03‏/10‏/2017

الموصل.. ماذا وراء الإرهاب؟..

د. سعد سعيد الديوه جي
بعد سقوط الموصل عام 2003م، ظهر قائد الفرقة الأمريكية (101) المحمولة جواً، والتي اتخذت من الموصل مقراً لها، على التفزيون المحلي، وهو الجنرال (ديفيد بترايوس)، في كلمة موجهة لأهل الموصل، ثم قال: "أنا مصلاوي"، وتدّرج (بترايوس) في المناصب حتى وصل لرئاسة المخابرات الأمريكية قبل تقاعده!
في ليلة العاشر من حزيران عام 2014، وعشية سقوط الموصل بيد (داعش)، نشـرت إحدى الصحف البريطانية الشهيرة خبراً يعد عجيباً وغريباً، قالت فيه بأن سقوط الموصل سيغيّر خارطة مناطق النفوذ في الشرق الأوسط، في حين أشارت بعض القنوات الفضائية بأن الموصل صارت محط أنظار العالم! وكل ذلك كان يدعو للاستغراب في وقته.
وحدث ما حدث خلال السنوات المنصرمة الثلاث، واجتمعت الدول الكبرى والصغرى لمحاربة هذا التنين الخرافي الذي ظهر على حين غفلة، وأخذت الموصل نصيباً وافراً من همجية (داعش)، ليخرج علينا الناطق باسم التحالف عشية 15 تموز 2017م ليقول بأن أهم معركة وقعت بعد الحرب العالمية الثانية هي معركة تحرير الموصل!.. حيث تم القفز على كل الحروب التي وقعت في العالم خلال سبعين عاماً ببساطة تامة.
فهل (داعش) بقوة دول المحور (ألمانيا واليابان وإيطاليا)، الذين انتصـر عليهم الحلفاء عام 1945م؟ وهل تم اختزال الحروب الكورية والفيتنامية والعربية مع إسرائيل، وحروب يوغسلافيا، لتصير معركة الموصل أهم معركة بعد سقوط برلين ونهاية الحرب الثانية ؟
الجواب هو النفي بالطبع، ولكن مما يدعو للاستغراب، الذي يتبدد إذا علمنا أن الموصل، وهي عاصمة (محافظة نينوى)، جزء من دولة العراق، الذي يحتوي على ثاني احتياطي نفطي في العالم، و يمثل 15% من هذا الاحتياطي، ونصف هذه الكمية من النفط والغاز في الصحراء الغربية ومنطقة الجزيرة الفراتية، وهي غير مستغلة على الإطلاق، وهي مناطق سنية، حسب التصنيف الأمريكي الجديد.
بالإضافة لذلك، فإن هذه المنطقة هي من المناطق الحيوية في الشـرق الأوسط، من خلال تحكمها بمشاريع نقل النفط والغاز العملاقة، القادمة من شمال إيران وآسيا الوسطى، باتجاه أوروبا، وهذا السر في مزاحمة إيران للدول الكبرى حول النفوذ على المنطقة، وإن المصالح النفطية الأمريكية لن تسمح لهذا الممر أن يخرج من تحت سيطرتها.
ولو رجعنا للتاريخ قبل مئة عام، و نظرنا كيف كانت الدول العظمى آنذاك تفكر بتقسيم مناطق النفوذ، بعد هزيمة الدول العثمانية، لاقتربت الصورة منا أكثر:
ففي عام 1916م عندما تم توقيع اتفاقية سايكس-بيكو، وقعت الموصل في المنطقة العربية (أ)، مع حلب ودمشق، لتكون بعد انتهاء الحرب تحت الانتداب الفرنسـي، ولكن رائحة النفط الزكية جعلت البريطانيين يتخلون عن اتفاقياتهم مع الصديق الفرنسـي اللدود، وبعدها ضموا ولاية الموصل العثمانية للعراق، المتكوّن من ولايتي بغداد والبصرة العثمانيتين، واستناداً للاستفتاء المزور الذي أجرته عصبة الأمم عام 1925م.
ولو أن (تشـرشل)، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، صرح آنذاك بأن تأسيس العراق بشكله الحالي كان خطأ فادحاً! وربما يريد الأمريكان، وحلفاؤهم الإنجليز، تصحيح هذا الخطأ بعد مئة عام .
الأمريكان هم أسياد الموقف في الشـرق الأوسط والعراق، وإن مزاحمة (إيران) لهم "وهمٌ كبير"، كما قال ذلك السيد (جيمس كارافانو)، نائب رئيس مؤسسة هيريتاج الأمريكية، في حديث لجريدة (الشـرق الأوسط)، بتاريخ 17تموز 2017م، وشبّه ربط الموصل ببيروت في التصـريحات الإيرانية، كزحف بولندا نحو موسكو، وقال بأن الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011م كان خطأ، وعندما سألوه عن التواجد الأمريكي في المنطقة، قال: "بكل تأكيد في العراق".
بالإضافة لذلك، فإن السياسة الأمريكية هي سياسة المصالح العليا، ولا غير، وهي ديناميكية متغيرة، ولذلك دخلوا سوريا من الشمال والجنوب، ليبقى الروس والإيرانيون يبحثون عن جزء من الكعكة في عرين الأسد المتهالك، ونحن ندفع ثمن أخطائهم، فنحن ومناطقنا وثرواتنا مجرد أشياء يتعاملون معها ولا غير.
بعد الحرب العالمية الثانية سألوا (ستالين) عن الفرق بين أطماع الإنكليز والأمريكان، فقال بأن الإنكليز يكتفون بأول درهم تصله أيديهم في جيبك، بينما الأمريكان يمدون أيديهم لإخراج آخر درهم.
هذه بعض من جوانب الصراع على النفوذ، صارت فيها الموصل جزءاً مهماً، وكان لا بد من اختراع وتضخيم (داعش) بين الفرقاء المعنيين، ساعدهم على ذلك غباؤنا، وقلة حيلتنا، وفسادنا، وفهمنا الضيق للدين، واجترار الماضي ببلاهة نادرة.
على كل حال، لننتظر ما هو قادم، ففصول المسرحية لن تنتهي بالقضاء على (داعش)، وتحرير الموصل.
                                  ***          ***
ما قدمنّاه أعلاه جزء من الصورة، ولكي تكتمل النظرة، سنعرّج على التاريخ، ونرى كيف أن (داعش) – مع أنها صنيعة المخابرات الأجنبية والمحلية -  ولكنها ليست شيئاً بدعاً في تاريخنا، ومن قبلهم خاب ظن القرمطي..
وخاب ظن القرمطي..!
إن أكثر ما يحز بالنفوس، ويؤلمها، إهانة رموزها الدينية، والاعتداء عليها. ويبدو الأمر في غايةالغرابة عندما يتم ذلك باسم الدين، وهو اختراع عبقريات شريرة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.
فـ(القرامطة)، وهم عظم من عظام الإسماعيلية الباطنية، كانوا من هذه الفئة، وشعارهم المناداة بالعدل والمساواة والتوحيد باسم آل البيت، وآل البيت بريئون منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب !
وكان شعار قائدهم (حمدان قرمط): "أمرت أن أدعو الناس من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب"، وذلك كله باسم الدين، لا من خارجه!
انتشـرت دعوتهم بين الأعراب والموالي، وكانت ممارساتهم في القتل والهمجية والنهب والسلب شيئاً لا يصدق، حتى إن مستشـرقاً كبيراً، مثل (دي خوية) الهولندي، يؤكد بأنه لم يكن لهم دين ولا شعائر دينية، سوى القتل والسلب والنهب واستباحة كل شيء.
ويقول: "في الشهر الأخير من عام 317 هـ، كانون الثاني 930 م" توجهوا نحو (مكة المكرمة)، ودخلوها يوم التروية في الثامن من ذي الحجة، بقيادة (أبي طاهر الجنابي). وكان قبلها عام (312هـ) قد تعرّض لقوافل الحج، حيث قتل 2200 رجلاً، و300 امرأة، ومثل هذا العدد أخذوا أسرى.. وكان بين المسبيين: الأمير (عبدالله بن حمدان)، والد (سيف الدولة) الذائع الصيت، وكانت فلسفتهم بأن الحج ممارسة شركية، ولذلك يجب منعها وتدميرها!
يقول (دي خوية): "وأخذ جنود أبي طاهر الشـرسين يقتلون ويدوسون كل شيء، ويصيحون بضحاياهم بسخرية ووحشية: يا حمير، أليس قلتم في هذا البيت: من دخله كان آمناً؟ أين حرمته، وأمنه، الآن؟".
وقال أحدهم: "يا حمير، تعبدون الحجارة، وتطوفون بها، وتلثمون أركانها، وترقصون حولها".
ويقول (دي خويا) إن مجموع القتلى في المسجد الحرام بلغ 1700 شخصاً، من مجموع 30000 قتلوا في (مكة) كلها.
وأرادوا هدم الكعبة قبل خروجهم، ولكن استعجالهم بنقل الغنائم جعلهم يعدلون عن ذلك، واكتفوا بكسـر الحجر الأسود، ونقله إلى عاصمتهم (هجر)، على ساحل الخليج العربي، حيث بقي عندم 22 عاماً، وقال كبيرهم حينذاك: "أخذناه بأمر، ولا نرجعه إلا بأمر". وهو كلام يدل بلا شك أن وراءهم قوى أخرى تحركهم، خرج (أبو طاهر) من (مكة) وهو ينشد مستهزءاً:
لو كان هذا البيت لله ربنا     لصبّ علينا النار من فوقنا صبا
لأننا حججنا حجة جاهلية      محللة، لم تبق شرقا ولاغربا
وأنا تركنا بين زمزم والصفا   جنائز لا تبغي سوى ربها ربا
لقد كان مخطط (أبا طاهر)، ومن يقف خلفه من قوى الشـر الباطنية، محو قدسية الكعبة من عقول المسلمين، ولكن ظنه خاب، فرغم النكبة، فإن المسلمين زاد تعلقهم بدينهم..
هذا بالضبط مافعله قرامطة زماننا الحاضر (داعش)، عندما استباحوا الأخضـر واليابس، بحجة محاربة الشرك، ونصرة التوحيد.
فعندما هدموا المساجد كانت حجتهم وجود القبور فيها، ولكن وجههم القبيح، ونواياهم الشريرة، انكشفت بتفجير (الجامع النوري)، ومأذنته الشهيرة، حيث لا قبر ولا ضريح.
هذا الجامع الذي يقع في قلب الموصل، ولا تبعد عنه الكنائس إلا أمتاراً معدودة، كان رمزاً للتعايش والتسامح الذي ينادي به الإسلام، فكان تدميره هدفاً خفياً من أهداف هذا التنظيم، الذي خدع الناس بأعلامه السود، وشعاراته حول (خلافة على منهاج النبوة)، حيث وضع داعيهم نفسه على خط النبوة، وكان ذلك تشويهاً لمنهج النبوة، بما فعلوه من همجية وقسوة فاقت ما فعله القرامطة .
لقد جلبوا مفاهيم عجيبة غريبة، فأرادوا - كما يزعمون - تعليمنا التوحيد، وكأننا نعبد اللات والعزى، ولا نصلي، ولا نصوم، ولا نزكي، وهذا هو التكفير.
وكما خاب ظن القرمطي، ومن خطط لمخططه الجهنمي، فإن مخطط هذا القرمطي الجديد سيخيب، ويخيب معه من خطط لهدم الدين باسم الدين، كأحد الأهداف لهذه المنظمة السوداء، وستعود الموصل لسابق عهدها، فالتاريخ لا تمحوه الأعمال الإجرامية والهمجية السوداء.

هناك تعليق واحد: