31‏/12‏/2020

أين تعليمنا اليوم من التعليم الاستراتيجي المعاصر؟ مقاربة نظرية لأزمة حضارية شاملة

سعد صهيب الزيباري 

مقدّمة

?التّعليمُ هو عمليّة مُنظّمة لنقلِ المعلُوماتِ والمعارِف إلى المتعلِّمينَ، وهو الفضاءُ المعرفيُّ الّذي يُزَوِّدُ الطلبةَ بالمفاهيمِ والمعرفةِ الحديثة، فضلاً عن اكتسابِ المهاراتِ العمليّة اللازِمة، والخبراتِ التدريبيّة المناسِبة لسُوقِ العمل، إضافةً إلى تلقينهم أساليبَ التفكير الصّحيحة، وتنمية ثقافتهم العامّة وتهذيبها. فهو ليس مجرّد أبنيةٍ ومُؤسّساتٍ فارِغة مِنْ محتواها العلميّ والعمليّ، أو مجرّد هياكِل صَمّاء مهمّتها تخريج الطّلبةِ إلى الشّوارِع والمقاهِي، ومن ثَمَّ زيادة نسبةِ العاطِلينَ عنِ العمل.

    من السّابق لأوانهِ أنْ نقرِّر أنّ تعليمَنا الآن قَدْ تحوّل إلى ظاهرةٍ جمالية لا أكثر ولا أقل، فقد أصبحَ همُّنا الذي يهمّنا هو أن نستوردَ المناهِجَ الأوروبية، ونستميتَ في إسقاطِها قَسْراً على المحاضِن التعليميّة، ونتصوّر - في مخيالِنا - أننّا بذلِك ندشِّن حضارة ونؤسّس لمدنيّة جبّارة، ولا ندري أنّ التخلّفَ مع ذلك مُسمّر في مكانه، وباقٍ على حاله. وقد عبرّ الأديب الشهير (هوراس)، في تجسيدِ ما يُناظِرُ هذهِ الحالة؛ بقوله: "الذين يهرعُون إلى البحرِ إنّما يغيِّرُون طقسَهُم لا عقولَهم"، والّذين يهرعُون إلى أوروبا من أجلِ استجلاب مناهِج التّعليم الخاصّة بهم، إنّما يغيِّرون أمكنتَهم وليسَ عقولَهم. فالمشكلاتُ العالِقة في سماءِ وطنِنا البائِس لا تُحَلُّ بالهرُوبِ منها وتبرير وقوعِها، ما لم يتغيِّرْ نمطُ تفكيرِنا وأسلُوب تدبيرِنا. وقد علّمتَنْا الحكمة أنّه إذا فشلتَ في تحقيقِ مبادئِكَ غيِّر أساليبَكَ، لا مبادئَكَ، فالأشجارُ تغيِّرُ أوراقَها لا جذورَها! وهي ذات الحكمة التي عبّر عنها (ألبرت أينشتاين) بقوله: أنّنا "لن نستطيعَ أنْ نَحِلَّ مشاكِلَنا المزمنة الّتي تواجهُنا إذا فكّرْنا بالعقليّةِ نفسِها الّتي أوجدتْ تِلْكَ المشاكِل"(1). ويؤكّد الفيلسوف (رودلف فليش) هذه الفكرة؛ بقولِه: "إنّ الفكرَ الإبداعيَّ قد يعني ببساطة إدراك أنّهُ ليسَت هُناكَ ميزةٌ خاصّةٌ في إنجازِ الأشياءِ بالطرُق التقليديّة نفسِها الّتي كانتْ تُستخدَم دوماً لتنفيذِها(2).

      وهذا درسٌ مجانيٌّ يضعهُ التّاريخُ لأُولي النُّهى كي يستفيدُوا منه، وما زلنا نتذكّرُ تلكَ الملايين الطائلة والنفقاتِ الهائِلة الّتي صُرفت من أجلِ إيفادِ طلابنا الأوائِل إلى خارج تخومِنا؛ فأضحتْ كارثةً على تعليمِنا، فضلاً عمّا جرّه من إنفاقٍ ماليّ مُرهق على كاهلِ حكومِتنا الفتية، والفتك باقتصادِها الهزيل، ولو صُـرِفَتْ هذهِ الملايين على الجامعة - الافتراضيّة على الورق - لأُنجز الكثير منها أو يكاد، فلمّا رجعُوا من رحلتهم العلميّة الشاقّة العسيرة وجدُوا أمامهم طرُقَ البطالة شاسِعةً واسِعةً مفتوحةً على مصـراعيها، وفي أحضانِ البِطالة - كما يقول الغزاليّ -  تُولَد آلافُ الرّذائِل! وقد صدق الفيلسوف الصينيّ الكبير (كونفوشيوس) حينما قال: "أطْعِمُوا النّاسَ ثمَّ اطْلبُوا منهمُ الفضيلة"!.

   الابتعاث الأكاديميّ والحصاد المرير

   والسُّؤالُ الّذي يطرحُ نفسَهُ هنا: تُرى ما الفائدةُ العلميّة والجدوى العمليّة الّتي جناها تعليمُنا من هذهِ الآلافِ المؤلّفة التي تمّ إيفادُهم إلى خارجِ الوَطن؟ وقد أصابَ الدكتور طارق السويدان كبدَ الحقيقة حين حلّلَ مثيلَ هذهِ الظاهرة؛ بقولهِ "لو كُنْتُ تاجِراً، وأنفقتُ هذهِ المبالِغ الكبيرة؛ سأسألُ نفسِي: ما مَرْدُودي مِنْ هذا الإنفاق؟ وما هو رِبْحي مِنْ ذاكَ الإنتاج؟ صحيح؛ كان هناك إنفاق، ولكن ما هِيَ المخرجات لهذا الإنفاق؟ فنحنُ لا نرى على أرضِ الواقِع الأثرَ الطمُوحَ الّذي كان القائِمُون يُنْشِدونه، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على عدمِ وجُودِ رؤيةٍ استراتيجيّة شامِلة تضعُ التخطيطَ قبل التنفيذ! فقضيّةُ التعليم لا يمكنُ أنْ تُفْصَلَ عن استراتيجية البلد. لهذا؛ فإنّ أحدَ الأركان الرئيسةِ في قضيّةِ التعليم هو أن يرتبطَ بتحقيقِ استراتيجيّةٍ معيّنة، ولا يمكنُ أنْ نحقِّقَ النموَّ والتطوُّرَ في العالم العربيّ والإسلاميّ دون وجود استراتيجية تبيِّنُ نوعيةَ التّعليمِ الّذي نريدُ أنْ نمارِسَهُ. فالإشكالُ إذاً؛ ليسَ في عدم توافر أموال، وإنّما الإشكالُ هو كيف تُوجَّه هذهِ الأموال؛ لأن ما يُنْفَق على التّعليم العربيّ الإسلاميّ يُعادل النّفقات العالميّة الّتي يتمُّ إنفاقها. ومن هنا فإن الإنفاق على التّعليم وَفْقاً لاستراتيجيّةٍ مُعيّنة كفيلٌ على أن يكون الإنفاقُ أكثرَ إنتاجيّة عمّا هو عليه الآن في الوقتِ الحاضِر. والاستراتيجيّات لن تتحقّق مِنْ خلالِ ترديدِ الاسطواناتِ المشرُوخة دوماً، أو رَفْعِ الشِّعارات المستهلكة يوميّاً، تلك الّتي تكاد تكون قريبةً مِنَ الأمنيات، على الرّغم مِنْ أنّ التمنّي - كما قالَ (الينور روزفلت) - يَسْتَهلِك الطّاقةَ نفسَها الّتي يستهلِكُها التّخطيط!

   ومِنَ الواضِح أنّ أيَّ نظامٍ تعليميّ يشترِكُ مع كُلِّ المشـرُوعاتِ الإنتاجيّة الأُخرى من حيثُ أنّهُ يشتمِلُ على مجمُوعةٍ مِنَ المدخلات (Inputs) التي تدخلُ في عمليّةٍ مُعيّنة صُمِّمَتْ مِنْ أجلِ الحصُولِ على مُخرجاتٍ مُعيّنة (Outputs) تحقِّقُ أهدافَ النّظُم المقرّرة(3)، وتتمثّلُ هذهِ المخرجات على سبيلِ المثالِ: في مدى مُلاءَمة النظام التعليميّ واتصالهِ بحاجاتِ بيئته، فضلاً عنِ الحقائِق والمفاهيم التي يتعلّمها الطلبةُ، وأساليبِ التّفكير الّتي يكتسِبُونها، والتغيُّراتِ السلُوكيّة التي تحدثُ في نظرتهِم إلى الأمور وفي قيمهِم واتجاهاتِهم(4).

   الإنفاق على التّعليم بين الشـرق والغرب

     الغريبُ أنّ ما تُنفقه الدولُ العربية والإسلاميّة على التّعليم يكاد يُوازي أيضاً ما تُنفقه الدول الغربية - حتى المتقدّمة منها؛ كاليابان والدُّول الأوروبية وكندا والولايات المتحدة - مع ذلك لديهم تقدّم ولدينا تقهقر، لديهم طالب مُتميِّز ولدينا طالب مثقل بالموادِ وبالمذاكرة، وفي النهاية يتخرّج الطالِبُ عندنا ولا يجدُ مجالاً يعملُ فيه. وفي هذا السِّياق نشرت صحيفةُ (لوس انجلوس تايمز) في (23) يناير 2001م، تقريراً حول التّعليم في مصر، وقارنتْ فيهِ المراسلةُ الأميركية بين التّعليمِ في مصـر والتّعليمِ في الولاياتِ المتحدة الأميركية، حتّى إنها قالتْ ما نصّهُ: إنّ الآباء الأميركيين سوف يحسدون الآباء المصـريين على كمّ المذاكرة الّذي يقومُ بهِ الطلبةُ المصريُّون كُلَّ يوم؛ من خلالِ المناهج الكثيرة الّتي تعتمدُ على الحِفْظِ والتلقين، وهو ما يَدلُّ على أنَّ الطلبةَ الأميركيين نسبة تحصيلهم أقلّ، ومع ذلك فالنتيجة هِيَ أنّ هناك تقدّماً هائلاً ولدينا تراجُعاً كبيراً. ولو سُئلنا عنِ الخلل لقُلنا: إنّ الخللَ هُوَ في إدارة هذه المسألة، الخللُ في مجمُوعةِ أمُورٍ وليس في أمرٍ واحِد، فهم يريدُون إصلاحَ الأمُور كُلِّها دفعةً واحِدة، يريدُون أن يفعلوا ذلِكَ في ظلِّ قرارٍ سياسيّ غير مُستقر. والسُّؤال المطرُوح هنا: تُرى كيف سيصلُحَ التعليمَ وزيرُ تربيةٍ وتعليم لا يدومُ في وزارته أكثر من سنتين؟! فمنْ يجلسُ سنتين في الوزارة كيفَ يستطيعُ أن يُطوِّر التعليمَ في سنتين؟!(5). وهذا هو عينُ ما يحصلُ عندنا؛ فإنّ اللاحِق يَجُبُّ ما قبلَهُ مِنْ تعليماتٍ، وينسُخُ ما دونه مِنْ خططٍ واستراتيجيّات، وإنْ كانتْ جديرةً بالاستمرارِ عليها ومُواصلتها، بَلْ ووضعها في حيِّزِ التّنفيذ. وإذا ما عدلَ عن ذلِكَ تعبيراً عن حُسنِ نيّته؛ فإنهُ - في أحسنِ الأحوالِ - سيدعُو إلى تأجيلِ تلك القرارات الملزمة؛ ولكأنّ السياسةَ عندنا - كما يقولُ هنري كيولي - هِيَ فنُّ تأجيلِ القرارات حتّى لا تُعَدّ ذات جدوى! ونحنُ دائِماً ندّعِي أنّنا وصلْنا إلى خطٍّ نتقاطعُ فيهِ معَ الدُّوَل المتقدِّمة، ولكنّنا إلى الآن لم نستطع أنْ نوفِّرَ الحدَّ الأدنى مِنَ الحاجياتِ الإنسانيّة. إنّنا دائِماً نحومُ حولَ المظاهِر الخارجيّة الجوفاء، ولا نلجُ إلى عُمْقِ المشكلاتِ الّتي نعانيها، والأصلُ أنْ نبحثَ في عُمْقِ أعماقِ الإنسان، فالإنسانُ هو مفتاحُ المعالجةِ الحضاريّة.

  أولويات النظام التعليميّ النّاجح

     من هنا وجبَ على القائمين بإدارةِ النظمِ التعليميّة أنْ تجهّزَ نفسَها بوسائِل التّجديد، "وإذا أمكنَ بذلُ جُهْدٍ كبيرٍ نحوَ التّجديد التعليميّ؛ فإنّهُ ينبغي أيضاً أنْ يتوافرَ معهُ نظامٌ للأولويّات، ذلِكَ لأنّهُ مِنْ غيرِ المستطاع أنْ يَتِمّ إنجازُ كُلّ شيءٍ مرّةً واحِدة، فهناكَ بعضُ الأمُورِ ينبغي أنْ تحدث ويتمّ إنجازُها قبلَ القيامِ بأشياء أُخرى. ومن هذهِ الأولويات:

-  تحديثُ الإدارة التعليميّة:  Modernization of educational management 

   فإذا لَمْ تُزَوّد النظمُ التعليميّة بالإداريينَ العصريينَ الّذينَ دُرِّبُوا تدريباً مُلائِماً، وأُعِدُّوا إعداداً حسناً، وتوافرَتْ لديهم معرفةٌ جديدة مُتطوِّرة ومُستمرّة، وأدوات حديثة للتّحليل والبحثِ والتّقويم، فإنّهُ لن يحدثَ انتقالٌ وتحوُّلٌ في التّعليمِ مِنْ تعليمٍ تقليديّ قديم إلى تعليمٍ عصريّ جديد. والبديلُ عن هذا كُلِّه هو أنْ نترُكَ الأزمةَ التعليميّة تزدادُ سوءاً وتتفاقَمُ باطّراد(6)؛ نتيجةَ الإدارةِ القديمة الّتي تتوسّلُ باستخدامِ الوسائِل الحديثة، ولكن بعقليّة دُوغمائيّة مُغلقة!

 - تحديثُ إعداد المدرِّسين: Modernization of teachers

   لِكَيْ يكونَ المدرِّسُ عصريّاً لا بُدَّ مِنْ أنْ يرفعَ من إنتاجيّتهِ، ويُتابعَ المعرفةَ الجديدة، ويُلاحِقَ أساليبَ التّدريسِ الجديدة. فالمُدرِّسُ القديمُ دُرِّبَ للقيامِ بالتدريسِ في عالَمِ الأمسِ وليسَ في عالَمِ الغد، وذلِكَ لأنّهُ يستخِدمُ في تدريسهِ الطريقةَ التي يألفها، وسبقَ أنْ تعلّمَ بها(7). والحقُّ يُقال إنّ نسبةً كبيرةً جِدّاً مِنَ المدرِّسين لا يهتمُّون بتنميةِ معلُوماتِهم وتحديثِها، فضلاً عنِ استخدامِ الوسائِل العصريّة في المجالِ التعليميّ.

 -  تحديثُ عمليّة التّعليم: Modernization of learning process

   لا بُدّ من تحديثِ عمليّة التعليم؛ لأنّ الطلبةَ همُ الضحيّةُ الأولى للتّرتيباتِ التعليميّة البالية، في حين أنّ التعليمَ الحديث يقومُ بإثارةِ حُبّ الاستطلاع الفطريّ لدى الطلبة؛ ومعرفةِ ما يجري حولهم من أفكارٍ وقضايا، فضلاً عن استثمارِ حُبِّ الفضُول، إضافةً إلى مُراعاةِ الفرُوق الفرديّة، وتشجيع التعلّم الذاتيّ(8). فعلى القائمين على إدارةِ النظم التعليميّة إذاً، أنْ يُراعوا مبدأ الفروق الفرديّة (Individual differences)، فالطلبةُ يختلِفُون ويتفاوتون تفاوتاً هائِلاً في استعداداتِهم الفرديّة ومعدّلات تعلّمهم وطرُق التعلّم، وإذا وجدْنا أنّ نظامَ التدريسِ والتعلّم يهملُ هذهِ الفرُوق الفرديّة الكبيرة؛ فإنّ الكفايةَ التعليميّةَ لا بُدّ أن تنحدِرَ إلى ما دُون المستوى المرغُوب فيه(9)، وعليهم أيضاً أن يُشجِّعُوا مبدأ (التّعليمِ الذاتيّ)، ذلِكَ المبدأ الّذي يُقرِّرُ أنَّ كُلَّ طالِبٍ مهما كانتْ استعداداتهُ لديهِ حبُّ استطلاعٍ فطريّ، وقُدرة على تعلّمِ قَدْرٍ كبير مِنَ الأشياءِ مُعتمِداً على نفسهِ؛ شريطةَ أنْ تُستثارَ دوافِعُه على نحوٍ سليم، وأنْ يُوَجّهَ التّوجيهَ السَّديد، وأنْ تُوَفّرَ لهُ موادُ التعلّمِ في صُورةٍ جذّابة وقابلة لهضمِها(10). وهذا ما تعاني منهُ مؤسّساتُنا التعليميّة في المراحِل الدراسيّة كافّة.

   بين التخصص العلميّ والتكامُل المعرفيّ

     على الرّغمِ مِنْ انتقادِنا المعرفيّ لأداءِ الحكوماتِ الّتي لا تنظرُ إلى التّعليم بوصفهِ جزءاً مِنْ استراتيجيّة الدّولةِ ككلّ؛ فإنّنا لا نُبَرّئ ساحةَ الأكاديميّينَ؛ مِمّنْ جعلُوا (المعرفةَ التخصُّصيّة) سياجاً دوغمائيّاً معزُولاً عنِ الفضاءِ الخارجيّ بمعارفهِ وثقافاتهِ المتنوِّعة، في وقتٍ أصبحتِ "الحاجة الأكاديميّة والثقافيّة تزدادُ يوماً بعدَ يوم إلى التحقّق بمبدأ (التكامُل المعرفيّ) بعد ذلِكَ الاندفاعِ المرتجَل وغير المدرُوس باتجّاهِ الاكتفاءِ بـ(المعرفةِ التخصصيّة) في هذا العِلْمِ الإنسانيّ، أو الإسلاميّ، بل والذهاب أبعد باتجاهِ ما أطلقَ عليهِ (التخصُّص الدقيق).. وهي مسألةٌ ضروريّة بكُلّ تأكيد من أجلِ إتاحةِ الفُرَص المعمّقة للكشفِ والإضافةِ والإبداع في ذلِكَ المجال، ولكن هذا لا يبرّر - بحالٍ مِنَ الأحوال - الاعتقال في خانةِ التخصُّص الدقيق الّذي لا يملكُ معهُ أصحابهُ فضاءً علميّاً واسِعاً، ولا خزيناً ثقافيّاً خصباً يُمكنهم ليسَ فقط مِنَ المزيدِ مِنَ الإبداعِ في مجالِ تخصُّصهم الدقيق، بَلْ والحضُور المؤكّد في ساحاتِ الثقافة، والقُدرة على إرفادِها بالمزيد"(11). وليسَ سِـرّاً أن نؤكّد هُنا أنّ التدريسيّين أصبحُوا يُراوِحون في دوّامةِ تخصّصاتِهم المغلقة، ولا يخرجُون منها إلاّ بعد إحالتهم على التقاعُد!

   ونتذكّرُ هُنا - والعبارةُ للدكتور عماد الدين خليل - حَشْداً هائِلاً مِنَ المتخصِّصينَ في العلُومِ الإنسانيّة، مِنْ حملةِ الماجستير أو الدكتوراه، بَلْ وحتى مِنَ الحاصلينَ على درجةِ )الأستاذيّة(، تسمعُ لهم جعجعةً ولا ترى لهم طِحْناً، فهم يعانون مِنَ الضمُورِ، وعدم القُدرة على الاكتشافِ والإبداعِ والإضافةِ في الاثنينِ معاً: تخصّصهم الدّقيق وثقافتهم العامّة، فهم أشبهُ بالمنبتّ الّذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وإنّكَ إذا أخرجتَهُم مِنْ دائرةِ تخصُّصهم الدّقيق باتّجاهِ هذا الحقلِ المعرفيّ الموازي أو ذاك، ضاعُوا وضلّوا الطريقَ؛ لأنّهُم لا يكادُون يملِكُون مِنْ خرائطهِ شيئاً.. بَلْ إنّك - حتّى في مجالِ تخصُّصهم الدّقيقِ هذا - إذا سحبتَ مِنْ بينِ أيديهم النصُوص الحرفيّة المستمدّة مِنَ المراجِع والمصادِر، فقدُوا القُدرة على كتابةِ سطرينِ. فكسرُ جُدران الزنزانة، وتحرير المختصِّينَ مِنَ الاعتقالِ في سراديبها الضيِّقة، تلكَ هِيَ المهمّة الأساسيّة لمبدأ )التّكامُل المعرفيّ((12(.

   فالتكامُل المعرفيّ يعدّ ضرورة أكاديميّة، بسبب ما فعلتهُ ظاهرةُ الاعتقالِ في زنزاناتِ التخصُّصِ الدقيق من تضحُّلٍ معرفيّ وتسطّحٍ ثقافيّ، وغيابٍ في القُدرةِ على الإبداعِ والإضافةِ والاكتشاف. فالجامعاتُ، بسبب من غيابِ التكامُل المعرفيّ؛ تخرِّجُ أجيالاً مِنْ أنصافِ المتعلِّمينَ، وتعينُ الأُميّة المقنّعة على التزايُد والانتشار، ولا بُدّ إذاً مِنْ تدارُكِ الموقِف بكسـرِ أقفالِ زنزاناتِ التخصُّص الضيِّقة، والانفتاح المعرفيّ في فضائهِ الواسِع(13). والسؤالُ الجوهريّ هُنا إذا كان التدريسيُّون يُعانون من حالةِ القوقُعِ في زنزاناتِ التخصُّصِ الدقيق؛ تُرى كيف سيكونُ بمقدورِهم أنْ يُوسِّعوا آفاقَ الطّلبةِ نحو فضاءاتٍ معرفيّة رَحبة لا تعرفُ الحدُود الفاصِلة، ولا تعترِفُ بالجدرانِ العازِلة؟!

   العلوم الإسلاميّة والمعارف الإنسانيّة

   وإذا عرّجنا للحديثِ عن خرِّيجي علُومِ الشـريعة، أو العلُوم الإسلاميّة؟ ألفيناهُم في حالةٍ ليستْ بأفضل من زملائهم (الإنسانيِّين)؛ لأنّهم غادرُوا معاهِدَهُم دون أنْ يملِكُوا مُقوّمات التعامُل الفاعِل مع الحياة، أو القُدرة على إعادةِ صياغتها، بَلْ وقيادتها كذلِك! وأنّى لهم ذلِك، وهُم لا يكادُون يعرِفُون شيئاً عن معارِفها الإنسانيّة، التي بدونِها لن يكونُوا قادرينَ على الإلمامِ بمطالبها، والاستجابة لتحدّياتِها، لأنّهم لم يَسْبُروا غورَها العميق، بَلْ لم يبلغوا حتّى شواطئها!(14)؛ وذلِكَ رُبّما استجابةً لحالةٍ اجتماعيّة يحكمُها تقليدُ السّابقين، كما أعان على نَسْجِ خيوطِها الكالِحة ضغوط السُلطة الاستعماريّة (الخارجيّة) تارةً، والمحليّة (الداخليّة) تارةً أُخرى، وهِيَ الضغُوط الّتي استهدفتْ عزلَ الشـّريعةِ عنِ الحياة، ونسف الجسُور المقامة بينَ الطّرفين، بما فيها (الفقيه) الّذي أُرِيْدَ لهُ ألاّ يُشارِكَ في عمليّةِ التّغيير، أو الصّياغة، أو إعادة تعديلِ الوقفة، وأنْ يتحوّلَ إلى واعِظ، أو خطيب جُمعة تقليديّ، أو مُدرِّس دين أو لغة عربيّة، يتلقّى - في مُعظمِ الأحوال - أجرَهُ الشهريّ مِنَ الحكُومات. وإذ تعمّد أنْ يكون الأجرُ زهيداً لا يكادُ يسدُّ الرَّمَق. ولما كان العالِمُ أو الفقيه غير قادِر على أيّ حِرْفة إضافيّة تُعينه على الارتقاءِ بمُستواه المعيشـيّ صوبَ الحدِّ الأدنى، انعكسَ ذلِكَ كُلّه عليهِ: فأصبحَ مَسْحُوقاً، ممتهناً، ضعيفاً، لا يملكُ في مُعظمِ الأحيان (الشخصيّة) الآسـرة القويّة المؤثرة الّتي تمكّنهُ من أداءِ دورهِ المطلُوب. وثمة حالات استثنائيّة بكُلِّ تأكيد، ولكنّهُ الاستثناء الّذي يُعزِّز القاعدة ولا ينفيها(15). ومن هُنا وجبَ أنْ يكون الفقه تعبيراً عن الحياةِ، بُكلِّ حيثيّاتها وتفاصيلها، تعبيراً عمليّاً علميّاً واعياً.

  الفصام النّكِد بين علوم الشـريعة والحياة

    الفقه الإسلامي محيطٌ بالحياة الإنسانيّة من ألفِها إلى يائِها... فلا تكادُ ناحية من سلُوكِ الإنسانِ الخاصّ والعام تندّ عن عناية الشـّريعة وهداياتها(16). فالعقلُ الإسلاميُّ لوِ التزمَ الخطّ القرآنيّ المشغُول بالملاحظةِ والتَّجارِب، المهتمِّ بالتّنقيب والحقائق، الجوّاب في آفاقِ الأرضِ والسّماء؛ لكان لهُ شأنٌ آخر، ولقدّمَ نَجَدَاتٍ صادِقةً مُثمِرة للمنهجِ العلميّ الكونيّ الباحِث في المادّة لا فيما وراءَها. فنحنُ نحترمُ علُومَ الكونِ والحياة، ونرى أنفسنا مُطالبين بافتتاحِ مغاليقِها والتّبريز فيها، وذلِكَ كلّه نابعٌ من إعزازِنا لربِّنا وحفاوتِنا بصنعه، وتلبيتنا لطلبهِ أنْ نفكِّرَ ونستنتِج! وأجزمُ - والعبارةُ للشيخ محمد الغزاليّ - أنّ العُزلةَ الفكريّة عنِ الكونِ انحرافٌ عنِ الخطِّ الإسلاميّ، وفرارٌ مِنْ تكاليفِ اليقظةِ الذهنيّة الّتي فرضها علينا القرآن، بَلْ قد تكونُ طريق العَجْزِ عن مُقاومةِ الباطِل ومُؤازرةِ الحقّ(17).

   ولقد حرصت أوروبا وأمريكا على أنْ يظلّ هذا العلمُ منقُولاً لا معقُولاً، مجلُوباً لا أصيلاً، مُشترى لا مُكتسباً حتّى نظلّ فقراء إليهم أبداً، ما نستطيعُ من قيودِهم فكاكاً(18). وقد أثار الشيخ الغزاليّ تساؤلاتٍ ما تزالُ أجوبتها عالِقة: أين العِلم الّذي يُسعِفنا ويقيم لنا صناعةً مُستقلّة؟ أينَ العِلم الّذي يصُون عقائِدَنا وآدابَنا ويجعلُ يدَنا العُليا؟ أينَ العِلم الّذي يُحكم عَلاقتنا بكتابنا، وينقلنا إلى جوِّه الممدُود بينَ الأرضِ والسّماء؟ أينَ العِلم الّذي يقدرنا على أنْ نثيرَ الأرضَ ونُعَمِّرَها كما أثارِها وعمَّرَها غيرنا(19).

   ومن هُنا وجب "كسـرُ جدارِ العُزلة بينَ علُومِ الشـّريعةِ والحياة، وإعادةِ الدّم إلى شرايينها المتصلّبة، ومنحها الحيويّة والمرونة الّتي تمكّنها مِنَ التموضُع في قلبِ العصـرِ لا بعيداً عنه"(20)، والبدء بنَسْجِ خيوطِ المشرُوع الحضاريّ الإسلاميّ الّذي آن لهُ أنْ ينزلَ إلى الحياة لكي يجيبَ - كما يقولُ غارودي - على كُلِّ الأسئلةِ الكبيرة الّتي تؤرِّقُ الإنسان في العصـرِ الرّاهِن، ويُقدّم البديلَ المناسِبَ بعدَ انهيارِ جُلّ النُّظُم والأيديولوجيّات الوضعيّة(21). إنّ مُعضلاتِ العصر الحديث ومُستجداته تمثِّلُ تحدّياً مُلحّاً للعقلِ المسلم، وهي بمثابةِ اختبار لقُدرتهِ على الفاعليّة في صميمِ العصـر، من خلالِ اعتمادِ الأصُول الإسلاميّة وتحكيمها: القُرآن، والسُنّة، والسّوابق الفقهيّة(22).

 

 

   الدّافعَ الرئيس للأبحاث الجامعيّة المنجزة

     هناك العديد والعديد من البحوث الجامعيّة المنشورة في المجلات العلميّة الّتي تسمّى بـ(المحكّمة)، ولكنّك حينَ تقرأها لا تجدُ سِوى بحوثٍ تقليديّة عقيمة لا تلتزمُ إلاّ بمعايير البحث الشكليّ الجاف، أمّا المضمونُ فلا يخرجُ عن النقلِ الآليّ عن المصادر والمراجع. فإذا أنت عزلت هذهِ البحوث من مصادرِها ومراجعها الّتي استُقيت منها؛ فلا يبقى للباحِث بعد ذلِك سِوى التّبويب والتّفريع والتّرتيب والتّنسيق. ومن هنا فليسَ غريباً أن تجدَ (المختصِّينَ - من حملةِ الشهاداتِ العُليا، والحاصلينَ رُبّما على الأستاذية - يتكاثرُون، لكن النتاجَ العلميّ، والمشاركة الثقافيّة، تكادُ تكونُ صفراً! أو إنّهم - في أفضلِ الأحوالِ - يُنْجِزون العددَ المطلُوب والمفرُوض عليهم مِنَ البحُوثِ الّتي يُسمّونها (علميّة)، تلك البحُوث الّتي تؤهّلُهم لـ(الترقية العلميّة). ولكن أيّ بحوثٍ هذه؟ إنّك لا تكادُ تقرأُ فيها سَطْراً أو سَطْرينِ حتّى تكتشِفَ عُوَارَها وبَوَارَها، وتضحُّل أصحابِها حتّى على مُستوى القُدرةِ على التّعبيرِ، وصياغةِ الأفكار(23).

   ولا نجافي الحقيقة حينَ نؤكِّدَ أنّ الدّافعَ الرئيسَ لهذهِ الأبحاث المنجزة، لدى غالبيّة التدريسيين، هو (الترقيات العلميّة)، ومِنْ ثَمَّ الكَسْب الماديّ. أمّا البحثُ لاكتسابِ المعرفةِ والخبرة، أو لحلّ مشكلةٍ قائِمة، أو حبّاً في البحثِ العلميّ لزيادةِ الاطّلاعِ؛ فيأتي في المقامِ الأخير. ولا غَرْوَ إذاً، والحالةُ هذهِ، أنْ يكون مُعظم هذهِ الأبحاث قليل الفائدة؛ لكونِها مُرتجلة، ولا يستهدفُ الباحِثُ منها سِوَى منفعةٍ وقتيّة عابرة. ورُبما يعلمُ مسبقاً أنّ مصيرَ بحثهِ - كغيرهِ مِنَ البحُوث الأُخرى - هو الإهمالُ والنسيان!(24)، فعلى الرّغمِ من ضخامةِ عددِ الأبحاثِ الّتي أُنجزت في الجامعاتِ والمؤسساتِ العلميّة، إلاّ أنّ القليلَ منها كانت ذات مردُودٍ اقتصادي؛ تلبِّي حاجات التّنمية، وتحقِّق التقدّم الاجتماعيّ. في حين أنّ الجامعاتِ والمؤسساتِ العلميّة الأُخرى في العالَمِ المتقدِّم؛ تضطلعُ بدورٍ متميِّز في إجراءِ الأبحاثِ العلميّة المتنوِّعة الّتي لها مردودٌ اقتصاديّ واضِح، وتسهمُ في دعمِ الاقتصادِ الوطنيّ، فضلاً عن تحقيقِ التقدّم الاجتماعيّ(25). فإذا لم تتداركْ جامعاتُنا هذا السـّرطان الخبيث؛ فإنّهُ سيمضـي لافتراسِ الأخضـرِ واليابس، ولن يكون بعدَها عطاءٌ علميّ مشحُونٌ بالإبداعِ والابتكارِ، ولا جدلٌ ثقافيّ محتدم يملأُ السّاحاتِ بعصفهِ الفكريّ، وعطائِه الخصبِ الأصيل(26). فهناك - لا ريب - تهافتٌ على إنجازِ أبحاثٍ أكثرُها مكرّرة من أجلِ الترقية، والتّرقية من أجلِ تحقيق مرتبةٍ علميّة توفِّر له قيمة ماليّة إضافيّة، أو تؤهِّله لمنصبٍ علميّ في الجامعة، أو خارجها.

   فالتّعليمُ الّذي يُخرِّج مُتعلِّمينَ أنصاف أمّيينَ لا يلبثُ حتّى يضعَ المجتمعَ تحتَ رحمتِهم، والتّعليمُ الّذي يُخرِّج عُلماءَ لا مكان لَهُمْ في بلادهم يدفعُ بهم إلى الرّحيلِ وطلبِ العملِ في الخارِج وفي البلادِ الصناعيّة، فيخسـرُ المجتمعُ أبناءَهُ ومالَهُ معاً. فقضيّةُ التّربيةِ والتّعليم ليستْ قضيّةَ محوٍ للأميّة، ولا نشرٍ للنُّورِ بدلَ الجهلِ فقط، ولا تحريرٍ للعقلِ مِنَ النّقلِ وكفى. إنّها بالأساس الرّبط العمليّ والمتجدّد بينَ العلمِ والمجتمع، وإيجاد فُرَص التكيّفاتِ الأكبر والأعمق، وشروطها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والروحيّة(27).

   المواءَمة بين التّعليمِ وحاجاتِ العمل

  أمّا في الدّول الصناعيّة المتقدِّمة، فإنّ اقتصاداتها هي أكثرُ تنوُّعاً وأكثرُ مرونةً، وهِيَ أيضاً أقلّ انزعاجاً - نسبيّاً - حولَ الملاءَمة بين احتياجاتِها والقوى العامِلة، ويُعْزى ذلِكَ جزئيّاً إلى أنّ أسواقَ العملِ فيها تَعكِسُ إلى حدٍّ كبير هذهِ الاحتياجات؛ بَلْ وأكثر مِنْ ذلِكَ فهناكَ مرونةٌ وقابليّة أكبر للانتقالِ والتّحويل في قوّتِها العامِلة. كذلِكَ فإنّ النُّظُمَ التَّعليميّة في هذهِ الدُّوَل تعملُ على تطويرِ ذاتِها ورفعِ كفاءَتِها، وهي الآن أكثرُ انتباهاً وتيقّظاً عن ذِي قبل في مُلاحظةِ التغيُّراتِ والتطوّراتِ الّتي تنشأُ في نمطِ العمل وأنواع العمل الجديدة الّتي تدعو إلى تأهيلٍ وإعدادٍ تربويّ يختلفُ عمّا تقومُ بهِ حاليّاً. وفي مُقدِّمةِ ما تقومُ بهِ هذهِ النُّظُم التَّعليميّة، وتهتمُّ بهِ، لتقليلِ مُشكلةِ المواءَمة بين التّعليمِ وحاجاتِ العمل: التّركيز على إعدادِ أفرادٍ يتوافَرُ لديهم كفايةُ التّعليمِ والتّدريب، والقُدرة على الملاءَمةِ المستمرّة، والدّافعيّة العالية لاستمرارِ التعلّم والنموّ(28).

   فهم يرونَ أنّ التعليمَ ينبغي أن يؤدِّيَ إلى نجاحٍ اقتصاديّ(29). وفوقَ هذا، فإنّ الأنظمةَ التَّعليميّة في هذهِ الدُّولِ قدِ ابتدعت عَلاقةً وثيقةً جِدّاً بينَ العملِ والدِّراسة(30). وهذا ما يجعلُ الطّالِبَ يُفَضِّلُ التّعليمَ المهنيّ – مثلاً- على غيرهِ من المجالاتِ التَّعليميّة المغايرة، أو أنهُ رُبّما يتأثّر أثناء عمليّة الاختيار بالأشياءِ الّتي يرى أنّ لها أعظمَ الأثرِ بالنسبةِ لمستقبلهِ الاقتصاديّ والاجتماعيّ. ومِنْ هُنا فإنّ النظامَ التعليميَّ يقومُ بتعديلِ اتجاهاتِ الطلبةِ وتفضيلاتهم، ويجعلُها أكثرَ مُلاءَمةً مع حقيقةِ ما يطمحُون إليهِ مِنْ عمل، ومع حاجاتِ التّنمية القوميّة في الوقتِ نفسهِ(31)؛ وذلِكَ لأنّ ما يُفَضِّلُه سوقُ العمل يكونُ أكثرَ إقناعاً لهؤلاءِ الطّلبةِ وتأثيراً فيهم، بصَرْفِ النّظرِ عمّا يراهُ واضِعُوا الخُطَطِ على الورق، أو ما ينصحُ بهِ بعضُ المدرِّسينَ المثاليين(32). ومن هُنا، فإنّ "تطوّر الخبرة التقنية؛ هو العنصـرُ الحاسِم في الديناميكيّة الجديدة الّتي تميِّز التّربية الحديثة. وهو العنصرُ الحاسِم أيضاً في نشوءِ المدرسةِ كمؤسسةٍ هدفُها إعدادُ الأجيالِ الجديدة لدخُولِ الحياةِ الاجتماعيّة والعمليّة. وهو لا يزالُ أيضاً العنصـرَ الحاسِم في التّجديداتِ الّتي تطرأُ على المنظُومةِ التَّعليميّة الرّاهِنة، وتدفعُ بالمربّينَ إلى تطويرِ سبُلِ عملِهم ووسائِله"(33). إذاً، فهناكَ في الدّولِ الصناعيّة المتقدِّمة تخطيطٌ استراتيجيّ رُؤيويّ واضِح في المجالِ التَّعليميّ، وهُناكَ تركيزٌ عمليّ واعٍ لآلياتِ العملِ والتنفيذ، فضلاً عن وجُودِ نِظامٍ للأولوياتِ دقيق!

   الإنسان في العالم الثالث والعالم المتقدِّم

   مِنَ السُخريةِ أنْ نقولَ ها هُنا إنّهُ "لَمْ يَعُدْ هناكَ داعٍ لصرفِ الملايين على أفلامِ الرُّعْب من أجلِ إصابةِ النّاسِ بالخوف، فواقِعُنا أصبحَ أكثرَ رُعْباً من جميعِ الأفلام"! ورُبّما سَمِعَ العديدُ مِنّا تلك الرِّسالة الطّريفة التي بعثها ساخِراً إلى أهلهِ مُغْتَرِبٌ إلى خارج الوطن، وقد كتبَ فيها: انتهى الزّمنُ الّذي كان فيهِ أهلُنا يخافُون علينا في الغُرْبة، وأصبحْنا نحنُ في غُرْبتِنا نخافُ عليهم في الوَطَن! فـ"الرُّعْبُ الحقيقيُّ هُوَ أنْ يخافَ المواطِنُ حقّاً مِنَ الوَطَن"! لأنّهُ رُبّما لا يجدُ فيهِ أبسطَ حقُوقهِ الإنسانيّة. يُقال إنّ أمريكيّاً سألَ رَجُلاً عربيّاً: ما هِيَ أحلامُكَ؟ فأجابَ العربيُّ: وظيفة، وبيت، وزوجة، وسيّارة.. فأجابَهُ الرّجلُ الأمريكي: أنا سألتُكَ عَنْ أحلامِكَ، وليسَ عَنْ حقُوقِكَ! فقد نَسِيَ المواطِنُ الشرقيُّ حقوقَهُ المشـرُوعة الّتي أصبحتْ في مخيالهِ شيئاً قريباً من نوباتِ الأحلام الورديّة! فأنتَ أيّها الشـرقيّ "حينَ تُنْفِقُ معاشَكَ بكامِله مِنْ أجلِ الطّعامِ ومكانٍ للنّوْمِ فقط، في هذهِ الحالةِ لا يُمكن اعتبارُ العملِ فرصةً للتطوُّر الاجتماعيّ، ولكن مجرّد وسيلةٍ للبقاءِ على قيدِ الحياة. في الحياةِ الحقيقيّة هذا يُسَمَّى عبوديّة"!.

   وإذا أردتَّ شاهِداً واقعيّاً لمعرفةِ قيمةِ الإنسان عليكَ أنْ تقارِن بين عامِل النظافةِ اليابانيّ وعامِل النظافةِ العربيّ، ففي اليابان يُسَمّى (مهندس صِحّة)، وراتبه يُعادِل راتبَ وزير، ويحترمهُ كُلّ الشعب، ومكانتهُ الاجتماعيّة عالية، وهم يَمْلِكُون في كُلِّ منطقةٍ مطاعِمَ راقية جدّاً خاصّة بهم، حيثُ تُعَدُّ مِنْ أرقى المطاعِم وأفضلِها في اليابان، وفّرَتْها الحكومةُ لهم، هذا، وفي اليابان أيضاً قد يُسْجَنُ المرءُ لمدّة تصلُ إلى خمسِ سنوات في حالٍ سَخِرَ أو استهزأَ بشخصٍ من ذوي الاحتياجاتِ الخاصّة، مهما كانتْ طبقتُهُ في المجتمع. هذا القانون الصّارِم جعلَ اليابان مِنْ أكثرِ البُلدانِ حمايةً لحقُوقِ المصابينَ بالإعاقاتِ على مُستوى العالَم!

   أمّا العربيّ فيُسَمَّى (زَبَّالاً)!، وراتبهُ لا يُغْني من جُوع، ولا يَلْقى نظرةَ احترام من لَدُنْ عامّةِ المجتمع، ومكانتهُ الاجتماعيّة بائِسة يائِسة جدّاً، وهم يفترِشُون الشّوارِع والأرصفة وقت الغداء، وتتمّ مُعاملتهم معاملةً جدّ قاسية، وكأنّهُم ليسُوا بشـراً، ورواتبهم الشهريّة لا تساوِي حقيبةَ زوجة وزير! وتحضرُني هنا مقولة رائعة لرجب طيّب أردوغان بعد استهزاءٍ من أحدِ مُعارضيه قائِلاً له: أنّك لا تستحقّ لقبَ زبّال! فقال: يُشـَرِّفنِي أنْ أعملَ زبّالاً لوطني! فنحنُ منذ عشـرِ سنواتٍ نُنَظِّفُ تركيا مِنْ وساختِكُم، ولَمْ ننتهِ منها لغايةِ اليوم! فهُنا يرفع أردوغان من قيمةِ الزبّال، إذا كان يعملُ مِنْ أجلِ وطنِه.

    ومِنْ مواقِفِ (أردوغان) الإنسانيّة المثيرةِ للإعجابِ، رفعُ ديوانِ شِعْرٍ مِنَ الأسواق، يحملُ عنوان (بيان أردوغان)؛ لاحتوائِه على قصائِدَ تبالِغُ في مَدْحه، وبحسبِ (ترك برس)، فإن (حسين أيدن)، محامي الرئيس التركي، أرسلَ بلاغاً إلى دار النشـرِ الّتي نشـرتِ الدِّيوان، برفعِه مِنَ الأسواق؛ لكونِه يحتوي على قصائِدَ شِعْريّة تبالِغُ في مَدْحِ أردوغان، وتُضْفِي عليه قدسيّةً تميِّزُه عنِ البشر". وجاءَ في البلاغِ الّذي أُرْسِلَ من قِبَلِ المحامي: "إنّ السيِّد الرئيس أعلنَ في مُناسباتٍ مختلفةٍ، بعيداً عنِ المناصب الّتي شَغَلَها، أنّه عبارةٌ عن إنسانٍ، وأنه في نهايةِ المطاف عَبْدٌ للخالِق. وهو على مدى السّنواتِ الّتي أمضاها في السِّياسة نالَ تقديرَ الشّعْبِ وإعجابَهُ، إلاّ أنّه رفضَ طَوَال تلكَ السَّنواتِ المغالاة في مَدْحه. كما أنّه لم يتهاوَنْ مع التّشبيهاتِ المبالَغ فيها؛ لكونها لا تتناسَبُ ولا تتوافق مع القِيَمِ الّتي يؤمنُ بها. ومثلُ هذه القصائد تُزْعِجُ السيِّدَ الرئيس، وتحزُّ في نفسِه بدلاً من إسعادِه"! وفي هذا تأكيدٌ على إنسانيّة الإنسان، وإنّهُ سيظلُّ إنساناً حتّى وإن كان رئيساً أو أجيراً، فهذهِ المواقِف المشهُودة من رئيس هذهِ الدولة الاقتصاديّة الصّاعِدة سينمي حبّ الوطنِ في قلوبِ الملايين من أبنائِه، وإذا حوّلْنا أنظارَنا إلى غيرِها مِنَ الدّول الشرقيّة وجدْنا الصُورةَ تختلِفُ تماماً، ففي "مُجتمعاتِنا كُلُّ شيءٍ ازداد سِعْرُه إلاّ الإنسانَ، الّذي لم يَعُدْ لهُ أيّ قيمة"! وفي هذا المعنى قال الشّاعِر محمود درويش: بالأمسِ كُنّا نفتقدُ الحريّة. اليوم نفتقدُ المحبّة، أنا خائِفٌ مِنَ الغد؛ لأنّنا سنفتقِدُ الإنسانيّة! وأكّد (تشـي جيفارا) هذهِ الفكرةَ؛ بقولهِ: "إذا فرضتَ على الإنسانِ ظرُوفاً غيرَ إنسانيّة ولَمْ يتمرّدْ؛ سيفقدُ إنسانيّتَهُ شيئاً فشيئاً!". ومن هُنا، فـ"إنّ الاقتصادَ - حسب تعبيرِ "مالك بن نبـي" - ليسَ قضيةَ بنك، وتشييد مصانِع فَحَسبْ، بَلْ هُوَ قبلَ ذلِكَ تشييدُ الإنسان، وإنشاء سلُوكهِ الجديد أمامَ كُلِّ المشكلات"! ولكن الإنسانَ عندنا هو آخرُ شيءٍ نفكِّرُ فيه، فقيمةُ الإنسانِ عندنا في مالهِ الّذي في حَوْزته، أو في مَنْصِبهِ الّذي وصلَ إليهِ لا عن استحقاقٍ وجدارة، وإنْ كان عديم العِلْم والمعرفة. هذهِ هي الثقافة الرّائجة في بُلداننا: الأغنياء مُتْخَمُون ومُحْترَمُون، والفُقَراء جَوْعى ومقمُوعون! وكُلّنا يعلمُ والعهدةُ لـ(وِل ديورانت) أنّهُ "لا يمكن احتلال حضارةٍ عظيمة من قبلِ قُوّةٍ خارجيّة، إذا لَمْ تُدَمِّرْ نفسَها مِنَ الدّاخِل"، والشّجرةُ تبقى مئاتِ السِّنين، إنْ لم تكن مَنْخُورةً في داخلِها! فإذا دمّرْنا الإنسان، فما الجدوى من تشييدِ العُمْرَان! وإذا أردنا أنْ نَعْقِدَ مُقارنةً بيننا وبين سنغافورة الحديثة، وجدنا أنّ أهمَّ مشـرُوعٍ بدأَ بهِ مُؤسِّسُها ورئيسُ وزرائِها الأسبق (لي كوان يو)، هُوَ بناءُ الإنسان، ودَعْنا نستمعْ إليهِ، وهو يَصِفُ لنا حالةَ (سنغافورة) إبّان عصـرِ الاستبدادِ والفسادِ الإداريّ: إلى أيِّ درجةٍ كانتْ سنغافورة الستينيّات قاسِية: فَقْر ومَرَض، وفَسَاد وجَرِيمة، بِيعَتْ مناصِبُ الدّولة لِمَنْ يَدْفَع، خَطَفَ الشـرطيُّون الصّغيراتِ لدعارةِ الأجانِب، وقاسَمُوا اللصُوصَ والمومساتِ فيما يجمعُون. احتكرَ قادةُ الدِّفاعِ الأراضيَ والأَرُزَّ، وباعَ القُضاةُ أحكامَهُمْ. قالَ الجميعُ: الإصلاحُ مُستحيل، لكنّنِي التفَتُّ إلى المعلِّمينَ، وكانُوا في بُؤْسٍ وازدراء، ومنحْتُهم أعلى الأجُور، وقُلْتُ لَهُمْ: أنا أَبْنِي لَكُمْ أجهزةَ الدّولة، وأنتُمْ تبنونَ لِيَ الإنسان! فكان المعلِّم هو الأساسُ المتين الّذي قامُ عليهِ بناءُ الإنسان في "سنغافورة" الحديثة(34). لذا، فإن (لي كوان يو) لم يألُ جُهداً في رفعِ قيمةِ المعلِّم ماديّاً ومعنويّاً؛ لأنه رأى أنّ فيهِ قيمةَ العِلْم، وبالعِلْمِ تقومُ الحضارة، وتترسّخُ المدنيّة، ويتعالى العُمْران.

  وإذا فقد العِلْمُ قيمتَهُ يفقدُ الإنسانُ كذلك القيمةَ المانحةَ له لعِلْمه؛ لأنّ العِلْمَ هو الّذي يُعطي القيمةَ للإنسان، والعكسُ صحيح. وهذا لا يعني أنّ الإنسانَ غيرَ المتعلِّم عديمُ القيمة، ولكن على الأقلّ فإنّهما لا يستويان، فإذا جُرِّدَ العِلْمِ عن القيمة سيأتي يومٌ يُجَرَّد فيهِ الإنسانُ عن قيمتهِ الّتي يزدهي بها، ومكانته الّتي يتباهى دُونها، ومِنْ ثَمَّ سيَفقِدُ شيئاً فشيئاً كُلَّ إحساسٍ بالانتماءِ إلى أرضِ آبائهِ ووطنِ أجدادهِ، الّذي أصبحَ مكاناً لترفِ غيرهِ من المواطنين، الّذين لا يمنحُونه كذلِكَ وزناً ولا قيمة. فنزعُ القيمةِ عن العِلْم يجعلُ العَالِمَ يعيشُ حالةً من الوَهْمِ واللانتماء، فتتضعضعُ ثقته بهُويته الواهية، الّتي طالما تشدّقَ بها وناضلَ في سبيلِ توطينها. وعلى الرّغم من تاريخنا الموغل في الزّمان، والمترامي في المكان، وشمُوخ أسلافِنا الّذين أنارُوا تاريخَنا بأمجادِهم العريقة، ولكن علينا أنْ لا ننسـى ما قالهُ (مالك بن نبـي) أنّه لا يمكن أن نشفيَ أمراض المجتمع بذكرِ أمجادِ ماضيه! وأن كُلَّ محاولةٍ - كما قال الغزالي - لاقتحامِ المستقبل بفكرِ عصُورِ الانحطاط لن تزيدَنا إلاّ خبالاً! وفي هذا المعنى قال (مورغان فريمان): لَنْ تحصُلَ على غدٍ أفضل، ما دُمْتَ تفكِّر بالأمس! وما أجمل تلك الحكمة التي تقول: لن تستطيع تبديل الماضي، لذلِك رَكِّز على صُنعِ مستقبلٍ عظيم!(35). وقال (جويل باركر)  Joel Parker - 1816 – 1888 (36): الفخرُ بالماضِي لا يضمنُ لكَ أنْ تكون شيئاً بالمستقبل؛ لأنّ قوانين اللّعبة تتغيَّرُ باستمرار"!.

   فالعالَمُ في تطوّرٍ مستمر، "وكلُّ شيءٍ في جَرَيانٍ دائِم"، وفي هذا قال الفيلسوف اليونانيّ (هيراقليطس) (535- 475 ق.م): "لا تستطيعُ أنْ تنزلَ في النّهْرِ نفسِهِ مَرَّتَيْنِ"، ويُضيفُ (فلوطرخس) التّفسيرَ الآتي: "لأنّ مياهاً جديدةً تتدفَّقُ فيهِ"(37)، فالنّهْرُ في مسيرٍ وجَرَيانٍ دائِمٍ لا يتوقّف، فالنّهْرُ بمعنى الحياة، والحياةُ دائبةٌ دائِمة، أي: في حالةِ ديمُومةٍ واستمراريّة لا تتوقّف. فهذهِ الذرّات الّتي تضـرِبُ قَدَمَيْكَ لن تعودُ ثانيةً، إنّها تذهبُ إلى حيِّزٍ آخَر، فهناكَ حدوثٌ وتجدُّد دائمين!

  فالفيلسُوف (هيراقليطس) يرى: أنَّ كُلَّ شيءٍ يتحوّل، والكونُ في حالةِ سيولةٍ مُتغيِّرة غير ثابتةٍ أبداً، وإنَّ أحدَنا لا يُمكن أنْ يَنزِلَ النّهرَ نفسَهُ مرّتيْنِ، لأنَّ مياهاً جديدةً ستَجْري من تحتِه. وهيراقليطس كان يعتقِدُ أنَّ كُلَّ الأشياءِ في الطبيعةِ تُغيِّر شكلَها باستمرار. "كلُّ شيءٍ يجري. كلُّ شيءٍ مُتحرِّك، لذلِكَ "لا نستطيعُ أنْ نَنزِلَ مرّتينِ إلى النّهرِ نفسِه. ذاك أنّنِي عندنا أستحمُّ للمرّةِ الثانية يكونُ النّهرُ قَدْ تغيّر، وأنا أيضاً". كذلِكَ ركّزَ (هيراقليطس) على التّناقُضاتِ المتلازِمة في العالَم. إذا لَمْ نُصِبْ أبداً بالمرض، لا نعرِفُ معنى الصِحّة. وإذا لَمْ نَكُنْ عانينا قطّ مِنَ الجوع، لا نعرِفُ فرحَ امتلاكِ الطّعام. ولو لَمْ تكنِ الحربُ، لما عرفْنا القيمةَ الحقيقيّة للسّلام. ولو لَمْ يوجدِ الشِّتاءُ، لما استطعْنا أنْ نُشارِكَ ونبتهِجَ بتفتّحِ الرّبيع(38)، ولو لَمْ تذُق مرارةَ الجهل لم تعرفْ طعمَ العِلْم وحلاوته، ولَوْ لَمْ تقعْ في الفوضى، لم تعرِفْ قيمةَ النِّظام والتّنظيم والتّرتيب.

   ومن هنا تتعاظمُ حاجتُنا إلى الإعلانِ عن برامِجَ إصلاحيّة حديثة في التّعليم، ولكنّنا لن نصِلَ إلى أهدافِنا ما لَمْ نتحرَّر من قبضةِ الماضي الّتي تتمثّلُ في أشكالِ الإدارةِ القديمة، والمناهِج وطُرق التدريس العتيقة، الّتي عفا عليها الزّمن وشَرِب، تلك الطّرُق الّتي ما زالتْ تحكمُ قبضتَها على خناقِ تعليمِنا الحاليّ على الرّغمِ مِنَ المناهِج الحديثة المستوردة هُنا أو هُناك، تلك الّتي يتباهى القائِمُون على عمليّة التّعليم استبدالها بغيرها مِنَ المناهِج بين آونةٍ وأُخرى، دُون محاولة تجريبها وامتحان صحّتها ومعرفة صلاحيتها قبل تدويلِها وتوطينها وتوظيفها، وهي "بدلاً مِنْ إيجادِ سياسةٍ ونظامٍ تعليميّ يرتبطُ بواقعِها وأهدافِها وآمالِها، تجدُها ترضى لنفسِها بالنَّظريّاتِ التَّنظيميّة والمبادئ التربويّة، والمحتويات والأشكال الجاهزة والمعايير المستوردة من دُوَلٍ أُخرى"(39)، وتحضـرني هنا مقولة رائعة لألبرت أنشتاين؛ وهي: "مِنَ السذاجةِ أن تعملَ الشيءَ نفسَهُ بالطريقةِ نفسِها مرّةً بعدَ أُخرى ثمَّ تتوقّع نتائِجَ مُختلِفة"(40). وقال أيضاً: "إذا أحسَّ أحدٌ أنّهُ لم يُخطئ أبداً في حياتهِ، فهذا يعني أنّهُ لَمْ يُجَرِّب أيّ جديدٍ فيها!"(41).

     ومن هنا وجبَ "علينا أنْ نتجاوزَ الاستسلامَ لتقاليدَ منهجيّة قادِمة مِنْ عصُورٍ عتيقة هي غير عصرنا، مُحمّلة بموضوعاتٍ ومُفرداتٍ لم تعد تصلُح للقرنِ الجديد، واستبدالِها بمناهِج أكثر مرونةً، تملكُ القُدرةَ على استضافةِ المعارِف الحديثة واستيعابها، وتمكّن المتعاملينَ معها على تجاوُز العُزلة، والتغرُّب، والانقطاع، إلى تنفيذِ حوارٍ فعّال مع تحديّاتِ العصر وهمُومهِ المعرفيّة والثقافيّة، والإعانة بالتالي على صياغةِ المشرُوع الحضاريّ المرتجى وبلورته(42).

   إنّ هذهِ فُرصةٌ جيِّدة لتحقيقِ تكامُلٍ أكثر مع المعرفةِ المعاصِرة والحياة، ولجعلِ علُومِ الشريعةِ تغادِر رفُوف المكتبات العتيقة، وتُنْفَض عنها الغبار، تتحرّك وتنبضُ وتتنفّس في قلبِ العصر، لا يأسرها زمنٌ أو مكان على مُتابعةِ المتغيرات الحاصلة في عالِم اليوم(43). ولا بُدّ هُنا مِنَ الإشارةِ إلى تجرِبة عددٍ مِنَ الجامعاتِ الإسلاميّة الّتي بدأتْ منذ عقُود في تنفيذ مناهِج أكثر حداثة في التعامُل مع علُومِ الشـريعةِ وتدريسِها، فكسـرَتْ طَوْقَ العُزْلة، والتحمتْ بمطالِب العصـر، وقدرت على توظيفِ معارفهِ وتقنياتهِ لتقريبِ أهدافِها، وحقّقتِ الوفاق الضّائِع بينَ المعرفتينِ الإسلاميّة والإنسانيّة(44)؛ ولتحقيق هذا الغرضِ ينبغي على التدريسيِّين "الاحتكاك ببيئاتٍ معرفيّة مُتنوِّعة؛ لأنّ هذا سيمنحهُم، والطّلبة كذلك، خبراتٍ أكثر تنوّعاً وخِصْباً على مُستوى الأداءِ التدريسيّ من جهة، وإغناءِ التخصُّص وتعميقهِ مِنْ جهةٍ أُخرى، ويُحقِّق حِواراً فعّالاً بينَ علُومِ الشّريعةِ والعلُومِ الإنسانيّة؛ لتحقيقِ التحامٍ أكثر بمطالِب العصـر ومُقتضياتهِ، واستجابةً أشدّ فاعليّة وتنوّعاً وخِصْباً لمشاكلهِ وتحدّياتهِ(45).

    ومن هنا، كان بإمكاننا - في العالم العربي والإسلاميّ - أنْ نأخذ أفضلَ ما وصلَ إليهِ التعليمُ الغربيّ، بدون أن نتخلّى عن هُويتنا، ودون أنْ نأخُذَ معهُ احتفالاتِ الـ"Christmas" يوم الميلاد، و"Valentine's Day" يوم الحُبّ، و"Thanksgiving Day" يوم الشكر، و"Halloween" "الهالووين أو يوم القديسين"، وفرض الاختلاط اللامشـروع، وكذلِكَ خرُوج البنات بفساتين قصيرة، وغيرها من عاداتِ الغرب وقيمهِ الّتي تدلُّ على هُويتهِ وثقافته! فالطالِبُ في بعضِ المدارِس الأهليّة، الّتي تدرّس بمرجعيّاتٍ غربيّة، قد يتخرّجُ وهو منبتُّ الصِّلةِ عن دينهِ ولُغته وهُويته. يتخرّجُ وهو لا يعرفُ عَنْ لُغتهِ شيئاً، ولا يعرفُ عن تاريخهِ إلاّ الزّيفَ والتّحريف والضّلال، كما لا يعرفُ دينَهُ معرفةً سليمةً صحيحة، وتتهاوى أخلاقُه نتيجة انسياقهِ وراء تقليعاتِ الغربِ الوافِدة، والحكومةُ تتفرّج ولا تنبسُ ببنت شفة! وفي هذا الصدد أكّد الدكتور عماد الدين خليل ذلِكَ؛ بقولهِ: على مدى أربعينَ عاماً، وأنا أُمارِسُ تدريسَ عددٍ مِنَ العلُومِ الإنسانيّة، في العديدِ مِنَ الجامعات: التّاريخ وفلسفته، الحضارة، مناهِج البحث، التّربية، الاجتماع، الأدب، الاقتصاد، وغيرها، فكنتُ ألحظُ الفراغ المحزن في عقلِ الطّالِب الجامعيّ إزاء العلُومِ الإسلاميّة. إنّهم وهُمْ يدلفون إلى مرحلةِ الدكتوراه لا يُحْسِنون حتّى قراءة الآياتِ القُرآنية، ولا يعرِفون شيئاً عن مُصطلحِ الحديث، أو العقيدة، أو أصُول الفقه، ناهيكَ عن علُومِ القُرآنِ الكريم(46). هذا، وقد زاد الأمرُ سوءاً أنّ معاهِدَنا وجامعاتِنا قَبِلتِ المعرفة الإنسانيّة على عَوَاهِنِها، كما تشكّلتْ في ديارِ الغرب، بمنطلقاتِها، وفلسفتها، وأهدافِها، ومُعطياتِها، وتأسيساتِها، ونتائجها.. تقبّلٌ كامِل لعلمِ الاجتماعِ الغربيّ، ولعلمِ النّفسِ الغربيّ، ولعلُومِ الإدارةِ والاقتصادِ الغربيّة، وللقانون والسِّياسة الغربيين، وللآدابِ والفنُون الغربيّة، وللتاريخ وفلسفتهِ، والدراسات الحضاريّة وفق أنموذجها الغربيّ(47).

  فهناكَ إذاً "عمليّةُ تنزيلٍ للقوالِب المعرفيّة الجاهزة، وباستسلامٍ تام لمعطياتها، ليسَ فقط في معاهدِنا وجامعاتِنا، بَلْ وحتّى في مدارسِنا الابتدائيّة ومتوسطاتنا وإعدادياتِنا. وبما أنّ تلك المعرفة كانت تنبثقُ - في الأعمِّ الأغلب - عن رُؤيةٍ عَلمانيّة، وأحياناً، بَلْ وفي كثيرٍ مِنَ الأحيان، ماديّة ذرائعيّة، تتناقضُ ابتداءً مع تأسيساتِ المعرفةِ الإسلاميّة المبنيّة على الإيمانِ بالغيب، وعلى منظُومةِ القِيم الأخلاقيّة. فلنا أنْ نتصوّرَ، وقد عَزَلَتْ هذهِ المعرفةُ عن مُعادلها الإسلاميّ، كيفَ سيكُون الحصادُ مريراً، وكيفَ سيتخرجُ الطلبة وقد فكّ ارتباطُهم بكلِّ ما هُو إسلاميّ أصيل"(48). فالعلمُ الصّحيح المبرهَن عليه ليس له هُوية، ولكنّ المعرفةَ الإنسانيّة يُمكن أنْ تكون مُسيّسة مُؤدلجة وغير محايدة، بحيث يُمكن للقائمين على المنابر التَّعليميّة من خلال المعرفة المُضلِّلة تغيير الأفكارِ وتنميط التوجّهات وتدجين السلوكيّات.

  وفي هذا السِّياق أكّد الدكتور برهان غليون؛ بقولِه: "إنّ تاريخَ المدرسةِ العربيّة الحديثة، منذ قيامِها على يدِ المبشّرين الأوائِل يَعكِسُ الوظيفةَ الخاصّةَ الّتي أُنيطتْ بها، فهِيَ تَهدُفُ، على صعيدِ التّعليمِ أو نقلِ القِيَم، انتزاع فئةِ المتعلِّمينَ من بيئتهم، وربطهم بنَسْغٍ فكريّ وحضاريّ آخَر. أي باختصار عكس هدف التّربية الّذي هو تحقيقُ اندماجِ الفردِ بمجتمعه"(49). فـ"المدرسةَ الّتي كانت في نظرِ جماعةِ النّهضةِ فُرْصةَ دفعِ العربِ والمسلمينَ إلى التحرُّرِ العقليّ جاءَتْ على عكسِ ذلِكَ كآلةِ تفريخٍ للاستعبادِ العقليّ والتبعيّة الفكريَة"(50). ويظهرُ هذا "الاستلاب الثقافيّ أساساً في طبيعةِ المعرفةِ الّتي تنتجُها هذهِ النُّخبة، تلك المعرفة الّتي تتكوّن جوهريّاً كمعرفةٍ أيديولوجيّة لا كمعرفةٍ علميّة. وليسَ ذلِكَ بسببِ الشّكلِ الّذي تظهرُ فيهِ. فهِيَ غالباً ما تتغطّى بالمظهرِ العلميّ، ولكن أساساً في طبيعةِ المشكلاتِ الّتي تطرحُها، وفي طريقةِ طرحِها. إنّها تطرحُ عادةً مُشكلاتِ العالَم التّابِع؛ من خلالِ إشكاليّاتِ المجتمِع الغربيّ، وتجيبُ في النّهايةِ على مسائِلَ ليستْ مطرُوحةً على المجتمعِ المحليّ التّابِع، وتختلِقُ مُشكلاتٍ لا أساسَ لها، أو تجيبُ على هذهِ المشكلات من أُفقِ تمثيلِ الشّرقِ بالغرب، فتظلُّ دائِماً على هامشِ الحقيقة، ليستْ كاذبة ولا صادِقة، ولكن خارِجة عنِ الموضُوع. أي لا عَلاقةَ لها بمسيرةِ الواقِع، ولا أثرَ لها في حركةِ المجتمع"(51). فالنتاجات المعرفيّة الّتي تكون بمنأى عن همُومِنا الحضاريّة، وتتناولُ مشكلاتٍ تقعُ خارِج تخومِنا الثقافيّة، هي نتاجاتٌ عقيمة عاقرة، لا تحقِّق نهضة ولا تقيم حضارة.

    وهذا التوجّه الّذي تبنّاه (غليون) يُؤكّد "رُؤية العالَم بعينٍ عوراء، بَلْ بعيُونِ الآخرين، دُون ضبطِ الرُؤية، ولو بالحدُودِ الدُنيا مِنَ المعرفةِ الإسلاميّة. ولنا أنْ نتصوّرَ كيفَ سيكونُ هؤلاءِ الخرِّيجُون أرقاماً هجينة مُضافة إلى السّاحةِ الثقافيّة الّتي تعجُّ بأنصافِ المتعلِّمينَ، وكيفَ أنّ تعامُلَهم مع مطالِب مجتمعاتِهم وتحدّياتِها، سيزيدُها فوضى واضطراباً، وهُم في نهايةِ الأمرِ سيكونُون مِمّنْ ينطبِقُ عليهم مضمُون الحديث الشـّريف عن ذلِكَ المسافِر المُنْبَتّ الجذور، الّذي لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى!(52). وهو ما يُقال للمُفْرِطِ في طلَبِ الشّيءِ والمُبالِغ فيه حتّى رُبّما يُفَوِّتُه على نفسِهِ.

   فمثلُ هذهِ الدِّراساتِ بقَدْرِ ما هِيَ معزُولة ومُنفصِلة عنِ المشكِلات الاجتماعيّة والواقِع الاقتصاديّ، وبقَدْرِ ما هِيَ انعكاسٌ لوهمِ التّثقيفِ الذاتيّ، تتحوّل بالضـّرورةِ إلى حِفْظٍ لمعلُوماتٍ ومُراكمتِها في ميادينَ شتّى غير قادِرة أبداً على تكوينِ مَلَكَةِ التّفكيرِ والتأمُّلِ والفهم(53). فالجهازُ التَّعليميّ يفسِّرُ إلى حدٍّ كبير لماذا يظهرُ الإنتاج الفكريّ هنا كإنتاجٍ أيديولوجيّ بالدَّرجةِ الأُولى، كإنتاجٍ للأيديولوجيّة وليسَ للبحثِ العلميّ"(54). إنّ هدفَ السِّياسةِ التَّعليميّة هُنا هو إبعادُ العقلِ عنِ طرحِ المشكلاتِ الّتي يُعانيها المجتمع، واستبدالِها بمشكلاتٍ جانبيّة أيديولوجيّة أو سياسيّة تخدُمُ التّفكيك المتزايد للحمةِ الاجتماعيّة(55). وطالما بقيَ العِلْمُ والتّعليمُ أداةً لضربِ التكيّفِ الاجتماعيّ، وآليةً مِنْ آليّاتِ السّيطرةِ السياسيّةِ بالدَّرجةِ الأُولى، فلنْ يكونَ هُناكَ أيّ مجالٍ لنموِّ إنتاجِ المعارِف بشَكْلٍ مُستقلّ عنِ الأيديولوجيّة، والدِّعايةِ، والتّضليلِ الاجتماعيّ، فإنّ العِلْمَ سيكونُ أساسَ الخرابِ العقليّ والجهل(56). وإذا كانتِ الوثنيةُ في نظرِ الإسلامِ جاهليّةٌ، فإنّ الجهلَ في حقيقتهِ وثنيّةٌ؛ لأنّهُ لا يغرسُ أفكاراً بَلْ يُنَصِّبُ أصناماً!(57)، وهو داءٌ قاتِل يصيبُ المجتمعاتِ الإنسانيّة في مقتل.

    ونحنُ في تعليمِنا - تأسيساً على ما سبقَ بيانه - بحاجةٍ إلى إيجادِ نوعٍ مِنَ التّفاعُل البنّاء بينَ هُويّتِنا الحضاريّة وبينَ المناهِج الدراسيّة، فالتقدّم التَّعليميّ لا يتحقّق بإحداثِ القطيعةِ بيننا وبين تراثنا الحضاريّ الخِصْب المعطاء، وإنّما بتأكيدِ المورُوث وتفعيلِه، ومن ثَمَّ الاستفادة من خبراتِ العالَم المتقدِّم، لذا وجبَ على واضعي المناهِج أنْ يأخذوا هذهِ القضيّة الدّقيقة بنظرِ الاعتبار، أي أن تكون مناهِجُنا معبِّرة عن حاجاتِ عصرنا الّذي نعيشُ فيه، دون أن تتخلّى عن عُنصر الخصوصيّة، ولا نعني بــ(الخصوصيّة) الانغلاق المعرفيّ، وإنّما هِيَ العلامةُ الّتي تؤكِّدُ هُويّة المجتمع. فالتَّجارِب الإنسانيّة هي موروثٌ إنسانيّ، ولا مشاحّة مِنْ النقلِ الحضاريّ الّذي لا يتصادَمُ مع توجّهاتِنا المعرفيّة وانتماءاتِنا الحضاريّة. ومن هنا، فإنّ "العمليّةَ الثقافيّةَ الأساسيّة في كُلِّ مجتمعٍ هِيَ نقلُ المعارِف، عبر التّاريخ، ومن جيلٍ إلى جيل، وعبرَ المجتمع من فئةٍ إلى أُخرى، ومِنَ القِمّة إلى القاعِدة والعكس. بل إنّ أساسَ العقلِ ذاته هو النّقل، أي بنية توصيل المعارِف ونشرِها وتعميمها، بَلْ إنّ أساسَ الفكرِ الحديث ذاته؛ هو النّقلُ أيضاً، فكلُّ عمليّةٍ معرفيّة تستندُ إلى هذا النّقل. ولكنّ المطلُوبَ وضع حدُود عمليّة النّقل، أي تحديد فلسفة التّعليم وسياساته وأهدافه، والأوساط والفِئات الّتي تستفيدُ منها، ثمّ مضمُون هذهِ العمليّة، أي كيفَ وماذا ننقلُ عنِ الغرب، وكيفَ وماذا ننقلُ عنِ الشرقِ ومِنَ التراث"(58). فالنّقلُ لا يكونُ من أجلِ النّقل فحسب، كما هو شائِعٌ ذائِع، وإنّما يجب أن يكون نقلاً معرفيّاً بنّاءً يُسهِم في إغناءِ رصيدِنا الحضاريّ وإثرائِه.

  ففي قضية المناهِج يجب أنْ نعرفَ ماذا نريدُ من وراء هذهِ المناهِج الّتي تُعْطَى للطّالِب، وما هِيَ الرؤيةُ الّتي نريدها؟ إذا كُنّا نريدُ للطّالِب أنْ يدخُلَ في الصِّناعة يجب أنْ نركِّزَ على القَضايا الصناعيّة، فهو لا يحتاج إلى كُلِّ هذه المواد الّتي تدخلُ ضِمْنَ الحَشْوِ الّذي لا فائدةَ منهُ ولا طائِلَ من ورائهِ. فهُناك - حقّاً - حشوٌ ضخم ونتائج محدُودة جدّاً. فنحن إذا أعطينا خمساً أو سِتاً مِنَ الموادّ بتركيزٍ عميق ونتائج عالية، أفضل مِنْ أن نُعْطِيَ (20) مادّة بتركيز ضعيف ونتائج محدُودة جدّاً. فنحنُ لا ندري ماذا نريد من هذا الطالب أنْ يُحَقِّقَ في حياته القادِمة(59). فنظامُ تعليمِنا يقومُ على الحِفْظِ والتّلقين وحشو المعلُومات الّتي يحفظها ثمّ ينساها بعد أشهرٍ قليلة، وقد أثبتتِ الدّراسات - الّتي تُعنى بقُوّة الذاكرة والاستيعاب -: أنّ هذه المعلُومات الّتي يدرسُها الطّالب لو اختُبر فيها بعد نهايةِ السنة الدِّراسية بشهرٍ واحِد، لا يبقى منها إلاّ (13%) فقط. بينما النِّظامُ التَّعليميّ في الغرب يقومُ على المنهجِ العقليّ، والبحث والتّجريب، ومنحهِ مفاتيح العلُوم الّتي بواسطتِها يستطيعُ الطّالبُ أنْ يتعلّم بنفسهِ. وإلى هذه الفكرة ذهب (مالكولم) حين قال: إنّ أساليبَ التَّعليم التقليديّة بقيتْ في المدارِس، كما هي طريقةُ الحفظِ الآلي، وأسلُوب حَشْو الأذهان. إنّ نظامَ الامتحان ليسَ سليماً لتقويمِ شخصيّةِ الطّالِب واستعداداتهِ الذهنيّة وقُدراتهِ على التّفكير المستقل والتأمّل والاستدلال(60). فالتَّعليمُ التقليديّ يقومُ على حَشْدِ المعلُومات في أذهانِ الطّلبة على مدارِ سنةٍ كامِلة، ثمّ مطُالبته بامتحانِ هذه المعلُومات الّتي حفظها عن ظهر قلب، ولم يفهم منها إلا النزر القليل. فالملحُوظ في مؤسّساتِنا التَّعليميّة هو "التّركيز في طُرُق التّعليمِ على الإلقاءِ والتّلقين من جانبِ المعلِّمينَ، وعلى الحِفْظِ والاستذكارِ، وإنهاكِ قُوَى الطّلبة بالاسترجاع مِنْ جانبِ المتعلِّمينَ. والكتابُ المدرسيُّ هو الوسيلة المفضّلة الأكثر شيُوعاً، أمّا الامتحاناتُ وطُرُق التقويم فهي تقليديّة في أغراضِها وأشكالِها ومحتوياتِها، وقد ترتّبَ عَنْ هذهِ الطُرُق استمرار شِقّة الانفصالِ بينَ التّعليمِ العام والتّعليم التقنيّ، وشعُور الطُلاّب الملتحقينَ بالتّعليمِ التقنيّ بتدني مُستوياتهم مُقارنةً مع زملائِهم مِنَ التّعليمِ العام، وتفشّي البطالة المقنّعة، وافتقاد أغلب الخريجينَ لملكةِ الاجتهادِ والإبداع". ومن هُنا فإنّ التّعليمَ العام يُعاني مِنْ أزمةٍ حقيقيّة، فلَمْ يَعُدْ هُناك مَنْ يُفَضِّلُ أنْ يُدْخِلَ أبناءَهُ فيهِ إلا نُدرة مِنَ النّاس مِنْ ذوي الدّخل المحدُود، وأصبحَ هناك تنافسٌ كبير بين المدارِس الأهليّة، لأنّ الآباء لا يريدُون أن يُدْخِلُوا أبناءَهم في مدارِس حكوميّة ليسَ فيها تعليم! وليس فيها إلا الحَشْو والحِفْظ والإرهاق في النِّهاية، وبعد ذلك يتخرّجُون، دون أن يكتسِبُوا عِلْماً أو ثقافةً، فهناكَ العشراتُ مِنَ الطّلبةِ مِمّنْ بعثُوا رسائِلَ على الإنترنت يقولُون فيها: عندما أدخلُونا هذهِ الكُليّات كانوا يعلمُون أنّنا سنخرُج بتخرُّجِنا إلى الشّارع دون عملٍ أو وظيفة؟ وقد وضع الدكتور طارق السويدان بصمتَهُ على واقعِنا المرير حينَ قال "الإنسان العاديّ قَدْ يُفَضِّل عدم إدخال ابنهِ في هذا التّعليم، ويُفضّل أنْ يعملَ مُنتجاً في الزّراعة، أو يفتح محلاً تجاريّاً، لأنّهُ يرى أنّ التّعليمَ في النهاية سيُؤدّي إلى راتبٍ قليل، ودخل محدُود"(61).

   وبعد كُلِّ ما سبقَ ذكرهُ من قَوْلٍ نؤكّد هنا أنّنا بحاجةٍ إلى فلسفةِ تعليمٍ مُتكامِلة، وفلسفةُ التعليمُ - عندنا - تقومُ على مجمُوعةٍ مِنَ المعلُومات نريدُ توصيلَها إلى الطّلبة، أمّا في أمريكا فإنّ فلسفةَ تعليمِ مادّةِ العلُوم - في السّادس الابتدائي - تقومُ على ثلاثةِ أُسسٍ رئيسة. الأساسُ الأوّل: هناك عاداتٌ للعقل، فالعقلُ له عاداتٌ معيّنة؛ منها: الإبداع والفضُول وغيرها. هذهِ العاداتُ هِيَ الّتي يجبُ أنْ نرسِّخها في أذهانِ الطّلبة، ليسَ فقط أنْ نقومَ بتوصيلِ معلُوماتٍ إليهم، وإنّما أنْ نثيرَ عندَهم رُوحَ الإبداع والفضُول. الأساس الثاني: المنهج العلميّ، وقضية التّحليل وقضية المقارنة، علاقة الوقت أو الزّمن بالمكانِ والعادة. والمسألة الثالثة: هي ما يسمُونها بـ(Critical Thinking)  التّفكير المنطقيّ، أي: كيف يُحلّل، كيف يُبَرْهِن، كيف يستدلُّ بالحجج المنطقيّة(62).

    ففي العالم العربيّ محور التّعليم هو المنهج أو مجموعة من المعلُوماتِ الّتي نريدُ توصيلَها إلى ذهنِ الطّالِب، ويُقيَّمُ الطّالبُ بناءً على هذه المعلُومات المختزنة في ذهنهِ، وصلتْ إليه أم لَمْ تَصِلْ، إذا وصلتْ أعطيناهُ درجةَ (امتياز)، وأدخلناهُ في الجامِعة، وربّما حصلَ على بَعَثات. أمّا محورُ التّعليمِ الحديث، فهو الطّالِب وليسَ المنهج، فالطّالبُ في التّعليم الحديث يحب أنْ يبحث، أنْ يعرفَ كيفَ يُفَكِّر، أنْ يعرِفَ كيفَ يتأمّلُ في الحياة! فعلينا أنْ نعدَّ الطّالب لكي يُواجه الحياةَ بنفسِه! وأنْ نُعلّمَه المنهجَ العلميَّ في التّحليلِ والبحثِ والمقارنة، نعملّه كيفَ يبحثُ، كيف ينظر، كيف يُقارِن، كيف يُقرِّر! فالهدفُ النهائيُّ للحياة - كما يقولُ (ونستون تشرشل) - هو الفعلُ وليسَ العِلْم، فالعلمُ بلا عَمَل لا يُساوِي شيئاً، نحنُ نتعلّم لكي نعمل! وقبلَهُ قال الإمام مالك - رضي الله عنه -: "أكرهُ النّظَرَ في عِلْمٍ ليسَ تحتَهُ عَمَل"، وقال في هذا المعنى (ستيف جوبز): لا يهمُّنِي أنْ أكونَ أغنى رَجُلٍ في العالَم، قَدْرَ ما يَهُمُّنِي أنْ أعودَ للفراش في المساء، وأنا أشعرُ أنّنِي قُمْتُ بشيءٍ رائِع. هذا، وقد عبّرت الصحفيّة (أماندا باترسون) عن هذا المعنى؛ بقولِها: أحدُ أهمِّ الأشياءِ الّتي تعلّمْتُها في الحياةِ؛ هُوَ تجاهُل مُعظمِ ما يقولُه النّاسُ. أنظرُ إلى ما يفعلُونَهُ بدلاً مِنْ ذلك(63)!

   ومن هُنا فقد تأكّد للقائمينَ على إدارةِ النُظُم التَّعليميّة ضرُورة الاهتمامِ بمشكلةِ مُلاءمةِ المناهِج التَّعليميّة ومعاييرها إلى واقعِ الطّلبة الّذي سيُواجهونه(64). ورُبّما يُثار هنا تساؤلٌ وجيه: تُرى كيف ننهضُ بالتعليم؛ إذاً؟ وجواباً على ذلك نقول: إنّهُ لا بُدّ أنْ نركِّزَ على الأركان الأربعة، وهِيَ: المعلِّمُ، والإدارةُ، والمنهجُ، والطّالِب. هذهِ الأُسس الرئيسة في النِّظامِ التَّعليميّ، وهُناكَ أُسس أربعة أُخرى سمّاها (السويدان) بـ"أركانُ التّنافُس"؛ أوّلها: التّنمية البشريّة، ويتمثّل في التّدريب المستمرّ والتطوير الدَّائِم للمعلِّمين. الرّكن الثاني: هو التكنولوجيا، لا يصِحُّ أن نفكِّرَ بالتّعليم بالصُورةِ نفسِها الّتي فكّرنا بها سابقاً. الرّكن الثالث: الخدمة المتميّزة، وتتمثّلُ في الخدمة التربويّة، الخدمة النفسيّة، الاتصال مع أولياءِ الأُمور، حتّى يكون هناك دورٌ مُباشـر لأولياءِ الأُمور في عمليّةِ التّعليم. الرّكنُ الرّابع: قضيّة الإبداع. والإبداعُ هو عمليّةُ الإتيانِ بجديد، أو رُؤية ما لا يراهُ الآخرُون، أو مُعاينةِ المألُوفَ بطريقةٍ غيرِ مألُوفة، أو القُدرةُ على حلِّ المشكلات بأساليبَ جديدة(65)، ويُمكن لنا من خلالِ أركانِ التّنافُسِ هذهِ أن ننهضَ بعمليّةِ التّعليمِ نهضةً شامِلة.

    وأخيراً بقي لنا أنْ نقولَ: إنّ الواقِعَ الجامعيَّ، فضلاً عنِ المراحِل الدِّراسيّة الأوليّة - كما تشيرُ أغلبُ المعطياتِ الملمُوسة - يعيشُ في أزمةٍ خانِقة، ويدورُ في حلقاتٍ مُفرغة. فهي تدورُ وتدورُ لتنتهي حيثُ بدأتْ، أو رُبّما لا تبرَحُ مكانها على الإطلاق! وما دامتِ الجامعةُ تدورُ في حلقاتٍ خانقة مأزُومة، فلن يكون هُناكَ إصلاحٌ منشُود؛ لِمَا لها مِنْ دورٍ قياديّ مُباشِر في كُلِّ دولةٍ مدنيّة، ولكونِ الجامعاتِ على قِمّة النِّظامِ التعليميّ؛ فإنّهُ يُتَوَقّعُ منها - في ضوءِ التّقاليد والعُرْفِ العامّ - أنْ تقومَ بقيادةِ النِّظامِ التَّعليميّ؛ كونها تقفُ بعيدةً عن التزاماتِ المجتمع اليوميّة ومُنازعاتهِ، وأهوائهِ المتقلّبة؛ ولذلِكَ فهِيَ في موقفٍ أفضل لرُؤيةِ الأحداثِ بوضُوحٍ أكبر(66)، والجامعةُ بدلاً مِنَ البحثِ عنِ الحقائِق الجديدة شغلتْ نفسَها ببناءِ حصُونٍ أكاديميّة؛ لحمايةِ الأساليب القديمة، وبدلاً مِنْ أنْ تبتعِدَ بمقدارِ أذرع عنِ الخلطِ بالمجتمع، أبعدتْ نفسَها بمسافاتٍ فلكيّة عَنْ مُشكلاتِ المجتمَع الملحّة(67)، وهِيَ بذلِكَ تخلّتْ عن دورِها القياديّ للنِّظامِ التَّعليميّ ككُلّ. ومن هُنا "فإنّ التفاعُلَ بينَ المجتمع وجامعاتهِ، وتكريس نَشاطِ تلك الجامعات وفاعليتها لخدمةِ أهدافِ المجتمع، سيبقى المهمّة الأساسيّة للجامعات، وبدونِها تفقِدُ الجامعاتُ أحدَ أهمِّ مبرّراتِ وجُودِها"(68). وقمينٌ ذكرُه هنا أنّ "الجامعاتِ لا يمكنها أنْ تتطوّرَ وتتوسّعَ وتُؤدِّيَ دورَها التاريخيّ في غيابِ إمكانيّةِ تجديدِها المستمرّ بالتّدريسيين الأَكْفاء الّذين هُم - في واقعِ الأمرِ - حجرِ الزّاوية في بقاءِ هذهِ الجامعاتِ أصلاً"(69). وعلى غِرار ما ذكرَهُ (بيار دو لاغورس): قُلْ لي ماذا تقرأ أقُلْ لكَ مَنْ أنت! أذكرُ تجوزاً: أخبرني عن مُستوى جامعاتِك أُحدِّد لك مُستوى حضارتِك! ذلِكَ "أنّ أحدَ أهمِّ مقاييسِ نجاحِ الجامعاتِ وشُهرتِها في العالَم هو المستوى العلميّ للخريجين"(70). والحقّ أنّنا نلحظُ - في كُلِّ عامٍ - تراجُعاً واضِحاً في المستوى الجامعيّ أساتذةً وطلبة، ورُبّما الأساتذة يسعَوْن دائِماً إلى تيسيرِ مناهجهِم وتخفيفِها مجاراة لمستوى الطلبة - الّذي أصبحَ مُتدنياً يوماً بعد يوم - ومُسايرةً لضَعفهِم الملحُوظ؛ نظراً لاهتمامِهم البالِغ وشغفِهم الكبير بأُمُورٍ أُخرى خارِجة عنِ همُومِ التّعليم الأساسيّة وقضاياهُ الملحّة. والسُّؤال المطرُوح هُنا: تُرى هل يُمكن لجامعاتِنا اليوم أن تُنافِس الجامعاتِ العالميّة العريقة في ظلِّ التّراجُع المعرفيّ الكبير، والتقهقر الحضاريّ الواضِح؟!.

 

الهوامش:

 1-We cannot solve our problems with the same thinking we used when we created them.

 2- كتاب خريطة العقل، توني وباري بوزان، ط(4)، مكتبة جرير، الرياض - المملكة العربية السعوديّة، 2007م، ص203.

 3- أزمة التعليم في عالمنا المعاصر، فيليب كومبز، ترجمة: أحمد خيري كاظم، والدكتور جابر عبد الحميد جابر، (د. ط)، دار النهضة العربية، القاهرة - مصر، (د.ت)، ص18.

 4- ينظر بتصرّف: أزمة التعليم في عالمنا المعاصر، ص92.

 5- ينظر بتصرّف: أزمة التعليم في العالم العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة، د. طارق سويدان، المدير العام لمؤسسة الإبداع الأمريكي، الجزيرة، في 21/02/2001م.

 6- أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 230.

 7- م.ن: 230- 231.

 8- م.ن: 231.

 9- م.ن: 185- 186.

 10- م.ن: 186.

 11- ازدواجيّة التعليم الجامعيّ: مرئيّات للخروج من الأزمة، أ.د. عماد الدين خليل، مجلة (الحوار)، العدد (155)، السنة الثالثة عشرة، ربيع 2016م، ص8.

 12- م.ن: 8- 9.

 13- م.ن: 33.

 14- م.ن: 19.

 15- م.ن: 21.

 16- الإسلام والطاقات المعطّلة، الشيخ محمّد الغزالي، (د.ط)، شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، 2005م، ص61.

 17- الطريق من هنا، الشيخ محمّد الغزالي، (د.ط)، دار الشـروق، القاهرة – مصـر، (د.ت)، ص23- 24.

 18- م.ن: 25.

 19- م.ن: 26.

 20- ازدواجيّة التعليم الجامعيّ: مرئيّات للخروج من الأزمة: 23.

 21- م.ن: 22.

 22- م.ن: 31.

 23- م.ن: 9- 10.

 24- دراسات وشؤون جامعية، خالد محمّد خالد، ط(1)، منشورات دار "روشنبير" للطبع والنشر، العراق - سليمانية، 1998م، ص10.

 25- م.ن: 10.

 26- ازدواجيّة التعليم الجامعيّ: مرئيّات للخروج من الأزمة: 10.

 27- مجتمع النخبة، د. بُرهان غليون، ط(1)، معهد الإنماء العربيّ، بيروت - لبنان، 1986م، ص256.

 28- أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 128.

 29- م.ن: 133.

 30- م.ن: 196.

 31- م.ن: 133.

 32- م.ن: 135.

 33- مجتمع النخبة: 245.

 34- ينظر بتوسّع: قصّة سنغافورة من العالَم الثالث إلى الأوّل، لي كوان يو، نقلهُ إلى العربيّة: مُعين الإمام، ط(2)، مكتبة العبيكان، 1428هـ - 2007م، ص217.

 35- You can't change the past, so focus on making a great future

 36- سياسي أمريكي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، شغل رئيساً لبرلمان ولاية نيوجرسي من عام 1847 إلى عام 1851. كما شغل (باركر) منصب حاكم على ولاية نيوجرسي مرّتين: المرّة الأولى من عام 1863 إلى عام 1866 والمرّة الثانية من عام 1872 إلى عام 1875. كما شغل قاضياً للمحكمة العليا لولاية نيوجرسي ما بين عامي 1880 إلى وفاته في 2 كانون الثاني - يناير من عام 1888م.

 37- معنى المعنى.. دراسة لأثر اللغة في الفكر ولعلم الرمزيّة، أوغدن ورتشاردز، تر: د. كيان أحمد حازم يحيى، ط(1)، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت - لبنان، 2015م، ص100.

 38- عالم صوفي.. تاريخ الفلسفة، (رواية)، جوستاين غاردر، النصّ العربي بقلم: حياة الحويك عطية، ط(2)، دار المنى، ستوكهولم - السويد، 1996م، ص42.

 39- أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 150.

 40- Insanity: doing the same thing over and over again and expecting different results.

 41- If someone feels that they had never made a mistake in their life, then it means they had. never tried a new thing in their life.

 42- ازدواجيّة التعليم الجامعيّ: مرئيّات للخروج من الأزمة: 25.

 43- م.ن: 27.

 44- م.ن: 32.

 45- م.ن: 32.

 46- ازدواجيّة التعليم الجامعيّ: مرئيّات للخروج من الأزمة: 19.

 47- م.ن: 19.

 48- م.ن: 19.

 49- مجتمع النخبة، ص248.

 50- م.ن: 254.

 51- م.ن: 227- 228.

 52- ازدواجيّة التعليم الجامعيّ: مرئيّات للخروج من الأزمة: 19.

 53- مجتمع النخبة: 252.

 54- م.ن: 240.

 55- م.ن: 254.

 56- م.ن: 255.

 57- شروط النهضة، مالك بن نبـي، ط(1)، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، وعبدالصبور شاهين، تقديم: محمّد همّام، دار الكتاب المصري - القاهرة، ودار الكتاب اللبناني - بيروت، 1433هـ - 2012م، ص35.

 58- مجتمع النخبة: 238- 239.

 59- ينظر بتصرف: أزمة التعليم في العالم العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة.

60- Malcolm Adiseshiah: Education and national Development:.  نقلاً عن أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 160.

61- ينظر بتصرف: أزمة التعليم في العالم العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة.

62- م.ن.

63- One of the most important things I've learned in life is to ignore most of what people say. I watch what they do instead.

64- ينظر بتصرّف: أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 148.

65- الإبداع.. مفهومه ودوافعه، مجلة "إبداع"، العدد الأوّل، 2002م، ص17.

66- أزمة التعليم في عالمنا المعاصر: 216.

67- م.ن: 217.

68- دراسات وشؤون جامعيّة: 40.

69- م.ن: 20.

70- م.ن: 51.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق