بقلم: تحسين حمه غريب
ترجمة: سالم الحاج
تعريف بسعيد النورسي:
? تعرفت على كتابات النورسي منذ فترة دراستي الأولية، عندما كنت طالباً في الصف السادس الأبتدائي.. حيث أتذكر أنني قرأت آنذاك أول كتاب للأستاذ النورسي.. ثم حدث لي انقطاع عن (رسائل النور)([1]).. ولكني مع ذلك كنت كثيراً ما أعيش مع تلك الرسائل.. ربما كنت لم أفهم بعض الأمور التي قرأتها، في بداية الأمر، ولكني وبعد أن نضجت قواي الفكرية والعقلية، أخذت أدرك تلك المفاهيم والمعاني..
سعيد النورسي هو أحد الشخصيات التي لم تأخذ حقها من
التعريف لحد الآن، ولم يعرف لها قدرها، ومكانتها.. هو شخصية عظيمة.. هو آخر شخصية
مجاهدة من عصـر ما قبل الحداثة.. آخر من بقي من عصر الحضارة الإسلامية في هذا
الزمان.. ومن هنا، فإني أرى أن الفيلسوف الإيراني (داريوش شايغان)([2])
قد جانب الصواب، إذ وضع شخصية مثل (ماوتسي تونغ)، و(غاندي)، كممثلين للشـرق أمام
الغرب..وأرى أنه كان من الأجدر، بالنسبة إلى فيلسوف مثله، أن يضع عظيماً مثل
النورسي كممثل للشـرق في تعامله مع الحداثة.. لأن ميدان عمل كل من (غاندي)
و(ماوتسي تونغ)، في النهاية، كان قد اقتصـر على الجانب السياسي، وهؤلاء برزوا في
ميادين الصراع السياسي.. ولكن النورسي هو الذي يلعن السياسة، ويبتعد عنها، ولكنه
يواصل، منفرداً، نضاله وصراعه..
إذا أردت أن أعرّف النورسي بجملة مختصرة، أقول: هو أحد أذكياء عصور ما قبل
الحداثة، أحد عرفاء عصر ما قبل الحداثة، الذي اعتبر في زمن الحداثة مجنوناً، وزج
به في مستشفى المجانين..
إذا كان لدينا في الحضارة الإسلامية ثلاثة أنواع من
التدين - وهذا ما أشار إليه العديد من المفكرين-، وهي: التدين الفلسفي، والتدين
الفقهي، والتدين العرفاني، فإن تدين سعيد النورسي هو تدين عرفاني بامتياز، مع إنه
كثيراً ما يبعد هذه الصفة عن نفسه، لأن الصوفية، وتأسيس الطرق، في تلك الفترة، وفي
الدولة التركية، كان ممنوعاً، ولذلك كان يعلن بأن هذا العصر ليس عصـر التصوف، وليس
عصـر المشايخ، حتى إن الصوفية والمشايخ السابقين لو عاشوا في عصـره لتركوا طرقهم،
ولسلكوا طريقه هو، أي لأصبحوا بتعبيره (خداماً للقرآن)([3])..
النورسي وتجربته الخاصة:
لا شك أن العرفاء قبل عصر الحداثة كانوا يقطفون ثمرة
(الإيمان)، يقطفون ثمرة إيمانهم، بمعنى أن شجرة الإيمان كانت شجرة مثمرة، وهذا
بالمناسبة هو أحد تشبيهات النورسي نفسه، حيث يقول إننا لو حلّقنا بجناح الخيال -
أو الروح، بعبارته -، وبحثنا عبر التاريخ، لرأينا أنه كان ثمة في عهد النبوة
جزيرة، جزيرة خضراء، تطل على التاريخ كله، الناس فيها مترعين بالمحبة، ممتلئين
بالإيمان.. ومن هنا، فإنه إذا كان عصـر ما قبل الحداثة عصـر الإيمان، وكانت شجرة
الإيمان مثمرة، وكل شخص يحصد من ثمرها على قدره، وبحسبه، فإن النورسي جاء في أواخر
هذا العصـر، عصـر ما قبل الحداثة، وبدايات عصـر الحداثة في الحضارة الإسلامية، وقد
أحس بأنه وإن كان يستطيع أن يجني من ثمرة الإيمان، ولكن ذاك العصـر قد ذهب، وأن
هذه الشجرة قد تآكلت أغصانها، أو فلنقل إن جنرالآً من الغرب قد جاء وأخذ يعبث بها،
ويريد أن يقطعها من جذورها – وهذا التشبيه كثيراً ما يطرح من قبل البعض، حيث يشبهون
الغرب بجنرال يحمل في يده فأساً، يريد أن يقطع بستان المعنويات في الشـرق.. ولذلك،
فإن النورسي كان يدرك أن ذلك عهد مضى، أن يجلس تحت ظل شجرة الإيمان، ويستمتع
بثمرها.. بل يجب عليه أن يقوم بدور المزارع الذي يدافع عن البستان.. فهو الإيمان،
إذن، والعشق، اللذان يجعلانه بدلاً من أن يجلس، ويسترخي في ظل ما تبقى من الأشجار،
يريد أن ينتفع بثمارها، ويتلذذ بإيمانه ومعنوياته.. يجعلانه بدلاً من ذلك، أن يقوم
بالدفاع عن ثمرة شجرة الإيمان.. كان يدرك أن العصـر هو عصـر الدفاع عن الإيمان، لا
عصـر قطف ثمرة الإيمان، كما كان الأمر في عصر العرفاء قبله..
من وجهة نظري،
فإن النورسي هو آخر عرفاء الحضارة الإسلامية، ولكن الفرق بينهم وبينه هو في هذه
النقطة، هو أنهم كانوا يريدون قطف ثمرة الإيمان. وأما هو، فإن الإيمان هو الذي
جعله، بدلاً من أن يبحث عن الكرامة.. بدلاً من أن يبحث عن الأشياء الكبيرة، التي
تستخرج من الإيمان.. قال: لا، أنا يجب أن أدافع عن الإيمان.. هذا التعبير الذي
كثيراً ما يتردد في العديد من المواضع في رسائله، بأنه (المدافع) عن الإيمان([4]).
النورسي وعلاقته بالعرفاء قبله:
لا شك أن النورسي كان معجباً بالعرفاء الكبار، فهو يعتقد
أن الحضارة الإسلامية لها وجهان، وجه مادي، هو الوجه المشاهد، ووجه معنوي.. فالوجه
المادي جاء متسلسلاً من غير انقطاع، وهو في استمرارية، إلى أن يصل إلى اليوم. ولكن
هذه الحضارة لها وجه آخر غير مرئي، يبدأ من النبي - صلى الله عليه وسلم-، حيث يبدأ
من لحظة تكليفه بالنبوة.. منذ لحظة بدء تجربة النبوة.. هذه التجربة المعنوية
الممتدة حتى اليوم.. فالحضارة الإسلامية، إذن، لها وجهان: وجه مادي، ووجه معنوي،
كل منها مستمر وممتد([5])..
وعمل سعيد النورسي هو في جانبها المعنوي أكثر.. حتى تلك الأمور العقلانية التي
يتحدث عنها في (رسائل النور)، إنما تقع في الجانب المعنوي([6])..
كمثل التشبية الذي يطرحه (جلال الدين الرومي)، أو ما يمكن أن نطلق عليه كلوحٍ على
سطح بحر([7])..
بمعنى أن الناس تظن أن النورسي قد قارب عملاً عقلياً، نعم صحيح، ولكنه لا يعدو أن
يكون لوحاً في محيط المعنويات العظيم، أي إنه فعل ذلك في عالم الولاية.
لكي لا نبتعد كثيراً عن الموضوع، فلنقارن بين (المثنوي
المعنوي) للرومي، وبين (المثنوي النوري) لسعيد النورسي.. لا شك أن النورسي كتب هذا
الديوان، وأسماه بالمثنوي، بسبب انبهاره وإعجابه بشخصية جلال الدين الرومي،
وتيمناً به.. إن مثنوي الرومي هو مثنوي معنوي، بمعنى إظهار الأشياء المعنوية لعالم
الروح، الأشياء المعنوية لعالم العشق – بعبارة العرفاء السابقين – تلك التي لا ترى
بالعين.. حتى أنك إذا قرأت مثنوي الرومي، أحسست أنه يتحدث عمّا يمكن أن يخرج من
عالم الروح، مما لا يتمكن الناس – عدا العرفاء منهم - من رؤيته، ولا يعرفونه.. وقد
تمكن الرومي، في كتابه هذا، من إخراجه جميعاً.. أي إنه جنى ثمرة العشق والإيمان..
ولكن على الجانب الآخر، لو نظرت إلى المثنوي النوري، الذي وضعه إعجاباً واقتداء
به: ففي حين إن المثنوي الرومي هو مثنوي المعنويات، فإن مثنوي النورسي هو مثنوي
النور، نور الإيمان، نور الدفاع عن هذا الإيمان.. وإذا كان مثنوي الرومي باللغة
البهلوية الفارسية، فإن مثنوي النورسي هو باللغة العربية.. وباختصار: ترى أن مسالك
ذلك العالم الروحي هنا، في المثنوي النوري، هو عبارة عن دفاع عن المعنويات، وليس
هو في المعنويات وثمارها، ولا في نتائجها([8]).
النورسي بين
العصر القديم والعصر الجديد
أوّلاً: سعة عالم النورسي وتعدد مصادره المعرفية:
لكي نفهم النورسي بصورة أفضل، ينبغي أن ندخل هذا الباب
بدقة أكبر، وأن نعرف ما هي الفروق بين العصور القديمة والعصـر الحديث. وأرى شخصياً
أن الشخص الحداثي لا يستطيع فهم سعيد النورسي، مع أن كتاباته سهلة الفهم ومبسطة،
وأكثر شيء يرد فيها هو ضرب الأمثال، وهذا استفاده من القرآن الكريم.. وكثيراً ما
يحدثني الشباب بأن لهم لحظات يتذوقون فيها الرسائل، ولكنهم يعجزون عن فهمها، أو
أنهم سرعان ما ينتابهم الملل منها، ولا يستطعيون المضي معها.. صحيح أن كثرة عدد
الرسائل (حوالي 130 كتاباً) ربما كان له أثر في عدم قدرة البعض على المضي معها،
مثلما يستطيع أن يقرأ رواية في يوم وليلة وينهيها، ولكن من يطيق أن يقرأ ما كتب
على مدى أربع وعشـرين عاماً (ما بين 1926 – 1950)؟!([9])..
ولكن القصة ليست هنا، وإنما هي في مكان آخر.. المسألة هي أن عالم النورسي هو أوسع
من عالم عصـر الحداثة، فأبرز خصائص العصور القديمة التي تحدث عنها (ماكس فيبر)
ثلاثة: فأولى خصائص العصـر القديم هي (أسراره)، وثاني خصائصه هي سعة هذا العالم،
عالم أوسع من عالم عصـر الحداثة، وثالثة الخصائص هي أن هذا العالم هو عالم الكشف،
كشف تلك الأشياء التي لا ترى، ولكنها تملك حقيقة ثابتة، حقيقة ليست في حال
التغيير.. وهذه خاصية أخرى من الخصائص الموجودة عند النورسي، والبارزة عنده: أن
الوجه غير المرئي للوجود هو الوجه الأكبر.. ولذلك، إذن، فكل خلق الله، وصنعه، يكون
مع الحكمة {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}(الأعراف/54) ، أي الواجب الملقى على
عاتقه، فإن لكل شيء حكمته غير المرئية، جانبه غير المرئي، حتى إذا حسبنا جانبه
الوظيفي، جانبه الوظيفي غير المرئي، يكون أكبر من جانبه المرئي.. فالناس، في عصـر
ما قبل الحداثة، ليسوا أناساً اعتياديين فحسب، من الذين يملكون جسماً، وعقلاً،
والذين نراهم في الواقع.. ولكنهم عوالم واسعة جداً.. والقارئ لرسائل النور، يلاحظ
أن النورسي يأتي بذلك النموذج في كثير من المواضع: أن الإنسان هو لب وجوهر كل
الوجود، هو معجزة الوجود، وكل حكمة الوجود هي موجودة في الإنسان([10]).
كذلك يتحدث النورسي كيف أن الإنسان يَختزل في ذاته جميع
الوجود، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم- هو الذي اختزل في ذاته جميع البشرية..
فانظر كم هو واسع الوجه غير المرئي للنبي! فهو - صلى الله عليه وسلم- كجسم، مجرد
إنسان عادي، {بَشَـرًا رَسُولًا}(الإسراء:93)، كما يقول القرآن، ولكنه ينظر إلى
الرسول في جانبه الرسالي، وهو بهذه الرحابة والإنسانية.. وإذن، فإن العالم،
والإنسان، اللذين يتحدث عنهما النورسي، هما عالم واسع، والقارئ له يجب أن يستشف
أنه لا يتحدث عن وجود عادي، وإنسان عادي، هو يتحدث عن وجود أوسع كثيراً، دائماً ما
ينظر إلى الوجود الجواني، والعوالم غير المرئية، يتحدث عن الحكم غير المرئية. وهذه
إحدى خصائص رسائل النور وعالم النورسي، ولا يستطيع المرء أن يدرك أبعادها عن طريق
التعامل الاعتيادي.. وربما كان مستغرَباً، أنه كان أحياناً يكتب كتاباً بمئة صفحة،
في غضون عشـرين دقيقة، أو ربما كتب في ساعتين كتاباً بمئتي صفحة، أو ثلاثمائة صفحة([11])..
هذه إحدى خصائص عصر ما قبل الحداثة، والمعاملة الشهودية مع الأحداث([12])..
في عصر الحداثة، أو العصـر الحديث، لم تعد مصادر المعرفة مثلها في عصر ما قبل
الحداثة، وهذا ما تحدث عنه الكثير من المفكرين، فمثلاً نجد أن (مصطفى ملكيان)([13])
يحدد مصادر المعرفة في عصـر ما قبل الحداثة، ويقول إنها أربعة: الشهود، العقل،
النقل، والتجربة:
1- الشهود، وهي
معاملة روحية، عن طريق الروحانية والقلب تنكشف لك بعض المعلومات وبعض الحكم، والتي
لا تنكشف عن طريق العقل والوسائل الأخرى.
2- العقل، وهو مصدر آخر من مصادر المعرفة في عصـر ما قبل
الحداثة، إذ إن العقل ليس مصدراً للمعرفة في عصر الحداثة، وهذا ربما صدم القارئ
للوهلة الأولى، ولكنه في الحقيقة كذلك، فإن عصـر الحداثة ليس عصـر العقل.. فالعقل
ما قبل الحداثة هو عقل كوني، في إمكانه أن يقرأ كل شيء، يجوز أن يكون مقياساً لكل
شيء، عقل كوني، ومقياس شامل.. شامل لكل وقت، ولكل مكان.. وكما نعلم، فإن ممثل هذا
العقل هو علم المنطق، حيث القياس هو العمود الفقري لهذا العلم، بمعنى أنه قياس لكل
شيء، آلة يصححح بها كل الأخطاء، يصلح لكل شيء، وعندما يوجد هذا المقياس المستقر،
فإن كل الأشياء الأخرى التي تقاس بهذا المقياس المستقر، تحوز هي الأخرى على
الاستقرار. ولذلك، فإن أغلب العلوم، ما قبل عصـر الحداثة، هي علوم مستقرة، في حين
إنها الآن في حالة تغيير مستمر.
3- النقل، هو مصدر آخر من مصادر المعرفة في عصـر ما قبل
الحداثة. وكنت أتعجب حينها إذ قرأت في (المعجزات الأحمدية)، وهي إحدى رسائل النور([14])،
إذ يجعل النورسي من (النقل) إحدى معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم-، وجعله من
الدلائل على نبوته، إذ إن كل هذا النقل الذي ينقله لنا آلاف من الأنبياء، والآلاف
من الأولياء، والآلاف من الجن، والإرهاصات، وتلك الأمور التي لا وجود لها في عصـر
الحداثة، كل هؤلاء يتحدثون عن النبوة، وهو نقل يتجاوز حدود التواتر، وهو دليل على
صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم-.. وهكذا، فإن النقل عند النورسي هو أحد مصادر
المعرفة([15])،
وهو ما لا وجود له في عصـر الحداثة.. ففي عصـر الحداثة يوضع النقل تحت النقد،
ويوجه له النقد.
4- التجربة، وهو المصدر الرابع من مصادر المعرفة في عصـر
ما قبل الحداثة. نستطيع أن نقول إن التجربة الشخصية، لها المدى الواسع في عصـر
الحداثة، حيث إن أغلب الأمور يصار إلى اختبارها وتجربتها.. والنورسي يورد مثالاً
جميلاً هنا، عندما يتحدث عن الإنسان في العصور الحديثة في رسالة (الطبيعة فن أم
فنان؟)([16])،
يقول: إن العصـر الحديث لا يستطيع أن يعرف الإنسان، أو بعبارته: إن (العقل المادي)
لا يستطيع أن يعرف الإنسان، لماذا؟ لأن العصر الحديث لا يعرف الإنسان كإنسان،
وإنما هو يقتل الإنسان، يبيده، يذهب به إلى المختبر، ويختبره، بمعنى أنه يأخذه إلى
المختبر ليجربه، يعامله كما لو أنه مادة، وآنذاك فلا فرق بين الإنسان والجماد، أو
بينه وبين أي كائن حي آخر. ولذا، فإن العصـر الحديث، وبعبارة النورسي: عصر
الماديات، لا يستطيع أن يتعامل مع روح الإنسان.. ومن هنا، ربما يكون للتجربة
المعملية (المختبرية) في رسائل النور أقل المساحات، أقل الحضور، صحيح أنه يأتي
بأمثلة من العلوم الحديثة، مثل (الأحياء، والكيمياء، والفيزياء)، فأحد مميزات
النورسي عن العرفاء السابقين، أنه كان على اطلاع على العلوم الحديثة، حيث سنتطرق
لهذا الموضوع في حينه، ولكنه في الغالب يشير في (رسائل النور)، بين الحين والآخر،
إلى أن ما يقوله هو خبرة رجل عجوز، أو أنه عصارة تجربة سنوات عمره، أو اكتسبها
كتجربة له، ولكنه لا يتحدث عن هذه التجربة، هو يسرد نتائج تجربته! وهذه - حسب
رأيي- قلما يشير إليها الذين كتبوا عن النورسي، وهو أن التجربة إذا كانت العمود
الفقري للعصـر الحديث، فإنها أقل ما تكون حضوراً عند النورسي([17]).
ومن هنا، فإن عالم النورسي له أربعة مصادر: الشهود،
النقل، العقل، التجربة. وإذن، فإن شخصاً له تواصل فقط مع التجربة، بمعناها
المختبري، لا يستطيع أن يتذوق عالم النورسي الواسع هذا.. وانظر إلى سعة مصادر
(رسائل النور).. وعلى سبيل المثال، فإنه في رسالة (الاجتهاد)([18])
يشير إلى عظمة الصحابة، حيث جلّ تركيز وعصارة فكر النورسي هناك عبارة عن أنهم فقط
لكونهم واجهوا تجربة النبوة بشكل مباشـر، يكفي أن يكون أحدهم قد تعرض إلى أصغر
إشعاع منها، ليكون أكبر من أعظم الأولياء.. هذه تجربة شهودية، يتحدث عنها
النورسي.. فالصحابة هم في النهاية بشـر مثل الآخرين، ولكن في عالم الروح، في عالم
إشعاعات النبوة.. أو لنقل: إن الصحابة تعاملوا مع النبوة، ولذلك هم أعظم وأكبر..
في حين إن أعظم الأولياء، بعد الصحابة، وإن كانت تجربته كبيرة، فإن غاية ما يصل
إليه أن يصل إلى مقام الولاية، - كثيراً ما يسمّي النورسي العرفان بالولاية – ولو
اجتمعت كل تجربة الولاية في شخص واحد، فإنه لن يبلغ غبار قدم صحابيّ واحد، تعرض
ولو لشعاع من النبوة.. هذا مصدر شهودي.. أو عندما يتحدث عن (ابن عربي).. ولا شك أن
خصيصة أخرى من الخصائص الجميلة للنورسي، ودليل على لطافة روحه، هو إنه - على عكس
علماء أهل السنة المتأخرين، الذين يذمون (ابن عربي) كثيراً- فإنك لا تجد عند
النورسي خصلة الذم هذه، بل هي عنده نادرة، فهو لا يتحدث عن أحد بالذم.. وهذه إحدى
صفات العرفاء الكبار.. يعجب النورسي من تجربة (ابن عربي)، ويقول: لقد خطر لي مرة
خاطر: هل يمكن أن يكون ابن عربي هذا من الصحابة، مع كل هذه التجربة الجميلة، كل
هذا العرفان، كل هذه التجربة الروحية، وحصاد ثمرة الإيمان، الذي يوجد في كتبه، مما
لا يستطيع فهمه إلا من كان من أهل العرفان والإشارة؟ إذن لماذا لا يكون من
الصحابة؟! يقول: في سجدتي حصل لي شيء (ويبدو أنه عالمه المعنوي) جاء من يهتف لي:
لا، بقي أمامه الكثير.. هو بعيد جداً عن عالم النبوة([19])..
هناك الكثير من الأشياء عند النورسي، أرى أن الذين
يكتبون عنه لم يدركوها جيداً.. فهم يظنون أن مصادر النورسي هي العقل فحسب، ويريدون
أن يقرأوا رسائل النور قراءة عقلية، وعلمية، وكأنه أجاب بالعلم، في حين أن تعامل
النورسي مع الوجود ليس تعاملاً علمياً وتجريبياً فقط..
وانظر إلى تجربة النورسي الأولى في ميدان تبليغ الدين،
أو في ميدان الدفاع عن الإيمان، بالمعنى الذي تحدثتُ عنه، فهو يرى في منامه الشيخ
عبد القادر الكيلاني يقول له: اذهب إلى رئيس العشيرة الفلاني([20])،
وقل له: إذا لم تصلّ، سأقتلك([21])!
وهذا بكل المقاييس العقلية، والفقهية، غير جائز، فلا يجوز أن يقتل شخص ما لمجرد
عدم صلاته! - ولا ننسـى أن النورسي كان له باع عريض في الفقه - وماذا لو لم يطعه،
هل يقتله؟ ولكن لا.. فالمصدر هنا ليس العقل، بل الشهود، حيث كان هناك عدد كبير من
العلوم مصدرها الشهود، لم يبق منها شيء الآن.. أكبرها كان علم تأويل الأحلام([22])،
فتفسير الأحلام كان أحد علوم ما قبل الحداثة، والآن ما عادت له أهمية.. وبعبارة
بسيطة نقول: إن أحد الأمور التي تتكرر عند النورسي بشكل متكرر، عبارة عن رؤية
الأحلام، وأحد مصادر ذلك: رؤيته للرسول - عليه الصلاة والسلام- في منامه([23])..
رؤى النورسي كثيرة.. أحدها أنه كان يتنبأ بالمستقبل.. يروي أحد تلامذته، في
مذكراته، أن النورسي كثيراً ما كان يقول أشياء، ثم تأتي كما قال. ويروي شقيق
النورسي أنه تنبأ بنشوب الحرب العالمية الأولى، قبل اندلاعها بعدة سنوات([24])..
هذا المصدر لا يُعرف ولا يدرك عن طريق التجربة الحديثة.. ولذلك عندما ترى مثل هذا
عند النورسي، تدرك بأن عالمه ليس فقط هذا العالم المشهود، بل هو أكبر من هذا
العالم المرئي.. وعلى سبيل المثال، فإن النورسي عندما يعتزل، ويذهب إلى جبل (أرك)([25])،
هناك يراجع نفسه، ويمر بأول تجربة عرفانية وروحية له.. هناك يفكر بأنه الآن، وهو
واقف أمام هذا الجبل الشاهق، تحت ظل شجرة، وثمة ثمانين جنازة ممددة أمامه.. والعدد
هنا عند النورسي لمجرد بيان الكثرة، وهذا مأخوذ من القرآن الكريم، لأنه كما يقول
فإن كل رسائل النور إنما هي شعاع من أشعة نور القرآن.. ولذلك، فإنه يتحدث أنه في
تلك اللحظات هناك الآلاف والآلاف من البشـر يموتون، وهو واحد منهم، ولكن الإنسان
لا يدرك ذلك بعين الرؤية([26])..
أو على سبيل المثال، فإنه يقول في موضع آخر بأن له ثمانين ألف أستاذ، أنا عندما
قرأت ذلك للمرة الأولى أصابتني الصدمة، كيف يستطيع شخص أن يدعي أن له ثمانين ألف
أستاذ؟! لو كان عمره ثمانين ألف سنة، لجاز له أن يقول مثل ذلك!.. ولكن أساتذة
النورسي ليسوا أساتذة عاديين، بالمعنى التقليدي، وهذا ما اكتشفته فيما بعد، فحتى
الذباب - حسب عبارته- في مقام الأستاذ له، حيث الذباب مشغول دائماً بتنظيف نفسه!([27])
عالم سعيد النورسي أكبر بكثير من العالم الذي يشعر به أي منا.. عالم، حيث وفي لحظة
واحدة، ثمة ثمانون ألف أستاذ، ماثلة في روحه، وأمام أنظاره([28])..
ثانياً: معرفية النورسي
شيء آخر من الأشياء الموجودة عند النورسي، والتي قليلاً
ما أشير إليها، هو المعرفة. فالنورسي وإن كان العرفان عنده في قلب ومركز
اهتماماته.. وكان قد أشار إلى ذلك في أولى كتبه، وحتى في تفسيره، الذي كتبه في
أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو يخوض الحروب، على صهوة جواده.. وهذا كان
متوارثاً في عائلته، فأبوه كان صوفياً.. ولكنك تحس بأنه حتى سن الخامسة والأربعين،
حاول أن ينال معارف عصـره بقوة.. وكان ذكاؤه عاملاً مساعداً له في ذلك، وكذلك
ابتعاده عن حياة الرفاهية والملهيات المعاصـرة.. وقد استطاع هو - بحكم ذكائه- أن
يكون أحد خمسة أشخاص في (دار الحكمة)([29])،
وهي أحد أهم وأشهر الأجهزة والسلطات المعرفية في عهد السلطنة العثمانية.. وهكذا،
كان حتى عمر الخامسة والأربعين يجمع المعرفة.. وأستطيع أن أقول إن النورسي كان على
إلمام بأغلب المعرفة الموجودة في عصـره.. وقد جلب له هذا وجع الرأس أحياناً.. من
غير الممكن أن يكون إنسان عصـر الحداثة بهذا الذكاء.. وقد ذكر عدة مرات أنه تعرض
للمشاكل بسبب هذا الأمر، حتى أنه اتهم بالجنون بسبب ذلك([30]).
بجمعه لتلك المعرفة، وللمصادر المعرفية، التي كان لها
وجود قبل الحداثة – والتي أشـرنا إليها- منح القدرة على التنبؤ، والذكاء، وطهارة
القلب، ولطافة الروح.. وإحدى خصائص العرفان، وأن يكون المرء عارفاً، هو اللطافة
والرقة.. تلك هي هبة العرفان.. فكل ما يتكلم به بعد ذلك، يكون نصوصاً وأدبيات..
يقول أحد أكبر شعراء تركيا: إن النورسي هو أشعر من (دانتي)، ومن (غوته)([31])..
تلك المعرفة السابقة منحته لطافة الروح..
ولكن سعيد
الجديد([32])
لم يكن يوظف المعرفة الجديدة، بل هو مقطوع أصلاً عن العصـر الجديد.. على سبيل
المثال، عندما يتم تصنيع (أجهزة الراديو والتسجيل)، وعندما تصل إلى يد النورسي،
يعجب بها، ويريها لكل من يأتي عنده، ويقول له بأن هذا الجهاز قد تم تصنيعه، وإنه
قادر على تسجيل رسائل النور عليه.. فهو كان منقطعاً عن العالم.. وحتى سنة الستينات
من القرن الماضي لم يكن قد شاهد التلفزيون، ولا استمع إلى الراديو، وحتى الصحف لم
يكن قد قرأها كثيراً، كان مقطوعاً عن المعرفة العصـرية([33])..
ولكنه خرج بكل تلك المعرفة!
لقد كان سعيد الجديد سعيد توظيف معرفة سعيد القديم([34])،
سعيد ما قبل أن تطرأ عليه هذه الحالة الروحية والتجربة المعنوية الكبرى!
مقارنة بين سعيد النورسي وبين عرفاء ما قبل الحداثة:
لو أجرينا
مقارنة بين سعيد النورسي وعرفاء ما قبل الحداثة، لرأينا أن كل تلك الأشياء التي
حدثت للعرفاء قبل عصـر الحداثة، أو فلنقل كل الخصائص العامة والشاملة للعرفاء في
عصور ما قبل الحداثة، فإنها جرت للنورسي أيضاً. معلوم أن لكل شخص تجربته الخاصة في
مجال العرفان، ولكن تلك الأشياء التي تصدق على الجميع، تصدق على النورسي أيضاً.
لو أجرينا مقارنة بين النورسي وبين مولانا الرومي..
مولانا يصبح مفتياً معروفاً، أكبر مفت في (أرضروم)، أي في تركيا آنذاك، ويصبح موضع
اعتماد الوالي في منطقة (قونيه) وما حولها.. أستاذ له مئات التلاميذ والفقهاء، وله
مدرسة.. هذا الرجل، بسبب مروره بتجربة روحية، يترك كل ما كان فيه، بعد أن يلتقي
بشمس التبريزي([35])،
وتلك قصة طويلة لا مجال لعرضها هنا.. ولكن سعيد النورسي أيضاً مر بتجربة مشابهة:
كان واحداً من أعظم علماء عصره، وكان موضع اعتماد وثقة الخليفة، حتى إن الخليفة
يذهب بنفسه لاستقباله، بعد عودته من الأسر في (روسيا)([36])..
ومن هذه الناحية، فتجربة النورسي ومولانا قريبتان جداً من بعض. النورسي كان عالماً
كبيراً معروفاً على مستوى منطقة كوردستان تركيا كلها، حتى إن الشيخ سعيد بيران([37])
كان محتاجاً إلى فتوى منه لإشعال ثورته، حيث أرسل إليه الوفود لإصدار الفتوى له
بذلك([38])..
وهذا يعني أن النورسي كان عالماً كبيراً، وكان له تلامذة وفقهاء كثيرون، حتى إن
أحد رؤساء العشائر يعطيه نصف كيلو من الذهب، زكاة أمواله، وهو يدل على أنه كان له
من التلاميذ والأتباع ما كان يحتاج معه إلى نصف كيلو من الذهب، ليصـرفه عليهم([39]).
من هنا، لا شك أن النورسي كان أحد العلماء المعروفين، وبديع زمانه، وهو كمثل
مولانا يمر بتجربة روحية، ويترك وراءه كل رفاهيته وحياته هذه([40]).
وإذا كان مولانا يطرأ عليه ذلك الانقلاب بعد لقائه مع
شمس التبريزي مباشرة، بعد أن يسأله شمس سؤالاً فلسفياً.. ولا شك أن السؤال لم يكن
من أجل الحصول على جواب، ولكن لإحداث الصدمة عند مولانا، وهو ما حدث.. فإن
النورسي، وبعد أن اطلع على كتاب الإمام الرباني، بعد عودته من (روسيا)، وفي حالة
روحية عجيبة، وعندما يطلع على عبارة (وحّد القبلة)([41])
عنده.. فإنه يقف هناك وجهاً لوجه أمام الإمام الرباني، في عالم الأرواح.. لأن
الإمام الرباني عاش قبل النورسي بحوالي أربعمائة عام.. إن النورسي يصاب بتلك
الصدمة، عندما يرى تعبير (وحد القبلة).. وبعد ذلك يقرر أن يكون خادماً للقرآن([42]).
الإمام الغزالي على نفس الشاكلة، وهو أكبر العارفين في
زمانه، ورئيس أكبر جامعة علمية في عصـره، يتعرض إلى أزمة روحية، ويترك ذلك كله..
وكذلك كان ابن عربي، والحلاج.. من هنا يبدأ سعيد الجديد، مثل مولانا، كل ما يقوله
بعد ذلك يستحق التدوين والكتابة والتوثيق([43])..
وكما أنه في حالة مولانا - بعد صدمة لقائه بشمس - يولد عنده المثنوي، وديوان شمس،
ويصبح كل ما ينطق به بعد ذلك من الأدبيات، ويدون كله، وكانت تجارب روحية وعرفانية
تستحق التوثيق والكتابة.. كذلك، فإن سعيد النورسي يولد بطريقة مماثلة، بعد تجربته
تلك مع الإمام الرباني، وكل ما يقوله بعد ذلك يستحق التوثيق والكتابة. وهكذا تولد
رسائل النور.
من هنا نقول: إن هناك تقارباً، أو تكراراً في تجارب
العرفاء.. أنا لا أشك في أن سعيد النورسي كان آخر العرفاء في الحضارة الإسلامية.
ولم يوجد بعده حتى الآن أي عارف كبير.. وأرى أنه إذا كان يمكن أن يوجد، فإن الوقت
لا يزال مبكراً على ذلك، هذا إن لم أجزم أنه لن يوجد أبداً.. بمعنى أنه إذا كان
العرفان الإسلامي قد انتهى، فإنه قد انتهى عند سعيد النورسي..
إن التجارب العرفانية الكبيرة، التي يستطيع فيها شخص أن
يكون عارفاً، وأن يكون العرفان ملكة لديه، لم يعد لها وجود.. نعم، يمكن أن تحدث
لدى شخص حالة عرفانية، لمدة قصيرة، أو تولد لديه للحظات حالة إيمانية وعرفانية..
ولكن أن يتحول شخص إلى أن يكون كل ما يقوله ويتلفظ به عرفاناً، فهذا من الصعب
قبوله.. لقد انتهى ذاك العصـر.. بل حتى طرق التصوف أعلنت عن نهايتها، حيث كتب
الشيخ عثمان طويلةيي([44])
في وصيته قائلاً: إن الذي يدعي مثل هذه الأشياء بعدنا، فإنما يقول ذلك لدنياه، لا
لشيء آخر، لأن عملنا قد انتهى.
وإذن، فإن سعيد
النورسي كان العارف الأخير، كل ما قاله هو عن تجربة روحية. وحتى هو أحس أن طريقه
إنما هو امتداد لطريق مولانا خالد النقشبندي([45])..
ويروى أن إحدى حفيدات الشيخ خالد([46])
تريد أن تهدي عباءته إلى النورسي. ولأنها تعرف أن النورسي لا يقبل الهدايا التي
تأتيه مباشرة، ولذلك تهديها لأحد طلبته، وكأنها أهدتها للنورسي نفسه.. فيذهب هذا
ويريها للنورسي، فيقول له: اذهبوا واغسلوها (أي أرادها لنفسه).. ويتعجب التلميذ من
أستاذه، الذي لم يره يوماً حريصاً على هدية، ولذلك عندما يراه يقبّل العباءة،
ويقول اذهبوا واغسلوها، يتعجب كثيراً.. ويظهر أن النورسي حدث لديه تعلق قلبي
بالبردة.. فيذهب هذا الشخص إلى المرأة التي أتته بالبردة، ويسألها عن ذلك، فتقول
له المرأة: في الحقيقة أنا أتيت بالعباءة إلى النورسي، ولكن لمعرفتي بأنه لا يقبل
الهدية، أعطيتها لك! والنورسي قد ولد بعد خالد النقشبندي بحوالي قرن، فهو امتداد
له([47])!
ولكن التجربة العرفانية للنورسي هي تجربة – بحسب عبارته-
لا يمكن أن تتكلم بلسان الروح، كما العرفاء السابقون، لأن العصـر الحديث قد سحب
بأثره على زمانه، فكان مبلغ ما يمكنه هو أن ينأى بنفسه عن آثار عصـره، مدافعاً عن
ثمار شجرة الروح والإيمان.. وهنا امتيازه.. ومن هنا، فسعيد النورسي هو آخر
العرفاء.
الكوردايةتي
وآخر التجارب العرفانية لدى النورسي
ولكن لماذا يجب أن يكون آخر العرفاء في الحضارة
الإسلامية كوردياً؟
لماذا يجب أن
يكون آخر العرفاء، وآخر شخص يحمل تجربة روحية، يستطيع قرابة أربعين سنة أن يكون كل
ما ينطق به تجربة روحية، على الدوام وبدون انقطاع، وبدون أن يرد على خاطره - ولو
للحظة - أن يحشـر رأسه في أنفاق العصـر والحضارة الحديثة.؟ نعم، لماذا في عصـر
جديد، مثل عصر الحداثة، لماذا يجب أن يكون آخر العرفاء كوردياً؟
أرى أن هذه قصة يمكن أن يقال عنها الكثير.. وهذا السؤال
قد ظهر - ولو كومضة - لدى آخرين.. على سبيل المثال: المستشرق الذي قال إن جميع
الكورد شعراء.. أو الذي قال إن الكورد هم خارج التاريخ (تاريخ الحداثة).. أو الذين
قالوا إن الكورد هم آخر من يلتحق بعصـر الحداثة!. أنا لا أشك أن ذلك يعود إلى أن
الكورد لا زالوا لا يمتلكون الدولة القومية.. وأن ركنين رئيسين للعصـر الحديث،
وهما عبارة عن: العقلانية التجزيئية (أو العقل الأداتي)، مع العلم، لا يوجدان عند
الكورد، بحكم أنهم لا يمتلكون الدولة لحد الآن.. وعندما لا توجد الدولة فإن العلم
الممنهج، أو وجود الجامعات العلمية لا يستقر.. صحيح أن التلفزيون والسيارة
والطائرة وإلخ من الآلات المختلفة موجودة، ولكن العلم بمعناه الحديث، أو الجامعة،
لمّا يأتي بعد عند الكورد.. وسببه الرئيس هو عدم وجود الدولة القومية. ولذلك، فإن
كل أنظمتنا الروحية والفكرية هي حتى الآن أنظمة ما قبل حديثة.
ولذلك، فإن سعيد النورسي عندما يذهب إلى مدينة
(استانبول)، ويريد أن يلفت أنظار أهالي استانبول عاصمة الخلافة آنذاك، فإنه يذهب
إلى فندق، ويكتب على باب غرفته: هنا يجاب عن كل سؤال، ولا يُسأل أحد، لكي يتجرأ
الناس على السؤال.. وبهذا يكتسب الشهرة، ويصل خبره إلى قصـر الخلافة، وإلى السلطان
عبد الحميد، الذي يسأل عن هذا الشخص.. وعندما يختبرونه، ويجتمع أكبر العقول في
ميادين الفلسفة والأدب والكيمياء والفيزياء، كلهم يذهبون ويسألونه، ويتبين لهم أنه
من غير الممكن أن يوجد شخص في العصـر الحديث يمتلك كل هذا العلم! ولذلك، فإنه
وبسبب كل تلك الهمة، وذلك العلم، يجد نفسه في السجن، ويتهمونه بأنه يتلبسه الجن،
ويأتيه الشيطان.. في حين إن طبيبه عندما يتحدث معه، يصـرّح إذا كان سعيد النورسي
مجنوناً، فإن كل العقلاء هم مجانين، وكلنا مجانين..
ومن هنا، يقول لهم النورسي: إنكم وضعتموني في مستشفى
المجانين، لثلاثة أسباب:
أولاً: لأني قد أجبت عن كل أسئلتكم. ثانياً: لأني جريء.
ثالثاً: من أجل ملابسي([48]).
ثم يتحدث عن أن كل كوردي هو هكذا، والكلام ليس عن
الذكاء، ولكن عن النقطتين الأخريين أكثر. كل الكورد شجعان، الإنسان ما قبل الحداثة،
أو النظام الأخلاقي ما قبل الحداثة، نظام مبني على الجرأة والغيرة.. وملابسنا
كذلك.. إذا كنت أنا لا ألبس القبعة مثلكم، ولا ألبس القاط والرباط مثلكم، فذلك
لأني كوردي عشائري، وقد جئت من عالم آخر.. أي إنه يظهر أن عالمه هو عالم مختلف عن
عوالمهم، ولذا يمكن في هذا العالم الذي لم تخترقه الحداثة بعد، أن نرى بواكير صورة
الإنسان في عصور ما قبل الحداثة.. إذا كان العلماء الانثروبولوجيون قد ذهبوا إلى
قبائل البرازيل، و قبائل جنوب أفريقيا، وغيرها، وأخذوا نماذج لكي يستكشفوا خصائص
الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، فإن الذين يريدون أن يكتشفوا خصائص الإنسان ما
قبل الحداثة، فإن أفضل مكان هو كوردستان، ذلك أن النظام السياسي الجديد لما يزل
غير مستقر في هذه المنطقة، ولم يضع قدمه في العصـر الحديث بشكل كامل بعد.
ولذلك، فإن إبداع الكورد قليل في عصـر الحداثة، ولكن
إبداعهم في عصور ما قبل الحداثة هو مثل غيرهم: كثير، ومتشعب.. فكما أن الأقوام
والحضارات الأخرى كانت لهم إبداعاتهم في ميادين الفقه (أو إسلام المعيشة)، وفي
ميدان الفلسفة، وفي ميادين العرفان والتجارب الروحية.. فإن الكورد كانت لهم
إبداعاتهم في هذه الميادين.. أي إن الكورد لم يتخلفوا عن غيرهم في العصور
الماضية.. ولكنهم، في العصـر الحديث، تخلفوا عن غيرهم من الأقوام والشعوب، لأن
الشعوب الأخرى كانت لهم دولهم القومية، أما الكورد فلا.
لقد كان الكثير من الفقهاء الكبار، في الحضارة
الإسلامية، من الكورد. وكذلك الأمر بالنسبة للفلاسفة، فقد كان الكثير منهم، أو
المتأخرين منهم، من الكورد. وكذلك الحال بالنسبة للعرفان، فإن الكثير من الشعراء
الكورد كانت لهم تجارب عرفانية، وآخر التجارب العرفانية كانت تجربة النورسي، ممثل
العصـر القديم في زمن الحداثة.. ومن هنا كان قولي بأن فيلسوفاً مثل (شايغان) كان
يجدر به أن يضع عارفاً مثل النورسي كممثل للحضارة الشـرقية، في وقوفه بوجه الحداثة
وتراث الغرب..
والذي دفعني إلى
أن أذهب مرة أخرى لقراءة النورسي، استماعي إلى محاضرة للمفكر الإيراني المعروف عبد
الكريم سروش، وكان يتحدث عن مولانا جلال الدين الرومي في إحدى الجامعات البريطانية،
تحت عنوان: مولانا والغرب، وفيها تحدث عن أن مولانا عاش في تركيا، ولكنه يشبه ذلك
المشعل (أو الفانوس) الذي يضـيء ما حوله، وأسفله مظلم. ويقصد بذلك أن الرومي، وإن
كان قد عاش في (قونيه)، ولكن أحداً في موطنه لم يستفد منه، ولم يوجد عارف، من
بعده، يكون امتداداً له، وكان الغرب هو الذي أعاد اكتشافه، وأحياه مرة أخرى..
وكتبوا هناك عن أشعاره.. حتى إن أول شخص كتب عن مولانا، وهو (نيكلسون)، الذي ترجم
ديوان مولانا إلى الإنكليزية([49])،
قام بذلك تأثّراً برؤيا رآها.. وبهذا الوصف يكون مولانا مثل الفانوس الذي يضيء ما
حوله، ولكن أسفله يظل مظلماً.. ومع احترامي الكبير للمفكر سروش، فإني أحسست بعدم
اطلاعه الكافي في هذا الباب، مع أنه يزور تركيا بين الحين والحين، ويشارك في
المؤتمرات الفكرية والمعرفية هناك، ولكنه يجهل بأن تجربة عرفانية كبيرة تتبع خطى
أقدام مولانا، وهي تجربة كبيرة مثل تجربة مولانا، قد قامت في تركيا، ولا تزال
موجودة في القرن العشـرين، وهي تجربة سعيد النورسي، ورسائل النور.. ولكن اختلاف
النورسي عن مولانا يكمن في أن مولانا حصد ثمرة تجربته الروحية في طلابه الذين
كانوا حوله، وتجسدت تجربته في المثنوي المعنوي، الذي دونه له تلاميذه([50])..
وهكذا سعيد النورسي أيضاً له تجربته الروحية الخاصة، ولكنه فعل ما هو أكثر من عرض
تجربته، وتدوينها، ألا وهو الدفاع عن مثل هذه التجارب الروحية، الدفاع عن جميع
ثمار شجرة الإيمان والتجارب الروحية.. وإذا كان مولانا يملك كتاب المثنوي المعنوي،
فإن النورسي هو صاحب المثنوي النوري، وهو الذي ألّفه تأثراً وإعجاباً به،
وبتجربته، وكان يقول: إنه لا شيء سوى أثر من أقدام مولانا، وإنْ هو إلا مريد يتبع
آثار شيخه (يقصد: مولانا الرومي)([51])..
الفرق بين سعيد القديم وسعيد الجديد
الفرق بين سعيد القديم وسعيد الجديد ليس فرقاً معرفياً،
بل هو فرق روحي، تجربة روحية، بمعنى إنني أستطيع القول إن سعيد النورسي لم يضف
شيئاً - مثلاً - على علوم العقيدة، والكلام، بل هو قد جنى من ثمارها.. ففي
الفلسفة، مثلاً، نرى أن المصطلحات الثلاثة لعلم الكلام (الممكن)، و(المستحيل)،
و(الواجب)، حاضـرة في أغلب كتابات النورسي، وأدلته هي نفس أدلة المتكلمين قبله،
ولكن الزيادة التي أضافها النورسي هي في تجربته الروحية.. فإذا كان النورسي قد وظف
العقل أو استخدمه (العقل بالمعنى الكلاسيكي)، لكي يظهر الشبهات والانحرافات في هذا
العصـر الحديث.. هو في هذا الميدان لم يأت بجديد، وليست لديه إضافات على من
سبقوه.. نعم، هو في عصـره كان من القلائل الذين أحاطوا بعلوم العصـر.. فمثلاً،
عندما كان في مدينة (وان)، لمدة تسعة أشهر، في بيت أحد الولاة هناك، قرأ واستوعب
ما يقارب التسعمائة كتاب، كتب فكرية وفلسفية وفيزياء وكيمياء وما إلى ذلك([52])..
فهو لم يأت بجديد في هذه الميادين.. بمعنى أن النورسي لم يكن فيلسوفاً كبيراً، له
إبداعاته في هذا المجال.. فسعيد النورسي لم تكن له معرفة كبيرة واستثنائية في أي
من هذه المجالات، ولكن تميزه، وهمته الكبيرة، كانت في أنه كان على اطلاع على كل
هذه العلوم والمعارف.. فهو في الوقت الذي كان يأخذ فيه العلوم الكلاسيكية في
المساجد والحجرات، كان يغترف ويطلع على العلوم الحديثة أيضاً، لا أنه بلغ القمة
فيها.. فتميّز النورسي وعظمته كانت في أنه استطاع توظيف هذه العلوم الحديثة في
عالم الروح.. وهذه هي النكتة التي لم يدركها - من وجهة نظري -عبد الكريم سروش،
عندما أشار إلى أن فانوس مولانا كان ينير لنفسه فحسب، وأن قاعدته مظلمة.. ولم يدرك
أنه إلى جانب فانوس مولانا، قد أوقد فانوس آخر، هو فانوس النورسي.. ولكنه لم يدرك
ذلك، لا هو ولا (داريوش شايغان) من قبله.. وهما مثقفان وفيلسوفان كبيران، لم يدركا
وجود مثل هذه التجربة الكبيرة في تركيا، هذه التجربة التي عاشت في عهد تحديث تركيا
الحديثة، الفترة التي أريد فيها فرض قيم الحداثة على الناس هناك بالقوة والإلزام..
فرضوا عليهم لبس القبعة الأوروبية، وخلع الطرابيش، وكان النورسي الوحيد الذي لم يخضع
لذلك، ولم يضع القبعة على رأسه.. النورسي شخصية من عصـر ما قبل الحداثة، يعيش في
عصـر الحداثة.. بل إنه لم يكن على استعداد، وحتى الخمسينات من القرن العشـرين، أن
يكتب بالحروف اللاتينية – التي كانت قد فرضت بالقوة – أو أن تستعمل في طباعة كتبه([53])،
ولكنه رضي بعد ذلك بأن تعاد كتابة رسائل النور من قبل طلبته بالحروف الجديدة، لكي
يستفيد منها الجيل الجديد..
عدا ذلك، فإن النورسي كان مفسراً للقرآن الكريم، ولكنه
لم يكن مفسـراً مدوّناً للقرآن.. وسيكون من الممتع أن نعقد مقارنة بين النورسي،
وبين مفسـر آخر للقرآن الكريم، وهو كوردي أيضاً، أعني به الشيخ عبد الكريم المدرس([54])..
فالشيخ المدرس هو ناقل للتراث الكوردي من الشفهية إلى التدوين، وهو من المفسرين
المدونين للقرآن الكريم، على عكس النورسي الذي كان تفسيره شهودياً، والذي كان
يقول: إن ما يكتبه ويقوله إنما هو نور من أشعة أنوار القرآن الكريم، بمعنى أن
تفسيره هو تفسير روحاني للقرآن، تفسير مثل الحكاية التي ينقلها مولانا عن شخص قارئ
ومفسر للقرآن، دون إعادة وقراءة الآيات، بل التزم إشارات الآيات، وبها فسرها..
فالنورسي، بهذا المعنى، لم تكن معارفه كبيرة، بحيث يتميز بها كعالم كبير، ولكنه كان
صاحب تجربة روحية كبيرة، ووظف المعارف التي يمتلكها.. وبعبارته هو: أنه اكتشف
البرزخ بين العقل والقلب([55]).
النورسي ومحوي
إذا كان لنا أن
نأتي بمثال آخر من بين الكورد، قريب من مثال النورسي، وعاش في العصـر الحديث، فإنه
ربما يكون الشاعر الكوردي المعروف (محوي) (1830-1906م).. فـ محوي - هو الآخر - وإن
كان قد عاش في العصـر الحديث، إلا أن روحه تنتمي إلى عصـر ما قبل الحداثة.. لا
يوجد في أشعار (محوي) كلام عن العصـر الحديث، فهو في عالم الروح.. تجربته وسلوكه
روحانيان.. روحه تعرج إلى السماء، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.. كان
يعيش بجسده في عصـر الحداثة، ولكنه لم يفارق (الخانقاه)([56])..
تماماً مثل النورسي، الذي عاش في الوحدة والعزلة، منقطعاً عن العصـر الحديث.. ولكن
الفرق بينهما: أن النورسي - قبل بلوغه سن الخامسة والأربعين - كان قد استوعب علوم
العصـر، ونهل منها، وبعدها - عندما تبدأ فترة عزلته، وينقطع عن المجتمع، ويتفرغ
لتجربته الإيمانية والعرفانية - فإنه يوظف المعارف التي تلقاها من قبل.. ولكن محوي
لا يملك هذا، فكل معارفه هي لعصـر ما قبل الحداثة([57])..
أما النورسي، فإنه يوظف ثقافته ومعارفه (اللادينية)، عندما يدخل في تجربته
الروحية..
ولو أننا قارنّا المثقفين الدينيين أمثالنا في هذا
العصـر، بأشخاص مثل: النورسي، أو ناصـر سبحاني([58])،
أو أحمد مفتي زادة([59])،
نرى مثلاً، ولأتكلم هنا عن نفسـي: أنني انتقلت، أو تدرجت من المعرفة الدينية إلى
المعرفة العامة، أو اللادينية (وليست المضادة للدين)، بمعنى أنه في البداية يأتي
التعليم في (الحجرة)([60])،
والتجربة الدينية، وبعدها تأتي الثقافة العامة، وقراءة الفكر والفلسفة.. تحس أن
تجربة هؤلاء هي بعكس ذلك!.. فعلى سبيل المثال، لو نظرنا إلى أحمد مفتي زادة،
لوجدنا أن له زاداً معرفياً كبيراً، فهو له اطلاع على علوم الاجتماع، والنفس،
ونحوها.. وكذلك الأستاذ ناصر سبحاني، وخاصة في موضوع النظام الاقتصادي، حيث يتبين
إنه على اطلاع على الأنظمة الاقتصادية، والسياسية.. فهو عندما يتحدث عن
الديمقراطية، يتحدث عن النازية والفاشية، بمعنى أنك ترى أنه كان يملك ثقافة واسعة،
لا دينية.. وكذلك سعيد النورسي، فإنه - فضلاً عن تعليمه الديني في الحجرة، كان
يملك ثقافة واسعة في الفيزياء، والكيمياء، وسائر علوم العصـر.. وهو يروي كيف أنه
كان يجادل بعض الماديين في الفلسفة، لعديد من الساعات.. وكذلك كان مفتي زادة، الذي
يشير في إحدى كتاباته، إلى أنه كذلك كان، في بداياته، يجلس مع اليساريين - في بعض
الأحيان- أكثر من عشرين ساعة، يجادلهم ويتناقش معهم، ولكنه ندم على ذلك بعدها، لأن
ذلك كما يقول: لم يكن وراءه تجربة روحية..
ولكن التجارب الثلاث كلها، تحولت من كونها تجارب خارج
الدين، إلى كونها تجارب دينية.. بمعنى أن الفرق بين ناصر سبحاني القرآني، وناصر
سبحاني ما قبل القرآني، هو هنا.. بمعنى أنه كان قبل يوظف ثقافته غير القرآنية
لإبراز وإظهار الحقائق الدينية، ولفهم الدين، ولكن هذه الثقافة غير القرآنية
(اللاقرآنية) بعدما تفرّغ تماماً لتجربته الروحية، فإنه عاش بعدها مع القرآن
الكريم، ولكنها ظلت في لا شعوره تؤثر في تعامله مع القرآن، وليس بشكل مباشـر..
وكذلك أحمد مفتي زادة بعد عام 43 شمسـي، وبعد سجنه، وتفرّغه لتجربته الروحية
الخاصة، فإن ثقافته اللادينية كانت تؤثر بشكل غير مباشـر على تعامله مع الدين،
وفهمه له.. وكذلك سعيد النورسي، فإن المعرفة التي كان اكتسبها قبل مرحلة سعيد
الجديد، كانت تؤثر عليه بشكل غير مباشـر.. بمعنى أنه لم يزدد معرفة في مرحلته
الجديدة، ولكنه زاد عليها بتجربته الروحية، البرزخ ما بين العقل والقلب، الذي تحدث
عنه..
ومن هنا، فهذا وجه تشابه بين النورسي، وسبحاني، وأحمد
مفتي زادة.. ولكني أرى - وبقدر معرفتي واطلاعي - أن تجربة النورسي هي أكمل من
تجربة سبحاني، ومن تجربة مفتي زادة كذلك.. فالنورسي اختار تجربته بإرادته الحرة،
وسعى إليها، على عكس مفتي زادة الذي لم يتعرض لها إلا بعد دخوله السجن اضطراراً،
وعلى الرغم من إرادته.. وكذلك الأستاذ ناصر سبحاني، فإنه وصل إلى ذلك الكمال في
زمن قصير، ومتقدم، ولكنه كان كمالاً معرفياً أكثر، ولم يكن كمالاً روحياً([61])..
أما النورسي، فإنه يصل إلى كماله الروحي بعد اجتيازه كماله المعرفي: شيخ في
الثمانين من عمره، جسده شديد الضعف، كما يقول هو: إن الحراس كانوا يؤذونه في
السجن.. شيخ مريض([62])،
ولكنه يمتلك تجربة روحية كبيرة.. تجربة النورسي من وجهة نظري - وهذه وجهة نظر
معرفية لا روحية - كانت أكمل من تجربة الأستاذين (ناصر سبحاني، ومفتي زادة)، مع أن
مجال عمل كل منهم مختلف عن الآخرين، فمجال عمل الأستاذ ناصر هو الفقه، وأصول
الفقه، ومجال عمل الأستاذ مفتي زادة هو الحركة ما بين الذهن والقلب، الفلسفة
الكلاسيكية، مع المعاملة الروحية، ولكن تجربة النورسي هي تجربة أكمل، بحكم أنه عاش
ورأى عصـر ما قبل الحداثة، وكان في ذلك العصـر في القمة، وكان رئيس كل القوى
المتطوعة الكوردية التي حاربت ضد الدولة الروسية، وكان من رجالات الدولة العثماية
المعروفين، وخصصت له أعطيات كثيرة من الذهب، تبرع بها كلها، وكذلك فهو قد خاض ورأى
كل تلك المشاهدات والتجارب المختلفة في الحرب العالمية الأولى والثانية، وله اطلاع
واسع على المعرفة في عصـره، تلك المعرفة التي وبشكل مباشر، وبقصد، كان يراد جلبها
إلى الدولة العثمانية.. ولذا، فإن تجربة النورسي - من وجهة نظري- هي أكمل من تجربة
كل من سبحاني، ومفتي زادة.
خصائص عالم
النورسي
خصائص عالم النورسي هي خصائص عالم ما قبل الحداثة، التي
لها أكثر من مصدر.. هي عالم أوسع.. عالم لا يتعامل مع العقل وحده (العقل
التجزيئي)، ولكنه يتعامل مع عالم الشهود، والنقل، والتجربة، التجربة الروحية..
عالم يستفيد من الوجود، ليس بأن يأخذ نموذجاً من الوجود، فهو يتحدث مع السماء، مع
الأرض، مع الملائكة، في آن واحد، (ولا ننسى أن النورسي له رسالة عن الملائكة)([63])..
نستطيع أن نقول، بعبارة أخرى: إن إحدى خصائص عالم النورسي الأساسية، وهي أخص خصائص
النورسي، هي أنها تجربة عرفانية، ليست فقهية، ولا فلسفية، وإن كان الفقه والفلسفة
يتجليان في بعض رسائله، وخاصة عندما يردّ على الفلسفة المادية، فهو يعتمد على
الفلسفة الكلاسيكية الإسلامية في ردّه عليها، وخاصة المصطلحات الثلاثة (الممكن،
المستحيل، الواجب)، وهي عصب علم الكلام القديم.. نعم، إن أخص خصائص النورسي هي في
كونه عارفاً.. وهي خصلة تستحق الحديث عنها لعشـرات الساعات، فالتجربة العرفانية
لهذا الرجل كبيرة جداً.. وكما أن العرفاء الكبار قبله قد تركوا بعدهم مؤلفات
عظيمة، وأورثوا البشـرية أدباً جليلاً، فإن سعيد النورسي في (رسائل النور) قد فعل
الشيء ذاته.. ولذا، فإن المرء، عندما يقرأ رسائل النور، لا يملّ منها، مع أنها
كثيرة، وطويلة، ولكن بشـرط أن يدرك أنها رسالة روحية.. وبها قام سعيد النورسي
بحربه ضد الحضارة الحديثة، وعرف سـر نقص الحضارة الحديثة، ولذا فهو يريد أن يدافع
عن الإيمان، ويسمي تجربته الروحية باسم الدفاع عن الإيمان([64])،
يعرف أن الإيمان هو الذي تعرض للنقص، وليس التكنولوجيا.. الإيمان عند النورسي ليس
الاعتقاد فحسب، كما هو في علم الكلام، بل هو تجربة إيمانية، تجربة روحية.. لذا،
فالنورسي كان تجربة روحية بكلّيته.. لم يرد أن يكون فقيهاً، مع أنه استطاع أن
يجتهد كالفقهاء.. ولو قرأت (رسالة الاجتهاد)، على سبيل المثال، لرأيت أنه يأتي
بعديد الأدلة على عدم وجوب الاجتهاد في هذا العصـر([65])،
لأن الاجتهاد عنده يجب أن يكون ضمن حضارة يكون الإيمان فيها في القمة، أو أن أساس
الاجتهاد يجب أن يكون التجربة الروحية والإيمانية. فإذا لم يكن ذلك متوفراً، في
هذا العصـر، فإن الاجتهاد - حتى وإن مورس - لا يكون مفيداً، ولن يأخذ مكانه، بل
سيتخذ وسيلة للضرر والفساد.. ولذا، فالنورسي يرى أن لا لزوم للاجتهاد في هذا
العصر، أي إنه يرى أن لا ضرورة لاشتغاله بالفقه، وإن كان هو يتحدث عن الفقه،
وأصوله، في أغلب رسائله.. ولكنه كان شخصاً لم يرغب أن يكون فقيهاً، ولا فيلسوفاً
كذلك.. وهذه إحدى خصائصه.
النورسي والقومية
خاصية أخرى من خصائص النورسي تظهر في المسألة الوطنية..
فحتى تعامله مع المسألة الوطنية كان تعاملاً عرفانياً، بمعنى أنه لم يكن تعاملاً
اجتماعياً تاريخياً.. فالقوم عنده ليس بالمعنى الحديث الذي تبلور في العصـر
الحديث.. أراد النورسي أن يدافع عن المسألة القومية، والقضية الكوردية، بالأدلة،
وعن طريق تجربته العرفانية، وليس بأدلجة القوم، والقومية، التي يعتبرها هو إحدى
أمراض الحضارة الحديثة([66]).
في الحقيقة توجد لدى سعيد النورسي نكتة، أنا معجب بها
جداً، وهي كيف أنه استطاع في عصر هو العصر الحديث، الذي يبتلعك دون أن تدري..
يبعدك عن التجربة الروحية.. لأنه على الدوام يشغلك بالمظاهر.. أي إنه يجعلك
وحيداً، بعبارة (أريك فروم).. يسلب منك الإيمان، بحسب تعبير (سروش).. بمعنى أنه
يبعدك عن الشهود، يبعدك عن العقل (العقل الميتافيريقي الكوني)، يبعدك عن النقل، يحصرك
فقط في التجربة – عامل مختبر - .. شخص مثل النورسي، في عصر مثل هذا، كيف استطاع أن
يكون ممثلاً للعرفان؟ كيف استطاع أن يكون العارف الأخير؟ ومن وجهة نظري، فإن أكبر
خصائص النورسي هو في هذه النكتة.. لم يكن ثمة شخص آخر قادراً على أن يفعل ذلك.. بل
حتى اليوم نحن لدينا مفكرين إسلاميين، لدينا رؤساء وقادة إسلاميين، لدينا حركات وأحزاب إسلامية، ولكن شخصاً عارفاً
مثل النورسي لم يوجد.. فالعصـر الحديث لا يستثنيك، ولا يتركك تعيش لنفسك، أو كما
تشاء.. بل يأتي بكل شيء إليك، يجعله جزءاً من دنياك، أو يجعلك جزءاً منه، بطريقة
من الطرق: إما أن تراه، أو تسمعه، أو تفكر فيه.. لقد كان النورسي شخصاً ذا روح
عظيمة، مع أنه كان يرى العصر الحديث، ويسمعه، ويفكر فيه.. كان يرى أنه أعظم سدّ،
ومكافح، ضد ذلك التيار المعادي للدين، الذي كان قد وصل إلى الدولة التركية.. كان
وحده.. لا دولة تسانده، ولا حركة.. كيف استطاع أن يقوم بذلك؟ لقد أتمّ تجربته هذه
- في الحقيقة- بكل نجاح.. تجربته هذه وصلت إلى كمالها، من وجهة نظري.. حتى إنه،
كشخص عارف، تنبأ بموته، في النهاية([67])..
هذا الشخص في زمانه كان روحاً كبيرة، بدون مقارنة مع تجربة النبوة، لأنها في
النهاية مهما تكن فهي الولاية، وهي غير النبوة.. إذا كان للنبوة مليون جزء، فإن
الولاية لا تبلغ أن تكون جزءاً من واحد من ذلك المليون.. لقد انتهت تجربة النبوة
بعد رسول الله.. وأصغر شيء بقي منها، عبارة عن الرؤيا، كما ورد في الحديث.. ثم
بعدها ظهر الأولياء، جاء العرفاء، وليس الأنبياء.. وهذا العارف الكبير، لوحده، وفي
عصر كهذا، كان روحاً كبيرة.. كان أمّة استطاع في زمن تغوّلت فيه الحداثة، أن يكوّن
له هذه التجربة.. لقد ظهر تغوّل الحداثة في تركيا، بصورة أشد، حيث تهيأ للناس أنهم
قادرون على حلّ كل مشاكلهم عن طريق العقل والعلم.. لقد غيّر كمال أتاتورك حتى
المظاهر السطحية للحياة، وقشورها، وأعدم مئات الأشخاص بسبب عدم لبس القبعة.. فأن
تظهر روح، في عصر كهذا، وتكون قادرة على أن تكون كبيرة بهذه الصورة.. عصـر لا نزال
بعد مئات السنين، في انبهار أمامه، ونريد أن ننسجم معه فحسب، لا أن نبتلعه ونهضمه..
ولكن روحاً كبيرة كالنورسي ابتلع ذلك العصر كله في نفسه، كانت له القدرة على
استيعاب كل ذلك الذي جاء به كمال أتاتورك، والحداثيون، آنذاك، وحافظ في الوقت نفسه
على تجربته الروحية.. فانظر كم كانت كبيرة تلك التجربة!
والعجيب في ذلك، أنه لم يكن لديه شيخ يدله على الطريق،
ويرشده.. بمعنى أنه وصل إلى أنه حتى لو اتبع سلسلة شيوخ (كما توجد إجازة العلماء،
يوجد في الولاية أيضاً شيء مثل ذلك)، فإن المقصد الأخير هو اتباع القرآن،
والاهتداء به.. فهم جميعاً، في النهاية، إنما ينهلون من القرآن الكريم.. ولذلك،
فقد اتجه هو إلى القرآن مباشرة.. ورغم أنه أحب شخصية مثل الشيخ عبد القادر
الكيلاني، وشخصية مثل الإمام الغزالي، ولكنه لم يتعامل معهم معاملة التلميذ
لأستاذه، بل استفاد منهم كتجارب.. ورغم إعجابه الكبير بشخصية مولانا جلال الدين،
حيث أطلق اسم المثنوي على أحد كتبه، محبة له.. مع ذلك لم يعتبره مرشداً له..
وبالطبع فهذا ليس من باب الإعجاب بالنفس، أو الكبر، لأن النورسي دائم الحديث عن
ضعفه وفقره، وعدم قدرته.. بمعنى أننا نستطيع القول: إذا كان لدينا نوعان من
العرفان الإسلامي: فهذا الإمام الغزالي وتجربته، الذي هو عبارة عن العرفان الزهدي،
وهناك النوع الآخر: العرفان العشقي([68])..
فإننا نستطيع أن نضع عرفان النورسي بينهما، كبرزخ بينهما: فليس هو بالعرفان
العشقي، بمعنى أن يكون إبحاراً في عذابات العشق، وهياماً فيه، وماذا يفعل العشق
بصاحبه، وكيف يحول مرّه إلى حلو.. كما هو في أشعار مولانا.. ولم يكن النورسي
منجذباً إلى جبهات العشق، رغم أن لحظات وأكسير الوجود، الذي يتحدث عنه في إحدى
رسائله بعنوان (محبة المحبة)، قد أخذه من العرفان العشقي.. ولكنه من جانب آخر،
وعندما يتحدث عن فقره وزهده، ومن هناك يطرق أبواب رحمة الله، فإن ذلك هو عرفان
زهدي.. ولكنه أعمق من الزهد.. لأن الزهد عبارة عن زهد الإنسان، وتركه للدنيا..
ولكن الحاجة عند النورسي، هي أعمق من الزهد.. بمعنى أن كنه وجوهر الإنسان هو
الحاجة، وليس بمعنى أن الإنسان يترك حاجاته المادية والدنيوية.. أحسب أن هذا الفرق
هو أدق من شعرة، وله معنى أعمق من زهد الزهاد.. بمعنى أن مجرد وجود الإنسان نفسه،
وماهيته، هو حاجة، لا أن يكون هو محتاجاً، أو يزهد في الدنيا ويدعها وراء ظهره..
على سبيل المثال، فإن الإمام الغزالي زهد في الدنيا، فهو ترك ظهره للدنيا، ولكن
سعيد النورسي هو بذاته حاجة، هو بذاته ضعيف، دع عنك أنه يجب أن يزهد في الدنيا
ويدعها، فهو قد ترك الدنيا إلى درجة أن المبلغ الذي استلمه من (دار الحكمة)، قبل
الحرب العالمية الأولى، بمثابة راتب، قد عاش به حتى نهاية عمره، ولم يأخذ بعدها أي
شيء من حكومة أتاتورك.. كان زاهداً إلى هذه الدرجة.. إذا قرأ الإنسان رسالته في
الاقتصاد، يعرف آنذاك كم هو عارف كبير هذا الرجل، وكيف استطاع في زمن عرف
بالاستهلاك، في عصر تتغير فيه الموديلات والأشياء بسرعة، كيف استطاع بهذا المبلغ
الضئيل أن يتدبر شؤون حياته ومعيشته، ولا يحتاج إلى معونة أو راتب من الدولة حتى
آخر عمره، مع إنه كان على الدوام يواضب على فعل الخير ومساعدة الفقراء([69])..
عارف بهذه
المكانة!.. قارن ذلك بنا، نحن قتلة الوجود.. إنسان العصـر الحديث إنسان يعبث
بالوجود، ويغيّره.. ولكن النورسي، في عصـر كهذا، كان صديقاً للطبيعة والكائنات..
ومما يروى عنه أنه حتى في طريق عودته من أسـره، في (روسيا)، أصبح صديقاً للأسود
وللحيوانات الوحشية، ولم يخف منها.. حتى أنه أطعم النمل مما كان يحمله معه
من طعام عندما بات ليلة في الطريق.. لقد كان صاحب تجربة عرفانية كبيرة([70])..
كثيرة هي اللحظات الروحية التي كانت عند النورسي.. أحد
طلبته كان اسمه حبيب، وكان في قرية أخرى، لأن النورسي كان يعيش وحده منعزلاً، وكان
يذهب إليه كل صباح بعد الصلاة، ويأتيه بطعامه وحاجاته، وفي إحدى الليالي أبكر
حبيب، وذهب إليه قبل الصلاة، وعندما وصل كان النورسي في حالة النجوى مع خالقه،
فكان حبيب يتحدث إليه، ولكن النورسي لم يقطع نجواه، ولم يرد عليه. وبعدها قال
لحبيب: يا حبيب، ألا تدري إنني كنت أناجي حبيباً، لا أرضى أن يقاطعني فيه حتى حبيب
مثلك.. لا شك أن النورسي كان يحب حبيب هذا كثيراً، فالرابطة الروحية التي كانت بين
النورسي وطلبته، كانت وثيقة.. يذكرنا موقف النورسي هذا بموقف مولانا، عندما كان
يؤذن للصلاة كان يقوم من مجلسه فوراً.. بمعنى أن صلته الروحية مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عندما كان يذكر اسم النبي، كان لا يطيق الجلوس، بل تحمله قدماه
على الوقوف.. بل إن النورسي، وبعد نجاته من فتنة السجن، وبعد عودته للمرة الأولى
إلى المكان الذي كان قد سجن فيه.. هناك لا يرضى أن يدخل معه أي من طلبته وأحبته
الذين معه، بل يدخل وحده، ويبكيه صوت بكائهم في الخارج.. هذه تجربة روحية كبيرة..
وفي رأيي إنه لا يمكن أن نقارن به أحداً غيره، يستطيع أن يعيش في العصر الحديث
بهذه الصورة.. في الحقيقة هذه مفخرة لنا نحن الكورد..
ولنتحدث هنا عن الجانب القومي عند النورسي.. فحتى تعامله
مع المسائل القومية كان تفاعلاً عرفانياً..
عندما ذهب حسين باشا([71])
لزيارة سعيد النورسي (وكان حسين باشا هذا أحد رؤساء العشائر، وكان أغلب المقاتلين
الذين مع الشيخ سعيد بيران من أتباعه)، لكي يأخذ منه فتوى بوجوب الثورة آنذاك، حيث
كان الشيخ سعيد بيران عازماً آنذاك على الثورة على كمال أتاتورك، لتأسيس دولة
قومية إسلامية.. وهذه إحدى التجارب، حيث يجري الحديث اليوم، وخاصة في أوساط
الحركات الإسلامية، وبالأخص في كوردستان، عن عدم وجود دولة كوردية قومية، ويراد
تأسيس دولة قومية، ولكن بروح إسلامية.. وقد كتب الكثير من المثقفين حول ذلك.. حسين
باشا هذا، الذي كان صديق طفولة مع النورسي، وكانوا يلعبون معاً عندما كانوا
صغاراً، ودرسوا في الحجرة معاً، يطلب من النورسي أن يصدر له فتوى، ولكنه يمتنع عن
ذلك([72])..
وكان النورسي إذذاك يحمل معه ديوان الملا الجزيري([73])
(وهذه إحدى الملاحظات التي قلما يشار إليها، فقد كان النورسي يحمل معه – دائماً -
ديوان الملا الجزيري)، يقول له: لنأخذ الفأل بهذا الديوان، لنر ماذا يقول لنا
الملا (هذا ما لا يفهمه العصر الحديث)، وآنذاك يفتح الكتاب على بيت شعر يفهم منه
النورسي بأنه لن يقف مع الشيخ سعيد بيران، ولا كذلك مع كمال أتاتورك([74])..
ولكن هذا الموقف لم يشفع للنورسي عند أتاتورك، فمع إنه لم يشترك في الثورة، وكان
شيخاً عارفاً، ولكن لأنه كوردي، فإنه يتعرض للاعتقال، وتتم مصادرة جمعيته، ويبعد،
بحجة أن له يداً في الثورة([75])..
مع إنه لم يكن كذلك..
نستطيع أن نقول
إنه كان مدافعاً كبيراً عن الكورد، وكذلك عن الإيمان، ولكن بطريقته الخاصة.. فكما
كان يدافع عن الإيمان بطريقته الخاصة، وليس بطريق الفلسفة، ولا بطريق الفقه، بل
بالبرزخ الذي صنعه بينهما.. فكذلك دافع عن الكورد بطريقته الخاصة.. وذهب إلى أن حل
المشكلة الكوردية لا يكون بالطريق الذي سلكه الشيخ سعيد بيران، والذي ينزف دماً
لغاية اليوم..
من وجهة نظري، فإن علاج النورسي للمشكلة الكوردية هو
علاج خاص، وأكثر عملية وواقعية مما ذهب إليه أناس آخرون، ومما قامت على أساسه
الثورات، والذي لولا الواقع الدولي لما حصلنا، في ظله، على ما حصلنا عليه.. نزفنا
على الدوام دون أن يجلب لنا ذلك مكسباً أو مصلحة.. وسأكتفي هنا بهذا القدر، فهذا
موضوع يحتاج إلى تناول خاص.
تعامل عرفاني:
كان سعيد النورسي متهماً - على الدوام – من قبل البعض،
بأنه يعتبر نفسه شيخاً، وبأنه يعتبر نفسه مدافعاً عن الدين.. وكان هو يجيب - على
الدوام - بأنه ليس صوفياً، بمعنى أن تكون له طريقة.. فهو لا يقبل حكاية الشيخ
والمريد هذه.. بل كان يعتبر نفسه شخصاً عادياً رزقه الله كرامة الدفاع عن القرآن..
مفسراً معنوياً للقرآن([76])..
ولكني أستطيع القول بأنه من بين المفكرين الإسلاميين الجدد، أو من بين الشخصيات
الكبيرة في القرن العشـرين، هو أكبرها، ممن استفاد من طرق التصوف، دون أن ينجرّ
إلى سلبيات التصوف، بدون أن يعتمد على تكوين سلسلة الشيخ والمريدين، مما كان
مشهوراً في الطرق الصوفية.. كان لديه أكثر من خمسين ألف طالب وتلميذ، دون أن يكون
شيخاً لهم، حتى إنه عندما توفي، أغمي على اثنين من تلاميذه الذين كانوا معه، فيقول
لهم آخر كان معهم: أنتم أطفال! لقد أصبحتم أطفالاً، كيف يجوز أن تكونوا هكذا؟([77])..
بمعنى كأن سعيد النورسي هو الرسائل ذاتها، وليس هو ذاته كشخص، أو أن يكون شيخاً
لهم.. وهذه أجمل نكتة استطاع فيها النورسي أن يبتعد عن سلبيات التصوف.. ولكنه مع
ذلك كان فيلسوفاً أخلاقياً كبيراً.. ومن وجهة نظري، فإن طريقته، وسيرته نفسها، هي
أكبر مدرسة أخلاقية تعلم الإنسان القناعة، وتعلمه أن يبتعد عن سلبيات الحضارة
الحديثة، ويعيش في وسطها في الآن نفسه.. حتى أنها تعلم الإنسان أن يهتم ويحافظ على
صحته، كيف ينام، ماذا يأكل.. وقد كان النورسي إنساناً نباتياً، ولم يكن
بروتينياً.. حتى أن طلابه من الأطباء كانوا يتعجبون من غزارة معلوماته([78])..
مع ذلك، فإن معاملة النورسي مع كل ذلك كانت معاملة عرفانية، رؤيته كانت رؤية
عرفانية، ولهذا استطاع أن يبدع كل تلك الإبداعات.
النورسي والاجتهاد
قلنا إن النورسي لم يمارس الاجتهاد، ولم ير ضرورته، لأنه
لم يكن فقيهاً.. وهذه إحدى خصائصه التي تميزه عن الأستاذ ناصر سبحاني، الذي مارس
الاجتهاد بعمق، حتى في الثوابت، بل – حسب ما قاله أحد أصدقائه، من الذين لازموه
طوال تسع سنوات – إنه حاول الاجتهاد حتى في ما تواتر على أنه من ثوابت الدين([79]).
النورسي والفلسفة
كذلك لم يكن النورسي فيلسوفاً، ولكن علاقته بها كانت
بقدر ما تكون الفلسفة دفاعاً عن الدين، أو ردّاً على الفلسفة المادية.. ومن هنا
نستطيع القول بأن هناك تقارباً بين مفتي زادة والنورسي.
يتحدث مفتي زادة في موضوع تحت عنوان (القلب السليم وغير
السليم)، بأن التزكية قبل التعليم، والتزكية تعني أن يكون قلب المرء سليماً، بأن
يكون خالصاً لله، بحيث إنه حتى لو ازداد علماً، فإن ذلك لا يكون له فتنة، بل
يستفيد منه.. لأن العلم إذا كان من غير تزكية، فإنه على العكس يكون حملاً على
صاحبه، ويورده موارد الهلكة {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..} آل عمران/ 164.
ولكن الدعاء الذي يدعو به إبراهيم -عليه السلام-
لأحفاده، في بطن مكة.. جزء من هذا الدعاء أن يكون من ذريته رسول منهم، يقرأ عليهم
آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ..} البقرة/ 129.
يقول مفتي زادة بأن التربية الدينية، والدعوة، على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم- كانت بشكل تكون فيه التزكية قبل التعليم.. الأستاذ
مفتي زادة يفهم من قوله تعالى: {يتلوا عليهم آياته..}، بأن {آياته} يقصد بها
الوحي، أي إن الرسول - صلى الله عليه وسلم- يقرأ آيات القرآن على الصحابة، فينتج
عن ذلك تزكيتهم، ثم يبدأ تعليمهم بعد ذلك، أي إن التزكية تكون قبل التعليم.. وقد
ذكرنا أنه يوجد هنا تقارب في وجهات النظر بين النورسي ومفتي زادة، فـ(القلب
السليم) هو القلب الذي تزكى وأصبح سليماً، موحداً، مخلصاً لله، وهذا يجعلة قابلاً
للعلم، بحيث إنه إذا استقبل العلم، يكون له قوةً وإشراقاً، ويزيده بهاءً، ولا يكون
عالة عليه.. ومفتي زادة يرى أن هذا عصـر التعليم فيه كثير، ولكن التزكية معدومة،
أو ضعيفة، ولذلك تتم صناعة القنبلة النووية، ويتم بها إبادة ملايين البشر، وتدمير الطبيعة..
فيجب أن تتم التزكية أولاً، ثم يأتي التعليم بعد ذلك.. دون أن يعني ذلك أن التزكية
لا يسبقها أي نوع من التعليم، نعم يكون هناك شيء من التعليم والمعرفة، لأن الكلام
هنا هو التوحيد والقلب، ويجب أن يعلم ذلك، ويعرف ماذا يعني ذلك.. هنا يرجع مفتي
زادة إلى المعرفة، ولكن هذه المعرفة الأولية، التي تسبق التزكية، ليست هي التعليم
الذي يأتي بعدها، ففي عهد التعليم تحتاج إلى المزيد والمزيد من المعرفة والتعليم،
ولكن مرحلة ما قبل التزكية لا تحتاج إلا إلى تبيّن بعض أصول الإيمان، حتى تستقيم
التزكية، ويصح المسير.. المعرفة والتعليم عند النورسي هي هكذا أيضاً.. قليل من
المعرفة حرّك جهازاً روحياً كبيراً عند النورسي، ولذلك ترى أنه حتى في ورقة زهرة
يلقاها في الطبيعة، تكون له إلهاماً ينتج عنه كتاب كبير([80])..
خصائص رسائل
النور عند النورسي
إذا تحدثنا عن خصائص رسائل النور، فهناك عدد من النقاط
التي هي عندي مثيرة للعجب، إحداها أن الأشياء التي تبدو في الظاهر شيئاً واحداً،
هي عند النورسي غير ذلك.. فهو بتجربته الروحية يصل إلى أن هذا الشيء ليس شيئاً
واحداً، بل أشياء متعددة.. على سبيل المثال: نقرأ في الأمثال الشعبية: (النساء لسن
على شاكلة واحدة؛ فامرأة هي عذاب، وأخرى هي حياة).. فالمرأة كموجود ظاهر في الخارج
هي شيء واحد، ولكن تجربة الحياة تبين أن النساء لسن شيئاً واحداً.. وهذا يصح
بالنسبة للرجل أيضاً، بالطبع.. ولولا التجربة الحياتية هذه، لما استشعرنا وجود هذه
الفوارق بين امرأة وأخرى، ورجل وآخر.. في قصتي المعنونة: (عين السمكة)([81])،
أشرت إلى أن المرء كي يرى العمر، يجب أن يعيشه.. هناك بعض المعارف لا تتحصل إلا
بالعيش معها، وتجربتها، وليست مجرد معلومة تسمعها، أو تقرأها، بل لا بد أن تعيشها.
على سبيل المثال، يتكلم النورسي عن (النفس)، ويرى أن
النفس ليست نفساً واحدة، فهناك خلف هذه النفس عديد من الأنفس الأخرى.. بمعنى أن ما
يظهر لدى شخص ما، فقيه أو فيلسوف ما، في الظاهر، شيئاً واحداً، ولكنه لدى النورسي
- ولأن تجربته مع هذا الشيء تجربة روحية، وتعامله تعامل عرفاني - فإنه يظهر لديه
على أنه ليس كذلك.. فالنفس – على سبيل المثال – تكون عند الفيلسوف شيئاً واحداً،
ففي تعريفها في الفلسفة القديمة لها نتيجة واحدة، فهم يسألون: ما هي النفس؟ وما هي
ماهيتها؟ وهل هي موجودة أم لا؟ بمعنى أنها شيء واحد.. ولكن النفس عند النورسي عالم
واسع، لأنه يتعامل معها عن طريق التجربة الروحية، وليس القياس المنطقي، أو
الفلسفة.. ولذلك نرى أن الفلسفة - أيضاً - عند النورسي هي هكذا كذلك، فهي ليست
شيئاً واحداً، بل هي فلسفات، وليست فلسفة واحدة..
وما يرويه النورسي في مذكراته، عندما كان في استانبول
لمدة عامين، وكان يخرج كل يوم من (الحجرة)، حتى ظنوا به الظنون، وظنوا إنه إنما
يخرج لكي يتسكع في الأسواق، وينظر إلى النساء.. ولكنه كان يخرج كل يوم ويذهب إلى
مكان خلاء، بعيداً عن الناس، ويتفرغ للذكر، ويتفكر في الخلق.. يقول: وبعد أن تبيّن
لأصحابي أن الأمر لم يكن كما ظنوا، وأني والحمد لله وخلال عامين من بقائي هناك لم
أتلوث ولو بنظرة.. وهنا يقول: إن عدم الذنب هذا، كاد يتحول هناك إلى ذنب لي! وكأن
نفسه كانت تقول له: انظر، كم أنت مهم، لم تتلبس بالذنب! ولذلك يقول: لقد ظهر لي أن
هذه هي النفس الأولى، وهناك نفس أخرى خلفها توظف هذه.. فالنفس التي هي عند
الفلاسفة نفس واحدة، تكون عند النورسي أنفس متعددة!..
ولذلك، فإن فكر
النورسي هو فكر لا يرى من جهة واحدة، بل هو فكر يقف خلف أكثر من وجود.. كما أن خلف
النفس الظاهرة، هناك أنفس أخرى.. ولذلك، فإن الشخص الذي يرى رسائل النور، في
ظاهرها، لا يفهمها.. وهذه إحدى خصائصها..
خاصية أخرى من خصائص رسائل النور، عبارة عن (ذكر الفكر)،
تلك العبادة والخصيصة التي كانت في الماضي موجودة عند أغلب العارفين، واندثرت
اليوم، وقد أحياها النورسي، وهي إحدى المقامات.. كما نرى على سبيل المثال عند ابن
قيم الجوزية، حيث مقام الفكر هو أحد المقامات.. وهو عند النورسي له حضور كبير، فكر
الروح، أن يفكر الإنسان، بل هو كان يعلّم تلاميذه كيف يفكرون([82])..
على سبيل المثال، أحد تلامذته يفتر في قيام الليل معه، يقول له النورسي: أنا كنت
كذلك أيضاً، في البداية، وهذا يحتاج إلى تمرين، ويقصد التدريب الروحي.. أحد
الأشياء الموجودة لدى النورسي، عبارة عن سرعة تدوينه لما كان يفكر به، وهذا ما
يحاولونه اليوم عن طريق التنمية البشرية، وعلوم النفس.. ولكن كيف طوّر هو موهبته
هذه؟.. كان يفكر، في بعض الأحيان، لمدة ساعات، عندما كان يكون موجوداً في غرفة
صغيرة، أو مستلقياً تحت ظل شجرة([83]).
مقام ذكر الفكر، وما يقول مولانا بأن الذكر يأتي بالفكر(
يجعل الفكر مرتعشاً).. في الحقيقة، لقد أعاد النورسي مقام الفكر إلى العرفان..
وأستطيع أن أقول إن أكبر خصائص رسائل النور، وأكبر خصائص النورسي أيضاً، بين
العرفاء، هي هذه.. وبهذا استطاع أن يقف في وجه تلك الهجمة اللادينية التي كانت في
تركيا آنذاك..
خاصية أخرى من خصائص رسائل النور، هي أن النورسي جلس
كثيراً في خدمة القرآن، وكان هو مصدره الوحيد.. وكان النورسي فاهماً جيداً
للقرآن.. أنا نفسـي لم أفهم كثيراً من الأمور في القرآن، ولكن النورسي علمني،
وعلمني كيف كان الناس آنذاك، أي قبل الحداثة، يفهمون القرآن.. فمن ذلك، نجد أن
إحدى الخصائص الموجودة في رسائل النور، والتي استقاها النورسي من القرآن الكريم،
هي أن كل الأشياء، وكل الموجودات لها حياتها الخاصة، وأنه لا وجود لشيء ميّت في
رسائل النور، مثلما أنه لا يوجد شيء ميّت في القرآن، وكل الوجود في القرآن له
حياته الخاصة، ولو كان جماداً، أو حجراً صلداً.. على سبيل المثال، يتعجب في موضع
من رسائله، ويقول إنها ليست له، بل هي إشارات من القرآن الكريم، مثلها مثل العنب
الذي يكون أجمل ما يكون ممتلئاً بالماء، تشتهي أن تتناوله، وهو ينبت من شجرة صلبة
يابسة.. فالشجرة ميتة، أو تبدو كذلك، ولكنها حية، لأن لها ثمراً.. ولذلك، فإن شجرة
العنب لديه ليست ميتة.. وعندما يتحدث عن الجبل، ذلك الهيكل العظيم من الحجارة
والتراب الذي يبدو ميتاً، ولكنه ليس كذلك، هو لا يراه ميتاً كما نراه، كما تراه
الحداثة!..
يتكلم (رولان بارت)، وهو أحد الأدباء الفرنسيين، عن فن
الصورة (الفوتوغراف) في العصر الحديث، والذي يسميه بالصادق الكذوب، بمعنى أنه
يلتقط صورتك، هذه صورتي نعم، ولكنها ليست أنا، في الوقت نفسه.. تعال قارنها،
وانظر: هل هي أنا؟ العصـر الحديث هو عصر الصورة.. لا شيء هو نفسه، ولكنه صورته..
غير أن تعامل النورسي مع الأشياء ليس تعاملاً فوتوغرافياً، ليس تعاملاً يميت فيه
الأشياء الحية، بل على العكس فإن الأشياء الميتة عنده هي حية.. لا شيء ميت في
رسائل النور!([84])..
كما أنه لا شيء ميت في القرآن : البحار، الجبال، السماء.. عدا ذلك، فإن ذلك العالم
الواسع غير المرئي، الذي يترك ثغرات كبيرة في الفكر الظاهري، يترك فراغاً في
اللغة، فراغاً في عوالم الإنسان.. البشـر المعاصرون لا يستطيعون الموائمة بينها..
هذا الفراغ والثغرات الواسعة الموجودة في العوالم المرئية، يملؤها النورسي بالعالم
غير المرئي، لا يترك فيها أي ثغرة.. وهذا إحدى خصائص رسائل النور، التي لا توجد في
أي مكان آخر([85]).
على سبيل المثال، لم يكتشف عقلنا العلمي شيئاً بين كوكب
وآخر، غير الجاذبية، ذلك الفراغ الموجود بيني وبين أقرب الأشياء إليّ.. ذلك الفراغ
الذي لم يستطع العلم الحديث، ولن يستطيع، أن يملأه! وإذن، فإن هذا الوجود الذي
ننظر إليه، والذي معظمه فراغ، وأقلّه مادة - في فكر العلم الحديث -، ولكنه في فكر
النورسي ليس فراغاً، بل هو مملوء بالملائكة! هذا الوجود معرض عظيم، يستعرض فيه
الله سبحانه كل هذا الجمال والكمال، وليس من المناسب أن لا يوجد شخص يلحظه ويراه.!
حتى في أصغر الأشياء، في الذرة، في ندفة صغيرة من الثلج، عندما تنزل من السماء، كم
هي رائعة وجميلة.. هناك الكثير من الجمال الذي يغيب عن أعيننا.. ليس من المناسب أن
يكون كل هذا المعرض، بكل هذا الجمال، ولا يكون هناك من يراه ويلحظه.. وفيما عدانا
هناك راؤون كثر، كالملائكة والجن([86])..
فانظر كيف يملأ الفراغ بأشياء غير مرئية..
وفي اعتقادي، أنه لا يوجد نص أدبي في العصـر الحديث
استطاع أن يقوم بذلك، مثلما نرى عند النورسي.. هناك من وظف الجن، وهناك من وظف
الأشياء غير المرئية، وظف الفانتازيا([87])،
أو الميثولوجيا([88])،
أدبيات أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال: باولو، وماركيز.. ولكن هناك الكثير من
الفراغات في نصوصهم، لا شيء يملؤها.. ولكن في رسائل النور، عدا أن كل شيء فيها حي،
فلا يوجد هناك أي فراغ.. وهذا يحتاج إلى فهم قلبي، لا إلى فهم المعاني والكلمات..
هذه إحدى خصائص رسائل النور، التي ربما لا توجد في النصوص والكتابات الأخرى.
عدا ذلك، فإن رسائل النور، وبحكم أنها ليست مجرد نصوص
عقلية، فإن الإنسان لا يشبع منها إذا خالطها.. إنها تبث فيك الحيوية على الدوام،
تجعلك تحس بالعشق والحيوية، وبولادة جديدة.. وهذا ما لا وجود له في كتب الفلسفة،
والكتب الأخرى..
مرة كنت مع أحد
تلاميذ مدرسة النور، فأردت أن اشتري كتاب (قصة الحضارة) لـ (ول ديورانت)، فقال لي:
أستاذ، ما حاجتك إلى هذا الكتاب؟ القرآن فيه كل شيء.. عرفت أن مقصده هو أن النورسي
استطاع أن يستخرج كل تلك المعارف، بالاعتماد على القرآن، فحسب.. ولكني آنذاك لم
أناقشه، لأني علمت أننا لن نفهم البعض، فأنا أحتاج إلى ما سوى القرآن، لسببين:
أولاً، لأن النورسي نفسه احتاج، في بداياته، إلى المعرفة التي هي خارج القرآن،
وهذا هو الذي دفعه إلى البحث عن الأشياء الأخرى في القرآن.. بمعنى أنه لو لم يعرف
ماذا يقول الملحدون ضد الدين، لما بحث في القرآن لكي يجيب عليهم.. لو لم يعلم أن
الملحدين يقولون إن الطبيعة هي الخالقة، لما بحث في القرآن، على الضد من ذلك، عن
الأدلة على أن الطبيعة فن، وأن هناك فناناً وراء إبداعها، وهو ما سطّره في رسالته
(الطبيعة).. وإذن، فإن ما هو موجود خارج النص الديني (القرآن)، هو مصدر للمعرفة
حتى بالنسبة للنورسي، وخاصة في عهد سعيد القديم، الذي وظف معارفه التي حصل عليها
في عهد سعيد الجديد، وكانت حاضـرة معه على الدوام.. وفي اعتقادي، إن تجربة سعيد
القديم لم تمح، ولم تفن، وهذا ما كان يدركه النورسي، ولذلك وضع بعض كتابات سعيد
القديم ضمن رسائل النور..
ثانياً: أنا لست النورسي، كي أكون قادراً على أن أفعل
مثله.. أن يكون معي كل تلك التجربة والعرفان كي أفهم القرآن، وأستخرج منه، كما فعل
هو..
خاصیه أخری عجیبة، من تلك الخصائص الموجودة عند
النورسي، وفي رسائل النور، هي أنه استطاع أن يثبت أن تلك الحالة الموجودة في
الحضارة الإسلامية هي حالة طبيعية، وكان لا بد أن تكون كذلك.. على سبيل المثال،
أنا أدرس عند العالم الفلاني، وهو لا يعترف بالمذهب الفلاني، ويرفضه، أي إنه يرجح
طرفاً على طرف آخر.. ولكن النورسي، وبدلاً من أن يذهب إلى ترجيح رأي أحد الفقهاء،
أو المذاهب، أو العارفين، على غيره، يأتي ويتعامل مع هذا الرأي وكأنه أحسن حالة أو
رأي لذلك الفقيه، أو العارف، أو المذهب.. فهو لا يأتي ليرجّح بين مذهب الإمام
الشافعي، وبين مذهب الإمام أبو حنفية، بل يقول بأن مذهب الإمام الشافعي بالنسبة
لتلك البلاد التي ينتشر فيها هذا المذهب، ويتبعه الغالبية من الناس فيها، هو أفضل
شيء بالنسبة لهم، لأنهم في الغالب يسكنون البوادي والقرى، لا الحواضر، وهذا المذهب
هو أفضل استجابة لظروف بيئتهم.. وكذلك الأمر بالنسبة للمذهب الحنفي، الذي هو أفضل
استجابة لظروف الحواضـر والمدن الكبرى، وقضاياها([89])..
بل إن النورسي يفعل الشـيء ذاته بالنسبة للعرفاء، فهو لا يرجح حالة أحدهم على
غيره، فهو لا يقول بأن حالة الحلاج هي أفضل من ابن عربي، أو من الرومي، أو الإمام
الرباني. بل يقول إن حالة الإمام الرباني هي أفضل من حالة الحلاج بالنسبة للإمام
الرباني نفسه، وهكذا.. وبهذا استطاع النورسي أن يوسع عالمه كثيراً.. فهو، كشخص من عصر ما قبل الحداثة، معجب بذاك
العالم، ومندهش به، ومدرك لمدى اتساع العوالم فيه..
بل إن النورسي عندما يُسأل عن الشطحات([90])،
التي كانت عند بعض العارفين الكبار، يجيب عنها بصورة جميلة.. وهو يردّ بذلك في آن
واحد على أتباعه ومريديه الذين يتبعونه، وفي الوقت نفسه على أعدائه الذين يقفون
ضده، ويتتبعون عثراته.. بمعنى أن ثقافة النورسي الكلاسيكية هي محل إعجاب وتقدير
حقاً! فكل تلك الخبرة التي يملكها عن العرفان، وكل تلك المعرفة بالفقه الإسلامي،
وبعلم الكلام، ومع ذلك فهو يوظف كل ذلك، ويقرأه ضمن عالم الروح، وهذه إحدى الخصائص
الجمالية لرسائل النور([91])..
خاصیه أخری فی رسائل النور، هي الكشف عن اللحظات
الفكرية، والفلسفية، والفقهية، بالروح والشهود.. حيث لم يدرك الفلاسفة الآخرون ذلك..
وإن كان النورسي قليلاً ما اشتغل بذلك، ولكن في عالم الشهود كانت تأتيه بعض
اللحظات الروحية هي محل نظر وإعجاب، وقليل من الفلاسفة والمتكلمين من أدرك ذلك..
على سبيل المثال، عندما يقول: إن جهنم هي مناسبة لأهلها، حيث يشتبه ذلك على الشخص
العادي، ولا يدركه! كيف يكون عذاب جهنم مناسباً وجيداً؟! هذا غير قابل للفهم
والاستيعاب، بالنسبة لعالم العقل العادي!.. ولذلك هو يقول بأن المكوث في جهنم
والعذاب فيها، هو أفضل من العدم، وذلك أن العدم هو حالة أسوأ من الوجود في جهنم..
وإذن، فهذه الحالة بالنسبة لأهل جهنم هي أفضل!([92])
خاصية أخرى في رسائل النور، هي تجاوز الزمن، ومحوه..
وهذا شيء عزيز في نظري، وقد كشفه النورسي بصورة جميلة.. على سبيل المثال، عندما
يتحدث عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم-، يجعل الرسول إماماً للبشرية كلها، حيث
كل البشـر المؤمنين منذ آدم عليه السلام يصلّون ويصطفون خلفه، وهذا ليس تاريخاً،
فهو يراهم جميعاً، المؤمنون والعرفاء والعاشقون كافة، يراهم في زمان واحد([93]).
يجعل القرآن كلّه لزمن واحد، صحيح أن القرآن نزل إلى يوم
القيامة، ولكن كل تلك الأشياء التي في القرآن كأنها تعيش في وقت واحد، لأن الزمن
لا وجود له عنده.. وحتى في موضوع القيامة أيضاً، فكأن القيامة ليست شيئاً
مستقبلياً سيأتي.. صحيح هو كذلك من حيث الأدلة الفقهية والدينية، ولكن بالنسبة
للشخص العارف، يكون الأمر بصورة أخرى.. عندما يقرأ الإنسان (رسالة الحشر)([94])
يرى الشيء العجب في هذا المجال([95])..
خاصية أخرى لرسائل النور، أنها تحمل هذا الاسم: النور..
فلماذا؟ نقول إن النورسي استفاد كثيراً من النور وخصاله، وهذا يظهر أن النورسي على
اطلاع كاف على الأدبيات العرفانية، وآداب العارفين، حيث إن النور وظف لديهم بصورة
واسعة، وكبيرة.. فهو يسمي رسائله برسائل النور، لأنها تفسير شهودي، مستمد من نور
القرآن، في عصر مظلم، ظلماته بعضها فوق بعض، وإذا بهذا النور يخترق كل هذه
الظلمات، ويتجلى عند النورسي.. ربما قليل من هذه الرسائل يخلو من ذكر النور([96])..
ولذلك، فعالم هذه الرسائل هو عالم نوراني، عالم أقلّ احتفاءً بخبز التنّور، كما
يقول الرومي:
إذا
تناولت مرّة خبز النور
فستترك إلى الأبد خبز التنّور([97])
إنسانية سعيد
النورسي
يشير النورسي دائماً إلى نواقصه وعدم كماله، وهو يبدي
حساسية شديدة تجاه أن لا يعرف كمجرد شيخ، وأن ينظر إليه بصورة أكبر مما هو عليه..
وإن كان هو، حقيقة، وليّاً من أولياء الله، في زمنه.. وقد تنبأ بكثير من الأمور،
التي لم يعرف بها إلا عدد قليل من تلاميذه المقربين إليه، والتي تحققت فيما بعد،
وثبت صدقها([98])..
وهذا ما يؤكد إنه آخر التجارب العرفانية.. ولكنه، في النهاية، ما كان إلا بشـراً،
ونفساً..
ومع أنه قد جرى الاهتمام برسائل النور، وبالمشـروع
العرفاني للنورسي، إلا أنه - من وجهة نظري - قد جرى تعامل خاطئ معه، من عدد من
الجوانب.. على سبيل المثال: تضخيم الجانب المعرفي للنورسي، أو الجانب العلمي من
رسائل النور، كتلك الأمور التي تتحدث عن الجوانب النفسية.. وهذا في رأيي نقص.. حيث
جرى اهتمام أقل بالجانب العرفاني من تجربة النورسي.. وهناك محاولات أقل لفهم هذا
الجانب.. فقد جرى الاهتمام، بصورة أكبر، بثمار هذه التجربة، أي رسائل النور، أقل
من تجربة سعيد النورسي نفسه كتجربة حية([99]).
وإحدى الأخطاء الأخرى في التعامل مع النورسي، هي النظر
إلى النورسي أكبر مما هو.. فحتى لو كان النورسي مجدداً على رأس المائة عام، فلا
يجب النظر إليه على أنه مجدد إلى الأبد، ولكل العصور، في الوقت الذي يرفض النورسي
نفسه مثل هذا التعامل.
نقطة أخرى، هي
أن للنورسي أخطاء، أو أموراً لم يصبْ فيها، وخاصة في المجال المعرفي.. حيث إن بعض
المسائل كانت من ضمن معارف عصـره، ولكن تبيّن خطؤها لاحقاً.. ونستطيع أن نضرب بعض
الأمثلة على ذلك من الرسائل، فعلى سبيل المثال هناك بعض المسائل التي تحدث عنها،
في الكيمياء.. ولكن علم الكيمياء اليوم يتحدث عنها بشكل آخر..
وكما نظر إلى النورسي على أنه متجاوز للزمان، فكذلك من
ناحية المعرفة الدينية، والمعرفة غير الدينية كذلك.. وذلك بحكم ضخامة المشروع الذي
قام عليه النورسي، والذي كان أكبر، أو متقدماً على زمنه.. فقد قرأتُ - على سبيل
المثال - بعض الكتابات التي كتبت عن رسائل النور، فتراهم يجعلون من بعض المسائل،
في مجال الفقه، أدلةً تخالف كل الأصول الفقهية والفقه.. وكمثال على ذلك، ما ذكرته
آنفاً، من موقف النورسي من العمل
بالأحلام.. ولا شك أن النورسي يعلم أن الرؤية لا تكون مصدراً للأحكام، إذا جاءت
مخالفة للكتاب والسنة([100])..
وهو أمر معلوم في أصول الفقه.. ولذلك لا يجوز أن نجعل من ذلك دليلاً على هذا.. هذه
معاملة خاطئة، أن نتعامل مع النورسي هكذا..
ومن الناحية المعرفية أيضاً، يجب أن نفهم النورسي في
إطار زمنه، وضمن معارف عصـره.. فمثلاً، عندما يقصر النورسي الغرب على الفلسفة
المادية، بينما الغرب يملك الكثير من الفلاسفة الآخرين، يملك الكثير من المعارف
الأخرى.. ولا شك أن النورسي لا يردّ على الفلسفة المادية، على أنها تمثل الغرب،
فهو يرى حسناته أيضاً.. وهذه إحدى جماليات النورسي الأخرى.. ولكنه غير مطلع على ما
يجري من دفاع عن الدين هناك في الغرب.. وهذه ثغرة معرفية لدى النورسي، لولاها لكان
استفاد من هذا المجال أكثر..
وفي النهاية، فإن النورسي هو ابن زمنه، لا يجوز أن ننتظر
منه أكثر من ذلك.. وهو مشروع كبير.. برزخ بين القلب والروح.. لا يهرم الإنسان
أبداً، إذا ظل معه، وقرأ فيه.. إنه عشق كبير.. ولكن مع ذلك، ولأنه أراد أن يدافع
عن الدين بهذه التجربة، فإن هناك لحظات يجري استخدام المعنى الواحد بعدة صور لدى
النورسي، ولكني يجب أن أعترف بأن النورسي هو الذي علمني ابتداءً أن لا أنظر إلى
الأشياء بعين اعتيادية، وأن أراها بعين أخرى، وأن أكتشف الأشياء بعين القلب، وخاصة
قراءة المثنوي.. أستطيع القول إن النورسي كان عارفاً كبيراً، وأديباً كبيراً،
وعالماً بعلوم عصره..
وهناك نقطة عند النورسي هي
موضع إعجاب أو تعجب، وهي قدرته على الحفظ.. كل ذلك الشعر الفارسي الذي جاء به،
ووظفه أجمل توظيف.. وتلك التجربة الروحية مع الله التي كان يعيشها.. في العادة،
نحن نحس أن الله لا يتكلم معنا، ولكن النورسي يتكلم بكل ذلك الكلام الجميل في حضرة
الله سبحانه.. أحدنا إذا كان يخجل من شخص، فإنه لا يستطيع الكلام بأريحية في
حضرته.. ولو لم أكن أعرف صديقي بصورة جيدة، فمن الصعب أن نتبادل الحديث، أو تكون فيه أسرار بيننا،
قبل أن يستتب الود بيننا، ونصبح أصدقاء.. كل تلك المناجاة التي أجراها النورسي مع
الله سبحانه، إنها تدل على القرب الشديد، والود، وتدل على أنه كان ولياً من أولياء
الله، بالمعنى القرآني.. ومع أنه لم يصل إلى مرتبة الخليل مع الله، كما هي منزلة
الأنبياء، ولكنه كان قريباً وحبيباً.. كان يقضـي الليل إلى الصباح في الصلاة
والدعاء، دون ملل.. ومناجاته مع الله نماذج لأدب عظيم من المناجاة مع خالق
الأكوان، من الحديث عن محبوب لا يرى بالعين المجردة، وإنما هو حاضر في القلب.. هي
في الحقيقة أدبيات كبيرة.. وهي نموذج لأدبيات هذا العصـر.. وإذا كان (غوته) معجباً
بمولانا، وبحافظ الشيرازي، فإن شعراء العصـر ينبغي أن يلتفتوا إلى النورسي، وأن
يعجبوا به.. وأنا عندما أقرأ الشعر الكوردي، فهو يبدو لي - مقارنة بمناجاة النورسي
- كأنه لعب أطفال.. إن النورسي يكتب بالتركية، ولكنها ممزوجة بروح كوردية، وهذا في
النهاية ما يفعله أي عارف في الدنيا: يوظف معارف قومه، معرفة عصـره، في تجربته
الروحية.. كما فعل مولانا، وسعدي، وحافظ، وغيرهم.. وهو ما فعله النورسي أيضاً..
ولكن النورسي لم يكن شخصاً متعصباً، ولا عنصرياً، وكان يعرف أن القومية - بمعناها
الحديث - تولّد الفاشية والنازية.. وهذه محصلة مهمة توصل إليها.. وهذه المحصلة
رأيتها للمرة الأولى عند (ماكنتاير)([101])،
الذي يقول إن الحياة الجماعية في العصـر الحديث تولّد الفاشية.. وقد لاحظت أن النورسي
قد توصل إلى ذلك قبل (ماكنتاير) بحوالي خمسين سنة..
وحتى عند الحديث عن الإرهاب في العصر الحديث، فإنني أرى
أن الارهاب لا ينبع من الدين، لأن الدين ينتج العشق والمحبة، الدين ينتج الرفق
واللين، ينتج سعيد النورسي، ومولانا، وحافظ.. فهؤلاء قمم في الدين.. ولكن العصر
الحديث لا يسمح لهؤلاء أن يظهروا.. لا يسمح لمثل هذه الأرواح الرقيقة بالوجود..
وتبدو أهمية سعيد النورسي في أنه تعامل بهذه الروح
الرقيقة ما قبل الحداثية، مع القومية الكوردية.. عندما تقرأ (الرجتة الكوردية)([102])،
تعلم كم أحب الكورد، ولكنه حب عرفاني، وليس حب التعصب.. كم يتعامل مع الأشياء بحب
وعشق.. كم يرى الأشياء بصورة رقيقة.. ولكنه ابتعد بنفسه عن أن ينظر إلى القومية
كآيديولوجيا، لكي لا ينزلق إلى الفاشية.. وكنت أظن إنه فعل ذلك لإعجابه بالدولة
العثمانية، وحبه لها، ولكني اكتشفت إنه فعل ذلك عمداً، وعن رؤية وبصيرة.. كان يعرف
أن ذلك يولّد الفاشية، وسفك الدماء.. ولذلك، كان يرى أن عليه أن يدافع عن قومه،
ولكن عن طريق الرفق والحب، كإنسان، وليس كشخص فاشي متعصب للقومية.
الدراسة
الأكاديمية في العصر الحديث، والدراسة ما قبل الحداثية
أحد الأشياء
التي ينبغي أن نتأملها، والتي يجب أن تقف ثقافتنا أمامها، في حياة سعيد النورسي،
وحتى أحمد مفتي زادة، وناصر سبحاني، عبارة عن قابلية المعرفة غير الرسمية
لـ(الحجرة) في مواجهة العصـر.. فقيه كوردي مثل سعيد النورسي، أو لنقل ملا سعيد،
الذي اتهموه كثيراً بأنه كوردي.. هذا الفقيه الكلاسيكي، الذي لا يملك شهادة
أكاديمية.. فعالية هذه الثقافة تجعل من شخص قادراً على كشف نواقص العصـر الحديث،
بل يستطيع أن يكون مدافعاً عن ثقافة عصر ما قبل الحداثة، في عصر الحداثة..
إذا كان لدينا
ثلاثة أنواع من النقاد في العصـر الحديث: فهناك في العصر الحديث، من ينقد العصر
الحديث.. وهناك من ينطلق من التقاليد، من ثقافة ما قبل العصـر الحديث، لينقد العصر
الحديث.. وهناك أيضاً من ينطلق من ما بعد العصر الحديث، ويقوم بمعاملة ما بعد
حداثية، لنقد العصر الحديث.. فإن كلاً من (سبحاني، ومفتي زادة، والنورسي) نقاد عصر
ما قبل الحداثة في زمن الحداثة.. ولكنهم عرفوا روح العصر الحديث بصورة جيدة.. على
سبيل المثال: لو طالعت اجتهادات الأستاذ ناصر سبحاني في النظام السياسي، في النظام
الاقتصادي، ترى أنه اكتشف ثغرات العصر الحديث.
ولقد كشفت ثقافة الأستاذ النورسي ثغرات الفكر والفلسفة
في العصـر الحديث جيداً، وعرفت نواقصه.. مثلما فعل الأستاذ مفتي زادة في الفلسفة،
إذ ينتقد (هيغل) في موضوع الديالكتيك الإسلامي، ويكتشف نواقصه جيداً.
سعيد النورسي، الذي ولد عام 1876.. هذا الرجل الذي عاش
في القرن التاسع عشـر الميلادي، واستمر عطاؤه وفعالياته حتى خمسينيات القرن
العشرين، وبعدها بدأت عليه علامات المرض والتعب والهرم، وأصبح يجمع آثاره، ويلملم
رسائله التي ألقاها على طلابه، أو كتبها، أكثر مما كان منشغلاً بالإتيان بجديد..
هذا الرجل الذي لم يكن يملك شهادة من العصـر الحديث، والشهادة إحدى خصائص العصـر
الحديث، وهو لم يكن يملك حتى مؤسسة معرفية تساعده، كان يملك ذاته فقط، روحه فقط،
هو وعقله، هو وقلبه، هو وفقره، هو وانعزاله، هو والبوليس حواليه يراقبه.. استطاع
أن يقف أمام كل تلك المعارف الحديثة، أن يستفيد من حسناتها، ويترك سيئاتها..
واستطاع أن يشخص بكل دقة أمراض عصـره، وربما هناك القليل من الفلاسفة استطاعوا
ذلك.. انظر إلى كل هذه القابلية، بتلك الثقافة الكلاسيكية.. لا ينبغي أن ننتظر أن
يتم الإصلاح عن طريق الأكاديميا.. الإصلاح هو خارج الأكاديميات.. بمعنى أن رجلاً
يقف لوحده في وجه دولة، دولة تريد أن تأتي بتجربة خاطئة من الغرب بصورة جاهزة، دون
أن تكون ملائمة لروح شعبها. وتفرضها على شعبها.. وحتى اليوم لا زالت أخطاء كمال
أتاتورك تكتشف.. رجل مثل النورسي، ولوحده، فقيراً، حتى إنه كان لا يعرف اللغة
التركية، بمعنى أنه كانت توجد في لسانه لثمة، لأنه كان كوردياً، هو يقول بأنه تركي
جبلي – حسب تعبيرهم طبعاً -، وكانت كتابته أيضاً غير تامة، بمعنى أن طلابه هم
الذين كانوا يكتبون ما يمليه عليهم، بمعنى أن معارفه لم تكن رسمية.. وهذا ما يتكرر
لدى مفتي زادة أيضاً، فرغم أنه لم يكن خريج الدراسات الأكاديمية، إلا أنه كان يلقي
محاضرات على طلبة الجامعة.. وهذا موجود أيضاً لدى الأستاذ ناصر سبحاني أيضاً..
وإذن، فإن الثقافة لا يشترط أن تتكون داخل أروقة الأكاديميات.. وهذه من خصائص هذه
الشخصيات الكوردية الثلاثة، الذين يشتركون في الكثير من الخصال..
وإحدى الخصال الأخرى التي يشتركون فيها، هي حديثهم مع
الغيب.. فمثلاً تلك الرسالة التي يرسلها سبحاني إلى الأنبياء (من أرض البلايا)([103])
كوردستان، هي حديث مع أنبياء لم يعودوا موجودين بأجسادهم، وهم في عالم الأرواح..
النورسي أيضاً له أمثال ذلك، فهو يتحدث مع عالم الغيب، مع عالم الملائكة، مع عالم
الأنبياء، تلك الرؤيا التي يراها مع النبي - صلى الله عليه وسلم-.. وهذه أيضاً من
الخصائص المشتركة بينهم، أي الرؤيا، أو الاعتماد على الرؤيا.. على سبيل المثال،
يشير الأستاذ سبحاني إلى تأويل الرؤى في تفسيره لسورة يوسف، وهذا أحد العلوم غير
الموجودة اليوم..
وخاصية أخرى مشتركة، هي الذكاء الفائق الذي كانوا
يتمتعون به، وكلهم قد امتحن في مواقف مختلفة، ومعروف أن العلماء قد اجتمعوا لسؤال
النورسي وإفحامه أكثر من مرة، وكل مرة كان هو الذي يفحمهم.. وأحمد مفتي زادة، أول
اختبار له كان من قبل أبيه، عندما عاد من كوردستان العراق، حيث كان ذاهباً للتزود
بالعلم الشرعي فيها.. وكان بيت أبيه أحد بيوتات مدينة سنندج الأغنياء، وكان والده
خطيب الجامع الكبير فيها، وكانوا قد أولموا وليمة بهذه المناسبة، ودعوا إليها رئيس
شرطة المدينة.. وكان مفتي زادة مغتماً لما يراه من كثرة الطبيخ، وأنواعه، في حين
إن كثرة من الناس لا تجد ما تأكله.. وبعدها يختبره والده أن يلقي درساً في (جمع
الجوامع)، ويتعجب والده منه، وكيف استطاع أن يجمع كل هذه العلوم عنده.. والأستاذ
ناصر أيضاً تعرض أكثر من مرة لمثل هذه المواقف.. وهو من كثرة فقهه كان قد كتب
رسالة إلى الشيخ عثمان، وأبدى الشيخ عجزه عن الرد عليها.. وكذلك كان قد أرسل إلى
علماء الشيعة، بمن فيهم الخميني، أكثر من رسالة، وعجزوا عن مجاراته والجواب على
أسئلته..
خاصية أخرى مشتركة: أنهم استطاعوا أن يذهبوا بكل ما في
العرفان، أو الفلسفة، أو الفقه، من إمكانيات، إلى أوجها.. فقد كان يظن أن لا شيء
جديد يضاف إلى العرفان، ولكن النورسي نجح في ذلك.. وكان الظن أن الفقه لا يمكن
الزيادة عليه، وأن لا شيء جديد يمكن أن يضاف إليه، وهو ما صرح به مفكر مثل محمد
عابد الجابري.. ولكن ناصر سبحاني فعل ذلك.. وكذلك الفلسفة، قالوا إنها استنفدت
أغراضها، ولا جديد يمكن أن يؤتى به فيها، ولكن مفتي زادة فعل ذلك.
وفيما عدا الإتيان بكل إمكانيات التراث القديم، فإنهم
رأوا وكشفوا نواقص وثغرات العصر الجديد أيضاً، وهذه إحدى خصائصهم المشتركة.. وكذلك
كانوا كلهم زهاداً؛ سبحاني وحياته الفقيرة.. وسعيد النورسي ولفة عمامته الكوردية
على رأسه، وبقاؤه بهذا الزي حتى وفاته.. ومفتي زادة والسروال والجاكيت الكوردي،
الذي كان اللباس الشعبي لعامة الناس وفقرائهم.. هذه الروح الزاهدة التي لا وجود
لها اليوم.
مرة أخرى سعيد
القديم وسعيد الجديد، التجربة الروحية في عصر الحداثة:
إذا أجرينا مقارنة بين سعيد القديم وسعيد الجديد، فإن
سعيد القديم قد عاش في عصـر كان زمن الخلافة الإسلامية، وزمن العصـر ما قبل
الحديث.. سعيد القديم هو سعيد المعرفة، معرفة العصر القديم، عندما تستجيب الشريعة
لأسئلة الخلافة الإسلامية، العرفان يملأ الجانب الروحي، وطرق التصوف لها حضور..
الفلسفة وعلم الكلام لا يزالان يقرآن، ضمن نظام (الحجرة) في كوردستان.. كان سعيد القديم هذا متضلعاً في هذه العلوم،
يشار إليه بالبنان، ويعرفه الداني والقاصي، ويكرمه الخليفة.. بل إنه وقتذاك،
وعندما يذهب إلى الشام، يلقي خطبة معروفة، اشتهرت باسم (الخطبة الشامية)([104])،
ولا تزال هذه الخطبة موجودة.. بمعنى أن سعيد القديم، هو سعيد في القمة، لأنه كان
يملك ويحتوي معرفة عصره، كان يملك علوم عصره، وعلوم العصور القديمة كلها.. ولكن
سعيد هذا لم تقبله الدولة الحديثة.. وكان عليه أن يعيش على الدوام في الجبال
منفياً، أن يقبع في السجون.. أجهزة الدولة الحديثة لم تكن تقبله، وكان يسبب لها
المشاكل عندما يدخل فيها.. على سبيل المثال، مرة يستدعيه كمال أتاتورك، ويقول له
تعال تحدث لنا، وعظنا، فيذهب ويتحدث لهم عن الصلاة.. كمال أتاتورك إنما استدعاه
ليتحدث لهم عن ضرورة الوحدة، وأهمية وحدة الصف.. كان لهم مجلس في أنقرة، مثل مجلس
الثورة، لم يكونوا قد وصلوا إلى مرحلة الدولة بعد، كان مثل برلمان، وكانوا لا
يزالون في مرحلة الثورة.. ولأن سعيد النورسي كان مع كل الثورات التي اندلعت ضد
الإنكليز والدول المحتلة، لذلك استدعاه أتاتورك ليتحدث لهم في ذلك المجلس.. ولكن
النورسي تحدث لهم عن الصلاة.. فيقول له أتاتورك إننا استدعيناك لتؤلّف بيننا،
وتدعم وحدة صفوفنا، فإذا بك تزيدنا فرقة وتشـرذماً، بأن جعلتنا صفين بعضنا يصلي
وبعضنا لا يصلي.. فيقول له: باشا، باشا، من لا يصلّي هو مرتد، وحكم المرتد في
الإسلام هو القتل! سعيد القديم هذا، سعيد هذا الذي كان عارفاً، لا يجد له مكاناً
في العصر الجديد، ولذلك يقولون عنه بأنه مجنون، يتهمونه بأنه ضد التقدم، وضد
الأشياء الحديثة.. بأنه رجعي، يريد أن يعيد الناس إلى العصور القديمة.. وهذه هي
التهم التي وجهوها إليه عند محاكمته.. ومن هنا تظهر لك خصيصة العصر الحديث، الذي
لا يتسع للتجربة الروحية، ويضيق بها.. وإن كانت، فيجب أن تكون بطلاً مثل سعيد
النورسي.. ومن يطيق أن يكون مثل النورسي، لم يتزوج، ولم يكن له منزل، وكان لا يأكل
من الطعام إلا أقلّه، ولا يأكل إلا ما يبقيه على قيد الحياة، لا ينام في اليوم
والليلة إلا خمس ساعات([105])..
أبطال مثل النورسي يستطيعون العيش في مثل هذا العصـر.. ولذلك، فمثل هؤلاء الأبطال
يجب أن يعيشوا على هامش المجتمع، لا يسمح لهم، ولا يعطون الطريق.. ولكن هؤلاء
الأبطال يملكون الجواب.. وهكذا، فإن النورسي عندما يفرضون عليه الحصار، وعندما
يضعونه تحت المراقبة، ولكنه في المحكمة يجيبهم بشكل يجعل القضاة مقتنعين، ويخرج
بريئاً في كل المحاكمات التي تجرى له.. ولكنه رغم هذه البطولة، يجب أن يعيش على
الهامش، في عزلة..
لم يكن النورسي، في العصـر الحديث، أحد رجالات الدولة..
صحيح إنه كان شخصية معروفة، وكان مشهوراً، ولكن الناس إنما كانوا يريدون رؤيته
لالتماس البركة، لتجربته وإلهامه الروحي.. كان الناس يستفيدون من تجربته الروحية
والإيمانية.
([1]) رسائل النور: رسائل ألّفها بديع الزمان سعيد
النورسي(ت 1960)، وهي تفسير لمعاني القرآن الحكيم، وهي تعالج القضايا الأساسية في
حياة الفرد، إذ تنشـىء عنده يقينيات إيمانية جديدة، وتهدم التصورات الفاسدة،
والسلوك الضعيف. وهي تدور حول معاني (التوحيد) بدلائل متنوعة، و(حقيقة الآخرة)،
و(صدق النبوة)، و(عدالة الشريعة)، إلى آخره من الأمور التي قصدها القرآن الكريم.
علاوة على ما تبحثه من أمور الدعوة إلى الله، ومحبة الرسول ﷺ ، والشوق إلى الآخرة،
وأمور اجتماعية وسياسية مختلفة.
([2]) داريوش شايغان: (1935- 2018) مفكر إيراني
معاصر، ومنظر اجتماعي مختص في الفلسفة المقارنة. اشتهر بكتاباته عن الحضارات
الشـرقية، وعلاقتها بالحضارة الحديثة، وطريقة تمثلها للحداثة الذهنية، وقيمها، والاختلافات
الكبيرة في بنية هذه الحضارات لدرجة التناقض. وهو أول من استخدم مصطلح (حوار
الحضارات)، وذلك في مؤتمر عقد في طهران 1977، حظي بمتابعة وثناء دولي كبيرين. ترجم
عدد من أعماله للعربية. وحصل على عدد من الجوائز، أهمها جائزة الحوار العالمي عام
2009، كما فاز بجائزة اتحاد الكتاب الفرنسيين عن روايته (أرض المعراج) عام 2004.
([3])بديع الزمان سعيد النورسي، سيرة ذاتية، إعداد وترجمة: إحسان قاسم
الصالحي، دار سوزلر للنشـر، استانبول، الطبعة الأولى، 1998، ص524.
([5])بديع الزمان سعيد النورسي، السنة النبوية سنة كونية وحقيقة روحية،
ترجمة إحسان قاسم الصالحي، بتعليق أديب الدباغ، مطبعة الشعب، بغداد، 1985.
([9]) إحسان قاسم الصالحي، بديع الزمان سعيد
النورسي نظرة عامة عن حياته وآثاره، دار سوزلر للنشـر، استانبول، 1987،
ص143-147.
([13]) مصطفى مَلِّكْيَان: مفكر إيراني معاصر، ولد
سنة 1956 في قضاء (شاه رضا) التابع لمحافظة أصفهان، تخرج في كلية الهندسة- جامعة
طهران سنة 1973، والتحق إثر ذلك بالحوزة العلمية الدينية بمدينة قم، وبرز في
الفلسفة والإسلاميات. تحصل مصطفى ملكيان على درجة الماجستير من جامعة طهران كلية
الإلهيات (قسم الفلسفة) سنة 1986، وعمل أستاذًا للفلسفة وفلسفة الدين والأخلاق في
جامعة طهران، وجامعة (تربيت مدرس) فرع قم، والحوزة العلمية (مكتب الإعلام
الإسلامي) في قم،. ونشـرت له عدة كتب بالفارسية، ترجم بعضها إلى العربية، ومنها
نذكر: الطريق إلى الحرّيّة، التدين العقلاني، جدلية الدين والأخلاق.
([14]) المعجزات الأحمدية للنورسي، رسالة تضم أكثر
من ثلاثمائة معجزة من معجزات النبي محمد - صلى الله عليه وسلم-.
([15]) داريوش شايغان، ئاسيا له بةرامبةر خؤرئاوادا، وةرطيراني شؤرش
جوانرؤيي، خانةى وةرطيران، سليماني، 1اثي يةكةم 2004، ص55- 80.
([16]) رسالة الطبيعة،سعيد النورسي، ترجمة احسان قاسم الصالحي، مطبعة
الزهراء الحديثة، الموصل، 1985.والعنوان أعلاه هو للترجمة الكوردية للرسالة.وهي رسالة ناقش فيها النورسي النظرية الطبيعية،
ونظرية إسناد الظواهر والأشياء إلى الأسباب.
([18]) رسالة الاجتهاد: هي عبارة عن بحث كتبه
النورسي حول الاجتهاد، باللغة العربية، ضمن الكتاب الذي ألفه بالعربية وسماه
بالمثنوي العربي النوري، وأعاد كتابة هذا البحث بعد تنقيحه وتهذيبه في كليات رسائل
النور. وتتناول الرسالة في مجمل مباحثها موانع طرق باب الاجتهاد النظري في عصـر
النورسي، وقد انتهت إلى وجود موانع ستة للاجتهاد في عصـره، وفصلتها تفصيلاً
مقروناً بالأمثلة وبعض الحجج العقلية.
([19]) وتەكان، بەديع الزمان سەعيدالنورسي، فاروق رسول يحيى كردوويەتى بە
كوردي، نشـر إحسان، تهران، 1383هـ.ش، ص719-727.
([27]) أي إنه قد أخذ الدرس من كل ما حوله، حتى من
الذباب، حيث يقول: "إني رأيت نفسـي مغرورة بمحاسنها. فقلتُ: لا تملكين
شيئاً!. فقالت: فإذاً لا أهتم بما ليس لي من البدن.. فقلت: لا بد أن لا تكوني أقل
من الذباب.. فإن شئتِ شاهداً فانظري إلى هذا الذباب، كيفَ ينظِّفُ جناحَيهِ
برجليهِ، ويمسحُ عينيه ورأسه بيديه! سبحان من ألهَمَه هذا، وصيّره أستاذاً لي،
وأفحمَ به نفسي!". المثنوي العربي النوري/ 168.
([32]) سعيد الجديد: هو اللقب الذي يطلقه الأستاذ النورسي على نفسه
عندما أخذ على عاتقه مهمة إنقاذ الايمان، ويستلهم من فيض القرآن الكريم رسائل
النور عام 1926م.
([34]) سعيد القديم: هو اللقب الذي يطلقه الأستاذ
النورسي على نفسه قبل قيامه بتأليف رسائل النور 1926م.
([37]) الشيخ سعيد بيران (الشيخ سعيد بيران
البالوي): (1865-1925م) كوردي من شيوخ
الطريقة النقشبندية، كان جده من خلفاء مولانا خالد الشهرزوري، قاد ثورة في
كوردستان تركيا ضد السلطة الحاكمة، لاتجاهها المعادي للدين. نشبت ثورته في
1/2/1925، وتم القضاء عليها في 15/4/1925، وقُدم الشيخ إلى محكمة الثورة، فأصدرت
عليه وعلى سبعة وأربعين من مقربيه حكم الإعدام، وتم تنفيذه عليهم في (دياربكر) في
29/6/1925.
([41]) ورد في (مكتوبات) الإمام الرباني، المكتوب
الخامس والسبعين من المجلد الأول، وهي: ".. ولكن لا بد من أن تراعي شرطاً
واحداً، وهو: توحيد قبلة التوجه... ".
([44]) الشيخ عثمان طويله
يي، سراج الدين الأول (1781- 1867م) الخليفة الأول لمولانا خالد النقشبندي.
([45]) مولانا خالد النقشبندي (1190-1242هـ) مجدد عصـره، من أئمة الطريقة النقشبندية، فاق
علماء عصـره في العلم والتقوى، ربى كثيراً من الأولياء. توفي في الشام.
([46]) وهي السيدة (آسيا ملازم أوغلو)، ولدت في
(آفيون) بتركيا عام 1885، ووالدها حفيد الشيخ (العاشق الصغير). احتفظت السيدة
(آسيا) بجُبّة جدها الأكبر بكل عناية واهتمام ورعاية، والتي جاوزت المائة عام من
العمر، والعائدة أصلاً إلى الشيخ خالد البغدادي.
([54]) الشيخ عبد الكريم المدرس: (1905-2005م)
المشهور بالشيخ عبد الكريم بيارة، مفتي العراق السابق، من أعلام العراق وكوردستان،
فقيه، ومحدث، ومفسر، وأصولي، ومتكلم، ولغوي، وأديب، وهو كوردي الأصل، من قصبة
(بيارة) الواقعة على الحدود العراقية- الإيرانية. له تفسير: (مواهب الرحمن في
تفسير القرآن).
([56]) الخانقاه (معرب فارسية: خانگاه) هو المكان الذي ينقطع فيه
المتصوف للعبادة، اقتضت وظيفتها أن يكون لها تخطيط خاص، فهى تجمع بين تخطيط المسجد
والمدرسة، ويضاف إلى هذين التخطيطين الغرف التي يختلى أو ينقطع بها المتصوف
للعبادة، والتي عرفت في العمارة الإسلامية باسم الخلاوى.
([58]) ناصر سبحاني: وهو داعية مسلم، وشيخ كردي
إيراني، ولد في عام 1951 بقرية (دوريسان) التابعة لمدينة (باوه) في كردستان إيران،
وبعد إكمال دراسته المتوسطة تحول إلى دراسة العلوم الشـرعية، ودرس على يد العلماء
الكبار في إيران وحصل على الإجازة العلمية، وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران
زار سبحاني قادة الثورة عدة مرات وأوصل إليهم مطالب الشعب الكوردي. واعتقل في
حزيران 1989 في مدينة سنندج عاصمة إقليم كوردستان إيران، وبقي في السجن قرابة عام
قبل أن يُعدم يوم عيد الأضحى في عام 1990.
([59]) أحمد مفتي زاده (1933-1993)، کوردي إيراني،
أحد المفکرین والساسة الدینیین السنة المؤثرین بین الکورد في إيران. عرف بدوره
القیادي في مطالبته بحقوق الکورد القومیة، وحقوق السنة الدینیة في إيران، أثناء
الثورة الإسلامیة في إيران. قاد مفتي زاده إحدی التشکیلات السیاسیة الکوردیة
الأساسیة الثلاث في إيران أثناء الثورة الإسلامیة. فشلت مفاوضات مفتي زاده مع
النظام الإسلامي في إيران، وانتهت المفاوضات بإصدار السلطات أمراً باعتقاله
ومجموعة من قادة الحرکة التي کان یقودها. توفي مفتي زاده بعد فترة قصیرة من إطلاق
سراحه عام 1993 بسبب التعذیب وسوء المعاملة اللذان تعرض لهما أثناء فترة اعتقاله.
([60])
الحجرة
أو المدارس الشرعية، وهي مصطلح يستعمل في منطقة كوردستان، بمعنى المكان الذي يتلقى
فيه طلبة العلوم الشرعية دروسهم على يد العلماء، وهذه الحجرة غالباً ما تكون داخل
المساجد، أو ملاصقة لها.
([63]) بديع الزمان سعيد النورسي، وتةكان، فاروق رسول يحيى كردوويةتى بة
كوردى، نشـر احسان، تهران، ص746-748.
([71]) حسين باشا: (1851-1931م) شيخ عشيرة حيدران
الكوردية العريقة، ومن الشخصيات الكوردية البارزة في كوردستان تركيا.
([73]) الملا
الجزري: أصله من جزيرة بوتان
(جزيرة ابن عمر)، واسمه الشيخ أحمد. ولد عام 540هـ حيث كان يحكم الجزيرة الأمير
عماد الدين، وهو صاحب الإمارة فيها. له غزليات غزيرة مدونة في ديوانه المسمى
(ديوان الملا الجزري).
([74]) عندما أخرج النورسي ديوان الشيخ أحمد الجزري
من جيبه، وفتحه متفائلاً به، وإذا بهذا البيت أمامهم:
"هن زي
ببف دَيري فه تين، قصدا كنيشتي هن دكن
نه
ي زي فانم نه ي زي وانم من دَرَي خمار بس"
ويعني:
منهم من يرجع من طريق الكنيسة ويدخل الإسلام، ومنهم من يعود إلى معبد اليهود
فيتهود، أما أنا فلست من هؤلاء ولا من هؤلاء.( سيرة ذاتية لبديع الزمان سعيد
النورسي، ص242، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلرللنشر، القاهرة، 2014م)
([88]) الميثولوجيا: (علم الأساطير)، ويطلق على
العلم الذي يعني بدراسة منشأ الأسطورة، وتطورها، وبدراسة أساطير الشعوب والعلاقات
المتبادلة بين هذه الأساطير، كما يطلق المصطلح على مجموعة الأساطير التي تختص
بالتراث الديني فقط.
([90]) الشَّطحات: عبارة عن كلام غير متّزن بدون التفات أو مبالاة، كما
هو حال بعض الناس في وقت غلبة الحال أو السكر. فيتكلمون كلمات ظاهرها مخالفة
الشريعة. فلا يقبل كلامهم، ولا يردّ ولا يؤخذ منهم، ولا يؤاخذون عليه. وعلّة عدم
قبول مثل هذا الكلام هو أنّ غير الأنبياء لا عصمة لهم، فربّما قالوا كلاماً
باطلاً. وعلّة عدم الرّدّ هو كون هذا الكلام صادراً من رجال هم أهل معرفة، فلعلّ
لهم معنى لم ينكشف للآخرين، فيكون الرّدّ ردّاً للحق. فالأسلم إذن هو عدم القبول
أو الرّد، وذلك لاضطراب طرفي المسألة.
([94])
رسالة
الحشر: بينما كان النورسي يسير يوماً على الساحل الهادئ الجميل لبحيرة (اغريدر)
ويتأمل مياهها الزرقاء، والسفوح الخضراء للجبال المحيطة بها، ويتذكر مسألة البعث
بعد الموت ويوم القيامة والآخرة، التي غدت تُصور من قبل الدوائر الملحدة وكأنها
خرافة وأسطورة لا سند لها من دليل عقلي أو علمي، بدأ يردد في جيشان روحي كبير قوله
تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِير} (الروم:50) زهاء أربعين مرة، هو يذرع الساحل جيئة وذهاباً في نشوة روحية
عميقة ملأت نفسه بمعاني هذه الآية الكريمة، وفاضت بها، فأخذ يُملي على أحد طلابه هذه
المعاني، فكانت رسالة (الحشر) وهي الرسالة الأولى من (رسائل النور).
([101])
ألسدير
ماكنتاير (بالإنجليزية: Alasdair MacIntyre) فيلسوف وعالم أخلاق اسكتلندي تعرف عنه إسهاماته في فلسفة
الأخلاق والفلسفة السياسية، كما له العديد من الأعمال في تاريخ الفلسفة واللاهوت.
ولد عام 1929 بمدينة غلاسكو بأسكتلاندا، ويبلغ من العمر حالياً 91 عاماً.
([102]) المقصود رسالة المناظرات، وهي أجوبة سعيد
القديم عن أسئلة طرحتها العشائر الكوردية سنة 1910م، حيث تجول الأستاذ النورسي بين
العشائر الكوردية، وطبع الكتاب لأول مرة في استانبول سنة 1913م.
([103]) رسالة آلام من أرض البلايا، هي رسالة كتبها الشيخ ناصر سبحاني
متأثراً بالمأساة التي تعرضت لها مدينة حلبجة الكوردية عام 1988 عندما جرى قصفها
بالأسلحة الكيمياوية من قبل النظام البعثي الحاكم في العراق، والتي خلفت أعداداً
كبيراً من الضحايا الأبرياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق