سعد سعيد الديوەجي
? من لم يقرأ
الأناجيل، والعهد القديم، لا يدرك عمق الهوة بينهم وبين القرآن في مناشدة العقل
البشري، وعدم الاعتماد على ظاهرة المعجزات الحسية في تكريس الإيمان بالله الواحد
الأحد، وبشمولية الفكر الإسلامي في العلاقة بين الخالق، الذي ليس كمثله شيء، وأكرم
مخلوقاته، ألا وهو الإنسان.
أما الأديان الأخرى؛ الثنوية والوثنية، فهي تسبح في بحر من الأساطير،
كالآلهة المتجسدة، والتناسخ، والحلول، ووحدة الوجود.
وعندما ظهر الإسلام في محيطه الأول في مكة، وما حولها، كان الناس في معظمهم (مـشركين)، ويعبدون الأصنام
التي يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وكان شركهم العقائدي من النوع البسيط غير المعقد، فلم تكن لهم مؤسسة دينية كهنوتية، متصلة بمؤسسة سياسية، أي لا كهنة ولا رجال دين، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}٤٣/ النحل. ولذلك، رغم معارضتهم للإسلام في أول الأمر، إلا أن محيطهم وعقليتهم لم تكن ملوثة بالخرافات والطقوس التي في الأديان الأخرى. وكان الإسلام كفكر - ولا يزال – عظيماً، وبسيطاً، فالمعتقدات والأفكار العظيمة تكون واضحة وبسيطة.وعندما انتقل الإسلام إلى المدينة
المنورة، ظهرت معارضة جديدة من القبائل التي تهودت، وهي - على الأغلب - ذات أصول
عربية، ولم تقبل بالإسلام لأسباب عديدة، أهمها أنهم كانوا ينتظرون مخلصاً موعوداً
(مسيح منتظر) من نسل داؤود، بالإضافة لسيطرة الكهنوت على العقلية اليهودية، وأنهم
كانوا أهل كتاب، ويعتقدون بتفوقهم على من حولهم، ومع ذلك لم يكونوا ملحدين، ولهم
نظرتهم الخاصة للرب (يهوه)، وهي نظرة تكاد تكون (قومية) أكثر منها دينية.
وعندما انتشر الإسلام في الفتوحات
المبكرة خارج الجزيرة العربية، وفقدت الإمبراطورية البيزنطية معظم أراضيها، وكانت
على الديانة المسيحية التي تؤمن بإله مثلث الأقانيم، ومسيح منتظر أيضاً، غير الذي
تنتظره اليهود، الذي سينزل من السماء، ثم يأخذ محبيه ثانية للسماء، الذي افتدى
خطايا البشر بصعوده على الصليب.
أما الإمبراطورية الفارسية، التي
كانت تتمثل بشـرق العراق الحالي، وفارس، وخوارزم، وبلاد ما وراء النهر، فقد تعرضت
لصدمة سياسية وثقافية عنيفة، بعد زوال الملك تماماً، واضمحلال أديانها؛
الزرادشتية، والمانوية، والمزدكية، أمام الإسلام، ومادته العرب، الذين لم يكن يحسب
لهم أي حساب في العقلية الفارسية.
كانت الهوة العقائدية عميقة جداً
بين الغالب والمغلوب، فكانت أديان هذه الإمبراطورية تقوم على ثنائية الصـراع بين
آلهة الخير والشـر، وأمور أخرى مثل: زواج المحارم، وتقديس النار، وسيطرة رجال
الكهنوت على الحياة الاجتماعية، وحتى السياسية.
فالزرادشتية (المجوسية) تؤمن
بإلهين، هما: (أهورا مزدا) إله الخير، والذي عنده ستة معاونين، ووالده يدعى
(زورفان)، وهو نفس والد إله الشـر (أهريمان)، وزورفان كان خنثى!.
والخير يمثله النور، والشـر يتمثل
بالظلام، وهما في حالة نزاع دائم. وتظهر النقوش الساسانية القديمة هذين الإلهين
بصورة بشـرية، وتتميز الزرادشتية بتقديس النار، التي يجب أن تبقى موقدة في معابد
مخصصة لذلك على الدوام.
والزرادشتية ديانة قديمة، يقدر
البعض بأنها تعود إلى 1500 ق.م، ولها كتاب مقدس باسم (الآڤيستا)، وهي ديانة طبقية
تقسم المجتمع إلى أربع طبقات، حسب المكان الذي خلق الناس من جسم أهورامزدا، إن كان
من الرأس، أو اليدين، أو الرجلين، أو القدمين. وكانت الديانة الرئيسية السائدة
عندما سقطت فارس، وتؤمن بعودة شخص منتظر باسم (سوشيانت)، يعيد أمجادهم متى ما زالت
دولتهم.
وأما الديانة الثانية، فهي
المانوية، وتعود إلى رجل مجوسي، اسمه ماني، ولد عام (216م)، في (بابل)، ومعتقداته
خليط من المسيحية والبوذية والزرادشتية، من خلال أفكار غنوصية. وهي تأملات دينية
خيالية تعتمد على عقيدة الخلاص والفداء، ويقولون إنها تأتي بالإلهام، وهم لا
يأكلون اللحوم، ويؤمنون بالاتحاد والحلول، والتناسخ، أي انقسام الروح بين مخلوقين،
وكان (ماني) يقول لأتباعه بأنه الموعود الذي بشـر به (عيسـى)، وأن بوذا وزرادشت
والمسيح أسلاف له.
يقول (ماني): "انفصلت الكلمة
من الأب، ومزقت الشياطين، وأن السماء تتكون من جلود الشياطين، وأن الرعد جرجرة
العفاريت، وأن الزلزلة هي تحرك الشياطين".
وكانت المانوية في صراع دائم مع
الزرادشتية، ولذلك قتل (ماني)، وصلب، نتيجة هذا الصـراع.
وأما الديانة الثالثة المهمة، فهي
المزدكية، وقد نشأت عن المانوية في شمال فارس (487م). وتتميز عن الديانات الأخرى
بشيوعية المال والنساء، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ. وأخذت من الزرادشتية
ثنائية الخير والشـر، لأن مزدك بالأصل كان كاهناً زرادشتياً، والنفس البشرية خليط
من النور والظلام.
لقد كان إعلان هذه المعتقدات أمام
التوحيد الإسلامي غير ممكن، لذا أظهر معظمهم الإسلام، وأبطنوا ديانتهم القديمة،
للثأر لهزيمتهم الفكرية، فكانت تحركاتهم تبدأ بالغلو، وتنتهي بالزندقة (الإلحاد
المبطن)، بطرق ملتوية، وبدون التعرض لفكرة نفي معتقد الخالق الواحد الأحد بصورة
مباشرة، أو التقرب منها، لذلك اتجهوا نحو التشكيك والسخرية من المعتقدات الأخرى،
كالنبوة، والوحي، وعظمة القرآن.
وفي سعيهم للتهكم من هذه
المعتقدات، فإنهم يزرعون الإلحاد بصورة غير مباشرة (الزندقة)، فكانوا يتكلمون باسم
العقل، وهي أكبر كذبة اخترعوها، ولا زال أنصارهم وأتباعهم من الفرق الباطنية
يروجون لها تحت أغطية التصوف الحلولي، ومن أشهر هذه الفرق: الإسماعيلية، وذراعها
العسكري من القرامطة، حتى إن مؤرخاً مشهوراً مثل (بندلي جوزي) يقول: "لم يكن
للقرامطة دين أو شعائر دينية، ولكنهم يوهمون السامع أنهم ذوو دين، وغايتهم إعادة
مجوسية فارس على أنقاض الإسلام".
نشطت حركات الإلحاد بعد سقوط
الدولة الأموية (138هـ)، على أيدي العباسيين، الذين اعتمدوا - بصورة كبيرة - على
الشعوب الفارسية، في صراعهم مع الأمويين، وانفتحت الدولة الجديدة على هذه الشعوب
فكرياً وثقافياً، واقتبسوا منهم عادات وتقاليد كثيرة، كعيد رأس السنة الفارسية،
المسمى بعيد النوروز.
وكما ذكرنا، فقد نشطت الحركات
الشعوبية، وهي كراهية العرب والمسلمين، وسلكت عدة سبل لذلك، ومنها انتشار
التأويلات القرآنية الخارجة عن السياق الديني للإسلام، وانتشار الأفكار الباطنية،
ونشـر فكر المعجزات والمخاريق بين العامة، لاستخدامه للخداع والتمويه، بدل التركيز
على الفكر الإسلامي الواضح البسيط.. وأكبر الفرق الإسلامية التي تصدت لهذا النهج
هم المعتزلة.
لقد كان نشـر الأحاديث المنسوبة
للرسول – صلى الله عليه وسلم – ، والروايات عن المعجزات الحسية، منهجاً سلكه
الزنادقة، والشعوبيون، لثني المسلمين عن روح الإسلام الأصيل، الذي هو نهج رباني،
وعقلاني، نابع من روح القرآن. وكان ذلك هدفاً مركزياً لهذه الحركات، فمعجزة
المعجزات بالنسبة للمسلمين هي القرآن الكريم، وما يحتويه، وكذلك بلاغته، وسيرة
الرسول، وتدرجه في نشر الدعوة، ونجاحه في ذلك.
يقول د. عبد الرحمن بدوي، في كتابه
(من تاريخ الإلحاد في الإسلام)، عن الزندقة، بأنها كانت تشمل كل من يُظهر الإسلام
ويُبطن أديان فارس القديمة، وخصوصاً المانوية، لأن المجوس تم الاعتراف بهم كأهل
كتاب، بدون أكل ذبائحهم، أو الزواج منهم.
واتّسع نطاق مصطلح الزندقة، فصار
يطلق على كل من يظهر الإسلام، ولسانه ينطق بالسخرية والتهكم من أركانه.
ومن أشهر الزنادقة: بشار بن برد
(96-168هـ)، الذي كان يفتخر بأنه من سلالة ملوك فارس، وكان مولىً لبني عقيل في
(البصرة) ثم تم عتقه. وابن المقفع (106-142هـ)، وقد ولد مجوسياً، واسمه الأصلي
(روزبه بن داذويه)، وهو الذي نقل كتاب (كليلة ودمنة) من الفارسية للعربية، وفيه
حكم وعبر على لسان الحيوانات، وكتب أخرى عن سير ملوك فارس.
لقد وقف الدكتور بدوي عند ابن
الراوندي، المولود قرب (أصفهان) عام (210-296هـ)، واعتبره من أشهر الزنادقة، حيث
تناول بالدراسة ما وصل من نصوص عنه" متفرقة هنا وهناك، وخصوصاً كتاب
(الزمرد)، الذي سخر فيه بعنف من أركان الإسلام، وخصوصاً من النبوة، وكان في ذلك
بعد تفكير عميق، وحقد دفين، فإذا انهدمت (النبوة)، فلا يبقى للدين معنى!، والغريب
إنه يقول بأن نبوة الرسول منافية للعقل، في حين يستشهد بموضع آخر بمكانة العقل في القرآن،
فهل هو تخبط فكري أم أفكار مدبرة لخلط المفاهيم بين المسلمين، وزراعة الشك بطريقة
عشوائية، نتيجة الأحقاد؟!.
ويسأل ابن الراوندي: هل من العقل
إقامة الصلوات، أو غسل الجنابة، وما معنى رمي الحجارة في الحج، أو الطواف، حول بيت
لا يسمع ولا يبصـر؟!
وهذا النقد المتهافت يوحي للجهلة
بأن الطواف في الكعبة هو للكعبة نفسها، وليس لرب العالمين حولها، وإنها ليست إلا
رمزاً أقرّه تعالى لاجتماع المسلمين، والطواف حوله.
إن منهج السخرية الذي اتبعه ابن
الراوندي من طقوس الحج، كان مطابقاً لمنهج القرامطة الإسماعيلية، والذي توّجه الحلاج
(ت309هـ)، بالاستغناء عن فريضة الحج، وبما فعله القرامطة عندما غزوا الكعبة عام
(317هـ)، وقتلوا الحجيج، وسرقوا الحجر الأسود، فهل كان ذلك صدفة، أم أنه طريق واحد
بسبل مختلفة؟.
إن الإلحاد الذي حاول نشـره
الشعوبيون الزنادقة، لم يكن قائماً على نفي وجود الله، لأنهم لو قالوها، فإن كل
كلامهم عن نقد معتقدات الإسلام، وطقوسه، ستسقط بالتعاقب، ولكنهم ينتقدون ويتهكمون
على المعتقدات، والطقوس، لبيان أن آلهتهم، وطقوسهم، هي الصحيحة. وهو هدف غير
مباشـر يسعون إليه بإثارة الشكوك، ونشـر الأكاذيب.
ويقول ابن الراوندي بأن كل الأنبياء
ليسوا إلا سحرة، وممخرقين! وإذا عرفنا زمن ابن الراوندي، الذي يعتبر زمناً
متأخراً، بعد وضع الأحاديث المنسوبة للرسول – عليه الصلاة والسلام – ، فقد استغل
هذه الثغرة لنقد المعجزات الحسية، التي لم يعيرها الإسلام أدنى اهتمام، والذي قال
بحقها تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ
بِهَا الْأَوَّلُونَ} الإسراء/ 59.
لذلك، فعندما واجه المعتزلة
الزنادقة، لم يعيروا للمعجزات الحسية، المنسوبة للرسول – عليه الصلاة والسلام – ،
اهتماماً كثيراً، واعتمدوا على منهجية القرآن، وفكره الشمولي، في جدالهم مع
الزنادقة.
لقد وقع ابن الراوندي، وأمثاله، في
أخطاء فادحة، نتيجة البحث عن مثالب في القرآن، فقال بأن القرآن يخالف اليهود
والنصارى في صلب المسيح، وهو يتغافل أو لا يعلم بأن اليهود أصلاً لا يعترفون
بالسيد المسيح (ع)، ويقولون إنه ابن جندي روماني، وأن الخلاف مع النصارى مسألة
مبدأية، للإسلام رأيه الخاص بذلك.
ويستعيض الملاحدة، ومنهم ابن
الراوندي، عن الوحي، بما يسمونه بالإلهام، بدون أن يُعرفوا لنا ما هو الإلهام على
ضوء العقلانية التي يدعونها.
أما الإعجاز القرآني اللغوي عند
ابن الراوندي، وأمثاله، فلا ينخدع به إلا المغفلون والأغبياء، الذين لا معرفة لهم
باللسان العربي.
وفي مسعاه لزرع الشك، كطريق معبد
للإلحاد، يقول ابن الرازي، وهو غير العالم والطبيب المشهور أبو بكر الرازي، وهو من
الزنادقة المشهورين: "من أين أوجبتم أن الله اختص قوماً دون قوم، وفضلهم على
الناس، وجعلهم أدلة لهم، وأحوج الناس إليهم"، وهو تنفيس على أحقاد ضد العرب،
حَمَلَة الرسالة الأوائل، والنبي الكريم منهم.
لقد سلكوا كل الطرق الفكرية،
والإرهابية، كحركة الحشاشين، لتقويض الإسلام، ومحاربته، ولم ينتبهوا لسموا الفكر
القرآني الذي أرادوا إرجاع خرافات أديانهم في مواجهته.
إن المعجزة القرآنية ليست ذات
طبيعة حسيّة، وإنما فكرية وجدانية، فالإسلام ليس دين معجزات حسية أو مادية، رغم
عدم إنكار القرآن لها، ولكنه يؤكد أن الله
سبحانه إنما أنزل القرآن ليخاطب به العقل البشـري، وأنه لن يستجيب لمطالبات
المشـركين بالمعجزات الحسية، بعد إذ أنزل القرآن، لكون الأقوام السابقين لم يتعظوا
بها، فاستحقوا العذاب المباشر من الله سبحانه، ومن ثم فهو يدعوهم إلى التفكر
بالآيات (المعجزات)، بدءاً من داخل النفس البشرية، إلى ما يحيط الإنسان من كون
عظيم، وعوالم من الغيبيات، هي من خلق الواحد الأحد.
يقول السيوطي: "اعلم أن
المعجزة أمر خارق للعادة، وهي إما حسية أو عقلية، وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت
حسية، لقلة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية، لكمال فهمهم وإدراكهم"،
ما لم يستوعبه الملاحدة وأشباههم.
لقد سقط الفكر الإلحادي، بكافة
صنوفه، سواءاً من خلال الطعن بالنبوة، أو بأصحاب الرسول، وسيرهم، أو بالتأويلات
الباطنية للقرآن الكريم، أو بإشاعة الخرافات باسم المعجزات، ليبقى الفكر المبني
على الإيمان بالتوحيد، وبعدم وجود رجال كهنوت بين الخالق والمخلوق، هو أسمى ما وصل
له الإسلام في سعيه لبناء إنسان من نوع فريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق