29‏/12‏/2020

آخر الكلام/ أنا أبرر إذن أنا موجود!

محمد واني

كلنا نمارس التبرير في حياتنا اليومية، سواء كنا زعماء سياسيين أو مفكرين أو أشخاصاً عاديين ضمن إطار العائلة في البيت الصغير، أو في المجتمع والدولة، الكل يبرر للكل، حتى الطفل الذي يرتاد مدرسته يكون قد تشرب أبجديات (فن) التبرير في البيت أو الحارة، قبل تعلمه أبجديات اللغة في المدرسة، ويحفظ عن ظهر قلب المبررات التي يغطي بها غيابه وكسله ومشاكسته في الصف أو في الشارع أمام معلميه أو والديه، محاولاً إقناعهم بحجته، وقد تنجح خطته ويقتنعون بها، وقد لا تنجح ويتعرض لموقف (بايخ)، الأمر يتوقف على مدى ذكاء ومهارة المبرر في وضع خطته (كذبته) المحبوكة. وهكذا يشب ويكبر وتتوسع خبرته ومداركه، ويتعلم مبادئ وأسس هذا الفن أكثر، حتى يصبح أستاذاً كبيراً في هذا المجال، ثم يقوم بدوره بتعليم الأجيال اللاحقة، وهكذا دواليك.

تنتشر هذه العادة وتتطور أكثر في المجتمعات المتخلفة، بينما تضيق وتنحسر في المجتمعات المتحضرة، التي تعتمد الصدق والشفافية في مسيرتها الحياتية.. ويختلف التبرير عن الكذب، بأن الأول يكذب فيه الإنسان على نفسه، بينما يكذب الإنسان على الناس في الثاني. وأنا أقول إن التبرير ليس فقط كذب الإنسان على نفسه، بل

على الآخرين أيضاً.

 و(التبرير) يعتبر أهم وأعظم اختراع لغوي وفكري واجتماعي وسياسي واقتصادي اكتشفه الإنسان منذ أن وجد، وما يميزه عن الحيوانات ليس اللغة ولا العقل ولا الإحساس ولا الوظائف الجسدية، ولا أي شيء آخر؛ كل ما هو موجود فيه موجود فيها أيضاً، وربما أكثر، ولكن ما يميزه عنها هو (التبرير)، فهو اختراع يتفرد به الإنسان وحده، دون غيره من الكائنات الحية.. والعجيب أن الإنسان يظل يمارس هذه العادة حتى وهو في الآخرة أمام الله، في محاولة للتملص من أعماله السيئة { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}..

والتبرير - بشكل عام - عادة سيئة، وأثره خطير على المجتمع، ولكن أخطر أنواعه هو ما يسوقه السياسيون والحكام لخداع الجماهير، وإضفاء الطابع القانوني على قراراتهم وسياساتهم، تغطية لأهدافهم الحقيقية. وقد برر صدام حسين - في حينه - قصفه لمدينة (حلبجة) الكوردية بالكيمياوي، حيث قتل الآلاف من الأبرياء بلحظات، بأنه كان يدافع عن حياض الوطن، ويحافظ على حدوده من دنس الإيرانيين.. وكذلك فعل نوري المالكي طوال فترة حكمه، وكان يبرر لكل الأزمات التي أثارها في العراق، في اعتقاد خاطئ أنه بذلك إنما يحمي العراق من التفكك والتقسيم. ولكن العراق، وبفعل أخطائه المتكررة، وقصـر نظره السياسي، اتجه فعلاً إلى التقسيم والتشظي، وظهرت أولى بوادره في قيام الكورد بإجراء عملية الاستفتاء، حيث صوت 93% منهم لصالح الاستقلال، مبررين بعدم التزام بغداد بالدستور، وكذلك رفضت بغداد الاستفتاء الكوردي لنفس السبب، وهو خرق الدستور! وربما سنشهد في الأيام القادمة - وهو ما ألمس بوادره - حرباً شعواء ضد الإقليم الكوردي تحت نفس الذرائع والتبريرات!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق