ضمن الأطر الحالية، تجميع وتوجيه
الطاقات المختلفة، وطرائق التفكير، والطموحات المتباينة.
في حين إن وجود إطار دعوي نقي وخالص، خاص بتقديم خدمة روحية وأخلاقية
للمجتمع، يستطيع أن يصبح موضع ابتهاج مئات من الكوادر والنشطاء والشخصيات،
وميداناً لتفعيل طاقاتهم وتحقيق أحلامهم. لأن تخصيص الإطار بالعمل الدعوي فقط، سيمنحهم
الاطمئنان الروحي، والأمل، والحماس والدافعية للعمل. وعن طريق وجود مثل هذه الدعوة
الروحية والأخلاقية، المستقلة والعامة، يمكن وضع حدّ لانتشار بعض التيارات الغريبة
عن روح الإسلام، والمتطفلة على التراث والطابع الديني الخاص بالكورد، مثل السلفية،
وخاصة السلفية المدخلية، التي هي محاولة لتعريب روح التديّن الكوردي، وتضييق
الفضاءات الواسعة عليه.
إن وجود حزب سياسي، وطني، منفتح وعصري، ذي مرجعية إسلامية، سيصبح عاملاً
لإعادة تجميع، وتنظيم، وتوجيه، أغلب تلك الطاقات والقدرات الإسلامية، والمحافظة،
المتفرقة والمتشتة، والتي تنتظر عملاً سياسياً جاداً، ذا برنامج فعال، وهوية
خاصة.. عملاً له القدرة على إثبات وجوده، وتفعيل طاقات الآخرين.. عملاً يصبح قطباً
مهماً في الحياة السياسية؛ والنضال من أجل الاستقلال والعدالة والإصلاح والرفاه.
وهذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية، يجب أن يكون مؤسساً على مبادئ العدالة،
والإصلاح، والاستقلال القومي، والديمقراطية، والمواطنة الحرّة والمتساوية. يستلهم
من القيم العليا للإسلام (مثل: العدالة، الشورى، المساواة، معاداة الظلم، الكرامة
الإنسانية، الإصلاح، التسامح، رعاية الفقراء، والوقوف مع الشرائح المحرومة في
المجتمع)، ويستلهم منها مشروعاً وطنياً، يقدمه للمجتمع.
خارج هذا، فإنّ التيار الدعوي، ومئات من منظمات المجتمع المدني، ومنابر
المساجد، والمراكز الإسلامية المختلفة، على المستوى الديني والأخلاقي والروحي
المباشر، يقع عليها واجب حماية الهوية الإسلامية للمجتمع. ويساندهم الحزب في ذلك،
من موقع السلطة، وفي إطار القانون.
وما عدا ذلك، فإن العمل الدعوي السياسي المختلط، لا قدرة له على المنافسة،
واستقطاب الجماهير، في ظلّ التنافس الديمقراطي، ولو كان محدوداً.. بل سيصبح منبعاً
لظهور العديد من الأمراض والمشاكل الداخلية.
إن هذا النمط من العمل، وهذه المنظمات، التي هي امتداد لفكر الإخوان
التقليدي، وللجماعة الإسلامية في باكستان، تحمل، في الأساس، وتبشّر بمشروع الدولة
الإسلامية، وأسلمة كافة مظاهر الحياة، وتطبيق الشريعة، وإعادة الخلافة.. ومثل هذا
المشروع، دع عنك أن انتصاره صعب، كما تأكد ذلك تاريخياً، فإنه لن يستطيع أن يستجيب
لمتطلبات الشعوب في الرفاه والديمقراطية والتنمية والسعادة.. وكذلك، فإن تحقيقه
يستلزم الثورة والانقلابات العسكرية.. ومن يقول بغير ذلك، ويمنّي نفسه بتحقيق مثل
هذه الدولة والسلطة بالطرق القانونية والديمقراطية، فإنه يحلم، ويعيش وهماً
وخيالاً.
ومن الناحية التاريخية، فإن تاريخ الحركة الإسلامية في المنطقة، والعالم،
يقول لنا إن الموديل الإسلامي التاريخي غير قابل للتحقق والنمو إلا في ظل الظروف
التالية:
أ-
في ظل الأنظمة الدكتاتورية وشبه الدكتاتورية، التي تنعدم
فيها الحياة السياسية الحقيقية، والمنافسة المدنية، والتي يتحول فيها المسجد،
والعمل الدعوي المنظم، إلى أهم مظاهر التعويض النفسي والروحي، والرفض السياسي، وفي
إطاره تتم ممارسة السياسة.
ب-
الأوضاع المتأزمة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
لمجتمع معين، مثلما كان الحال في تسعينات القرن الماضي في الإقليم.
ت-
ميادين المواجهة والمقاومة، وما يسمى في الأدبيات
الإسلامية الجديدة ب(الجهاد المسلح)، مثل تجربة المجاهدين الأفغان، و(حماس)، و(حزب
الله) اللبناني. ولكن هذه التجارب أيضاً تقول لنا بأن فرصة التطور، وانتصار الجهاد
المسلح، هي كبيرة ومتوفرة فقط في تلك الدول التي يكون المقابل فيها غير مسلم، كما
رأينا في أفغانستان، ولبنان، والبوسنة، وفلسطين. ومن جانب آخر، فإن هذا الموديل من
العمل حتى إذا انتصر، فإنه ليست لديه القدرة على تأسيس تجربة سياسية وحكم إسلامي
متطور، يكون مفخرة للشعوب.. على سبيل المثال، فإن مقاومة وجهاد الأفغان كان موضع
فخر، ولكن بعد انتصارهم على (الجيش الأحمر)، والحكومة العميلة في (كابول)، فإنه
أصبح وبالاً على الشعب الأفغاني، كما أصبح مصدر عار وشنار للشعوب الإسلامية
الأخرى. لأنهم ليس فقط لم يتمكنوا من تأسيس سلطة تستطيع أن تعوض ولو شيئاً قليلاً
من آلام شعبها، بل إنهم حولوا أفغانستان إلى ساحة للاقتتال الداخلي، واللعنات،
وحمامات الدم.
بشكل عام، فإننا خارج تلك الأمثلة التي فصلت العمل الدعوي عن السياسي،
ووضعت أقدامها على مرحلة ما بعد ما سمّي بالإسلام السياسي، وإبّان تأسيس الأحزاب الإسلامية
المعاصرة ذات المرجعية الإسلامية، لا نملك أيّ تجربة سياسية إسلامية تكون موضع فخر
لنا، استطاعت أن تقدم لنا، من موقع السلطة، نموذجاً جميلاً ومعاصراً. وبعض هذه
الحركات والأحزاب لم تصبح فقط حملاً على شعوبها، بل دفع ضريبتها حتى الإسلام و
التيار والآيديولوجيا الإسلامية الجديدة.
ولذلك فإن هذا الموديل، أي الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية لمرحلة ما بعد
الإسلام السياسي، في إمكانها أن تعالج مشكلة عدم فعالية الدعوي والسياسي، وجانباً
من أزمات الموديل الحالي، بحيث تأخذ كل من (الدعوة) و(السياسة) استقلالها، وفرادتها،
ويكمّل بعضها البعض على مستوى المجتمع، ويخدم كل منهما الآخر، ومعاً يقومون بخدمة
المجتمع والشعب والوطن.
نحو إعطاء مضمون جديد لمفهوم الإسلامية:
نعم، صحيح إن بعضاً مما طرحناه آنفاً معاكس لمجمل التربية والقناعة التي
تربى عليها أبناء هذا التيار في الماضي، ولكن فإنه من الصحيح أيضاً، في نفس الوقت، وبسبب
تلك الحقيقة، أن اشتراك جماعة دعوية سياسية في الحياة السياسية، والمنافسة المدنية
- وبحسب العديد من الدراسات والبحوث العلمية - يعرّضها للعديد من المشاكل
والأزمات.
إن من المهم هو أن نفرّق بين الإسلام، والمشروع الإسلامي، والجماعة
الدعوية، والحزب ذي المرجعية الإسلامية، وأن لا نخلط بين المفاهيم والمقاييس. فإذا
كان الإسلام ديناً عالمياً، فإنه في ظلّ الواقع الجديد، الذي يسوده موديل (الدولة
– القومية)، والنظام العالمي، والدولة الحديثة، يجب أن يكون المشروع الإسلامي
وطنياً. هذه هي تلك الحقيقة والعبرة التي تأخّر في فهمها بعض الإسلاميين، وكذلك
الماركسيّون، تحت مسمى (الأممية)، وبذلك آذوا أنفسهم، ومجتمعاتهم.
إن دور الحركة الإسلامية، والجماعة
الدعوية، ذات التوجه السياسي، والتي هي في الأساس، كما يقول (فتحي يكن) في (ماذا يعني
انتمائي إلى الإسلام): هدفها إعادة الناس إلى عبادة الله، والعمل على تنشئة الفرد
المسلم، والأسرة المسلمة، والشعب المسلم، والحكومة والدولة الإسلامية، وتطبيق
الشريعة، وإعادة الخلافة، يختلف عن دور الحزب ذي المرجعية الإسلامية، وواجبه.. هذا
الموديل الذي يوجد الآن في العديد من الدول، والذي يختلف عن الموديل الإسلامي
السائد اليوم، من حيث ميدان الاهتمامات، ونوعها، ودوائر الاهتمام، وتعيين الأهداف.
هذا الموديل من الأحزب يمثل الطريق الثالث، ويحاول معالجة مشاكل النظام والسلطة،
التي أوجدها، في السابق، كلّ من العلمانية والتيار الإسلامي.
لقد جرّبت مجتمعاتنا، في القرن الماضي، وخاصة في النصف الثاني منه، عديداً
من أشكال الحكم، ولكن الواقع يخبرنا أن كلّ، أو أغلب، هذه الأشكال، لم يكن
ناجحاً.. وبقدر ما كانت –أي: هذه الأشكال والنماذج من الحكم - نتاج ردّات فعل،
وثمرة للرؤية الآيديولوجية، والغربة التراثية، والقطيعة الفكرية، فإنها لم تكن
بالدرجة نفسها نتاج قراءة علمية للواقع، ولا فهم عميق وأخلاقي لماهيّة السلطة،
والدولة الحديثة، ومخاطرهما على المجتمع.
واليوم، يخبرنا ماضي المنطقة، أن ما عرف باسم الدولة العلمانية والإسلامية،
لم يستطع كلاهما، وبدرجات متفاوتة، أن يحقق الحرية والديمقراطية المزعومة، ولا
العدالة والتنمية والرفاه المنتظر.. بل إنهما لم يدعا الدولة لتتبلور كإطار عام
لاحتضان الجميع، على اختلاف مكوّناتهم، وكمركز للانتماء المشترك، وبوتقة لإنضاج
مصطلح المواطن والحكم الرشيد.
لقد مهدّت متغيرات السنوات العشرون الماضية، ومنها ثورات العالم العربي،
وهيأت الأرضية لولادة موديل جديد من الحكم.. كان في استطاعة هذا الموديل الجديد أن
يكون مصدراً لإعادة بناء الدولة، والفضاء العام، وضمانِ الحقوق والحريات
والديمقراطية والتنمية الاقتصادية.. هذا الموديل، والذي كان قد جرى الاتفاق عليه
دستورياً في بعض البلدان، كان في إمكانه معالجة مشكلة أزمة الهوية، والتي إنما
تأسست الحركات الإسلامية أصلاً لمعالجتها، وللحفاظ على الهوية الإسلامية
للمجتمعات، ولمعالجة قضية إقصاء الإسلام عن الفضاء العام..
على سبيل المثال، لو أخذنا المادة (6) من مسوّدة (دستور إقليم كوردستان)
كأنموذج، فقد اتفق الإسلاميون والعلمانيون، بخصوص منزلة الشريعة والإسلام في النظام السياسي
والدولة، على ما يقارب نسبة ال 90%، وحتى تلك النسبة المتبقية 10% كانت مسألة وقت
لكي يتم الاتفاق عليها، وقد تعثّر ذلك بسبب تعطّل عمل لجنة إعادة صياغة الدستور.
ولن يبقى، بعد هذا الاتفاق، شيء باسم (تغيير النظام). وكل حزب وتيار ينبغي أن يكون
على استعداد لأن يقوّي لديه قدرة المنافسة والحصول على أصوات الناخبين، لأن عامل
التغيير، ووسيلة تقوية المكانة السياسية، والتأثير في صنع القرار السياسي، وتوجيه
المجتمع، إنما يتوقف على مستوى الأصوات والحصول على ثقة الناخبين.
إن أوضاع الإقليم في المرحلة الانتقالية، وعدم استقرارها، يجب أن لا تغيّب
هذا الواقع عن أعيننا، لأنه حتى إذا احتيج إلى أساليب أخرى للنضال الجماهيري، من
أجل الوصول إلى الاستقرار، والديمقراطية، وتثبيت دعائم النظام المتفق عليه، فإن
الإسلاميين سيحتاجون - ولا شك - إلى تربية وتأهيل فكري وسياسي جديدين، بحكم أن
أسلوب التربية المختلط السابق لديهم، كان سبباً في حدوث نوع من عدم الفعالية، وقلة
النشاط، وضعف الدافع، لدى جانب من كوادرهم، وأعضائهم، والقاعدة الجماهيرية لهم.
ومن ناحية أخرى، فإننا حتى إذا احتجنا إلى مرحلة انتقالية للوصول إلى نظام
متفق عليه، فإن هدف الإسلاميين والفرقاء السياسيين لا بد أن يكون الوصول إلى هذا النظام المتفق
عليه، الذي يتجاوز الصورة التقليدية الضيقة للعلمانية والإسلامية في ماضي المنطقة
المعاصر..
والسؤال هو: في الوقت الذي ينتفي فيه ما يسمى بالنضال من أجل تحقيق دولة
الإسلام، وتطبيق الشريعة، وفرض الأخلاق الإسلامية الاجتماعية عن طريق الدولة، وذلك
بحكم أنه قد تمّ تجاوز ذلك عملياً، بالنظر إلى تاريخ تطورات المنطقة، وتجاربها،
وضرورات التعايش السلمي الإسلامي العلماني، وتطوير الديمقراطية، وتهيئة الأرضية
لبناء دولة قادرة على احتواء الجميع، والابتعاد عن الدوائر المغلقة للعنف ورفض
الآخر!.. فإن الإصرار على خلط الدين والسياسة، الذي كان الوسيلة لدى تلك الحركات
لتحقيق الأهداف الآنفة، عدا عن أنه يضع الحركة في مأزق، ويعزلها عن محيطها، فإنه
يضعها أمام اختيار مرّ، وهو التضحية بالقيم الإسلامية، وروح الشريعة، من أجل فهم
آيديولوجي جامد، ونمطي، ومحنّط، للإسلام، والحياة، والعصر.
في مثل هذا الظرف، ماذا على القوى، والأحزاب، والتيار الإسلامي، أن تفعل،
لكي تحافظ على مواقعها الحالية، ولا تتراجع ، بل - على العكس - تنمو وتتقدم
نوعياً، وتحيي منابع صنع الأمل في نفوس الكثيرين من أبنائها، والمواطنين؟!.. ماذا
يجب على هذه القوى، ومجمل التيار الإسلامي، أن تفعل، في مرحلة تغيّرت فيها
الأهداف، وأعيدت فيه صياغتها، وتغيّرت التوقعات، والواجبات، والأدوار، لكي يصبحوا
رقماً سياسياً له اعتباره وقوته، ويشاركوا مشاركة فعالة في معالجة مشاكل المجتمع،
وفي تنفيذ واجبات المرحلة على المستويات الوطنية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية، والقيام بدور أكثر فعالية مما هو قائم حالياً، على المستوى الروحي
والأخلاقي، كذلك؟
هذه هي الأسئلة التي يجب على الإسلاميين أن يوجهوها لأنفسهم. يجب أن يسألوا
أنفسهم: في الوقت الذي تغيرت فيه أكثر الأشياء المتعلقة بهم، هل تغيرت لديهم
أساليب القيادة، ونوع التنظيم، وآليات العمل السياسي، والإعداد، ومستوى تفعيل
الطاقات، وتوجيه الرأي العام، بمثل ذلك، وبما يوازي ويكون في مستوى الاستجابة
لتحديات المرحلة، ومتطلبات تطورهم، ومشاركتهم الأساسية في معركة الاستقلال
والتنمية لأوطانهم؟.. إن هذه الأسئلة تنبع من كون الأحزاب الإسلامية أيضاً، مثل
بقية الأحزاب الأخرى، لم تنشأ، في أصل نشأتها، لتحقيق بعض هذه الأهداف التي
يواجهونها اليوم. إنهم – بحكم الأوضاع – يحتاجون اليوم إلى إعادة تعريف، وإعادة
بناء فكرية، وصياغة الوعي السياسي من جديد.
ولا بد من الاعتراف أن ثمة تغيّرات في هذا المجال، فالإسلاميون اليوم - من
عدّة أوجه - ليسوا هم إسلاميو الثمانينات والتسعينات. لقد تغيّروا في بعض الوجوه،
وفرض عليهم الواقع أيضاً بعض التغيّرات، الأمر الذي انعكس إيجاباً لهم
ولمجتمعاتهم.. ولكن وبحكم ثورات المنطقة، والتغيّرات الكبيرة التي طرأت على أهداف
التيار الإسلامي، وواجباته، فيها، وبالنظر إلى واقع الإقليم عندنا، ومفرزات
العولمة، وأشياء كثيرة أخرى، فإن الذي فعلوه لحدّ الآن ليس كافياً!!.. بل يجب
عليهم أن يخطوا نحو مرحلة جديدة من المتغيرات الفكرية والسياسية والتنظيمية..
وباختصار، عليهم أن يقوموا عملياً، وفي العمق، بالتغيير.. وعن طريق التجديد الفكري، والتغيير في أساليب
العمل، والقيادة، عليهم أن يتجاوزوا مرحلة الحركة الإسلامية التقليدية (الإسلام
السياسي)، وأن يخطوا نحو مستويات أكثر فاعلية، وأكثر شمولية، إلى مرحلة أبعد من
تلك المرحلة، ويعطوا روحاً جديدة لمعنى وجودهم الإسلامي.
وذلك بحكم أن فهمهم في الماضي لمغزى الإسلامية كان مرتبطاً بالأهداف
التقليدية للحركة الإسلامية الحديثة، المتمثلة في إعلان الدولة الإسلامية، ورفض
الديمقراطية، والقومية، وإعادة الخلافة، وتطبيق حكم الشريعة.. في الوقت الذي تحتاج
فيه المنطقة، والمجتمع، والتيار الإسلامي، إلى إعادة تعريف المفاهيم، وفي مقدمتها
مفهوم الإسلامية، والذي هو في ذاته ليس مصطلحاً جامداً ثابتاً عابراً للتاريخ،
بحيث لا يتأثر عبر الزمان والمكان، ويكون له مفهوم واحد ثابت، بل هو في تجدد دائم،
ويضم معاني وإشارات جديدة، بحسب تجدّد مصادر المعرفة، والأسئلة، والقضايا،
والتحديات، والواجبات، والمراحل.. وكل تفكير مخالف لهذا يضعنا في خانة الفكر
السلفي، والتعلق الرومانسي بالماضي، وإعادة إنتاجه، ورفض الحاضر على ضوء ماضي
أجيال خلت قبلنا، والاغتراب عن الحياة والعصر، أو الاصطدام معها.
إن فهمنا لمجتمع المسلمين، والدولة الإسلامية، وطبيعة السلطة، وأشياء كثيرة
غيرها، يحتاج أيضاً إلى التجديد والنقد. إن بعضاً مما روّج له في السابق باسم
السلطة الإسلامية، والدولة الإسلامية، كان - في الحقيقة - نوعاً من عبادة السلطة،
والعبودية للدولة. وبقدر ما كان ذلك تأثراً بالآيديولوجيا الحديثة، وخاصة
الراديكالية منها، فإنه لم يكن انعكاساً لروح الإسلام، الذي يعمل على تقوية الأمة
والمجتمع، وليس الدولة الكليّانيّة، ذات القبضة الحديدية، المتحكمة في الحياة
والمجتمع وكافة المفاصل. وهذا حديث آخر، ليس هنا مجال تفصيله.
ولتحقيق هذه المراجعة، وإعادة هيكلة البناء الفكري، يجب أن تدخل التغيّرات
مرحلة جديدة.. والذي يستطيع أن يحقق ذلك هو القائد الفكري والسياسي الجريء،
والشباب والفتيات الواعين، والكوادر والأعضاء النشيطين والكفوئين.
إنّ التردد، والنظر إلى الأصالة على أنها انعزال عن المجتمع، والتخوف،
والتشّبث بخطاب البقاء، والعمل بمقياس الاحتفاظ بما هو موجود، وعدم التفريط به،
واتباع سياسة يومية غير مثمرة، وغير واضحة المعالم، والتمسك بالواقع لتبرير تأخير
خطوات التغيير وما يجب أن يفعل.. كل ذلك لا ينسجم مع متطلبات هذه المرحلة، والسعي
نحو إبداع شكل إسلامي جديد، وعدم الرضا عن الدور الدعوي والسياسي المأزوم والموجود
حالياً.
إنّ بعض تغيّرات المرحلة السابقة، كان من أجل التكيّف مع الواقع والمحيط،
وكان هذا عملاً جيداً. وكان، في الغالب، من أجل بقاء وحضور محدود، على هامش
السياسة والحكومة.. ولقد أظهر الماضي أن الإسلاميين لم تكن لديهم القدرة حتى على
ضم قدراتهم وطاقاتهم، والاحتفاظ بها، فضلاً عن أن يستطيعوا ضخ دماء وطاقات جديدة،
واحتضان بعض الشرائح المحافظة للمجتمع، والذين يرفضون الموديل السياسي السائد في
الإقليم.
لا شك أن بعض الأصوات، من داخل التيار، تقول: إن الواقع السياسي للإقليم لم
يسمح لنا بأن نفعل كثيراً من الأشياء، وهو يمنعنا الآن أيضاً.. وهذا صحيح، على الأقلّ
جزئياً..
ونحن عندما نتحدث هكذا، ونطرح هذا الطرح، فإننا نفكر هنا من داخل الإقليم،
ونتعامل مع الوقائع والأحداث يومياً، ونراقب الأوضاع. فالذي نقوله نحن ليس نسياناً
للواقع السياسي والعسكري والحزبي في الإقليم، ولكنه صرخة من أجل
التيار الإسلامي، الذي هو
تاريخياً قد ولد وتطوّر خارج - أو بعيداً عن - المدرسة التقليدية لفكر
(الكوردايتى)، لكي لا يصبح - باستمراره على هذا النهج من القيادة والتنظيم
والآليات والشكل -، ضحية لهذا الواقع، ولا تفرض عليه جبريات الواقع أن يتحول إلى
قوة سياسية مستلمة للزكاة، ولا تتعمق مشاكله الداخلية أكثر من هذا.. بحيث تصل إلى
مستوى انعدام الأمل فيه بأن يصبح الاتجاه الثالث للسياسة، والمنبع الجديد للأمل في
كوردستان الجنوبية. حيث إن الأجواء الآن مناسبة من بعض الوجوه، ويستطيع أن يخطو
الخطوة الأولى باتجاه تحقيق هذا الهدف.
نحن نعلم أن واقع الإقليم مأزوم، وأن لنا ديمقراطية مشروطة، ولكن مع هذا
يجب الاعتراف أيضاً بأن واقع الإسلاميين يعاني من مشاكل متعددة. وما لم تلملم هذه
القوة نفسها، وتنظّم حركتها، بشكل حديث، وما لم يعتمل في رؤوس قادتها، وكوادرها،
وجماهيرها، خيال سياسي جديد، وتتحرك بروح تيار واسع، حيّ، واضح الرؤى والأهداف،
فإنها تقترب من أن تصبح ضحية لواقع الإقليم السيء.
وليس من الصحيح أن نجعل من واقع الإقليم مبرراً للاستمرار في هذا الوضع
التقليدي والمشتت للإسلاميين، وهذا الخلط والتداخل والشمولية في أعمالهم.. تلك
المشاكل التي سببها لهم هذا التداخل والخلط غير المنهجي، وغير الضروري، بين العمل
الدعوي والتبليغي، وبين العمل السياسي والحزبي..
إن الأوضاع في الإقليم لن تبقى على حالها، وستتغير، فيجب على التيار عن
طريق إعادة التنظيم، أن يقوّي فيه قدرة وإمكانية استغلال الفرص، لخدمة شعبه،
وتطوير برامجه..
بل إن الواقع الحالي للإقليم هو أكبر محفّز ومبرّر لإعادة بناء خطاب
الإسلاميين، وأساليب عملهم، وتأسيس حزب وطني، جماهيري، ذي مرجعية إسلامية، وتيار
دعوي وروحي جديد، لكي يحققوا مشاركة أكثر فاعلية، وأكثر حضوراً، في تجاوز مشاكل
هذه المرحلة في كوردستان الجنوبية، وحلّها. لكي نخرج المجتمع من هذا الانقسام التاريخي شبه
الدائم، ونعطي السياسة في الإقليم مساحة وفرصة لانتعاش جديد.
من أجل كل ما سبق، ومن أجل كل ما قيل، وما لم نقله - وهو في قلوب كثير منا،
ولا نستطيع التعبير عنه، أو البوح به - أوجه ندائي إلى الإسلاميين جميعاً -
المنتظمين منهم في أحزاب، وغير المنتظمين - للتوجّه والسير نحو هذه المرحلة
الجديدة. ومن أجل هذا، عليهم - منذ الآن - أن يبدأوا الحوار فيما بينهم بروح
جديدة، وأن يخرجوا من الدوائر الضيقة الحزبية، والتنظيمية، والمناطقية، وأن لا
يخافوا من تردّد البعض، وتخلّف آخرين، لأن المجتمع مهما حوى واشتمل على أفضل
النماذج الحزبية السياسية، وأحسن التيارات الدعوية، فإنه سيبقى ثمة فريق صغير،
متطرّف، على هامش المجتمع، يستمرون في حياتهم، وينشرون فكرهم الشاذ، ورؤيتهم
المتشائمة السوداوية، ينثرون التهم، ويعتبرون أنفسهم الحرّاس والحماة الموكلين
بالدفاع عن الدين والأصالة والنقاء. ولا تسمعوا لمن لم يستطع إن يجدّد نفسه، وكان
عاجزاً عن تكييف نفسه مع متطلبات المرحلة، حتى إذا كان قياديّاً من قياداتكم البارزين، وإذا وقف
عائقاً، فمن الضروري تجاوزه، ويبقى له حق احترام ماضيه، وأستاذيته.
إنّ قادة وقيادة الأحزاب والأطراف الإسلامية، الحاليّة، والتجمّعات والجمعيات والشخصيات الإسلامية،
يقع عليها حمل إسلامي، ووطني، وأخلاقي، كبير.. ومن الواجب أن لا ينظروا إلى هذا
العمل من منطلق كراسيّهم، ومناصبهم، ومصالحهم، بل فلينظروا إلى كراسيّهم،
وألقابهم، من منطلق مصلحة العمل، والتيار الإسلامي، والمجتمع.. إنّ قدرات عشرات
الآلاف من الأعضاء، وجماهير غفيرة من الناس، وإمكانياتهم، هي أمانة من الناحية الإسلامية، وتجميدها،
وعدم توظيفها حسب المطلوب، يعدّ خطيئة قيادية كبرى، ويعتبر من باب خيانة الأمانة.
إن المجتمع يحتاج إلى الإسلاميين في ثلاثة جوانب مهمة، ويجب عليهم أن
يرتفعوا إلى مستوى ذلك، ويخرجوا من الأطر الضيقة:
أولاً: أن يصبحوا روحاً
جديدة لإنعاش روح القومية والوطنية..
فعشرات السنوات من الاقتتال والصراعات الداخلية، والانقسامات، والفساد،
وسوء استعمال السلطة، والانحراف في الحياة الحزبية، والأداء السيء لموديل القيادة
والحكم، عملت - من بعض الوجوه - على أن تبدو (الكوردايتى) بمظهر العجوز الضعيف،
وأن يتعرض التراث والفكرة الوطنية إلى الضعف والتمزق، بسبب الإحساس بعدم العدالة،
والأنانية السياسية، وتجاهل المصلحة العامة.
إنّ الإسلاميين يستطيعون، عن طريق مزج القيم الإسلامية والأخلاقية
بالروح القومية، وتجاوز الهويات المحلية، أن يصبحوا رمزاً لانتعاش هائل في الروح
القومية والوطنية النظيفة.
ثانياً: أثبتت تجارب
العالم الإسلامي في الماضي، أنه لكي تصبح قيم الديمقراطية، في المجتمعات المسلمة،
جزءاً من قاموس الحياة اليومية للأفراد، وتترسخ فيها، وتتجذر، فإنه من المهم أن
تصبح حلقة في مسيرة تطور الفكر الإسلامي نفسه، وليس أن تفرض من خارجه.
وهذا يتطلب ليس أن لا يكون للإسلاميين تحفظ على الديمقراطية فحسب،
بل عليهم أن يثبتوا أنهم في طليعة المؤمنين بالديمقراطية الحقيقية لأوطانهم، وأنهم
يستطيعون من هذا الوجه أن يكونوا أكثر مصداقية وصدقيّة من كافة القوى الأخرى. وهم
بهذا أيضاً يستطيعون أن يبطلوا حجة العلمانية المعادية للدين، ويثبتوا أن العالم
الإسلامي، ومنه إقليم كوردستان، في حاجة إلى الجمع بين المحافظة الاجتماعية وقيم
الديمقراطية.
ثالثاً: أن نصبح مدار
تيار إصلاحي قوي، حقيقي، وغير قابل للهزيمة.
إن تجارب بعض دول المنطقة في السنوات الماضية، أوضحت لنا أن القوى
الإصلاحية الكبيرة، على مستوى الشرق الأوسط (باستثناء منطقة كوردستان الجنوبية)،
وعلى مستويات متباينة من النجاح، والتي ظهرت بالضدّ من الفساد، وهدر المال العام،
وسوء استغلال السلطة، قد خرجت من قلب التيار الإسلامي، عندما استطاعت أن تحرّر
نفسها من قيود الإسلام السياسي، وتتحول إلى أحزاب عصرية، وتجمع جماهير غفيرة حول
مشروعها.. إن الإسلاميين في كوردستان ينبغي عليهم أن يلعبوا نفس الدور بالنسبة إلى
المشروع الإصلاحي في وطنهم.
وبهذه الصورة يصبح الإسلاميون خميرة أنموذج جديد للعمل الوطني السياسي،
وسبباً في انتعاش قيم (الكوردايتي) المغدورة، وإعادة الروح إلى مسيرة النضال من
أجل العدالة، والحفاظ بصورة متزايدة على كرامة إنساننا، والاستفادة من القيم
الإسلامية الكونية، لتزيين خارطة الطريق، والمشروع السياسي، والخدمة الروحية
والأخلاقية.
إن الإسلاميين يجب أن يطلّوا من هذا الأفق الواسع، وأن ينظروا إلى
مستقبلهم، وإلى الواجبات التي تنتظرهم، من منطلق هذا الواجب الحضاري والإسلامي والقومي
والإصلاحي والديمقراطي الكبير.. وأن يفكروا - من منظور متطلبات تلك الواجبات أيضاً-
في المتغيرات، وتجديد طرائق التفكير، وأساليب عملهم، ولا يشغلوا أنفسهم بأمور
جانبية، وهامشية، وأهداف محدودة.
وهذا يتطلب منا أن ننبذ الخوف، وأن نتحصن باليقظة والوعي، لأن الخوف
والإيمان لا يجتمعان في عقل وقلب واحد.. دعنا نتخلّص من أسر بعض أشكال التفكير
الحزبية، والدعوية، لأنه من المفترض لا أن نكون أحراراً فحسب، وإنما أن ندافع عن
حرية المجتمع والآخرين أيضاً.
لا تتعاملوا مع بعضكم البعض بالدبلوماسية والتحفظات، حطّموا القيود، هيّئوا
النفوس، وطمئنوها، قرّروا، وضَعُوا التيار في مرحلة انتقالية، حدّدوا خارطة طريق
لمدة سنتين، للتمهيد لإعادة بناء التيار، والخطاب، وأساليب القيادة، والعمل، على
الشكل الذي تحدثنا عنه.
تحركوا أيها القادة.. إن عدم الاهتمام، والتقصير، وعدم الجدية والصدق، ووضع
العراقيل، لن تنزع المسؤولية عن أعناقكم.
إن الوضع ناضج ومهيّأ لولادة موديل جديد من العمل الدعوي والسياسي في
الإطار الإسلامي، بحيث إننا إذا لم نخط بمنهجية، وانطلاقاً من قرارنا، فإن المولود
سيولد لا محالة، فإن لم يلد المولود بصحة وسلامة، فإن المسؤولين عن ذلك سيكونون
أولئك الذين يستطيعون أن يقرروا، ولكنهم يمتنعون عن إصدار القرار الصائب والضرور
ي.
المدونة
ردحذفمكافحة الحشرات
مكافحة الحشرات بالدمام
مكافحة الحشرات بالرياض
مكافحة الحشرات بالمدينة
مكافحة الحشرات بجدة
مكافحة الحشرات بمكة