عبد الباقي يوسف
? القرآن هو كتاب الواقع
في كل واقع، وكل واقع أينما كان، وكيفما كان، لا بد أن يكون متجلّياً في القرآن.
وليس من ذرةٍ واحدة على أرض أي واقعٍ، مهما كانت صغيرة، إلاّ وتكون متجلّية في
القرآن. ولذلك كلّما قرأتَ القرآن بشكلٍ جيدٍ، تعرَّفتَ على واقعكَ بشكلٍ جيدٍ،
ومهما ادّعيتَ علمكَ بحيثيّات الواقع، فلن يكون لك ذلك دون أن تكون قرأتَ القرآن
بشكلٍ جيدٍ، مهما تبحرتَ في العلوم.
فأكثر الناس إلماماً بحيثيّات الواقع، هم أكثرهم قراءة للقرآن. ولذلك ترى بعض النوابغ البشـريّة، يُصابون بهلاوس، أو بحالات هستيريّة، أو أمراض نفسيّة، أو يُقبلون على الانتحار، رغم نبوغهم. وما ذلك إلاّ للتشويش الفكري الذي يصيبهم من خلال مسعاهم للتعرّف على الواقع، وعندها يزدادون غموضاً، وهذا بذاته ما يُعزّز التشاؤم لديهم، وينتهون إلى اليأس أو إلى العزلة، أو أي نهايةٍ مأساوية، رغم ما هم عليه من تاريخٍ في النبوغ
في مجالاتهم. والحقيقة فإنهم لم يكونوا لينتهوا إلى كل تلك المآسي، لو قعدوا إلى القرآن، وقرأوه بشكلٍ جيدٍ. والدليل أن هذه الأوبئة النفسية لم تقرب النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم كل ما لقيه من مشاقٍ في حياته، وهذا ما يعلمه حتى الذين لا يؤمنون بنبوّته، أو حتى الملحدون. فقد عاش حياته بطولها وعرضها، وعاشها بشكلٍ سويٍ دون أيّ منغّصاتٍ نفسيّةٍ. ولم يستمد ذلك إلاّ من خلال قراءته الجيدة للقرآن الكريم. ويكون هذا أيضاً لصحابته رضي الله عنهم، فقد عاشوا حياتهم بنجاحاتٍ، بعيداً عن مثل هذه الأوبئة النفسيّة، أو الاستسلام لليأس. وكذلك يكون هذا لكلّ شخصٍ يتّخذ من القرآن منهاجاً لحياته. فأهل القرآن يبقون في عزّهم، وفي تألّقهم، وفي سويّة حياتهم، يمتلؤون بالحيويّة والنشاط، والتجدّد، ويستمدّون سكينتهم النفسية من كل آيةٍ يقرؤونها.هنا أذكر واقعة من التراث عن إمام مسجدٍ وقد دعاه شخصٌ
في رمضان لتناول الإفطار عنده. فلبّى الدعوة، ومع إعداد مائدة الإفطار يبدو أن
المرأة نست بعض النقود بجانب المائدة، وبعد ذهاب الإمام تذكّرت ذلك، ولكنها لم تجد
النقود.
صارحت زوجها
بالذي حدث، ولا بدّ أن الإمام هو الذي أخذ النقود، لأن لا أحد في البيت غيرهما،
وطلبت منه أن يتحدّث معه حتى يُعيدها، فقال بأنه يجد حرجاً أن يواجهه بتهمة
السـرقة.. وكردّ فعل امتنع الرجل من الصلاة خلف الإمام بعد ذلك. وبعد مرور سنة، وعندما جاء رمضان، اقترح الزوج
على زوجته أن يُسامحاه ويدعواه إلى تناول الإفطار مرة أخرى. وافقت الزوجة، ولكنها
اشترطت أن يُصارح الإمام بالسـرقة، وعندما يعترف يسامحاه. فقبِل الزوج بهذا
المطلب، وبعد تناول طعام الإفطار، صارحه الزوج بِما حصل في السنة الماضية. تفاجأ
الإمام بذلك، وبدا عليه حزنٌ شديد، وصار يبكي. فقالت له المرأة: ما الذي يبكيك يا
إمام، ألستَ أنتَ من أخذ النقود؟
نظر إلى المصحف وقال: نعم أنا أخذتها، لكن ليس هذا ما
أبكاني، ما أبكاني هو أنكما لم تفتحا المصحف منذ سنة.
عند ذاك دنا الزوج من المصحف وفتحه، وإذا بذات المبلغ في
مقدّمة المصحف حيث سورة الفاتحة.
حقاً، فإن شخصاً لم يقرأ كتاب الله سنةً كاملةً أجدر أن
يُبكى عليه.
فالقرآن أرضـيٌ على قدرِ ما هو سماوي، ملتصقٌ
بالأرض كما هو ملتصقٌ بالسماء، ذلك أنه كتابٌ اكتملَ تماماً في السماء، ولم تحصلْ
كلمةٌ واحدة منه في الأرض، ورغم ذلك فهو كِتابُ الأرض، يُحسّنُ لأهلِ الأرض
حياتَهم، ويرون فيه كلَّ مقوّمات حياةٍ سليمةٍ آمنة طيّبة مجدية في الأرض. وهذا هو
سـرُّ عظمةِ القرآن، وسـرّ تجدّده الذي لا ينضب، فدوماً يحملُ الجديدُ مع كل
قراءةٍ، مهما تعدَّدَت القراءات له. فلو قرأتَ أيّ سورة منه مئةَ ألف مرة، ففي
المرة المئة ألف تكتشف ما لم تكتشفه من جميع المرات السابقة. كما لو أنَّك بدأت
بقراءتِها لأوَّل مرَّة. وهكذا يبقى القرآن يُدهشك كلّما قرأتَه أكثر، وتبقى
تستنيرُ منه كلّما واظبتَ على قراءته، تبقى تقطفُ منه الثمارَ اليانعةَ مع كل قراءةٍ
جديدةٍ لم يسبق لك أن قطفتَها في أية قراءةٍ سابقة.
عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ
مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ. وَفَضْلُ كُلَامِ
اللهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ).
حفظكم الله ونفع بكم
ردحذف