31‏/12‏/2020

المستشرقون ودورهم في انبعاث الزرادشتية من جديد

أ. د. فرست مرعي

لمحة تاريخية عن القومية الفارسية من دارا الأخميني إلى الشاه رضا بهلوي

  ?إن التاريخ المسّجل للقومية الإيرانية، وبالأحرى الفارسية، يعود إلى حكم الملك الأخميني – الهخامنشي: داريوس الكبير(حكم من 29 سبتمبر 522 إلى أكتوبر 486 ق.م)، حيث ذكر في النقش المنسوب إليه (نقش رستم)، شدد درايوس على العصبية الفارسية، وأعلن أن الخط الآري للإيرانيين مرتبط بالعالم القديم. جاء في النقوش: "أنا درايوس، الملك العظيم، ملك الملوك، ملك البلدان التي تتضمن كل أنواع البشر، ملك هذه الأرض الكبيرة والواسعة، ابن هيستاسبيس، الفارسي، ابن الفارسي، الآري، الذي يتحدر من جذور آرية".

التاريخ المسّجل الثاني، هو لأعظم شاعر ملحمي إيراني: الفردوسي، الذي كرَس حياته للحفاظ على الهوية القومية الإيرانية، عبر كتابه (شاهنامه)، الذي ألفه عام 1010م في (60) ألف بيت، وهي ملحمة فنية رائعة، وقد ورد في الشاهنامة العديد من الأبطال القوميين الفرس، الذين قاتلوا لإبقاء بلادهم منتصبة على قدميها.

ويرجح البروفيسور (تشارلزميلفيل) (= أستاذ التاريخ الفارسي في جامعة كمبريدج) العثور على الجزء الأكبر من الكتاب في الهند في القرن التاسع عشر، ونقله لإيران. ويضيف قائلاً: إن قارئ الكتاب يشعر وكأن الفردوسي كان يرثي الإمبراطورية الفارسية الساسانية. ومضى يقول: "لم يكن الفردوسي من شعراء البلاط، ومن المحتمل أنه كان متعاطفا مع الزرادشتيين، أتباع الدين الذي سبق الإسلام في فارس(= إيران)، لذلك لم يكن مقبولاً من السلطات الدينية أيضاً." ومن جانب آخر يعتبر الكثيرون أن مكانة (الفردوسي) في الثقافة الإيرانية تماثل مكانة (شكسبير) في الأدب الإنجليزي، و(هوميروس) في الأدب الإغريقي القديم.

والفردوسي هو أول من شتم العرب وعيّرهم بشرب بول البعير في كتابه (شاهنامه)، وهو من أعظم كتب الفرس، ويعتبر قرآن القومية الفارسية. والشاهنامة تعني لغوياً (كتاب الملوك)، أو (كتاب التيجان).

والحكيم أبو القاسم الفردوسي، أكبر شاعر ملحمي فارسي، وأحد ألمع وجوه الأدب في العالم. ولد بـ(طوس) الإيرانية، في أسرة إقطاعية ذات أملاك و ضياع. اسمه: المنصور بن الحسن. اختلف المؤرخون في عام ولادته، ووفاته أيضاً، ويستشف من القرائن التي وردت في شعره أنه ولد بين 324 ـ 329هـ ، و توفي في 411 و 416ه،.

ومن تلك الشواهد نجد  كيف يمتدح (الفردوسي)، في (الشاهنامة)، قتل الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي، سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى خسرو أبرويز(= كسـرى الثاني) ملك الدولة الساسانية، حيث يقول:

كه آمد فرستاده يي پیر و سست،

نه اسب و سليح ونه چشمي درست،

 يكي تيغ باريك برگردنش،

 پديد آمده چاك پیراهنش.

وترجمتها بما معناه:  لما جاء ذلك المرسال (= رسول) الهزيل العجوز، الذي كان أعور العين، ولم يكن يمتلك فرساً أصيلة، بانت شفرة السيف الحادة بين رقبته وقميصه.

 وهذان البيتان هما من ضمن قصيدة طويلة تضمنها ديوان الفردوسي في سب العرب المسلمين، هذا الديوان الذي قدمه الرئيس الإيراني السابق (محمد خاتمي) هدية إلى البابا (يوحنا بولس الثاني)، خلال زيارته الفاتيكان في مايو/ أيارعام 1999م، وذلك تعبيراً عن حسن نواياه، وترويجا ً لمشروعه (حوار الحضارات)!.

وهناك نماذج أخرى من الانتقاص والتحقير للعرب المسلمين، التي كتبها الفردوسي في الشاهنامة، ومنها تلك الأبيات التي يقول:  

ز شير شتر خوردن و سو سمار،

 عرب را بجايي رسيد است كار،

 كه تاج كيانرا كند آرزو،

 تفو باد بر چرخ كردون تفو.

وقد ترجمها الدكتور )محمد علي آذرشب(، الملحق الثقافي الإيراني السابق في دمشق، وأستاذ الأدب العربي بجامعة طهران، هكذا:

مِنْ شُـرْبِ لبن الإبل، وأكل الضب، بلغ الأمر بالعرب مبلغاً

أن يطمحوا في تاج الملك، فتبّاً لك أيها الزمان، وسحقاً

وهناك أبيات أخرى مماثلة للفردوسي في الشاهنامة، ومنها قوله:

سك در أصفهان آب يخ مي خورد،

 عرب در بيابان ملخ مي خورد

وترجمتها: الكلب في أصفهان يشرب ماء الثلج، والعربي يأكل الجراد في الصحراء.

وفي السياق نفسه ذكرت (وكالة مهر، الإيرانية للأنباء، في أبريل عام 2005م، أن وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي (محمد حسين صفارهرندي) قال في احتفال أقيم لدراسة أعمال الفردوسي: إن الإساءة للفردوسي هي مقدمة للإساءة والعدوان على إيران. وقال الوزير: إن على الشعب الإيراني التزود بحماسة الفردوسي لمواجهة الأعداء.

 

دراسة المستشرقين والباحثين الأوربيين للعقائد الزرادشتية، وإحيائها من جديد

   لعبت البحوث الأوروبية حول العقائد الزرادشتية دوراً خارجياً في تعميق الخلافات البارسية. فقد أثارت معلومات الرحالة حفيظة العلماء في أوروبا، ودفعتهم نحو دراسة الديانة الزرادشتية. وكان الزرادشتيون الإيرانيون قد فروا من إيران، عن طريق الخليج العربي، إلى أن وصلوا إلى الساحل الهندي المطل على  البحر العربي - المحيط الهندي، في منطقة (كودجارات)، بحلول عام 936 ميلادية، غير أنهم دونوا بالكتابة المحلية في القرن العاشر والحادي عشر الميلادي، الرقم (9) بعلامة تشبه الرقم المعاصر (7)، ولهذا قرأوا التاريخ كعصر فيكراما (= إحصاء السنوات الذي كان متداولاً بشكل واسع في شمال الهند من56ق.م)  722 ( 716( الميلادي، وهذا ما أدى إلى التشويش في الترتيب الزمني البارسي (وعلى ما يبدو أن تاريخ 716 الميلادي ما زال منتشراً بشكل واسع).

قضى البارسيون، قبل وصولهم (كوجارات)، عقدين من الزمن على جزيرة (ديف)، قبل أن يسمح لهم الراج (= الحاكم) المحلي بالإقامة في أراضيه، وممارسة المهن المختلفة، وسمح الراج للبارسيين بالسكن قرب شاطىء البحر (= المحيط الهندي)، حيث نزلوا عليه لأول مرة، وسمى البارسيون مكان إقامتهم بـ( ساندجان)، على شرف مدينتهم الأصلية في (خوارزم)، شرقي إيران.

ومرت حقبة تقدر ب 300 سنة تقريباً، حتى تعلم البارسيون اللغة الكوجاراتية، وتكلموا بها مثلما يتكلمون بلغتهم الأم، وارتدوا الملابس الهندية. وبمرور الزمن ازدهرت أحوالهم، وبدأ البارسيون يتركون مدينة (ساندجان) تدريجياً، ويستقرون في مدن المرافىء البحرية على طول الساحل، وهي مدن: فانكانير، برواج، فارياف، أنكليسار، كامبي، نافسار. (ينظر: ماري بويس، تاريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشرين، ص190 – 191).

ومن جهة أخرى، يؤكد كتاب الكاهن السندجاني (نيريوسانك دهافال) على تواجد علماء الدين الزرادشتي بين البارسيين في بداية القرن الثاني عشـر الميلادي. وبما أن لغة الطائفة البارسية أصبحت كودجاراتية، فإن اللغة السنسكريتية صارت سهلة المنال للعلماء البارسيين، وكانت علاقة الهنود معها طيبة، لذا لم يشمئزوا من السنسكريتية مثلما اشمأز الزرادشتيون الإيرانيون من اللغة العربية. وبدأ الكاهن ( نيريوسانك) بترجمة النصوص الدينية الزرادشتية إلى اللغة السنسكريتية، معتمداً على صيغتها البهلوية.

تابع البارسيون، برغم كل العقبات، الاهتمام بكتبهم المقدسة، فزار الهند الكاهن الإيراني (رستم ميهرابان)، قبل سيطرة المسلمين على مقاطعة كوجارات. وقد نسخ العديد من الكتب الزرادشتية، مثل (أردا فيراز ناماك)، في سنة 1269م، ونسخ مخطوط (ويسبرد)، في مدينة أكليسار سنة 1278م، كما نسخ ملحمة (شاهنامة البهلوية).

في تلك الحقبة، وصل إلى مدينة كوجارات الراهب الدومنيكي (جوردان Jordanus) (1280- 1330م)، في طريقه إلى شاطىء (مالابار)، وكان أول أسقف لأبرشية الروم الكاثوليك في مدينة (كويلون)، وهي أول أبرشية كاثوليكية في الهند. وقد أثارت حياة البارسيين الزرادشت اهتمامه، فكتب عنهم: "يوجد شعب وثني آخر في الهند، يعبد النار، ولا يدفن موتاه ولا يحرقهم، بل يتركهم وسط أبراج خاصة دون سقوف، حيث يبقيهم مكشوفين تماماً لأجل طيور السماء، وهو يؤمن بأساسين أوليين: بالشـر والخير، والظلام والنور...". (ماري بويس، المرجع السابق، ص194 -195).

وفي سنة 1397م غزا (تيمورلنك) (1336 – 1405م) الهند، عندما سمع بموت (فيروز شاه ملك الهند، من غير ولد، وحصول اضطرابات بعده، فاستغل فترة الضعف هذه، وعزم على غزو الهند، متذرِّعًا بأن (التغلقيون) يتساهلون مع الهندوس في أمر الإسلام! وانقضَّ بجيشه الجرار على قوات محمود تغلق  في 17 ديسمبر 13971397م، وأنزل به هزيمة ساحقة، واحتل (دلهي)، عاصمة دولة (آل تغلق)، وقام بتدميرها وتخريبها. وتعرض الزرادشتيون للنهب أيضاً، واضطروا إلى الهروب إلى ما وراء البحر، إلى مدينة كوجرات، التي لم تتأذ من الحملة بسبب وقوعها إلى الجنوب. وبحلول عام1401م سيطر مظفر شاه على الهند، وأعلن استقلاله، وتعرض خلالها البارسيون الزرادشت إلى حملات من العنف بسبب عدم دفعهم الجزية المفروضة عليهم. وفي هذه السنوات استطاع اثنان من الناسخين البارسيين نسخ كتاب ( الآفيستا) عام1397م، وكتاب (أردا فيراز ناماك)، مع الترجمة السنسكريتية والكوجراتية القديمة.

وكان الهنود قد قاوموا سلطة المظفريين الإسلامية، لذا أرسل السلطان محمود بيكادا(1458-1511م)، حملة عسكرية لإخماد حركة المقاومة الهندية. ويعتقد أن قرية (ساندجان)، التي تعد معقل الزرادشتية البارسية، قد سلبت ودمرت، نظراً لأن البارسيين قاوموا الجيش المظفري، جنباً إلى جنب مع الهندوس. ويقال بأن الكهنة الزرادشتيين نجحوا في إنقاذ النار المقدسة ( آتاش بهرام)، ونقلوها من (ساندجان) إلى كهف يقع في جبل (باهروت)، وهو جبل منعزل وعالٍ يبتعد عن ساندجان بأربعة عشـر ميلاً. وهنا، وتحت حماية الأحراش والغابات والبحر، حافظ الكهنة على نارهم المقدسة على مدار عشـرين سنة.

وهكذا صارت مدينة (نافساري) مركزاً لحياة البارسيين الزرادشت في الهند، واشتعلت فيها النار المقدسة. وعاش - لأول مرة - ممثلوا بانتين (= مجلسين) قديمين من الكهنة المعروفين في مدينة واحدة (= أي كهنة مدينتي سادنجان ونافساري)، فازدهرت أحوال الطائفة البارسية نوعاً ما تحت قيادة (جانكا آسا)، وهو الذي أقنع إخوانه الزرادشتيين الهنود بإرسال رسول إلى إيران لمشاورة رجال الدين الزرادشتيين هناك، باعتبارهم الأصل، حول مسائل الطقوس والعبادات التي ظهرت الشكوك حول بعض جوانبها. فسافر أحد مبعوثيهم سنة1477م، ويدعى (ناريمان هوشنك)، من (برواج) إلى الخليج العربي، ومنها دخل إلى عمق الأراضي الإيرانية نحو مدينة (يزد)، ومنها أخذوه إلى (داستوران داستور)، الكاهن الأعلى للزرادشتيين، في قرية (ترك آباد)، حيث استقبلوه بكل حفاوة. لكن بسبب عدم إجادة الرسول اللغة الفارسية، اضطر للبقاء سنة كاملة بين أقرانه، ممتهناً التجارة، حتى استطاع إجادة اللغة الفارسية، ومن ثَم غادر إيران إلى الهند، جالباً معه مؤلفين مهمين حول تفسير زند الآفيستا(= البازند)، لأجل كهنة وزعماء البارسيين الهنود.

بعدها جرى إرسال العديد من الرسل، من البارسيين إلى إخوانهم في إيران، لتلقي التعليمات. ولكن طبيعة المجتمعين المنفصلين أدت، بمرور الزمن، ما بين القرنين الخامس عشـر والسابع عشـر، إلى حدوث بعض الاختلافات في الطقوس، وما شابهها. فلم يستطع البارسيون الهنود -مثلاً- الحصول على نبات (الهوما)، الذي كان ينمو بكثافة في جبال إيران، فاستخدموا ( إفدرا) كبديل عنه، رغم أن الزرادشتيين الإيرانيين كانوا يرسلون للبارسيين كميات احتياطية منه، ولكنها لم تكن تفي بالغرض. كما أن الزرادشتيين الإيرانيين حافظوا على تقاليد القربان المقدسة (لم يعارض المسلمون قربان الأبقار)، إلا أن البارسيين واصلوا تقديم الخراف الصغيرة كقربان، احتراماً لعقيدة الهنود التي تحرم ذبح الأبقار والثيران. (ينظر: إيلينا دراشنكو، الزرادشتيون في إيران، ترجمة: خليل عبدالرحمن، مكتبة جارجرا للثقافة الكوردية، 2007م، ص84).

ومن جانب آخر، كان الزرادشتيون الإيرانيون يستعملون المصطلحات والكلمات الفارسية، والفارسية – العربية، في حياتهم اليومية، بعكس إخوانهم البارسيين، الذين بدأوا باستعمال المصطلحات والكلمات باللغة الكوجراتية. فعلى سبيل المثال، سمى الإيرانيون المراسم المكرسة للكاهن بـ(نوزود)، أو (ناوجوت)، بينما البارسيون سموها (نافار). 

كما بان الاختلاف حول إمكانية اعتناق الآخرين للزرادشتية، فكان المجتمع الهندي ينظر إلى البارسيين كـ(كاست) (طبقة خاصة)، وهذا ما أدى بهم إلى الاعتقاد بوراثة ديانتهم، لأنهم افتخروا بجذورهم الإيرانية، فلكي تكون زرادشتياً يجب أن تكون إيرانياً.

ولما كانت الزرادشتية ديانة غير تبشيرية؛ لذلك سأل البارسيون  نظرائهم الزرادشتيين الإيرانيين عن إمكان قبول خدمهم الهنود في الزرادشتية، إذا رغبوا في ذلك، وتلقوا من الزرادشتيين الإيرانيين الجواب التالي: "إذا آمن الخدم من الشباب والبنات بالدين الحق، فيجب عليهم عندئذٍ ربط حزام (كوست) على خصورهم، وعندما يتعلمون جيداً ويهتمون بتطبيق التقاليد الدينية، ويتقوى الإيمان في قلوبهم، عندئذٍ يجب تعريضهم لطقوس الطهارة (= الباراشنوم)". (ماري بويس، المرجع السابق، ص198 – 199).

كما أن عادة الزواج بين الأقارب المحارم (= هفيدودا)، عند الزرادشتيين الإيرانيين، لاقت معارضة من جانب البارسيين الهنود، لأن الهنود لم يوافقوا على الزواج من الأقارب في الدم. وهكذا أبلغ المبعوث البارسي (ناريمان هوشنك) الإيرانيين "بأن البارسيين لا يتزوجون من أنسابهم في الدم، ولكنهم يسألون كثيراً حول هذا الأمر". فاجابه الزرادشتيون الإيرانيون "بأن الزواج بين الأقرباء في الدم هو تصرف حميد، وليكن في المعلوم أن هذا ما صادق عليه (أورمازد – آهورامزدا)". يحكى في النص البهلوي من القرن الحادي عشـر الميلادي، عن خرق عقد الزواج بين الأخ وأخته (ريفايات – مراسلات آدور فارنباك)، ولكن في القرن الرابع عشر الميلادي طالب الكهنة "بأن يتزوج الشاب فقط من ابنة عمه". وهذا ما سهل عملية التأقلم مع المجتمع الإسلامي، الذي خضعوا لسيطرته في ذلك الوقت، لأن مثل هذا الزواج كان محبذاً لدى العرب المسلمين. وبالفعل منذ ذلك الوقت (= بدءاً من القرن الثامن عشرالميلادي) توجد شواهد كثيرة على الزواج بين الأقرباء في الدم بين البارسيين، وصار منتشراً بينهم. (ماري بويس، تاريخ الزرادشتية، مرجع سابق، ص199؛ إيلينا دراشنكو، الزرادشتيون في إيران، مرجع سابق، ص84).

وفي سنة 1547م هجم البرتغاليون على مدينة (برواج) الهندية، ونهبوها، وجعلوها عرضةً للنيران والسيوف، بعد أن حصلوا من السلطان المغولي (همايون) على تنازلات جديدة، بما فيها السيطرة على مدينة (ساندجان)، وأرغموا السكان على اعتناق الكاثوليكية. ولاحظ الطبيب البرتغالي (كارسيا دي أورتا) (1499- 11568م) البارسيين في مناطق (كامبي) و(باسين)، ووصفهم كتجار وأصحاب دكاكين من أصول فارسية.

وفي سنة 1572م هجم السلطان المغولي جلال الدين أكبر بن همايون( 1542-1605م) على منطقة (كوجرات)، واحتلها، والتقى في مدينة (سورات) الساحلية بالبارسيين، وتعامل معهم برفق ورحمة. وهكذا بدأ حكم المغول بشكل لائق وجيد بالنسبة للطائفة البارسية، وهو في الواقع كان بداية لازدهار البارسيين، في الوقت الذي كان الصفويون يضطهدون بشكل أكثر من السابق إخوانهم الزرادشتيين في إيران.

في سنة 1573م طلب السلطان المغولي أكبر بن همايون من الكاهن البارسي (سورات) أن يشرح له أسس ومبادىء الزرادشتية، ولهذا الهدف زار رجل الدين البارسي (ماهير دجي)، ديوان السلطان أكبر، قادماً من مدينة (نافساري). وفي سنة1575م بنى جلال الدين أكبر بيتاً للصلاة، حيث جرت فيه سنة 1578م مجادلات ونقاشات حادة بين ممثلي الديانات المختلفة، بما فيها الزرادشتية، وشارك (ماهيردجي) في تلك المناقشات، والذي خرج من سلالته داستوران عظام.

وبعد فترة من الزمن طلب أكبر من الشاه الصفوي عباس الأول( 1571- 1629م) أن يرسل له عالم ورجل دين زرادشتي، لكي يساعده في تأليف قاموس فارسي. وفي سنة 1597م أُرسل له من كرمان داستور (آردشير نوشيربان). (إيلينا دراشنكو، الزرادشتيون في إيران، مرجع سابق، ص88).

ومن جانب آخر، فقد لاحظ الرحالة الفرنسي (جان باتيست تافرنيه) (1605- 1689م) قوانين الطهارة عند المرأة الزرادشتية، بقوله: "عندما تشعر المرأة أو الفتاة بقرب الدورة الشهرية الطبيعية، تترك منزلها، وتبقى وحيدة في الحقل، في بيوت صغيرة، بأبواب ضيقة من الأغصان المتعاقدة. وما دامت هي على هذا الوضع يجلبون لها الطعام والماء كل يوم، وعندما تنتهي دورتها الشهرية ترسلُ، بحسب إمكانياتها، عنزة أو دجاجة أو حمامة، بمثابة قربان، وبعد هذا تغتسل وتدعو بعض الأقارب على ضيافة خفيفة". (رحلة تافرنيه، ص166).

وكان الزرادشتيون مخلصين في عملهم، سواءً في إيران أو الهند، ورغم ذلك لم يتخلصوا من المضايقات. فعلى سبيل المثال، يروي المبشر الدومنيكي الكاثوليكي (جوردان) بأن الشاه الصفوي عباس الأول سمع إشاعة عن المضامين العجيبة في كتب( الكاوريين)، وخص بالذكر أحدها، وكأن إبراهيم الخليل قد كتبه، وهو يتضمن تكهنات حول كل الأحداث التي ستجري حتى نهاية الزمن، فبحث بإصرار عن هذا الكتاب، وأجبر الزرادشتيين على جلب المخطوط له. وسمع (جاردلان) بستة وعشرين جزءاً، محفوظاً في مستودع المعبد للكتب في (أصفهان)، ولكنهم لم  يحصلوا على كتاب إبراهيم الخليل، فأمر الشاه الغضبان بقتل (داستوران داستور)، وبعض تلامذته. لذلك كتب كهنة إيران بأسف حول هذه الأحداث في رسالتهم الموجهة إلى البارسيين في الهند سنة1635م، واشتد حزنهم عندما أصابتهم خيبة أمل أخرى، حيث اعتقدوا بأن عشرة آلاف من "السنة العالمية قد بدأت منذ تتويج يزدجرد الثالث"، ولهذا انتظروا في نهايتها قدوم المنقذ (ساوشيانت) بعد ألف سنة، أي في سنة 1630م، فكتبوا إلى البارسيين قبل هذا بأربع سنوات: "انتهت آلاف سنوات (أهريمان)، وبدأت آلاف سنوات (أورمازد)، وننتظر طلعة ملك النصـر البهية، و( هوشيدار) و(بيشوتان) مقبلان دون أدنى شك". (ماري بويس، مرجع سابق، ص205).

 وعلى أي حال، فقد ظهر أول بحث أوروبي في سنة 1700م باللغة اللاتينية (تاريخ أديان الفرس والبارثيين والميديين القدماء) للمستشرق ( توماس هايد)، من (جامعة أكسفورد)، الذي لم يدرس فقط كتابات الإغريق في بحثه عن شواهد الديانة الإيرانية، بل استخدم المؤلفات العربية، وتلك النصوص الفارسية الزرادشتية المتوفرة لديه في تلك الفترة.

ومن جانب آخر، فقد بدأ المستشرقون في دراسة اللغة البهلوية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وكانت أول محاولة، بل وأساس تلك الدراسات هي ما بدأها المستشرق الفرنسي (أنكيتا دي بيرون ) Anquuetil Du Perron  ( (1731 – 1805 خلال إقامته في الهند فيما بين السنوات 1755- 1726م. وقد ذكر ملخصاً لرحلته، وما صاحبها من مصاعب جمة، ملخصها أنه استقل المركب في 7 فبراير 1755م، ووصل ميناء (بوندشيري) بالهند، في 10أغسطس من نفس العام، وأنه لاقى مصاعب أثناء إقامته، إلى أن وصل إلى مدينة (سورات) في سنة 1758م، وأقام فيها حتى سنة 1761م. حيث قام بمصاحبة عالم الدين الزرادشتي الهندي (الدَستورالزرادشتي داراب)، الذي درس على يديه اللغة الأفستائية، والكتاب المقدس الزردشتي، واللغة البهلوية. ووفّق (دي بيرون) في النهاية إلى ترجمة الأفستا إلى اللغة الفرنسية سنة1771م، ولكن هذه النسخة الفريدة كانت محل انتقاد وشكوك لدى العلماء الإنكليز، وخاصةً من ناحية العمر الأصلي للمخطوطة، وصحتها. (ينظر: محمد محمد، نظرة عامة على مخطوطة أفستا: Avesta/1، الحوار المتمدن، 5/9/2013م).

كما ترجم كتباً أخرى، نذكر منها ( بَندَهًشن - وهي مجمل تعليقات وشروح وتاريخ لتطور الزرادشتية، كتب في القرن التاسع الميلادي كجزء مكمل  للآفستا). وعندما عاد (دي بيرون) إلى (باريس)، اصطحب معه مجموعة من النسخ المخطوطة مدوّنة بمختلف اللغات الشرقية، ومنها الآفستا باللغة البهلوية، وكان من بينها أيضاً: كتاب (فرهنكَ أو بيم)، وأخرى (فرهنَك بهلويك – معجم البهلوية)، مكّنتاه من دراسة النصوص البهلوية، بل ودراستها بطريقة سليمة. غير أن العالم اللغوي الدانمركي (راسموس كريستيان راسك) Rasmus Christian Rask ( (1787- 1832م ، أكد عمر وأصالة مخطوطة (دي بيرون) الفرنسي عام 1826م، وتمت إزالة هذه الشكوك التي انتابت بعض العلماء، وذلك عن طريق الفحص الدقيق للغة النسخة الأصلية نفسها.

كان (راسموس كريستيان راسك) باحثًا دنماركيًا، كرس الفترة الأول من حياته المهنية للأدب واللغات الإسكندنافية والأنجلو ساكسونية القديمة. وفي عام 1818م شرع في رحلته العظيمة إلى الهند، بحثًا عن مهد الهند - اللغات الأوروبية، حيث زار في طريقه روسيا (سانت بطرسبرغ، وموسكو، وأستراخان، وتبليسـي)، كما زار إيران (تبريز)، و(الهند)، و(سريلانكا)، عام1821م.. وفي عام 1823م أحضـر مجموعة من مخطوطات البارسيين الزرادشت من مدينة (بومباي)، ومن (سريلانكا)، وكان سعيدًا بإعادة اكتشاف نصوص Avesta  الزرادشتية، المحفوظة من قبل  البارسيينParsis ، والتي أبلغ عنها المستشـرق الفرنسي (أنكيتل دي ديبرون) Anquetil du Perron ، لأول مرة، قبل ستين عامًا  تقريباً (= عام1771م)، ومواد أخرى من  Avesta، بالإضافة إلى مجتمع الزرادشتية النابض بالحياة في مدينة (بومباي). عند عودته  نشر، أولاً باللغة الدنماركية، كتاب (لغة أڤستا)، (عصر ومصداقية لغة زند)، و(زند – أڤستا)، وصناعة أبجدية الزند: بالإضافة إلى استعراض للعائلة اللغوية عام1821م، ثم تمت ترجمتها إلى الألمانيةعام 1826م، وفيه أظهر تحليلًا صوتيًا وصرفياً شاملاً، أظهر أنه على عكس رأي معارضي  العالم الفرنسي (أنكيتيل ديبرون)، لم تكن لغة أفستا، ونصوصها الدينية، لغةً قاتمةً. ذكرى أو عملة متعمدة تستند إلى اللغة السنسكريتية؛ لكنها لغة قديمة جدًا، نشأت في بلاد فارس، وعضو مهم في عائلة اللغات الهندية الأوروبية. وقبل وفاته، بفترة وجيزة،  في عام 1831م،  تم منحه كرسي اللغات الشرقية في (جامعة كوبنهاكن).

ومنذ ذلك الحين، تقدمت دراسات وبحوث الأفستا بخصوص اللغة والمضمون سريعاً، وقام العديد من العلماء المختصين الأوروبيين بنشر نصوص وأبحاث مهمة حول زرادشت والزرادشتية، مثل: (هكذا تكلم زرادشت) للفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه)(1844- 1900م)، في الربع الأخير من القرن التاسع عشـر. بل ونتيجة تلك الأبحاث ودراسات الآفستا، قد استفاد العديد من الباحثين الأوروبيين من بعض الأفكار المادية والمثالية الاجتماعية، الدياليكتيك، وبعض أمور حركة الكون، الواردة عبر نصوص هذه المخطوطة المهمة أيضاً.

   وفي سنة1834م أخذت الحكومة البريطانية على عاتقها زمام إدارة ممتلكات شركة الهند الغربية، وبدأت تديرها على أغلب أراضي الهند الواسعة. ومع أن منطقة (نافساري) الهندية، من بين كل المراكز الزرادشتية، لم تدخل ضمن التاج البريطاني، إلا أن التلاميذ الهنود - بمختلف أديانهم- تعرفوا على التعليم المسيحي حتماً من خلال دراستهم للأدب الإنكليزي، وناهض العلم الغربي -في ذلك الوقت- الكثيرمن العقائد التقليدية الهندوسية والزرادشتية. وكان المبشـر الاسكتلندي (جون ويلسون) (1804-1875م)، قد وصل إلى (بومباي) في عام1829م، ووجد أن البارسيين الزرادشتيين يشكلون جزءاً كبيراً من سكانها. لذا، وضع لنفسه هدفاً واضحاً، تجلى في رغبته بنقلهم من حضن الزرادشتية إلى حضن المسيحية. وبعد دراسته للآفستا، التي ترجمها الفرنسـي (أنكيتا دي بيرون)، وكتاب (البندهشن)، ومؤلفات أوروبية أخرى، هاجم المبشر (ويلسون) الزرادشتية، على صفحات الجرائد، بالمواعظ والأحاجي، مستخدماً أسلوباً دعائياً جديداً. انتقد ويلسون من خلالها الثنوية الزرادشتية، واستهزأ بشدة من معلومات كتاب (البندهشن) عن علم نشأة الكون، والأساطير القديمة، واستهزأ أيضاً من كتاب (الفنديداد)، وقوانين طهارته، وقارنها مع العهد الجديد المسيحي.

أثارت انتقادات (ويلسون) للزرادشتية، وكتبها المقدسة، اندهاش البارسيين الزرادشتيين، وهلعهم، كاندهاش مسيحي من القرن العشـرين، عندما يتعرف - لأول مرة - إلى بعض مقاطع (العهد القديم)، التي تروي بشكل أسطوري روايات عن بداية خلق الكون!. كما وصل الأمر بأحد البارسيين إلى اعتبار(البندهشن) كتاباً مزوراً لا أساس له تماماً. (ينظر: ماري بويس، تاريخ الزرادشتية، مرجع سابق، ص221 – 222).

وفيما بعد قام المستشرق الألماني (مارتين هاوك) (1827- 1876م) باكتشاف غيّر أشياء كثيرة، منها أن كتاب (الكاتها – الكاثات – الكات – الأناشيد) تعد أقدم أجزاء الآفستا بدائيتين أساسيتين، كما أن الكاتا تعد كلمات زرادشت الحقيقية. وعلى ضوء هذا الاكتشاف، تَرجم من جديد نصوصاً صعبةً جداً، ومحاولاً العثور على البرهاني الحقيقي على عقيدة التوحيد الواضحة عند زرادشت، فوجد دليلاً على ذلك في أحكام (الكات) المتكررة عن الشياطين (= الديفات)، وفسرها كرفض لكل الموجودات الإلهية ما عدا آهورامزدا، وهذا كان خطأً بالنسبة إلى عالم عرف (الفيدات)، التي تعني فيها كلمة (ديفا – الإله). كما أن الثنوية واضحة للعيان في (الكات)، ففسرها (هاوك) قائلاً بأنه أظهر الاختلاف الدقيق بين علم لاهوت زرادشت، الذي اعترف فيه فقط بإله واحد (= آهورامزدا)، وبين مذهبه الفلسفي الخالص، عن وجود عِلتين بدائيتين أساسيتين (أي سبينتاماينيو، وأنكراماينيو)، وأعلن (هاوك) أن ( أميشاسبينتا عبارة عن أسماء وأفكار مجردة).

وخلال سنة 1859-1866م زار(هاوك  Haug) الهند، حيث شغل منصب المشرف وأستاذ اللغة السنسكريتية في الكلية الحكومية في (بونا). كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسة لقبول التعيين: التعرف على تعلم الكهنة الزرادشتيين والهندوس، ورفع مستوى التعليم والمنح الدراسية الهندية التقليدية، وتغييرها من خلال إدخال الأساليب الغربية، وجمع المخطوطات. إن طريقته الحميمة والودية والودودة في التواصل مع البراهمة الهندوس، والكهنة البارسيين (dasturs) ، مكنته من الحصول على المعلومات الأكثر شمولاً ودقة فيما يتعلق بمعتقداتهم وطقوسهم وعاداتهم.. فضلاً عن ذلك، ومن خلال محاضـراته، ألهم الجيل الأصغر من البراهمة والبارسيس الزرادشتيين بالاهتمام بكتابهم المقدس. كان (راماكريشنا جوبال بهانداركار) من أشهر تلاميذه، من بين النقاد، الذي أصبح فيما بعد مؤسس الدراسات الشرقية في الهند.

في 1863-1864 سافر (هاوك) إلى ولاية (كوجارات) الهندية لمدة ثلاثة أشهر، بحثاً عن المخطوطات القديمة. فقام بشـراء العديد من المخطوطات القيمة نيابة عن الحكومة البريطانية، كما اشترى مخطوطات Avesta و Pahlavi و Vedic لمجموعته الخاصة، والتي حصلت عليها مكتبة الدولة الملكية (Königliche Staatsbibliothek)  في (ميونيخ)، بعد وفاته. وأثناء وجوده في الهند، تعاون (هاوك) مع رجل الدين الزرادشتي (الدَستور هوشنك جماسبي)، ومع الباحث البريطاني (إدوارد ويليام ويست) (1824 – 1905م)، الذي عمل كمهندس رئيسي في أحد خطوط السكك الحديدية الهندية. وقام بإعداد خمسة مجلدات من النصوص البهلوية، لسلسلة كتب البروفيسور (ماكس مولر) المقدسة الضخمة للشـرق، ونُشرت هذه الترجمة بين عامي 1880 و 1897 كجزء من سلسلة كتب الشـرق المقدسة لماكس مولر..  وكانت هذه الترجمة المكونة من خمسة مجلدات لنصوص بهلوي، من عمل (إدوارد ويليام ويست)، الذي قام بالتعليم الذاتي إلى حد كبير، حيث طور معرفته باللغات الشـرقية القديمة في الهند، حيث عمل كمهندس مدني. وبعد عودته إلى أوروبا، ركز (ويست) على دراسة النصوص الزرادشتية المقدسة، وأعد هذه الترجمات للمخطوطات البهلوية. كتاباته وطبعاته لا تزال مذكورة حتى اليوم في الدراسات الهندية الإيرانية. إن Nasks (= النَسك)هي محور المجلد 4، حيث يجمع (West)، ويترجم، ويحلل أجزاء مثل الأسماء والملخصات والاقتباسات الضالة من الكتب الأخرى، من أجل تقديم كل ما هو معروف من الأطروحات الأصلية الواحدة والعشـرين، التي تحتوي على الأدب الساساني الزرادشتي. كانت الرسائل نفسها عبارة عن سجلات لما تم فقده، بشكل أسطوري، بعد غزو الإسكندر الأكبر لبلاد إيران، في القرن الرابع قبل الميلاد. وقدر المستشـرق (ويست) مجموع كلمات (الآفستا) بخمسة وأربعين وثلاثمائة ألف وسبعمائة ( 453700) كلمة. (ينظر: آرثر كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص497).

لم تكن الهند جيدة لصحة المستشرق (هاوك)، والتي تدهورت لدرجة أنه في عام 1866م عاد إلى (ألمانيا) للتعافي. وفي البداية عاش في (ريوتلنجن)، و(شتوتغارت)، كعالم خاص، وأكمل مسرد مصطلحات Zend-Pahlavi ، وهو عمل تم تنفيذه في الهند بالتعاون مع رجل الدين البارسي الزرادشتي (الدَستورهوشنك جماسبي).  وفي عام 1868م تم تعيينه في منصب رئيس قسم اللغة السنسكريتية وعلم فقه اللغة المقارن، الذي تم إنشاؤه حديثًا في جامعة ميونيخ، وشغل هذا المنصب حتى وفاته المبكرة في يونيو 1876م في (سويسـرا)، حيث ذهب للحصول على مزيد من الرعاية الطبية من مرض أصابه، مما أثر على الأعصاب والرئتين.

وتجدر الإشارة إلى أنه حضر محاضراته حول فقه اللغة الهندية الإيرانية، واللغويات والدراسات الشـرقية، ليس فقط طلاب (جامعة ميونيخ)، وأجزاء مختلفة من ألمانيا، ولكن أيضًا من قبل علماء شباب من الهند، وإنكلترا، وأمريكا الشمالية، وروسيا، وإسبانيا، والبرتغال، واليونان .

وأثناء وجوده في الهند، نشـر (هاوك)، إلى جانب أطروحته (معالم بارزة في دراسة البهلوية)، نشـر مقالات عن اللغة المقدسة (=الآفستية)، وكتابات حول دين الفرس، في مدينة (بومباي)، عام 1862م، والتي قدمت أول وصف نحوي للغة الأفستا مقارنة باللغة السنسكريتية، تمثل ترجمته للكاتات (= الأناشيد)، أحد أقسام الآفستا المهمة، والتي نُشـرت في مجلدين 1858-1860م وهي أول ترجمة علمية غربية لهذه الترانيم الصعبة.

كانت مساهمات (هاوك) في المنح الدراسية، والتي ظلت مؤثرة في القرن العشـرين، في الغالب، في مجال الدراسات الإيرانية القديمة والوسطى. كانت الموضوعات الرئيسية لبحثه هي فقه اللغة الإيرانية والأدب الزرادشتي، أفستا واللغة البهلوية، على حد سواء. تشمل أهم أعماله مسـرد Zend-Pahlavi القديم، و An Old Pahlavi-Pazand Glossary ، وكلاهما نُشر عام 1870م في لندن وبومباي، بالتعاون مع رجل الدين البارسي الزرادشتي الدَستور (هوشنك جماسبي) Dastur Hoshang Jamaspji Asa و E.W West ، كما نشر كتاب (أردا فيراف) في بومباي ولندن، بين عامي1871-1874م.

تلي تلك المرحلة التمهيدية، أو الأولى، من دراسة هذه اللغة، مرحلة جديدة، تطورت فيها معرفة اللغة البهلوية، حيث جُمعت فيها الكتب الدينية وغير الدينية، المدونة بهذه اللغة، مما كان يخفيه علماء الدين الزردشتي (البارسيون) طوال قرون عديدة، حتى ظهر هناك علم جديد يعرف بتاريخ الأدب البهلوي. ومن أهم من قاموا بتلك الدراسات: المستشرق الألماني (مولر) M.j Muller ، الذي استطاع أن يوفق إلى قراءة وتصحيح نسخة من (الآفستا)، تلك التي جلبها معه المستشرق الفرنسي (أنكيتل دي ديبرون) من الهند.. في حين تمكن بعض المستشرقين منهم: (مولر، ووست، وهاوك، وآندرياس) FR.muller, West, M.houng,Andereas ، في نفس الفترة، من دراسة النقوش الساسانية، وإخراج بحوث قيمة عن اللغة البهلوية .(ينظر: رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو، تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشـرين، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثالثة، ج1، ص14).

وكان المستشـرق الألماني (وليم جيجر)(1856- 1943م)، المتخصص في الإيرانيات والهنديات، قد حصل على الدكتوراه الأولى في عام1877م، برسالة عنوانها: (الترجمة البهلوية للفصل الأول من كتاب الونديداد)، و(الونديداد) إحدى الأقسام المهمة للآفستا، مختص بطرد الشياطين. ويحتوي الفصل الأول منه على ذكر لستة عشـر إقليماً في شمال شرقي إيران. في وقت لاحق من عام 1880م، نشـر ترجمة مع شرح للفصل الثالث. وفي سنة1882م أصدر أهم كتبه، وأكبرها حجماً، وعنوانه: ( حضارة شرقي إيران في العصـر القديم)، نشـره في مدينة (إيرلنجن) الألمانية، وترجمه إلى الإنجليزية (داراب داستور بيشوتان سانجانا)، وظهر في مجلدين، في (جامعة أكسفورد)، بين عامي 1885 –1887م. وفي هذا الكتاب الممتاز استند (جيجر) إلى كتابات (الآفستا)، في عرض الأحوال الحضارية في شرقي إيران، وكان (جيجر) يؤمن بأن كتب الآفستا صدرت عن منطقة شرقي إيران (= باكتريا – خوارزم – أفغانستان الحالية)، في الزمان السابق على قيام الإمبراطورية الميدية والإمبراطورية الأخمينية الفارسية. وكان هناك رأي مخالف، كان من أنصاره  Fr. Siegel  وCh. Deharly  و F.Justi  (وكان أستاذاً لجيجر) – يقول: إن الكتابات الخاصة بالآفستا نشأت في شمال غربي إيران (= أتروباتين - آذربيجان الحالية)، وفي وقت متأخر. وقد أيد البحث الحديث، فيما بعد، ما ذهب إليه (جيجر)، ولم يعد يأخذ برأي هؤلاء الثلاثة أحد، وإنما بقي السؤال مفتوحاً عن : أين ومتى حررت المجموعة التي وصلت إلينا من الكتابات الآفستائية الحديثة؟  (ينظر: عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص224 – 225).

   كما لا يمكن  نسيان مساهمات المستشـرق الفرنسـي اليهودي (جيمس دارمشتاتر) الرئيسية في ترجمة الآفيستا إلى اللغة الإنكليزية، التي أعدت بالتعاون مع (إل إتش ميلز)، وبتحرير المستشرق واللغوي الأنكلو- ألماني (ماكس مولر) (1823-1900م)، وتم نشـرها في سلسلة الكتب المقدسة للشـرق (المجلد 4 ، 23 ، 31 ، 1883-1887م). وفي التعليق التاريخي لهذه الترجمة لـ  Avesta  إلى الإنكليزية، أقتنع (دارمشتاتر) أن هذه الكتب المقدسة - كونها في الواقع كتاب صلاة، ومجموعة من الطقوس - لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة الدين، الذي لا يزال يمارس من خلاله طقوسهم. لذلك، وفي فبراير/ شباط عام1886م، فور انتخابه لرئاسة قسم اللغات الإيرانية في (الكولج دي فرانس)، غادر باريس متوجهاً إلى مدينة بومباي في الهند، مقر جماعة البارسيين الهنود. وشكلت الأشهر الثلاثة عشـر التي قضاها في الهند، في كثير من النواحي، أهم فترة في حياته. ففي (بومباي) تعرَّف على حكماء طائفة الزرادشتية، وقرأ مخطوطات لا تقدر بثمن مع رجل الدين البارسي الزرادشتي (تحمو راز الموقر)؛ وناقش إشكالية الطقوس الزرادشتية، وعرضها بصورة تتلائم مع اليقظة والعقلية الحديثة، مع رجل الدين البارسي الزرادشتي (يفانجى مودي). ووضع هناك الأساس لترجمة (الآفيستا)، التي تعد حقبة تاريخية، وهناك أيضًا توصل إلى استنتاج مفاده أن آثار الأفيستا قد بولغ فيها إلى حد كبير من قبل العلماء الإيرانيين؛ وأن الكتاب المقدس الزرادشتي يحمل آثاراً ليس فقط للبوذية، ولكن أيضاً للكتاب المقدس اليهودي (= العهد القديم)، ولا سيما الفلسفة الأفلاطونية الحديثة.

اعتقد (دار مشتاتر) أن القسم الأول من المخطوطات الباقية من الأفيستا، يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، في حين أن الأقسام التالية ستكون قد ظهرت بعد قرنين من الزمان. (ينظر: كتاب الفنديداد أهم الكتب التي تتألف منها الأبستاه، نقله من الفرنسية: الدكتور داود الجلبي(1885 – 1961م)، قدم له: جرجيس فتح الله، أربيل، دار ئاراس، 2001م، ص16 – 17، نقلاً عن عن معجم السير الفرنسية).

 والمستشرق الآخر، الذي كان له إسهام كبير في الدراسات الإيرانية الخاصة بالآفيستا وزرادشت، هو (أبراهام ويليامز جاكسون) A.v.WILLIAM JACSON ، وُلد في مدينة (نيويورك)، في 9 فبراير/شباط 1862م، وتوفي في 8 آب/ أغسطس عام 1937م، تخرج من (جامعة كولومبيا) عام 1883م. وكان زميلًا في الآداب هناك من عام 1883 إلى عام 1886م، ومدرساً للغة الإنكليزية، واللغات الإيرانية، من عام 1887 إلى عام 1890م. بعد الدراسة في (جامعة هال)، من عام 1887 إلى عام 1889م، أصبح أستاذاً مساعداً للغة الإنكليزية، وآدابها. وفي عام 1895م تم تعيينه محاضرًا عامًا، وعُين أيضًا في منصب أستاذ اللغات الهندو- إيرانية، الذي تأسس حديثًا في جامعة كولومبيا، حيث ظل فيها حتى عام 1935.. وفي عام 1901م زار الهند وسيلان، وتلقى اهتمامًا خاصًا من إحدى عائلات بارسيي الهند المشهورة، الذين أهدوا إلى جامعة كولومبيا مجموعة قيمة من المخطوطات الزرادشتية، تقديراً للجهود والمساهمات التي قدمها (جاكسون) لهم في التعريف بنصوصهم القديمة. وفي عام 1903م قام برحلة ثانية إلى الشـرق، وهذه المرة زار إيران أيضاً، كما زار آسيا الوسطى في وقت ما قبل عام 1918م.

 ولا تزال نظرية (جاكسون) حول تاريخ زرادشت، وتاريخ الآفستا، اللغة المستخدمة في الأسفار الزرادشتية المقدسة، تعد العمل الأساسي في هذا الموضوع، ولها الريادة. وكان (جاكسون) أحد مديري الجمعية الشرقية الأمريكية، ونشر عدة كتب مهمة، منها: ترنيمة زرادشت عام1888م، وهو كتاب نحوي مقارن بين  لغة الآفستا واللغة السنسكريتية، وكتاب الآفستا Avesta  عام1893م، وكتاب نبي إيران القديمة عام1898م، وبلاد فارس الماضي والحاضر عام1900م، والكتالوك الوصفي للمخطوطات الفارسية عام1906م، في متحف متروبوليتان للفنون في عام1913م، ومن القسطنطينية إلى منزل عمر الخيام عام1911م، مسرد (= فهرس) وصفي للمخطوطات الفارسية قدمه إلى متحف المتروبوليتان للفنون أ.س.كوكران في نيويورك عام1914م، وبالاشتراك مع أ. يوهانان، نشـر الأدب الفارسي المبكرعام1920م، كما قدم العديد من المساهمات في مجلة الجمعية الشـرقية الأمريكية، وقام بتحرير سلسلة جامعة كولومبيا الهندية الإيرانية في (13) مجلدًا، صدرت في نيويورك ما بين الأعوام 1901-1932م.

وكان البارسيون الهنود، في تلك الحقبة، قد ساهموا مساهمة كبيرة في دراسة ديانتهم الزرادشتية، وبالأخص في مجال إصدار ونشر النصوص البهلوية، ولكن كان هناك نواقص في تطور البحوث اللاهوتية، عندئذٍ قررت مجموعة من الإصلاحيين الزرادشتيين، بقيادة (خورشيدى كاما)، أن يرسلوا كاهناً شاباً من منطقة ( بانت بهاكاري) الهندية، وهو: (مانكجي دهالا) إلى نيويورك، للدراسة على يد المستشـرق الأمريكي (وليامز جاكسون)، المختص في علم اللغات الإيرانية والسنسكريتية. بعدها أعلن (دهالا) في مذكراته، بأنه "ترك الهند مؤمناً زرادشتياً مخلصاً، ولكن بعد أن قضـى ثلاث سنوات ونصف في الخارج بات يقارن بين عقائده التقليدية وبين المفاهيم العلمية الغربية، فكانت النتيجة بأنه أهمل طقوسه الدينية..". (ماري بويس، تاريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشرين، ترجمة: خليل عبدالرحمن، السليمانية، منشورات مركز الدراسات الكوردية (كوردولوجي)، 2010م، ص238). أي بعبارة أخرى، فإنه ترك الزرادشتية التقليدية (= الأرثوذكسية)، وأصبح زرادشتياً إصلاحياً وفق النمط الغربي.

وقد توصل المستشرق الأمريكي (وليامز جاكسون) إلى نتائج عن اللغة الأفيستائية بعد إجراء أبحاث عن زرادشت وديانته، نجملها فيما يلي :

1- أن زرادشت شخصية تاريخية، وأنه من طائفة المغ، إحدى طوائف الماديين الستة، الذين يسمون بالمجوس .

2- أنه عاش تقريباً في أواسط القرن السابع قبل الميلاد، أي قبل ظهور الماديين، وتوفي سنة 583 ق.م، وله من العمر 77 عاماً .

3- أن زرادشت من غرب إيران، إما من (أتروباتن ATROPATEN) (ماد الصغرى =حالياً آذربيجان)، وأول انتصاراته كانت في مدينة (بلخ)، عندما اعتنق مذهبه الملك ويشتاسب (= كشتاسب).

 4- تعتبر الجاثات، وهي أقدم أجزاء الآفستا، جوهر مواعظه التي قالها في (بلخ)، حيث تنعكس فيها الأمانة والصدق .

 5- إن عقيدة زرادشت انتشـرت أولاً في بلخ (= افغانستان الحالية)، وأن اللغة الأفستائية كانت مستخدمة في بلخ القديمة (باكتريا)، وأن اللغة الباكتيرية كانت لغة تعاليمه، ولم يكتب بها سوى كتاب الآفستا. أما الأهازيج القديمة، المسماه بالجاثات، فإنها نظمت بلهجة أخرى. وأن اللغة الأفستائية لها حروف خاصة بها مستخرجة من الخط البهلوي، ولها مزايا عدة.

ويلاحظ أيضاً أنه ذكر مدينة (هكمتانا - همدان)، التي كانت عاصمة إيران في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت تعتبر من المدن الشهيرة في العالم القديم حتى قبل الميلاد، حتى قبل أن تكون عاصمة الماديين. كذلك أشارت الآفستا إلى مدينة بابل بصورة مؤولة على شكل (بواراى  Bawray ) أي (بابليون). أما الشعب الذي تحدث عنه كتاب الأفيستا، فمذكور أنه شعب بسيط للغاية، وله نفس صفات الحياة البدائية للآريين القدماء .

*    *    *

 وعلى الصعيد نفسه، وفي عام 1898م، تأسست - لأول مرة  في تاريخ إيران المعاصـر- الجمعية الزرادشتية في طهران، في منطقة (خان مشير)، ضمت أربعة عشـر شخصية زرادشتية، وهم كل من:

     (کیخسرو شاهرخ ، أردشیر مهربان ، شهریار خداداد بهمن رستم ، فریدون خسـرو اهرستانی، جمشید مهربان کرمانی ، جمشید خداداد ، نامدار کیخسـرو ، أسفندیار رستم ، بهمن بهرام ، گیو شاهپور پارسی، أردشیر خسـرو زارع قاسم‌آبادی ، آقا بهمن رستم دینیار ، شهریار بهرام ، خسـرو شاه‌جهان). (ينظر: خاطرات مهرانگیز دولتشاهی، مجموعه تاریخ به روایت تاریخ سازان، شاهرخ مسکوب، غلامرضا کردگاری، تهران، صفحه سفید؛ چگونگی تأسیس انجمن زرتشتیان تهران. بایگانی‌شده از اصلی در ۳ ژوئیه ۲۰۱۶).

وفي عام 1908م أسس زرادشتيو طهران النار المقدسة  (آداران)، التي خضعت لرعاية كهنة مدينة (يزد)، وفي عام 1914م تم بناء معبد النار الزرادشتية في (طهران) (= آتشكده آدريان)، في شارع سيتير، بمساعدة جمعية البارسيين الهنود، والجالية الزرادشتية في طهران، بأمر من أرباب (كيخسرو شاهروخ)، وتحت رعاية موبيدي مدينة يزد (= المقر الرئيس لزرادشتيي إيران)، وبنوا لأجلها معبداً وفق الطراز البارسي (= على غرار معابد النار في بومباي في الهند)، ووضعوا النار في وعاء معدني ليراها كل متعبد يدخل المعبد.

وكان التاجر والصيرفي الزرادشتي (جمشيد باهملن جمشيديان) قد حافظ على النار المقدسة (= دادكاه) في بيته، قبل أن يشعلها (أعضاء المجلس الزرادشتي) في معبد طهران، وفيما بعد صار( جمشيد) من أغنى الناس، وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً في أواخر العهد القاجاري في إيران. وهو الذي ساند ودعم الحركة الدستورية في إيران، وبعد صعوبات كثيرة دعي مجلس البرلمان للانعقاد في عام1906م، وأصبح التاجر الزرادشتي (جمشيد) أحد أول النواب في المجلس الجديد. وهكذا تعلق البروفيسورة البريطانية (ماري بويس)، المختصة بالزرادشتية، على هذا الحدث بالقول: "هكذا دوى الصوت الزرادشتي من جديد في برلمان إيران الحاكم، بعد أكثر من ألف عام (= في إشارة إلى حكم الدولة الفارسية الساسانية). وفي سنة 1909م قُرِرَ بأن تنتخب كلُ أقلية قومية في إيران ممثلاً لها في البرلمان". (ينظر: ماري بويس، تاريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشرين).

ومن جانب آخر، أصبح (أرباب كيخسـرو شاهروخ) أول نائب زرادشتي في البرلمان الإيراني، وهو من عائلة كرمانية قديمة ومتعلمة، أرسل عندما كان صغيراً للدراسة عند البارسيين الزرادشتيين في مدينة بومباي بالهند، حيث بهرته نجاحات البارسيين هناك، فضلاً عما عرفه عن المجد الغابر لتاريخ إيران القديم.

وفي القرن التاسع عشر انتشر اسم (كورش)، مؤسس السلالة الأخمينية الفارسية، بين البارسيين الزرادشتيين في الهند، واعترف بالقرص الدائري، أحد رموز الإمبراطورية الأخمينية (= الهخامنشية)، والذي كان معلقاً في نقوش العاصمة الأخمينية الفارسية القديمة (=برسيبوليس- تخت جمشيد) رمزاً للزرادشتية، وعلق بفخر على البوابات الخارجية أمام أعين الجميع لمعابد الناروالمدارس والمؤسسات الزرادشتية في إيران والهند.

وفي سنة 1925م وافق البرلمان الإيراني، تحت ضغط (كيخسـرو)، على استخدام الأسماء الزرادشتية، لشهور التقويم الشمسي. وفي السنة نفسها عزل البرلمان آخر ممثل من سلالة القاجاريين، الذين حكموا إيران من 1796م لغاية عام1925م، ورشح بدلاً عنه رئيس الوزراء السابق (رضا خان بهلوي). ولذا سعى (رضا خان) كثيراً من أجل تقوية الشعور بالفخر القومي، من خلال الاهتمام الكبير الذي أولاه لعظمة الامبراطوريات الإيرانية السابقة: الأخمينية، والبرثية، والساسانية. وبهذا الشكل تطابقت أهداف الشاه مع الأهداف الزرادشتية.

وعندما تم تتويج (رضا خان بهلوي) شاهاً على إيران، في سنة 1925م، ألقى رئيس وزرائه (محمد فروغي) (1877 - 1942م)، خطاباً مجّد فيه التاريخ الإيراني قبل ظهور الإسلام، مصرّحاً أنّ الأمة الإيرانيَّة اليوم استولى عليها شاه ينحدر من العرق الإيراني الخالص. ثمّ أخذت تعود ملامح إيران القديمة حتى في تسمية الكثير من الأماكن والمدن، وطبعت صوره ببهاء مع صور: زرادشت، وكورش، وداريوش الأول، وغابت تماماً الرموز الإسلامية عن تلك الصور، وازداد نشاط الكهنة الزرادشتيين أثناء هذه الاحتفالات، فأعطوا أحاديث للراديو، عرفت المستمعين من خلالها بتاريخ إيران القديم.

وأدخل الشاه، في سنة 1934م، تدريس الكتاب المقدس الزرادشتي ( = الآفستا) وفلسفتها، ونصوصاً باللغة البهلوية والفارسية الدرية إلى كلية الآداب في جامعة طهران، بعيد تأسيسها في نفس السنة، وزيّنت الأبنية الحكومية بشعارات وصور الآلهة المجنحة من العصـر الأخميني. كما أصدر البرلمان الإيراني قانوناً ينص على المساواة بين المسلمين والزرادشتيين، ويعاقب كل من يتطاول على الزرادشتيين. ودعمت الحكومة العلاقة بين زرادشتيي الهند (=البارسيون) وزرادشتيي إيران(= الكَبَرّ)، وأهدى مجلس البارسيين نصباً تذكارياً للشاعر الإيراني الفردوسي سنة1934م، بمناسبة مرور 1000عام على مولده. وما زال هذا النصب قائماً في وسط طهران. كما صدرت في عهده مجلات ودوريات زرادشتية، وبرامج إذاعية، حول تاريخها.

وشملت موضة الاهتمام بالزرادشتية الفئة الارستقراطية، وكذلك الطبقة الإيرانية المثقفة، وبعض الارستقراطيين من طهران، وكذلك رجال المجتمع والسياسة من المسلمين المعروفين، حيث أدخلوا أبناءهم المدارس الزرادشتية (فيروز باهرام، للأولاد)، و(أنوشيروان دادجر، للبنات). وفي إحدى المقابلات الصحفية ثمنت إحدى بنات الشاه رضا بهلوي الدراسة في المدارس الزرادشتية؛ وهذا كان كافياً لأجل ترسيخ وجهة النظر الرسمية، وكأن الأولاد في المدارس الزرادشتية يتلقون الأسس الأخلاقية الثابتة. (ينظر: إيلينا دراشنكو، ترجمة: خليل عبدالرحمن، مكتبة جار جرا، 2007م، ص156 -157).

  وقد اجتهد المجمع‌ اللغويّ الإيرانيّ (مجمع اللغة والأدب الفارسـي- فرهنگستان زبان وأدب فارسی)، الذي تم تأسيسه في 20 أيار/ مايو عام 1935م زمن الشاه رضا البهلوي‌ّ، تحت‌ شعار المحافظة‌ علی الآثار القوميّة‌، إلی‌ استبعاد الكلمات‌ العربيّة‌ باعتبارها لغة‌ أجنبيّة‌ دخيلة‌، سعياً مباشراً منه‌ إلی‌ القضاء علی روح‌ الإسلام‌.

ويعلق الفيلسوف الإيراني مرتضى مطهري ( 1919-1979م) على هذه الإجراءات بالقول: "وها هو إلیوم‌ أيضاً يتابع‌ نفس‌ النهج‌ والمسار، وكانوا يقتفون‌ خُطى المؤرخ الإيراني (أحمد كسروي‌ - 1890-1945م) ـ وكان‌ نفسه‌ من‌ أفراد هذه‌ الزمرة‌، فيستخرجون‌ المفردات‌ البهلويّة‌ الغريبة‌ من‌ طيّات‌ الكتب‌ المتروكة‌ والمعاجم‌ اللغويّة‌، فيجعلونها مكان‌ الألفاظ‌ العربيّة‌ المليحة‌ السهلة‌ المأنوسة‌ التي‌ دخلت‌ في‌ الفارسيّة‌ فأضفت‌ عليها ملاحةً عجيبة‌. وكان‌ هناك‌ في‌ زمن‌ رضا خان،‌ وابنه‌ محمّد رضا البهلويّ، مؤسّسة‌ في‌ البلاط‌ ترتبط‌ بوزارة‌ المعارف‌ والثقافة‌ بخصوص‌ هذه‌ الاُمور، وكانت‌ تبذل‌ قصارى‌ وُسعها في‌ محو الثقافة‌ الإسلاميّة‌ والمفردات‌ العربيّة‌. وكانوا يهدرون‌ أموال‌ الشعب‌ في‌ إدارة‌ المجمع‌ اللغوي‌ّ، الواقع‌ خلف‌ مدرسة‌ (سبهسالار)، في‌ هذا الأمر، فقاموا بتغيير اسم‌ (مسجد) إلی‌ (دمرگاه‌)؛ و(قبرستان‌ = المقبرة‌) إلی‌ (گورستان‌)؛ و(اجتماع‌ ) إلی‌ ( گردهمائي‌)؛ و(خصوصاً ) و(مخصوصاً) إلی‌ (ويژه‌)؛ و(جمع‌ وتفريق‌ وضرب‌ وتقسيم‌) العمليّات‌ الرياضيّة‌ الأربع،‌  إلی‌ (أفزايش‌ وكاهش‌ وزدن‌ وبخش‌). وهكذا الأمر في‌ سائر المصطلحات‌ الرياضيّة‌، بحيث‌ كان‌ المعلّمون‌ أنفسهم‌ يصابون‌ بالدوار أحياناً، ويعجزون‌ عن‌ بيان‌ ما يرمون‌ إلیه‌.  وهذه‌ الاُمور تحصل‌ من‌ أجل‌ إبعاد الناس‌ عن‌ لغة‌ القرآن‌، ولقطع‌ ارتباطهم‌ بـ (نهج‌ البلاغة‌)، ولتغريبهم‌ عن‌ الجمعة‌ والجماعة‌، ولسلب‌ معرفتهم‌ بهذه‌ المعارف‌ الأصيلة‌. ومن‌ هذه‌ المقولة‌ حذف‌ حرف‌ الطاء من‌ الكلمات،‌ وإبداله‌ بحرف‌ التاء، كتبديل‌ كتابة‌ لفظ‌ طهران‌ إلی‌ تِهران‌؛ والأمر كذلك‌ بالنسبة‌ إلی‌ باقي‌ الحروف‌ العربيّة،‌ مثل:‌ ظ‌، ص‌، ض‌، ع‌، غ‌، ث‌، ذ" (ينظر: الإسلام وإيران، مرتضى مطهري).

ويستطرد السيد مطهري حول فوائد تدريس اللغة العربية للطلاب منذ مراحل الطفولة المبكرة: "ولو كان‌ تدريس‌ العربيّة‌ يجري‌ في‌ يُسر وسهولة‌ منذ زمن‌ الطفولة‌، وكان‌ ضمن‌ برنامج‌ الأطفال‌، ثمّ يتدرّج‌ الأمر، لصار فتياننا وشبابنا قادرين‌ عند بلوغ‌ المرحلة‌ الجامعيّة‌ علی القراءة‌ والكتابة‌ والتكلّم‌ بالعربيّة‌، ولأضحوا قادرين‌ علی مراجعة‌ الثقافة‌ العظيمة‌ للتاريخ‌ والحديث‌ والفقه‌ والتفسير، وعلى‌ الارتواء من‌ مناهل‌ العرفان‌. لكنّهم‌ ـ علی العكس‌- وضعوا دراسة‌ العربيّة‌ في‌ المراحل‌ العالیة‌، بأُسلوب‌ غير صحيح،‌ يعسر فهمه‌ علی المعلِّم‌ والتلميذ علی حدٍّ سواء. فهم‌ يتعمّدون‌ إتعاب‌ التلاميذ، وسلب‌ اشتياقهم‌ للتعلُّم‌. ثمّ إنّهم‌ يضعون‌ درجة‌ امتحانيّة‌ للرياضيّات‌ (الجبر والحساب‌ الاستدلالي)، وللفيزياء والكيمياء، ولا يضعون‌ درجةً للعربيّة‌، بل‌ إنّهم‌ يضعونها في‌ درجة‌ تافهة‌، يتساوي‌ فيها وجودها وعدمه‌. (مرتضى مطهري، الإسلام وإيران).

 

وفي السياق نفسه، فقد شاركت شخصيات إيرانية من غيرالزرادشتيين، في دعم الجهود الزرادشتية من أجل إحياء تاريخ إيران القديم، وبعث التراث الزرادشتي من جديد. وكان على رأس هؤلاء الدكتور (إبراهيم پورداود) ( 1886-1968م)، الذي بدأ بترجمة كتاب (الآفستا)، بأجزائه المتعددة، من اللغة البهلوية إلى اللغتين الفارسية والإنكليزية معاً، بدعم سخي من المجلس الزرادشتي في إيران، ومدينة بومباي الهندية.

وكانت (الآبستا – الآفستا) مكتوبة في البدء باللسان الآفستي، ثم نقلت إلى اللسان البهلوي على عهد الساسانيين، وتوجد أقسام منها باللغة السنسكريتية، يقرأها البارسي الزرادشتي في الهند، وتوجد لها ترجمة باللغة الكجراتية الهندية.

أما الترجمة الفارسية، فقد صدرت لغالبية أجزاء (= كتب) الآفستا، على التوالي، طيلة أكثر من (38) عاماً، على يد (إبراهيم پورداود)، كما أسلفنا، ولم ينته طبع جميع أجزائه، فطبع كتاب ( الكاتا- الكاثا – وهي أناشيد مجوسية أنشئت في مبدأ القرن السادس ق.م، أدرجت في اليسنا) في مدينة (بومباي) الهندية عام1926م. أما كتاب يشتها (وهي مجموعة مدائح وتضـرعات وعبادات وقرابين)، فقد صدرت الطبعة الأولى عام1928م، باللغة الإنكليزية، في (بومباي) أيضاً، فيما صدرت طبعة ثانية عام1931م، باللغة الفارسية، في مدينة (بومباي) كذلك.

 أما كتاب (خرده آفيستا)، أي الآفستا المختصرة أو الصغرى، فقد صدر عام1931م، بينما صدر كتاب يسنا (وهي أدعية تقرأ عند تقديم القرابين) في بومباي، عام1933م. أما طبعة طهران، فقد صدر منها عام1958م – الجزء الثاني من مجموعة يسنا، وتتضمن خطابات تخص موضوعات تاريخية تتعلق بالتاريخ الإيراني القديم. أما كتاب (الكاتا)، فقد طبع في مدينة (بومباي) عام 1950م، في طبعة ثانية. فيما طبع كتاب (الكاتا) في طهران عام1957م، مع معجم لكلمات الآفستا.

وطبع كتاب الويسبرد (كتاب خاص بالمراسيم الدينية وترتيبها)، في طهران، عام1964م، مع جزء آخر من كتاب آفستا، الذي نشره (بهرام فرخوشى)، حيث اكتمل الكتاب، ما عدا كتاب الونديداد، أو العقيدة المضادة للشياطين، فهو أحد أعمال (إبراهيم پور داود) غير المنشورة. وكان المستشرق الفرنسي (جيمس دار مشتاتر) قد ترجمه إلى اللغة الفرنسية، ثم قام العالم العراقي الدكتور (داوود الجلبي الموصلي)(1879-1961م) بترجمته من الفرنسية إلى اللغة العربية عام1955م، ونشر في بغداد.

تعتبر ترجمة الآفستا Avesta من أبرز أعمال الدكتور (إبراهيم پور داود)، بالنظر إلى سياق تعبيرات الآفستا، وبُعدها عن أسلوب اللغة الفارسية اليوم، بالإضافة إلى النص الصعب والغامض للآفستا الأولى المدونة باللغة البهلوية. وتتضح أهمية عمل (پور داود)، أنه حاول تقديم ترجمة بطلاقة للأفستا، ودون الانحراف عن قواعد اللغة الفارسية، وابتكر مؤلفات معبرة وشغوفة باستخدام الكلمات القديمة. ميزة أخرى لعمله هي المقدمة، والتوضيحات المكتوبة لكل قسم من الآفستا، بالإضافة إلى التفسير والترجمة. تعد هذه المجموعة قاموسًا رائعًا في أصل الكلمات الإيرانية، وهي واحدة من أفضل المصادر لفهم ثقافة إيران القديمة.

لقد استخدم (إبراهيم پور داود)، في بحثه، أسلوب المستشرقين الألمان، وتأثر بهم بشكل خاص من حيث إظهار العديد من المراجع والهوامش العديدة، واحتل مكانة عالية بين علماء إيران حول العالم، ولم يسبق له مثيل بين معاصريه، بسبب معرفته الشاملة بالألمانية والفرنسية، ومعرفته باللغتين العربية والإنكليزية، وأسلوبه البحثي الأوروبي، والحرص الشديد في الاستشهاد بالمصادر، واستخدام جمل قصيرة وكاملة، والبساطة، وإدخال العديد من المعاني في جمل قصيرة، وتجنب التكرار، وتجنب تراكيب الكلمات غير الطبيعية، وغير ذات الصلة.  وتجنب (پور داود) علامات الترقيم، من السمات المهمة لعمله في الكتابة والترجمة. ولم يصـر على استخدام الكلمات العربية، معتبرةً إياها من صنع الإيرانيين، وتعتبر كنزًا دفينًا للغة الفارسية.

وفي سنة1938م أصبح الدكتور (إبراهيم پور داود) أحد أساتذة جامعة طهران، وفي يوم الثلاثاء الموافق 8 سبتمبر/ أيلول عام 1942م أشـرف (پور داود) على الأطروحة التي قدمها (محمد معين) لنيل درجة الدكتوراه بعنوان (مازديسنا، وتأثيرها في الأدب الفارسي)، أي تأثير ديانة عبادة مزدا على الأدب الفارسي، وتم قبول أطروحته على أنها (جيدة جدًا). وكان من ضمن المناقشين: العالم الإيراني محمد تقي بهار( ملك الشعراء). وتم الاعتراف بمحمد معين كأول خريج لدورة الدكتوراه في الأدب الفارسي في إيران. ومنذ ذلك الحين انتخب أستاذاً مشاركاً، ثم أستاذاً لمادة (البحث في النصوص الأدبية)، في كلية الآداب- جامعة طهران.

تعرض (پور داود) للهجوم بسبب أبحاثه حول الدين والثقافة الزرادشتية، وأشاع البعض أنه تحول إلى الزرادشتية. ورد المؤرخ الإيراني (محمود نقوي)، مؤلف كتاب (پور داود باحث في العصور القديمة)، على هذا النوع من الهجوم في مقال كتبه، نقلاً عن (پور داود) نفسه، قوله: "لقد أمضيت حوالي 40 عامًا من حياتي في البلدان الأوروبية، وخاصة ألمانيا، لكنني لم أر أبدًا شعب ذلك البلد فضوليًا للغاية بشأن الشؤون الشخصية لأي شخص". لكن مرة أخرى أكرر لأولئك السادة الذين يكتبون سيرتي الذاتية، "أقول إنني لست زرادشتيًا، واسمي إبراهيم، وأنا ملتزم بدين آبائي، ومجرد الدراسة في دين الزرادشتية ليس سببًا لكوني زرادشتياً".

غير أن العالم الأمريكي، المختص بالإيرانيات: (ريتشارد نلسون فراي)(1930 -2014م)، له رأي آخر مخالف لما مر سابقاً، إن الجماعة الزرادشتية في إيران والهند امتنعت عن قبول العالم الإيراني (پور داود) في صفوفها الذي قدم الكثير في مجال الدراسات الزرادشتية، وبالرغم من محاولاته الكثيرة اعتناق الزرادشتية. (ينظر: ريتشارد نلسون فراي، تراث إيران، ص302).

ويظهر أن الدكتور محمد معين كان خاضعاً لتأثير أستاذه، وهذا ما يبدو واضحاً في المقدمة التي دبجها المشرف الدكتور (إبراهيم‌ پور داود)، بالقول: "إنّ الروح‌ الإيرانيّة‌ علی امتداد تاريخ‌ إيران‌ لعدّة‌ آلاف‌ من‌ السنين‌، حتّى‌ في‌ العصـر الإسلامي‌ّ، هي‌ الروح‌ الزرادشتيّة‌. وإنّ أيّ عامل‌ لم‌ يستطع‌ إخضاع‌ هذه‌ الروح‌ لتأثيره‌ ونفوذه‌، بل‌علی العكس‌، فإنّ هذه‌ الروح‌ قد أثّرت‌ في‌ ذلك‌ العامل‌". وعلى‌ سبيل‌ المثال‌ فـ: "إنّ الدين‌ الذي‌ جاء به‌ الفاتحون‌ العرب‌ إلی‌ الإيرانيّين‌ قد اكتسب‌ هنا صبغة‌ وواجهة‌ إيرانيّة،‌ فصار يُدعى‌ تشيّعاً، وامتاز بذلك‌ عن‌ مذاهب‌ أهل‌ السنّة‌ (التي‌ تمثّل‌ الإسلام‌ الصحيح‌ حسب‌ عقيدة‌ پور داود)".

ويعلق المفكر الإيراني الشيعي مرتضـى مطهري (1919-1979م) على جهود العالمين الإيرانيين (إبراهيم‌ پور داود)، وتلميذه (محمد معين)، في الترويج للزرادشتية، ومحاولة زعزعة الإسلام في نفوس الطلبة الإيرانيين بالقول: "ومن‌ الواضح‌ أنّ أحداً منهم‌ لن‌ يصبح‌ زرادشتيّاً، بَيدَ أنّ فتوراً وضعفاً سيطرا علی إيمانهم‌ وثباتهم‌ علی الإسلام‌، وفي‌ جهادهم‌. وهذا هو هدف‌ الاستشراق من‌ تربية‌ أمثال‌: إبراهيم پور داود، والدكتور محمد مُعين‌، حيث‌ إنّهم‌ يحطّون‌ من‌ المستوى العلميّ للقرآن‌ في‌ الأذهان‌ عن‌ طريق‌ الثقافة‌ والأدبيّات، ويصرفون‌ أذهان‌ الشباب‌ إلیهم‌ من‌ خلال‌ لفت‌ أنظارهم‌ إلی‌ مفردات‌ الزرادشتيّة‌ القديمة‌ الميّتة‌ وأدبها، ويصدّونهم‌ عن‌ ماء القرآن‌ المعين‌ وكلماته‌ وتفسيره‌، وعن‌ السير العمليّ والفعليّ في‌ نهجه‌ وطريقه‌ في‌ نهاية‌ المطاف‌". (ينظر: الإسلام وإيران عطاء وإسهام).

وبخصوص (پور داود) يستطرد السيد المطهري بالقول: "وإبراهيم‌ پور داود من‌ الملحدين‌ المعاصرين‌. ونهجه‌ وكلامه‌ وكتاباته‌ الكثيرة‌ تجلّي‌ هذا الأمر. ومع‌ أنّه‌ لم‌ يدّعِ رسميّاً بأنّه‌ من‌ الزرادشتيّة‌، لكنّ له‌ - عملاً ونيّةً وفعلاً - نزعة‌ً قويّة‌ إلى‌ هذا الدين‌. وكان‌ الدكتور محمّد معين‌ على‌ هذه‌ الشاكلة‌ خلال‌ مدّة‌ خضوعه‌ لإشرافه‌ وتأثيره‌؛ فقد كان‌ يدافع‌ عن‌ الزرادشتيّة‌ بصـراحة‌. إلاّ أنّه‌ شارك‌ بعد ذلك‌ في‌ جلسات‌ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائيّ (المفسر والفيلسوف محمد حسين الطباطبائي – 1904 – 1981م) في‌ ترجمة‌ وتبادل‌ مباحثاته‌ مع المستشرق الفرنسي‌ هنري‌ كوربان ‌(المتوفى سنة1978م) حول‌ القرآن‌ والإسلام‌ والتشيّع‌، فمال‌ إلى‌ الإسلام‌. والله‌ تبارك‌ وتعالى‌ هو أرحم‌ الراحمين‌. والأمل‌ أنّه‌ سبحانه‌ اكتفى‌ بعقوبته‌ في‌ الدنيا، وطهّره‌ بذلك‌ عن‌ تحمّل‌ العقاب‌ الأخروي‌ّ. فقد أُصيب‌ آخر حياته‌ بالجلطة‌ الدماغيّة‌ فأجريت‌ له‌ عمليّة‌ جراحيّة‌، لكنّه‌ لم‌ يَعُدْ إلى‌ الوعي‌ بعد انتهاء العمليّة‌ الجراحيّة‌. واستمرّ فاقد الوعي‌ مدّة‌ أربع‌ أو خمس‌ سنوات‌، وكان‌ بدنه‌ مطروحاً على الأرض‌ كالميّت‌، وأعينه‌ مغمضة‌، إلاّ أنّ حواسّه‌ كانت‌ صحيحة‌. وكان‌ عاجزاً عن‌ تناول‌ الطعام‌، فكانوا يصبّون‌ في‌ فمه‌ السوائل‌ خلال‌ هذه‌ المدّة‌ المديدة‌، ثمّ أُعيد من‌ المستشفى إلى‌ بيته‌، فعيل‌ صبر أهل‌ بيته‌ من‌ استقبال‌ الزائرين‌، وكان‌ تنظيفه‌ يتمّ بصعوبة‌، حتّى‌ وُضع‌ جسده‌ أخيراً في‌ غرفة‌ مجاورة‌ لباب‌ المنزل‌، وكانوا ـ من‌ شدّة‌ الكراهيّة‌- يتمنّون‌ موته‌ باستمرار، حتّى أسلم‌ الروح‌ بعد سنواتٍ من‌ فقدان‌ الوعي‌ بهذه‌ الكيفيّة‌، فاعْتَبِرُوا يَـا´أُولِي‌ الأبْصَارِ!". (مرتضى مطهري، الإسلام وإيران، مرجع سابق).

وعلى صعيد الأدب والفكر برز على السطح مجموعة من المفكرين والأدباء حملوا لواء التنظير للقومية الفارسية العلمانية، وكان من أبرزهم المؤرخ (عبد الحسين زرين كوب) (1923 - 1999م)، ومن أعماله: (الاحتلال العربي لإيران وآثاره)، و(قرنان من الصمت)، و(لا شرقي ولا غربي... بل إنساني).

وبحسب أحد الباحثين فإنّه يمكن بلورة أفكار (زرين كوب) من كتابه (قرنان من الصمت)، روَّج فيه أثر الإيرانيين على الخلافة الإسلامية بعد الفتوحات الإسلامية، في المقابل يزعم أن العرب لا حضارة لهم، ولا يملكون شيئاً من السُّلْطة أو التهذيب.
إن المآخذ التي رصدها أحد الباحثين العرب على منهج ( زرين كوب)، هو أنَّ المنهج الذي اعتمده (زرين كوب) برفضه روايات الطبري وابن الأثير انتقائي، واعتمد على ثناء الفرس أو الحطّ من شأن العرب في رواياته، دون أي معايير علمية ومنهجية. إلا أن الكاتب عاد إلى التحليل الواقعي، والمحايد للتاريخ، بعد تراجع الموجة القومية، فكتب كتاب: تاريخ إيران بعد الإسلام، ثم كارنامه إسلام.

 

المستشرقون وتأثيرهم على النخبة الكوردية من خلال الزرادشتية

  إن المثقفين الكورد المتأثرين بقوة بالثقافة الغربية، يطمحون بدورهم إلى تحويل الكوردي (رجلاً كان أم إمرأة) إلى شبيه بالغربي، المعتبر نموذجاً للإنسان (المتمدن). وفضلاً عن أن المبادىء الولسنية (= نسبة إلى الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون ( 1856- 1924م) حول تقرير المصير، قد وفرت الشرعية للمطالب السياسية للقومية الكوردية، فقد وفر تبني بعض المستشرقين للخطاب القومي الكوردي شرعية (علمية) للقومية الكوردية، التي استمرت في التكون حتى الحرب العالمية الثانية. كما أسهم أوائل المختصين بالكوردية من الفرنسيين في صياغة الخطاب الكوردي، وأمدوه بالأدوات الثقافية والمادية اللازمة...". (جوردي غورغاس، الحركة الكوردية التركية في المنفى، ترجمة: جورج البطل، الفارابي – دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2013م، ص11 – 12). و(جوردي غورغاس باحث متخصص في التاريخ الحديث وعلم الاجتماع، ومحاضر في جامعة فريبورغ وجامعة نيوشاتل، وعامل في مؤسسة العلوم الوطنية السويسرية على أبحاث تختص بالأقليات في الشرق الأوسط).

وعلى ما يظهر، فإن الباحث السويسري يقصد المستشرقين الفرنسيين من أمثال: (روجيه ليسكوت) (1914-1975م)، والدومنيكاني (توما بوا) (1900-1975م)، والجنرال (بيير روندو) ( 1904- 2000م)، كان لهم تأثير على البنية الذهنية للأخوين (جلادت) و(كاميران بدرخان)، فـ(روجيه ليسكو) ألف كتاباً تحت عنوان: اليزيدية في سوريا وجبل سنجار. و(توماس بوا) ألّف عدة كتب عن الكورد، منها: الكورد والحق، معرفة الأكراد – مع الأكراد، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والأديرة المسيحية في كوردستان العراق. و(بيير روندو) مؤلف كتب عدة، من أبرزها: الأكراد في سوريا، المطالب القومية الكوردية (1943-1949)، وغيرها.

  وفي الواقع، فإننا غالباً ما نصادف ممارسات ومعتقدات في كوردستان يصعب التوفيق بينها وبين الإسلام التقليدي، فالقوميون الكورد في العشـرينات والثلاثينات من القرن العشرين كانوا مفتونين ومتباهين بتلك الانحرافات عن الإسلام (الدين العربي)، مفسـرين ذلك على أنها تمرد الروح الكوردية على السيطرة العربية والتركية، على حد تعبير المستشـرق الهولندي (مارتن فان بروينسن).

ويستطرد (بروينسن) بالقول: فخلال سنواتها الأولى كانت المجلة القومية الشهيرة (هاوار- النجدة)، التي صدرت في دمشق في ربيع عام 1932م، واستمرت في صدورها إلى عام 1943م، من قبل الأخوين (جلادت أمين عالي بدرخان)(1893-1952م)، و(كاميران أمين عالي بدرخان)(1896-1978م). وعن علاقته بالفرنسيين يشير (جوردي غورغاس) بالقول: "لقد تحوّل مع أخيه كاميران، لاتصالهما الدائم بالسلطات المنتدبة، كمخبرين مميزين للفرنسيين". (ينظر: الحركة الكوردية التركية في المنفى، ترجمة: جورج البطل، الفارابي – دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2013م، ص155).

وفي السياق نفسه، يسلط باحث غربي آخر الضوء على هذه النقطة بالقول: "... زد على ذلك أن القوميين الكُورد يجنحون إلى الجدال بأن الكورد أُجبروا على اعتناق الإسلام، وأن دين الكورد (الحقيقي) أو (الأصلي) كان الديانة الهندو – إيرانية الثنوية، الزرادشتية. ويُزعَم أيضاً أن هذه الديانة ما زالت باقية لدى طوائف، مثل الأيزيديين والكاكائيين أو (أهل الحق)، فتصور بذلك على أنها أكثر تعبيراً عن الهوية الكوردية من الإسلام السني الذي تعتنقه غالبية الكورد". (ينظر: ميخائيل ليزنبرغ، الإسلام السياسي بين الكورد، في الإثنية والدولة الأكراد في العراق وإيران وتركيا، إشراف: فالح عبدالجبار وهشام داود، ترجمة: عبدالإله النعيمي، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد- بيروت، 2006م، ص331 – 332).

وبشأن الاهتمام الكبير الذي يبديه الباحثون الغربيون بهذه الطوائف الباطنية، يقول ما نصه: "كثيراً ما يبدي الباحثون الأجانب اهتماماً خاصاً بالطوائف الأشد تمييزاً وتشويقاً في كوردستان، الأمر الذي أسفر عن إيلاء قدر غير متناسب من الاهتمام بجماعات، مثل الأيزيدية و(أهل الحق) والعلويين، ناهيك عن الطوائف المسيحية واليهودية التي تعيش (أو كانت تعيش) في المنطقة. ولا يعني انتقاد مثل هذه الأبحاث القيمة، والتي كثيراً ما تكون مثيرة للاهتمام، بل مجرد الإشارة إلى أن الكثير من معتقدات الكورد وممارساتهم، وهم في غالبيتهم مسلمون سنة تقليديون، ما زالت مضماراً غير مطروق نسبياً". (المرجع السابق، ص332).

ويحاول الباحث الغربي إيضاح بأن الكثير من هذه الجماعات الباطنية لها أصول إسلامية، ولكن القوميين الكورد يحاولون الزعم بأن لهم أصولاً ما قبل إسلامية (= زرادشتية... إلخ): "...أُريد أن أتناول بإيجاز ما يُزعَم بأنه طوائف باطنية غير إسلامية، أو (ما قبل إسلامية)، في كوردستان. فحتى هذه الجماعات، لها في الحقيقة أُصول لا تُنكَر في التقاليد الإسلامية (الشعبية)، ولا يُمكن أن تُفهم فهماً وافياً بمعزل عن هذه الأصول. وقد تكون للمزاعم القائلة بأصولها ما قبل الإسلامية، أو طابعها الكوردي المحض، استعمالات تخدم أغراضاً قومية، ولكنها مزاعم على قدر كبير من الشطح، إن لم تكن مضلّلة بشكل صارخ". (المرجع السابق، ص334).

وكانت مجلة (هاوار) تبدي اهتماماً كبيراً بالزرادشتية على أنها واحدة من مصادر الهوية الثقافية الكوردية، ولذلك كانت اليزيدية ذات الجذور الزرادشتية - التي تم اضطهادها لوقت طويل باعتبارهم (عبدة الشيطان)-، تُمّجد من قبل بعض القوميين، على اعتبارها دين الكورد دون منازع! ويضيف باحث آخر دعماً لفكرة (بروينسن)، بالقول: "...لم يتراجع آل بدرخان عن إضعاف موقف الإسلام في القومية الكوردية باكتشافهم ( الدين الحقيقي للكورد) في اليزيدية، لقد أقام آل بدرخان خطاً وصلةً مباشرة بين اليزيدية والزرادشتية". (ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكوردية التركية في المنفى، ص247).

وبخصوص اعتبار (كاميران بدرخان) اليزيدية هي تشويه للزرادشتية، فإنه يقول ما نصه: "إن الدين اليزيدي هو تشويه للديانة الزرادشتية، التي كانت ديانة جميع الكورد". ولذلك كتب هو، وشقيقه كاميران بدرخان، عدة أبحاث ومقالات لدعم فكرتهم السابقة عن الزرادشتية. حيث يشير أحد الباحثين إلى تلك الناحية بالقول: "وكتب آل بدرخان مقالات عديدة بالكوردية، والفرنسية، للتعريف ببعض العناصـر في الزرادشتية، واليزيدية، بزعم أنها كانت الديانة الأصلية للكورد. وكان المثقفون الكورد، بعملهم هذا يرمون إلى أهداف عديدة ". (جوردي غورغاس، الحركة الكوردية التركية في المنفى، مرجع سابق، ص247 – 248).

وفي السياق نفسه، فإن (جمعية خويبون) أضفت هي الأخرى طابعاً مثالياً على الديانة اليزيدية بوصفها الديانة الكوردية الحقيقية، ولكنها مع ذلك لم تضم في صفوفها يزيديين معروفين. (ينظر: مارتن فان بروينسن، الأكراد وبناء الأمة، ترجمة: فالح عبد الجبار، بغداد – بيروت، معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006م، ص29، الهامش29).

ومهما يكن من أمر، فإن الأهداف التي ترمي إليها النخبة الكوردية هي دعم أسطورة التواصل بين الميديين والكورد، التي تستند في الأساس إلى النظريات العديدة التي طرحها المستشـرقون الأوروبيون حول اعتبار الكورد من الجنس الآري. " ففي حين كانت المقالات بالكوردية تصـر على هذا التواصل لتأكيد انتساب الكورد إلى عائلة الشعوب الهندو أوروبية، جاءت المقالات بالفرنسية لتشرح الانفراد الديني للكورد، وخاصةً غياب التعصب الذي يعود سببه إلى بقايا الزرادشتية في حياتهم الدينية، وفي عاداتهم". (المرجع السابق، ص247 – 248).

ويبدو أن هذه المقالات التي يشير إليها الباحثان الهولندي والسويسـري (بروينسن، وغورغاس)، هي المقالات التي دبجها ( كاميران بدرخان) في مجلة (هاوار)، في العدد 14، في سنة 1932م، باللغة الفرنسية، تحت عنوان (ملاحظات حول الكتاب المقدس الأسود) الصفحة 289، ويقصد بالمصحف الأسود الكتاب المقدس لدى اليزيدية، وأعاد صياغتها باللغة الكوردية بالأبجدية اللاتينية في العدد 26 في سنة 1935م. تحت عنوان: (الشمس السوداء حول تقاليد بلاد الكورد).

ويخلص كاميران بدرخان إلى نتيجة مفادها أن الكورد أصبحوا، من خلال الديانة اليزيدية، الورثة المدافعين عن مبادىء الخير والشـر، مع وجود الإله الواحد أيضاً، في إشارة إلى الديانة الزرادشتية. ويقرر في النهاية أن الكورد رغم أنهم "اليوم من المسلمين، فعليهم التصرف حسب التعاليم الزرادشتية". (ينظر: مقالة كاميران بدرخان في مجلة هاوار، العدد 14 في 1932م).

وحاول الأشقاء من آل بدرخان (= ثريا، وجلادت، وكاميران، أبناء أمين عالي بدرخان) الادعاء بأن الزرادشتية، ونسختها المتبدلة شكلياً؛ اليزيدية: "كانت هي ديانة جميع الكورد"، قبل وصول الإسلام إلى كوردستان؛ وذلك لإيجاد علاج لتشـرذم المجتمع الكوردي. وكانت أسطورة الإيمان المشترك ضرورة لتأكيد وحدة الكورد في وقت كان الكورد مقسمين على معتقدات دينية ومذهبية مختلفة (= سنية، وشيعية، وعلوية، ويزيدية، وأهل الحق، والشبك، إلخ)، ما يضعف إمكانية بناء حركة قومية متحررة من الميول الطاردة. كان المطلوب من الانتساب إلى الزرادشتية، السماح لجميع الكورد أن يتمظهروا في ماضٍ أسطوريٍ كان الكورد فيه يشكلون جسماً واحداً، وأن يتجاوزوا خلافاتهم الحالية.

وكان من الممكن أن نرى في ذلك محاولة من آل بدرخان لإضفاء القداسة على اللغة الكوردية، واحترامها باعتبارها قلباً للهوية الكوردية التي ينبغي الدفاع عنها. ويستخدم اليزيديون في الواقع اللغة الكوردية (= الكرمانجية) في طقوسهم الدينية، وكتاب اليزيديين المقدس مكتوب أيضاً باللغة الكوردية، فضلاً أن الكورد هم - حسب الميثولوجيا اليزيدية - من أحفاد آدم وحواء، وأن الله ذاته كان يتكلم الكوردية: "وقد تحدث الله مع آدم، ومع الملك طاووس، بهذه اللغة الكوردية الرائعة، ولهذا السبب كتب الإنجيل الأسود (= المصحف الأسود) بالكوردية". (ينظر: كاميران بدرخان، نبذة حول الإنجيل الأسود، مجلة هاوار، دمشق، العدد14، 1932م، ص290).

وفي عام 1933م نشـر كاميران بدرخان، في مجلة (هاوار)، أربعة صلوات حقيقية، غير منشورة قبل ذلك، للديانة اليزيدية. وفي عام1942م نشـر السيد عثمان صبري (= أحد السياسين الكورد السوريين) في مجلة (روناهي) (= النور) بعض المعلومات الجديدة عن اليزيديين في (جبل سنجار)، على لسان بعض شيوخهم المهاجرين إلى سورية. (توما بوا، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والأديرة المسيحية في كوردستان العراق، ترجمة: سعاد محمد خضـر، السليمانية، بنكه ى زين، 2011م، ص20). ويظهر للباحث أن آل بدرخان يحاولون عن طريق ربط الكورد جميعاً بالزرادشتية، أو اليزيدية، تأكيد وحدة الكورد.

ولكن المستشـرق الفرنسـي (توما بوا) ينتقد هؤلاء الكتاب القوميين حول تشبثهم باليزيدية كبقايا من الدين الزرادشتي، بالقول:" ولكن أولئك الكتاب جميعاً قوميون من الكورد، يعتقدون أن اليزيديين هم بقايا سلالة الدين الزرادشتي، والذي جميع الكورد يؤمنون به قديماً، ونتيجةً لذلك فلا علاقة لهم بالإسلام. وهي موضوعة من الصعب تأييدها في أيامنا هذه". (ينظر: توما بوا، اليزيديون وأصولهم الدينية، مصدر سابق، ص20).

ويدعم وجهة نظره بهذا الصدد، في الفقرة التي دونها في أحد كتبه بعنوان (الأكراد الهاربون من الإسلام)، حيث يقول ما نصه: "هذه الانحرافات للتطبيقات وللأفكار الصوفية هي أساس بعض المذاهب المنحرفة التي تنتهي بتهربها من الإسلام، من نفس النقطة التي يمكن التردد فيها بشأن هيأتهم الحقيقية، وارتباطهم الصحيح. أكثر هذه المذاهب المتناقضة أصلاً هي مذهب اليزيدية، أو (عبدة الشيطان)، كما يسمونهم أحياناً، الذين أغلبهم من الأكراد... وبما أن المذهب سـري، فقد تراكمت عليه كافة أنواع الحدس والتخمين: عبدة الشمس، الثنائية الزردشتية، الوثنية الكوردية الأصلية، فرع من المذاهب المسيحية، والميثرائية (Mithrasism)". (ينظر: توما بوا، مع الأكراد، ترجمة: آواز زنكنه، بغداد، مديرية الثقافة الكوردية، 1395هـ - 1975م، ص114).

ويحاول المستشـرق (توما بوا) التأكيد على أن اليزيدية فرقة صوفية خرجت من الإسلام، بقوله: "وفي الحقيقة، فقد خرج اليزيديون من الإسلام لأجل إثباته، إذ يكفي تأمل السلوك الخارجي لليزيدية، قبل التوغل في أفكارهم الدينية. ويظهر المحيط الإسلامي في مبحث أسماء العلم، والتاريخ، وعدم رسم صورة بشـرية، والختان...إلخ. ونضيف إليها التضحية بالحيوانات، وعبادة القديسين، مع صور للحج إلى مكة المكرمة عند قبر الشيخ عدي، حيث توجد الطقوس الإسلامية للحجاج، واصطلاحات عربية، غريبة جداً عند الأكراد. فالجو كله صوفي: القديسون المكرمون هم من الصوفيين المعروفين، والمراتب الدينية هي صوفية، الصلاة والنصوص الدينية الأخرى لها صلة قوية، بمفرداتها وفكرها، مع الصوفية الغامضة" (مع الأكراد، المرجع السابق، ص114 – 115).

 وبشأن التطور الذي حدث في اليزيدية، وانفصالها التام عن الإسلام، يقول بالنص: "ولكن كيف وصل اليزيديون إلى ضَلال اليوم، ابتداء بقديس مسلم صحيح كالشيخ عدي (1073 – 1162)..؟ لقد حدث التطور تدريجياً، إذ فتح شمس الدين حسام (1197 – 1246) الطريق لبدعة دينية. ثم بعد ذلك تجزأ المشايعون إلى فرعين: الأول هاجر إلى سورية ومصر (Qarafa)، واستقر هناك لمدة طويلة، بإيمان قويم، تحت اسم (عدوية). أما الفرع الثاني، فقد ظل في بلاد ما بين النهرين، في شرقي دجلة، ولم يقطع كل اتصال عقلي مع أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) فحسب، بل وأبعد نفسه من وجهة العقيدة، ليصبح خصمه نهائياً". (المرجع السابق نفسه، ص115).

وبخصوص المذابح التي ارتكبت بحقهم ابتداءً من القرن السابع عشـر الميلادي، يقول: "وفي القرن السابع عشـر، لم تفد المذابح المكررة إلا في تعمق اليزيديين في ممارسات واعتقادات أكثر غرابة، وأكثر سـرية، بحيث إنَّ اليزيديين لم يعودوا مسلمين، ولكنه من الصعب إنكار كونهم مسلمين في الأصل". (مع الاكراد، المرجع السابق، ص115).

ومن جانب آخر، يذكر باحث أوروبي آخر: "إن الأطروحة الأحدث، والأعمق عملياً، حول الأصول التاريخية لليزيديين، هي أطروحة المستشرق الإيطالي (ميكلنجلو جويدي) (1886-1940م)، التي نشـر بخصوصها بحثين: الأول بعنوان (نشأة اليزيدية)، والثاني بعنوان: أبحاث جديدة عن اليزيدية، نشـرها في مجلة الدراسات الشـرقية  RSO ، ج13 عام1932م، ص286- 300، ثم ص377- 427. وحسب هذه الأطروحة، فإن اليزيدية نشأت كرد فعل سياسية دينية موالية للأمويين، شبيهة بالحركة الموالية لعلي، التي هي أساس الشيعية. انتقل اليزيديون إلى سنجار، ثم أبعد إلى الشمال بعد ذلك، وتركزت اليزيدية، وابتعدت عن الإسلام الأرثوذكسـي (= أهل السنة)، إلى درجة فقدت معها أي قرب منه، لذلك اعتبرت اليزيدية كوثنية تدعي الإسلام، وذلك استفزاز حقيقي، سبب فعلاً هجمات نارية من العلماء المسلمين السنة والشيعة، ما برر طويلاً القمع الذي عانى منه اليزيديون على يد العثمانيين والقبائل الكوردية. وهذا ما يفسـر الحظر المتبادل منذ بداية القرن العشـرين، بين الكورد اليزيديين والكورد المسلمين. (ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكوردية التركية في المنفى، ص247 ، الهامش (2)؛ عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشـرقين، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشـر، الطبعة الرابعة، 2003م، ص220).

وعندما رأى هؤلاء المثقفون العلمانيون أن توجيهاتهم وأفكارهم لا تستطيع النفاذ والتسرب إلى المجتمع الكوردي، في تلك الحقبة؛ لكون الغالبية الساحقة منهم مسلمون، ومن أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، ولأن هذه الأفكار لا تتناسب مع تلك المرحلة، حيث لم تكن الأحزاب الكوردية العلمانية، بشقيها الليبرالي واليساري، قد تشكلت بعد. حيث يشير المستشـرق الهولندي (بروينسن) إلى هذه النقطة بالتحديد: "ولكن هؤلاء القوميون يشكلون أقلية صغيرة، وأتباع الطوائف المهرطقة (= المبتدعة) تتكون فقط من نسبة صغيرة من الكورد، لكن الغالبية الساحقة من الكورد مسلمون، والكثيرين منهم يأخذون الدين على محمل الجد. لقد اكتشف محررو مجلة (هاوار) بأنه  ينبغي عليهم أن يغيروا من نبرتها، إذا ما أرادوا أن يجدوا حلقة أكبر من القراء؛ لذلك وبدءاً من سنة 1941م فصاعداً، كان كل عدد يُفتتح بترجمة كوردية للقرآن والأحاديث النبوية. والكثير من الكورد العلمانيين الآخرين، قبل ذلك وبعده، اكتشفوا الشيء ذاته، لكي يُحدثوا التأثير بين الكورد، وكان ينبغي عليهم أن يكيّفوا أنفسهم مع الإسلام. ولكن ذلك  ليس بالأمر السهل، إذ كان معظم هؤلاء القوميين يعتبرون الإسلام كأحد القوى الرئيسة التي تضطهد شعبهم". (ينظر: مارتن فان بروينسن، الكورد والإسلام (2)، الترجمة عن الإنكليزية : راج آل محمد، موقع مدارات كرد، في1/5/2013م).

ولما كان العلم، أو الراية، من أهم خصوصيات الأقوام والأمم، فهو يرمز إلى الطابع المقدس للأمة، ويحظى بإجلال المواطنين الأمناء، ويرفع في المناسبات الاحتفالية. ويختصـر العلم القومي، على طريقته، في التاريخ المجيد أو الأليم للوطن. ويقوم بالنسبة للأفراد الذين يعتبرونه، يصهرهم في الحاضـر، وأيضاً في التاريخ، لأنه ينتسب إلى أولئك الذين دافعوا عنه ومجدوه، يحدث بذلك حلفاً مقدساً بين الأحياء، وبين الوجوه البارزة في الماضي، وفي المستقبل. ويشكل علم كوردستان، مثله مثل خريطة ( كوردستان الكبرى)، جواباً رمزياً على منطق تقسيم كوردستان، وعلاجاً مؤقتاً في غياب دولة ذات حدود مرسومة، معترف بها في المجتمع الدولي. يرمز العلم إلى وحدة الكورد، رغم الانقسامات الداخلية. (جوردي غورغاس، الحركة الكوردية التركية في المنفى، مصدر سابق، ص240).

ويضيف أحد الباحثين الأوروبيين: إن إضافة الشمس إلى العلم الكوردي ماهو إلا تعبير عن الهروب من الرموز المتمثلة للاسلام كالهلال: "إن اضافة الشمس في الحالة الكوردية، يمكن أن يكون تعبيراً عن الرغية في إدخال رمز ديني، فبدلاً من اعتماد الهلال المرتبط بالإسلام، فضل القوميون الكورد، على ما يبدو، رمزاً لديانات سابقة على الإسلام مثل الزرادشتية، فالشمس على غرار ألوان العلم، تُقَرِب كذلك الكورد من الشعوب الإيرانية مع إبعادهم أيضاً، عن الترك والعرب". (جوردي غورغاس، الحركة الكوردية التركية في المنفى، ص241).

ومن جانب آخر، فإن الشاعر القومي الكوردي (جَگَرْخويْن) (1903-1984م)، والذي كان ينتمي إلى الحلقة المحيطة بـ مجلة (هاوار)، فضلاً عن عضويته في جمعية خويبون (=الاستقلال)، التي تأسست عام1927م في مصيف بحمدون في لبنان، كان يعبر عن خيبة أمله إلى نهاية حياته؛ لتمسك الكورد الدائم بالإسلام. (جگرخوين) نفسه كان في شبابه قد قام بالدراسة الدينية التقليدية في المدارس، في أجزاء مختلفة من كوردستان، وفيما بعد وجنباً إلى جنب شعوره الديني، نما عنده شعور قومي قوي بالأمّة الكوردية، واهتمام زائد بالزرادشتية. يحتوي المجلد الأول من كتابه (تاريخ كوردستان)، الذي نشـر بعد وفاته، والذي يتطرق إلى فترة الجاهلية (ما قبل الإسلام)، على فصل قصير عن دين الكورد في الوقت الحاضر(=الإسلام). فيما يخصص صفحات طويلة عن الزرادشتية، وانقساماتها. وبدلاً من الملاحظة الدالة على الرضا التي أبداها بعضٌ من بني جلدته قبل نصف قرن، من أن الكورد مسلمون فقط بمقارنتهم مع الكفار، فإن (جگرخوين) يصورّ الأكراد كمسلمين أتقياء، ولكنهم جهلاء، ويتم استغلالهم من قبل الملالي والشيوخ الجشعين. وله عدة دواوين  شعرية، اسم إحداها: ديوان (زند آفستا)، كدليل على اعتزازه بهذه الديانة، حيث يقول بهذا الصدد: "...وحسب هذا الرأي فإن زرادشت هو من أكراد ميديا، ولد في منطقة أذربيجان (أتروباتين) الحالية بالقرب من بحيرة أورمية...". ويكرر القول مرة أخرى بالقول: "فإن زرادشت هو كوردي من ميديا"، على أساس أنه يعد زرادشت كوردياً من إقليم ميديا. (ينظر: جكر خوين، تاريخ كوردستان، ترجمة: خالد مسور، بيروت، مطبعة أميرال، 1996م، ص28 – 30، 39).

وعلى الصعيد نفسه، يذكر (يونان هرمز)، المترجم للصحفيين الأجانب القادمين إلى مناطق قيادة الحركة الكوردية في أيام ثورة أيلول 1961 – 1975م، بقيادة ملا مصطفى البارزاني، ما نصه: "... أتذكر أني كنت مرة مع كاك محسن دزه يي، وخال عزيز عقراوي (=قياديين في الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي في تلك الحقبة)، وهما محملان برواتب (البيشمركة)، ومعي الصحفي الإنكليزي (ديرك كينان)، مراسل جريدة الأوبزرفر البريطانية، ترافقنا مفرزة من (البيشمركه)، ونحن في طريقنا  إلى (هيزي سه فين) و(دةشتى هه ولير)، أننا اضطررنا بسبب حلول الظلام وهطول المطر الغزيز إلى اللجوء إلى مضاربهم (=الكوجر) (= البدو الكورد القادمين من مرابع الزوزان في كوردستان تركيا)، وهم معلقون بين السماء والأرض، على سفح الجبل الذي يقع فوق بيتواته (= كيوه ره ش، المطل على قضاء رانية، الواقعة شمال غربي مدينة السليمانية)، فنحروا لنا الذبائح، وأضرموا لنا النيران لتجفيف ثيابنا. لقد غمرونا بكرمهم الحاتمي، فأمضينا ليلتنا في ضيافتهم. ولما وصلنا مقر هيز(= لواء) سه فين، في (هيران) (= ناحية تابعة لشقلاوة، وتقع شرقييها) و(نازنين)، أخذ (الخال عزيز) يطلعنا على ملف ضخم يضم بين دفتيه أوراقاً وقصاصات لمعجمه الكوردي الإنكليزي الذي كان بصدد تأليفه، فأعجبت باهتماماته الثقافية واللغوية، وهو رجل عسكري. ومن خلال مناقشتي معه تبين لي أنه لا يتردد في المجاهرة بالفلسفة الزرادشتية، التي كان لها بعض الأتباع في (كلاله) (= مقر قيادة الحركة الكوردية، قريبة من الحدود الإيرانية)، يتزعمهم (علي زرادشتي)، بطريقة تذكرك بطرائق الفلاسفة الأغريق". (ينظر: يونان هرمز، أيامي في ثورة كوردستان، أربيل ، دار ئاراس، الطبعة الثانية، 2001م، ص93 – 94).

   كما تجب الإشارة إلى أن غالبية الجيل الأول من الرعيل السياسي الكوردي، الذين تثقفوا على أبجديات الليبرالية، كانوا يضمرون نوعاً من الجفاء تجاه الإسلام كنظام حياة. أما الذين تربوا على الأفكار الماركسية اللينينية، التي وردتهم عن طريق أدبيات الحزب الشيوعي السوفياتي، وعن طريق الماركسيين العرب؛ من السوريين واللبنانين، فإنهم كانوا يضمرون العداء تجاه الإسلام كدين ونظام حياة في آنٍ واحد. وهذا ما انعكس بدوره على أطروحات الجيل الثاني والثالث من هؤلاء المثقفين والسياسيين الكورد.

لذا، فإن الأفكار العلمانية قد غزت المجتمع الكوردي، مثله في ذلك مثل بقية المجتمعات الإسلامية المحيطة به، لأسباب عديدة قد لا يكون المجتمع الكوردي بدعاً في هذا المجال. فضلاً عن ذلك، فإن الأحزاب الكوردية العلمانية، بشتى أصنافها، من قومية ويسارية (اشتراكية وماركسية)، كان لها دور كبير في تعزيز القيم المناوئة للإسلام، ديناً ونظام حياة، خاصة بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في كوردستان العراق اعتباراً من سنة 1992م وحتى كتابة هذه الأسطر.  ويبدو واضحاً أن الحزبين الرئيسين: الديمقراطي الكوردستاني (حدك)، والاتحاد الوطني الكوردستاني (آوك)، وبعيداً عن صراعهما على السلطة، كانا منهمكين في مواجهة الإسلاميين في نضال خفي حول التوجه الذي يجب أن تتخذه الحركة القومية الكوردية، وكذلك حول تحديد هوية وتوجه حكومة إقليم كوردستان العراق. فالقيادة الكوردية كانت تتباهى دائماً بتزعمها حركة قومية علمانية ديمقراطية. وبالفعل، كما يوضح أحد الباحثين العراقيين الماركسيين (فالح عبد الجبار): "فإن الفكر القومي الكوردي كان يتميز بصبغة إثنية علمانية، تتناقض تناقضاً صارخاً مع الفكر الإسلامي الذي انتشر في العالم العربي... وأصبحت مقاتلة الإسلاميين المتشددين مشروعاً مشتركاً لـ(حدك) و(أوك)، للفوز بدعم الكورد من ذوي الفكر العلماني، والنجاح في الوقت نفسه في تحسين صورة الكورد في أعين الولايات المتحدة، وتوحيد الصفوف معها عشية حرب العراق".

من جانب آخر، فإن محاولة بعض المثقفين الكورد العلمانيين؛ من ماركسسين وليبراليين ولا دينيين (= لا أدريين)، تخليص زرادشت من إيرانيته وفارسيته، وإعادة إنتاجه كنبي كوردي!، لا يقع خارج الصـراع الحزبي والمناطقي في  كوردستان العراق، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية. وتمت الدعاية لهذا الغرض من خلال طبع إحدى أقسام الآفستا (=الكاثا - الكاتا – الأناشيد) باللغة الكوردية – اللهجة السورانية، مع كتب أخرى تخص الزرادشتية، لحساب مركز الفردوسـي في لندن. ومن المعلوم أن الفردوسـي هو صاحب كتاب (الشاهنامة)، الذي يعده المثقفون الفرس (قرآن الفرس). فما هي علاقة الكورد بالشاعر الفارسي الفردوسي، المدفون في مدينة ( طوس) القديمة (= مشهد الحالية)، الواقعة على الحدود الإيرانية – الأفغانية؟!

ومن الجدير ذكره أنه تم إدراج صورة العلم الفارسي الساساني (درفيش كاويان- راية كاوه) في مقدمة أحد أقسام الآفستا المترجمة إلى الكوردية؛ كدليل على تضامن هؤلاء مع الفرس الساسانيين ضد العرب المسلمين، في إشارة إلى (معركة القادسية)، التي تمكن فيها الصحابي (ضرار بن الخطاب الفهري) من قتل حامل راية (درفيش كاويان)، ولذلك منحه الصحابي القائد (سعد بن أبي وقاص) جائزة كبيرة تقديراً لشجاعته.

إن الدعاية للزرادشتية، التي بلغت اليوم أوجها، وأصبحت شعاراً لدغدغة العواطف القومية!، ليست في الحقيقة إلا ستاراً لنشاطٍ سياسيٍ مدروسٍ ومخططٍ، له حدوده وأبعاده، من قبل إيران وأنصارها من بعض الأحزاب الكوردية اليسارية، وبعض المثقفين الكورد المعادين للإسلام، الذين يحاولون تسويق الأيديولوجيات الوهمية لملء الفراغ النفسـي الذي يعانونه، بدل بناء مجتمعهم على أسسٍ قويمة؛ بعد أن فشلت محاولاتهم البهلوانية الدونكيشوتية للفصل بين الإسلام والكورد، أو على أقل تقدير محاولات زعزعته، بالزعم أن الإسلام دين العرب!، وأن الزرادشتية هي الدين القومي للكورد!، وأن عليهم الرجوع إلى أسلافهم. وقد لاقت هذه الفكرة بعض الرواج، بعد الهجمات العنيفة التي شنها تنظيم داعش على كوردستان في شهر آب/ أغسطس عام2014م، حيث تم الاعتراف بالزرادشتية بعد حوالي سبعة أشهر كديانة رسمية في الإقليم، وتحديداً في 19/3/2015م. وقال مدير العلاقات والإعلام في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في إقليم كوردستان (مريوان النقشبندي)، في بيان له في 1/12/2015م، إن: "أتباع الديانة الزرادشتية ظهروا من جديد في كوردستان، وقدموا طلباً رسمياً ليكون لهم ممثل في الوزارة، وأن يتم افتتاح معابدهم الخاصة، وأن الأشهر الأخيرة شهدت عودة هؤلاء في الأوساط الجماهيرية والثقافية الكوردستانية بشكل محسوس، وهو ما يشير إلى هجرة الكورد المسلمين لديانتهم، والتوجه إلى دينهم القديم؟" وفق قوله..

وفي هذا الصدد، صرح أحد كبار المسؤولين الأتراك في 2 أيار/مايو 2015م، في كلمة ألقاها خلال مراسم افتتاح مجموعة من المشاريع التنموية، بولاية (بطمان)، في إشارة إلى معسكرات حزب العمال الكوردستاني: "نملك وثائق تؤكّد قيام القائمين على تلك المعسكرات بتعليم مبادئ الديانة الزرادشتية لعناصرهم، علينا إدراك ذلك بشكل جيد، وشرحه لأخوتنا الأكراد...".

وبغض النظر عن تصريحات المسؤولين الكوردي والتركي وغيرهم، فإن الكوردي المسلم لا يرجع إلى الزرادشتية التي عفا عليها الزمن، بسبب كونها ديانة فارسية بامتياز، وأن معظم أو غالبية معابد النيران تقع ضمن المجال القومي الفارسي تحديداً، في أقاليم: فارس، وكرمان، وخراسان، وطبرستان، ومازندران، وكيلان، والديلم، والأجزاء الشـرقية من إقليم الجبال جنوب وغرب منطقة الري، التي بنيت مدينة طهران على أنقاضها.

ومن جهة أخرى، فإن العالم والباحث الكوردي توفيق وهبي بك (1890 – 1984م)، ينفي انتشار الزرادشتية في الجبهة الغربية من هضبة إيران ( = كوردستان ولورستان)، بقوله: "...كذلك، فإن الديانة الزرادشتية  وإن كانت قد ظهرت في إيران في هذه الآونة، إلا أنها لم تكن قد انتشرت في الجبهة الغربية من هضبة إيران...". (ينظر: توفيق وهبي بك، الآثار الكاملة، إعداد: رفيق صالح، السليمانية، بنكه ى زين، 2006م، ص45).

ويستطرد العالم الكوردي (توفيق وهبي بك)، أن الزرادشتيون كانوا يحاولون نشـر ديانتهم في غرب إيران، ولكنهم كانوا يلاقون مقاومة من جانب العقائد القديمة (= ديانة إيران القديمة)، في إشارة واضحة إلى الديانة الميثرائية، حيث يقول بهذا الصدد: "كان التبشير بالديانة الزرادشتية في العهد البرثي (= الأشكاني) منتحياً ناحية الغرب من هضبة إيران، وكانت لها قوتها الفعالة في أواخر هذا الدور بصورة خاصة، في حين أن العقائد القديمة (= ديانة إيران القديمة) كانت نشطة أيضاً في مقاومتها، ثم اتخذت المزديسنية في عهد شابور الثاني الساساني ديناً رسمياً لإيران، وكأنها كانت توفق وتمزج بين الديانة الزردشتية وبين العقائد الإيرانية القديمة". (ينظر: توفيق وهبي بك، الأعمال الكاملة، إعداد: رفيق صالح، السليمانية، بنكه ى زين، 2006، ص51).

وبشأن المقاومة التي أبداها رؤوساء القبائل والعشائر المستقلة من الكورد، لأنهم حسب المؤرخين والمستشرقين، كان المؤرخ المسلم الطبري يطلق عليهم اسم (أعراب فارس).. يقول ما نصه: "أما في العهد الساساني، فإن الديانة المزديسنية وإن كانت قد بلغت أوج القوة والمتانة، إلا أنها لم تستطع أن تسود كل شبر من المناطق الإيرانية، ويظهر لنا من محتويات (كاتها- كاتا)، أن الديانة الزرادشتية كانت تعني بالشؤون المالية والقروية والزراعية، وتعارض الترحل والعيش في الخيام، حتى إن زرادشت نفسه كان يكره الرحل وقطاع الطرق واللصوص والإقطاعيين، الذين كانوا يعتمدون في عيشهم على الظلم والغدر والسلب والنهب والطعن، فإن إصلاحات (زرادشت) بإلغائه الآلهة التي كانت تتفق صفاتها مع ما هم عليه من الغدر والظلم، وبدعوته إلى ترك الترحل، للتطور من الحياة البدوية البدائية إلى السكنى في القرى والمدن والاشتغال بالزراعة، كانت جميعاً تتنافى وتخالف أطباعهم وعاداتهم ومصالحهم ومنافعهم. ومما لا ريب فيه، أن رؤوساء تلك القبائل والعشائر المستقلة في شؤونها، والمتربية على المنازعات والحروب، كانوا يبذلون الجهود للاحتفاظ بمراكزهم ومصالحهم الشخصية والحيلولة دون انفلاتها من أيديهم. وفي وسعنا القول إن الديانة المزديسنية وإن كانت قد انتشرت بين المدنيين والقرويين سواءً، إلا أنها لم تنجح النجاح الكامل في الانتشار والتوسع بين العشائر المحاربة، الخاضعة لرؤوسائها خضوعاً تقليدياً أعمى. (ينظر: توفيق وهبي، الأعمال الكاملة، المرجع السابق، ص52).

وهذا دليل واضح من عالم كوردي هو ( توفيق وهبي) على أن الزرادشتية لم تستطع التغلغل بين صفوف القبائل الكوردية الرُحَل، لأن رؤوساء القبائل الكوردية  كانوا يحاولون الاحتفاظ بمراكزهم ومصالحم الشخصية على حساب هذه الديانة، على حد تعبير توفيق وهبي.

كذلك يجب أن لا ننسى أن الزرادشتية تتناسب مع الأقوام التي تمتهن الزراعة، أي بعبارة أخرى المجتمعات المستقرة، سواءً في المدن أو البلدات، وهذا لا يتناسب مع المجتمع الكوردي الذي كانت البداوة هي السائدة فيه، في تلك الحقبة، واستمر هذا النمط إلى أيامنا هذه.

وعلى السياق نفسه، يذكر أحد الباحثين العرب أن الزرادشتية كانت خاصة بالعنصـر الفارسي، ودليل ذلك قوله: "والغريب في الأمر أن المؤرخين لم يسمعوا بدخول أحد من ملوك وأمراء الحيرة (= دولة المناذرة العرب الواقعة جنوب غربي بغداد غرب مدينة النجف)، الذين عينهم الفرس على العرب، مع اتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم، وفي عاصمتهم، على حين نجد بعضاً منهم قد دخل في النصرانية. مما ينبىء بتحول الدين في نهاية المطاف إلى دين قومي خاص بهم (= فارسي) لجنس آري، وهو ما عليه المجوس في إيران والهند".  (ينظر: الشفيع الماحي أحمد، زرادشت والزرادشتية، جامعة الملك سعود، قسم الدراسات الإسلامية، الرسالة: 160، ص96).

وتجدر الإشارة إليه أن جد أردشير(ساسان) كان قيماً على بيت نار أناهيتا (=عشتار في العراق، وأفروديت في اليونان، وفينوس في إيطاليا) في مدينة (اصطخر)، الواقعة جنوب إيران بالقرب من شيراز، وأن الأسرة الساسانية حافظت على صلتها القريبة بهذا البيت، وكانت هناك معابد يختص كل منها بإله، ومن المحتمل أن تكون المعابد بصفة مخصصة لعبادة آلهة الشريعة الزردشتية جميعاً، وأنها كانت من نوع واحد، فكان مركز الخدمة المقدسة هو الهيكل الذي فيه النار المقدسة. ويمثل هذا النوع من المعابد في أيامنا معبد نار مدينة يزد، وقد حول إلى مسجد كبير منذ الفتح الإسلامي. ويصف المسعودي خرائب بيت النار القديم في اصطخر، وكان في أيامه مسجد سليمان، فيقول: "وللفرس بيت نار باصطخر تعظمه المجوس، كان في قديم الزمان للأصنام، فأخرجته (حماية بنت بهمن بن اسفنديار) وجعلته بيت نار، ثم نقلت عنه النار فخرب...". (مروج الذهب وعادن الجوهر، بيروت، دار الكتب العلمية، 1406هـ - 1986م، ج2، ص269؛ كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص150).

وقد امتازت ثلاثة بيوت من بيوت النار، بين المعابد المنبثة في الدولة الساسانية كلها، فكانت تتمتع بتقديس خاص، وهي البيوت الثلاثة التي حفظت فيها النيران الثلاث المسماة:

 آذر كُشناسب: وهي النار الملكية، وكان معبدها في الشمال من مدينة كنجك (= شيز) بأذربيجان، وكان الملوك الفرس الساسانيون يحجون إلى هذا البيت العظيم حين الأزمات.

وآذر فربغ: وهي حسب رواية البندهشن، فوق جبل (روشن)، في (كابلستان) بناحية كابل، غير أن المستشرق الأمريكي (جاكسون) يحدد موقعها في مدينة (كاريان)، في إقليم فارس، في منتصف المسافة بين (سيراف)، على شاطىء الخليج الفارسي، و(دارابجرد).

 وآذربرزين – مهر: معبد نار الزراع، وهو قائم في شرقي الدولة، في جبال (رِوَند)، شمال شرقي نيسابور. (آرثر كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص154).

وكان في إيران معابد كثيرة من الدرجة الثانية، ولكنها كانت محل رعاية كبيرة، وخاصة ما نسب تشييدها إلى بعض الأبطال الخرافيين، الذين عاشوا في العصور البالية، أو إلى زرادشت نفسه. ومن أمثلة هذه البيوت، بيت النار في طوس ونيسابور وأرجان في إقليم فارس، وبيت نار كركرا في سيستان(= سجستان)، وبيت كويسا بين فارس وأصفهان. (ينظر: المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مصدر سابق، ج2، ص267- 271).

وتذكر أسماء بيوت للنار في قرى كثيرة من بلاد الجبال، وهي بلاد ميديا القديمة، ومنها نار قزوين، وشيروان قرب الري، وقومش - كومش (= لعلها هكتمبوليس الأشكانيين). وحتى اليوم، ترى على قمة تل قريب من (أصفهان) خرائب بيت من بيوت النار.

وجاء في كتاب (كارنامك) أن الملك أردشيرالأول قد أقام ناراً من نيران ورهان في (بوخت – أردير) على شاطىء البحر(= الخليج الفارسي – العربي)، وأقام كثيراً غيرها في (أردشير خره). (ينظر: كريستنسن، مرجع سابق، ص157 – 158).

وبسقوط الدولة الفارسية الساسانية على يد العرب المسلمين، سقطت الديانة الزرادشتية هي الأخرى، لأنها كانت توأم الدولة، يفهم ذلك من قول مؤسس الدولة (أردشير بن بابك بن ساسان) لابنه شاهبور: "إن الدين والمُلك أخوان، ولا غنى لواحدٍ منهما عن صاحبه، فالدين أُس المُلك، والمَلِك حارسهُ، وما لم يكن له أُس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع". (المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص162).

وغني عن الإشارة فإن الزرادشتيين الذين هربوا من إيران إلى الهند، وتحديداً مدن: بومباي، وسوارات، أطلقوا على أنفسهم اسم ( البارسيين – الفرس)، ولا يزالون معروفين بهذا الاسم حتى الوقت الحاضـر، كدليل على أن الزرادشتية خاصة بالعنصـر الفارسي، وأن زوال الدولة الفارسية الساسانية أدى إلى اضمحلال الزرادشتية في عقر دارهم في الهضبة الإيرانية، بأقاليمها: فارس، وكرمان، وخراسان، وسجستان، وأذربيجان، وغيرها، وانتعاشها من جديد في غربي الهند.

ولا بد من الإشارة إلى أن المستشـرق الألماني (فلهم  (= وليم) جيجر)(1856-1943م) مستشرق متخصص فــي الإيرانيـات والهنـديات، حصل على الدكتوراه الأولى فـي سنة ١٨٧٧م، برسـالة عنوانها: الترجمـة البهلويـة للفصل الأول من الوندياد. والوندياد كتاب صلوات زرادشتية، والفصل الأول منـه يحتـوي على ذكر لستة عشـر إقليماً فـي شمال شرقي إيران.. أي إنها تقع خارج كوردستان، فما هي إذن علاقة الوندياد، أحد أهم أقسام الآفستا، بالكورد وكوردستان؟ إنها ولعمر الحق مفارقة!  

وغني عن التعريف، فإن الزرادشتية لم تنتشر في كوردستان إلا على الأطراف الهامشية، فمركز كوردستان كان يغلب عليه أديان أخرى، منها:  الوثنية الكوردية، والميثرائية، واليهودية، والمسيحية، وغيرها. أشارت إلى ذلك المصادر البيزنطية و السـريانية والأرمنية، فالمسيحية كانت منتشرة في وسط وغرب وشمالي كُوردستان، مع اليهودية، والميثرائية، والوثنية، في حين أن الزرادشتية كانت تنتشر فقط في شرقي كوردستان، والدليل على ذلك وجود عدة معابد نيران فيها فقط، أشارت إليها مصادر البلدانيين (= الجغرافيين) المسلمين فقط، بعكس الأديرة والكنائس المسيحية، وكُنيسات اليهود، التي كانت منتشـرة بشكل لافت للنظر في كتب البلدانيين المسلمين وغير المسلمين. في حين أن غالبية معابد النيران الزرادشتية كانت تتركز في إقليم فارس، مسقط رأس المجوسية الزرادشتية والدولة الفارسية الساسانية معاً، وإقليم كرمان ( = جنوب شرقي إيران)، وإقليم خُراسان (= شمال شرقي إيران)، وإقليم سيستان (= سجستان)، وإقليم طبرستان (= جنوب بحر قزوين)، وإقليم بكتريا – جرجان – كوركان) شرق بحر قزوين، وإقليم كيلان (غرب بحر قزوين).

علماً أن المعبد الوحيد الواقع في إقليم أذربيجان (آذر كُشناسب)، وهي النار الملكية، وكان معبدها يقع في الشمال من مدينة كنجك (= شيز) بأذربيجان، وكان الملوك الفرس الساسانيون يحجون إلى هذا البيت العظيم حين الأزمات.

وتجدر الإشارة إلى أن الذين اعتنقوا الزرادشتية يقدمون أنفسهم إلى الناس تحت عناوين جذابة (= الكوردايه تي- الدولة الكوردية، وغيرها من الشعارات القومية)، والذين يستغلون أقلامهم لمآربهم الخاصة، وخدمة أسيادهم في الغرب والشـرق على حد سواء، دون الالتفات إلى معاناة بني قومهم، والمعروفون بانحرافهم عن التعاليم الإسلامية، والهرولة نحو المنظمات الغربية بشتى انتماءاتها، والمهتمة بالتنصير وغيرها، سواء من أعلن نشاطه بعنوان الحرب ضد الإسلام كعقيدة وكإيديولوجية، أو من جعل شعاره تحت عنوان مكافحة الأفكار الظلامية والتكفيرية، ومكافحة الإرهاب! حجة كاذبة له.. إن هؤلاء لا يستطيعون تغيير عقيدة المسلمين الكورد التي مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرناً، حيث أصبح الإسلام بالنسبة للكُورد عقيدةً وانتماءً وفكراً وتراثاً، وبالتالي هويةً. ففي كوردستان إيران – على سبيل المثال - يعد الخليفة الراشدي الثاني (عمر بن الخطاب)، و(الشافعي)، واللغة الكوردية، وكوردستان كأرض(= الكوردايه تي) بمثابة هوية جماعية له، لا تنفصم عراها؛ حتى لا ينصهر في بوتقة القومية الفارسية الشيعية. والأمر ينطبق في كوردستان العراق وتركيا، فالمذهب الشافعي كمذهب فقهي، والأشعرية كعقيدة، والتصوف النقشبندي كسلوك، هي هوية جماعية، حتى يكون الكوردي متميزاً بهذه الخصائص والمميزات المفارقة للقوميتين العربية والتركية على حدٍ سواء.

إذا كان للإسلام خاصية تجاه الكورد، فهو قد حافظ على كينونة وذاتية الكورد، أرضاً وشعباً ولغةً وتراثاً.. فاللغة الفارسية الحالية هي (اللغة الدَرية) التي امتزجت مع اللغة العربية، ولم يبق من البهلوية الساسانية شيء إلاّ في بطون مصادر التاريخ الإيراني.

أما اللغة الكوردية الحالية، فلم تتأثر بشـيء مثل نظيرتها الفارسية، وإنما احتفظت بخصائصها القديمة واستعاراتها الجميلة، لأن الإسلام لم يأتِ لكي يقضـي على الخصائص القومية واللغوية والنسيج الاجتماعي للشعوب، إنما جاء ليحررهم من الأغلال والقيود، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة الأهواء والآلهة المتعددة إلى عبادة الواحد الأحد؛ جاء الإسلام لكي ينقذ الكورد من تعقيدات وطقوس المجوسية الزرادشتية (= الغسل بأبوال الثيران، والزواج بالمحارم...)، والمزدكية الشيوعية، وغيرها، ولكي يسمو بالأديان السماوية إلى مصاف النور والتوحيد.

وعلى أي حال، يقول المستشرق البريطاني (توماس أرنولد) (المتوفى سنة1930م): "... لا يمكن أن يعزى انقراض الدين الزرادشتي إلى الحركات العنيفة التي قام بها الفاتحون العرب (= المسلمون) لتغيير دين الإيرانيين. وربما كان عدد من قبلوا الإسلام من الإيرانيين في أوائل حكم العرب (= المسلمين) كبيراً جداً... لكن بقاء الدين الزرادشتي، وإقرار الوثائق بأن الزرادشتيين كانوا خلال القرون المتعاقبة يسلمون بين الحين والآخر... يدل على احتمال إسلامهم بكامل رغبتهم ورضاهم...".

وختاماً، أذكر الزرادشتيين الجُدُد في كوردستان بقول المستشرق البريطاني المشهور (إدوارد براون) (المتوفى سنة1930م)، والمختص بالأدب والتاريخ الفارسي، في وصف أوستا (=الآفستا- الكتاب المقدس للزرادشتيين): بقوله: "... إنني متى ما رحت أطالع القرآن الكريم أكثر، وسعيت في سبيل إدراك روح القرآن أكثر، التفتُ إلى قدره ومنزلته أكثر... بينما التحقيق والمطالعة في آوستا مُمِلة ومُتعِبة، اللهم إلا أن يكون الشخص بصدد التعرف على تاريخ الإنسان، وأساطيره..."..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق