31‏/12‏/2020

النقد العلمي بين الذاتية والموضوعية

خالد كبير علاَّل

?      يُخطئ كثير من الباحثين عندما يُخضعون العلم لأحكامهم ومواقفهم الذاتية؛ فإن وافقها فهو صحيح، وإن خالفها فهو ليس بصحيح ويجب إخضاعه لها بالتأويل حتى وإن كان فاسداً، أو يُرفض - إن تعذر ذلك - بدعوى أنه ليس صحيحاً لأنه يُخالف هواه. هذا الموقف ليس بصحيح، لأن الذاتية أمر نفسـي يقوم على عقائد ومذاهب الناس وأهوائهم وظنونهم ومصالحهم، وفيها الحق والباطل، والخطأ والصواب؛ لكن العلم الصحيح هو أمر موضوعي يقوم على معرفة الحقائق كما هي في الواقع، تم التأكد من صحتها، ويُمكن إعادة اختبارها موضوعياً للتأكد من صحتها مرة أخرى.

وبما أن الأمر كذلك، فيجب على كل باحث طالب للحق أن يُخضع ذاتيته بأفكارها وأهوائها وظنونها للعلم الصحيح، فيكون حَكماً عليها، فإن وافقته كلياً فيُؤخذ بها، وإن خالفته تماماً فيجب التخلص منها، وإن وافقته جزئياً، فيُؤخذ صحيحها ويُترك باطلها.

     لكن الشيء المؤسف حقاً أن أكثر الباحثين الذين ينتصـرون لأديانهم ومذاهبهم، وأهوائهم وظنونهم، ومصالحهم، لا ينتصـرون لذلك بالعلم، وإنما ينتصـرون بالتحريف والغش، والخداع والكذب؛ فإن وافق ذلك العلمَ أخذوا بمزاعمهم وألبسوها ثوب العلم ونوّهوا به، وإن خالفته انتصـروا لآرائهم وأهوائهم، وشككوا في العلم وتركوه وراء ظهورهم. هؤلاء لا يُمكن أن تكون أبحاثهم علمية، وإنما هي أبحاث ذاتية متعصبة للباطل ضد الموضوعية وحقائق العلوم وبدائه العقول.

     من هؤلاء، باحث مُلحد سمى نفسه (لؤي عشـري)، قام بدراسة إلحادية للسيرة النبوية، والقرآن الكريم، والحديث النبوي، وزعم أنه سيقتل الإسلام علمياً ويدفنه إلى الأبد. لكن الحقيقة لم تكن كما زعم،  لأن دراسته لم تكن علمية أصلاً، وإنما كانت دراسة ذاتية إلحادية تحريفية شيطانية، ولم تكن من العلم في شيء. وذلك أنه لم يدرس القرآن بالقرآن، وتحامل على الإسلام بكل قواه، ولم يذكر ردود الإسلام، ولا ردود علمائه. ولا درسه بعقل صـريح، ولا بعلم صحيح، وإنما درسه بنظرة ذاتية إلحادية، فبَطُلت دراسته من أصلها. وذلك أن هذا الملحد المسكين المريض أصبح يعتقد أن كل ما يُخالف دين الإلحاد، فهو باطل، وغاب عنه أن الإلحاد هو الباطل الذي أضله وأفسد مشاعره وتفكيره وسلوكه، وهو أكبر خرافة راجت عليه وعلى أمثاله من البشـر.

    من ذلك مثلاً، أن ذلك الكاتب وصف غزوات النبي وأصحابه بأنها إجرامية. وهذا شاهد عليه بأنه جاهل، أو صاحب هوى محرف ومتعصب للباطل عن سابق إصـرار وترصد. لأنه لا يصح وصف مغازي النبي محمد - عليه الصلاة والسلام – بالإجرامية، لأنه كان نبياً خاتماً، كلّفه الله تعالى بأداء الرسالة، بغضّ النظر عن موقف الناس منه ومن نبوته. فقد كان يتصـرف بأنه نبي، وليس مدعياً للنبوة، ولم يكن يعطي اهتماماً لمنكري نبوته. وشـرع في دعوته، واستخدم مختلف الوسائل الشـرعية، حسب مراحل الدعوة التي مرّ بها. فاستخدم الوسائل السلمية في مكانها الصحيح في العهدين المكي والمدني، واستخدم القوة العسكرية في مكانها الصحيح في العهد المدني. والدعوة التي كلفه بها الله تعالى وجدت أعداء كثيرين من المشركين وأهل الكتاب، فاستخدم الوسائل الشـرعية التي أمره الله بها، وهي وسائل مشـروعة. فكما كان المشركون واليهود يرون أنه من حقهم، ومن الواجب عليهم، التصدي للدعوة الإسلامية بكل ما يستطيعون انتصاراً لأديانهم ومصالحهم؛ فكذلك كان النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - يعتقد بأنه من الواجب عليه الدعوة لدينه ونشـره بكل الوسائل الشـرعية الممكنة، منها القوة المسلحة وفق شـريعة الإسلام. وبما أن ذلك حاله، فإنه لا يصح وصف مغازي الدعوة الإسلامية بالإجرامية، فهي لم تكن كذلك، وإنما كانت حقاً وعدلاً، منطلقاً ووسيلةً وغايةً، واستخدمت كل الوسائل في مكانها الصحيح. وعليه، فإن استخدام النبي - عليه الصلاة والسلام - للسلاح للرد على الأعداء، وإزاحة الحواجز والمخاطر أمام دين الإسلام، ليس ظلماً ولا إجراماً، وإنما هو حق وواجب وعدل، وليس من الحق ولا من العدل عدم استخدام القوة المسلحة في مكانها الصحيح، وإنما هو من الظلم. وهذا أمر طبيعي وبديهي مارسه المظلومون وأصحاب الحق، قديماً وحديثاً، عندما اُضطروا وتمكنوا من استخدامه من جهة؛ كما استخدمه من جهة أخرى الظالمون والطغاة، قديماً وحديثاً، كالملاحدة الشيوعيين، الذين قتلوا ملايين المظلومين في روسيا والصين وفيتنام وأوروبا الشرقية خلال القرن العشـرين، بدعوى الانتصار للديانة الشيوعية المُلحدة.

         وبما أن الأمر كذلك، فنحن لا نطالب ذلك الكاتب المريض بأن يؤمن بما قلناه، وإنما نطالبه أن يكون موضوعياً محايداً فيما قاله عن المغازي النبوية. فعليه أن يدرسها  ليس كما يريد هو ، وإنما يدرسها كما حدثت في التاريخ، بمنطلقاتها ووسائلها وغايتها. بمعنى أن يدرسها بأنها سيرة نبي مُكلف من الله بالدعوة لدينه، وليست سيرة مجرم، أو نصاب، أو صاحب هوى، كما هو حال هذا الكاتب. وهذا لا يتطلب من ذلك الكاتب المُلحد أن يؤمن بنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - وإنما المنهج العلمي هو الذي يفرض عليه أن يدرسها كما حدثت في التاريخ، ولا يحق له أن يدرسها كما يحب هو مُنكراً لنبوته. وبما أنه مُلحد لا يؤمن بالله ولا برسالاته ولا أنبيائه، فلا يحق له أن يستدل بإلحاده على بطلان نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام -، لأن استدلاله هذا هو استدلال ذاتي زائف، قائم على دين الإلحاد، هو نفسه يحتاج إلى إثبات، ولا يُمكنه إثباته بدليل علمي ولا عقلي، لأن الإلحاد جنون وخرافة كبيرة، قائمة على الظنون والأهواء، ومخالفة حقائق الشـرع، وبدائه العقول، وحقائق العلوم، ليس هنا موضع تفصيله.

 ولذلك كان من الواجب عليه، منهجياً وعلمياً، قبل أن يتكلم عن المغازي النبوية، ويتهم النبي وأصحابه بالإجرام، ويشوه سيرتهم زوراً وبهتاناً، وعن سابق إصـرار وترصد، أن يُخصص الجزء الأول من كتابه المقبور ليُناقش نبوة محمد -عليه الصلاة -، وليُثبت لنا - إن كان قادراً - بأن محمداً لم يكن نبياً.. ولو تمكن من ذلك لما تطلب منه كتابة الجزء الأول في المغازي النبوية، لأنه سينهار كل شيء، ويتبين أن سيرة محمد وأصحابه لم تكن سيرة نبي، وإنما هي سيرة رجل ادعى النبوة وكذب على الله والناس! لكنه لما كان يعلم إنه لن يستطيع إثبات عدم نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - بالأدلة العلمية، ترك ذلك وخصص الجزء الأول من كتابه للمغازي، ليطعن بها في النبي والإسلام والصحابة، بدعوى أن هؤلاء استخدموا السلاح في الدعوة إلى الإسلام، متناسياً أن استخدامهم لذلك في مكانه الصحيح ليس عيباً ولا ممنوعاً ولا حراماً، وإنما هو حق وواجب وعدل.

ثم إنه بعد ذلك خصص الجزء الثاني من كتابه المقبور لمزاعم وتلبيسات وتحريفات سماها الأخطاء العلمية والتاريخية في القرآن والحديث. وسنناقشه فيها لاحقاً، ونبين أنه لا توجد أخطاء علمية ولا تاريخية في القرآن ولا في السنة الصحيحة، وإنما هي تلبيسات وأوهام وأكاذيب، وشُبهات، بل إن بعض تلك النصوص تضمنت إشارات إعجازية مُبهرة، لكن ذلك الكاتب لم يُشـر إليها - جهلاً أو قصداً - لغايات في نفسه.

 

    وتجب الإشارة هنا إلى أن ذلك الكاتب، وانطلاقاً من موقفه المتهافت من الإسلام ونبيه، تكلم عن المغازي النبوية، وضخّم كتابه ونفخه بنقل نصوصها كما هي في المصادر، ووصفها بأنها حروب إجرامية، وأدان بها الدعوة الإسلامية من ظهورها إلى نهايتها. وعمله هذا باطل قطعاً، لأنه لم يدرسها دراسة علمية محايدة، كما بيناه أعلاه، وإنما درسها دراسة ذاتية تحريفية إلحادية، عن سابق إصـرار وترصد. وبما أنه لم يدرسها دراسة موضوعية كما ظهرت في التاريخ، بأنها سيرة نبي حمل الدعوة التي كلفه الله بها، ولا أنه استطاع أن يُثبت أنه لم يكن نبياً قبل أن يتكلم عن المغازي.

فالجزء الأول المنفوخ من كتابه المقبور لا قيمة له في ميزان العقل والوحي والعلم، وكله باطل، لأنه ليس دراسة علمية للإسلام، وإنما هو دراسة ذاتية تحريفية إلحادية له، من جهة؛ ويشهد على صاحبه بالتعصب للباطل والحقد الدفين على الإسلام ونبيه وأهله، من جهة ثانية؛ وأنه كان مُصـراً على وصف المغازي النبوية بأنها إجرامية من دون حق، من جهة ثالثة. وبما أن المنطق يقول: ما قام على باطل فهو باطل، فلا أطيل في تتبع أباطيل كتابه، وكشف تهافته. لا أطيل في ذلك، لأنه من الثابت بالشـرع والتاريخ الصحيح أن حروب النبي - عليه الصلاة والسلام - كانت عادلة نظيفة، ولم تكن إجرامية ولا ظالمة، كما زعم ذلك الكاتب المريض، فكان هو الظالم المفتري انتصاراً لهواه وإلحاده.

    ومن الشواهد على ذاتيته وتعصبه للباطل، وانحرافه عن العلم، أنه افتتح كتابه بأقوال بعض إخوانه الملاحدة، فيها تقزيم للإيمان وتعظيم للإلحاد، بدعوى الحرية والعقلانية، وفيها أيضاً طَعْن في القرآن الكريم والنبي محمد - عليه الصلاة والسلام -، وزعم أن الإلحاد هو فكر الحرية والعقلانية   .

    أقول: واضح من ذلك أن هذا الكاتب المريض قام بقراءة إلحادية لدين الإسلام، وإلا أيّ فائدة من تلك الأقوال لمن يريد القيام بدراسة علمية للإسلام. لكنه كشف عن حقيقته، ولذلك فكتابه المقبور لن يكون دراسة علمية، ولن يكون قبراً للإسلام، وإنما سيكون فضيحة له ولأمثاله، وقبراً لمزاعمه. وشتان بين القراءة العلمية، التي تبحث عن الحقيقة في دراسة الإسلام، وبين القراءة الإلحادية التي تنطلق من الاعتقاد ببطلان الإسلام وغيره من الأديان، ولا تبحث عن الحقيقة، وإنما تبحث عن إبطال الإسلام بدعوى الإلحاد. وعليه، فستكون كتابته باطلة من بدايتها إلى نهايتها، كما بيناه في نقدنا لكتابه المقبور .

      كما أن استشهاده بأقوالٍ مَدحتِ الإلحاد وقزّمتِ الإيمان بالله، هو استشهاد باطل قطعاً، لأن الإلحاد خرافة وأوهام وأهواء نبتت في قلوب الملاحدة وعقولهم، ولا حقيقة له في الواقع. ويشهد عليهم إلحادهم بالغباء والجنون ومعاندة الوحي والعقل والعلم. وهذا خلاف المؤمن، فهو منسجم في إيمانه بالله مع الوحي والفطرة، والعقل والعلم. والمؤمن يقول بكل يقين: أنا مخلوق فلا بد لي من خالق خلقني، والكون مخلوق فلا بد له من خالق خلقه. أما الملحد، فلا يستطيع أن يُثبت إلحاده بذلك اليقين ولا بنصفه، ولا بأقل من ذلك. وإذا طالبته بدليل واحد على عدم وجود الله، فلن يستطيع أن يقدم ولا دليلاً واحداً صحيحاً، ولا بديهياً. ورأس ماله أن يقول: الكون خَلق نفسه من لا شـيء. وقوله هذا باطل قطعاً، ودليل دامغ بأن صاحبه جاهل، أو مجنون، أو صاحب هوى جاحد معاند. لأن العدم لا يُمكن أن يخلق نفسه ليصبح شيئاً، لأنه عدم، واللا شـيء لا يُمكن أن يصبح بنفسه شيئاً، ويكفي تصور زعمه للحكم عليه بالبطلان. وإنما ليُخلق الكون بعدما كان عدماً، فلا بد له من خالق أزلي متصف بكل صفات الكمال يخلقه ويُخرجه من العدم إلى الوجود. فالملحد إنسان مريض مفلس عقلاً وعلماً، ولا يعرف مصلحته، لأن الإلحاد يدمّره نفسياً وفكرياً وسلوكياً، ولن يحقق له شيئاً حقيقياً ينفعه في حياته ولا في مماته، وسيخسر الآخرة حتماً. وهذا خلاف المؤمن بالله، فهو متفق ومنسجم مع الوحي الصحيح، والعقل الصريح، والعلم الصحيح، وسعيد في الدنيا والآخرة، ولن يخسـر شيئاً في إيمانه بالله. والاعتقاد الصحيح هو الذي يُسعد صاحبه بحق وعدل في الدنيا والآخرة؛ والاعتقاد الباطل هو الذي يُهلك صاحبه بظلم وهوى في الدنيا والآخرة. ولو كان الإلحاد صحيحاً لوافق بدائه العقول وحقائق العلوم، ولأسعد الإنسان في الدنيا والآخرة؛ وإنما الإيمان هو الذي يوافق الوحي وحقائق العقول والعلوم، ويُسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.

       وأما زعمه بأن الإلحاد هو فكر الحرية والعقلانية، فهو زعم باطل، يشهد على صاحبه بالجهل والغرور وضحالة الفكر، وخضوعه لهواه وظنونه. لأن الإلحاد ضد العقلانية، وهادم لها، لأن العقلانية ليست استخدام الأهواء والرغبات والظنون وتسخير العقل لخدمتها؛ وإنما هي الاحتكام إلى العقل البديهي- الصـريح- بموضوعية ونزاهة، ثم الأخذ بأحكامه، والالتزام به. هذه هي العقلانية، وليست مجرد استخدام العقل، لأن كل أهل العلم، وغيرهم من الناس، يستخدمون عقولهم. لكن شتان بين من يحتكم إلى العقل بموضوعية، ويأخذ بأحكامه، وبين من يُسخّر عقله لخدمة أهوائه وظنونه ومصالحه، على حساب الحق والعدل والعلم والعقل نفسه!!. والملاحدة، وأمثالهم من أهل الأهواء، هم من أبعد الناس عن العقلانية، وعقولهم سخروها لخدمة أهوائهم وظنونهم ومصالحهم. ويكفي أن يتذكر هؤلاء الملاحدة أنهم أقاموا دينهم – الإلحاد- على عصيان البديهة، ومخالفة العلم والوحي في إنكارهم لوجود الله الخالق للكون، وإيمانهم بآلهة زائفة سموها الصدفة، والطبيعة، والتطور العضوي، والزعم بخلق العدم لنفسه من عدم.

 كل هذا المزاعم خرافات وأوهام ليست من العقل البديهي، ولا من العلم الصحيح في شـيء، ومع ذلك يؤمن بها هؤلاء ويسمونها تحريفاً وخداعاً: (الفكر الحر)، و(العقلانية)؛ فعجباً من أُناس يخالفون الوحي الصحيح وحقائق العقول والعلوم ، ثم يُسمون ذلك (حرية فكرية) و(عقلانية)، يزعمون ذلك وهم غارقون في أوهامهم وأهوائهم وظنونهم!

     وأما زعم ذلك الكاتب الملحد بأن في الإلحاد الحرية، فهذا وهم وكلام فارغ، لأن الملحد الذي ينكر وجود الله لم يتحرر، وإنما أصبح - من حيث يدري أو لا يدري- عبداً لإلحاده وأهوائه وظنونه وشياطينه وأسياده؛ لكن المؤمن بالله حقاً والتزاماً بدينه هو الحُر الحقيقي، فلا يخضع إلا لله الذي خلقه، وليس عبداً للأهواء والظنون والشياطين والأسياد، كما هو حال الملحد.

     ومن شواهد تعصب ذلك الكاتب للباطل، وبُعده عن الحياد العلمي، أنه أورد شعراً للزنديق المانوي صالح بن عبد القدوس (القرن: 2 هـ)، طعن به في النبي - عليه الصلاة والسلام - وزعم أنه أجبر زيداً على طلاق زوجته زينب، ليتزوج هو بها. ثم علّق ذلك الكاتب المحرف على ذلك بقوله: "صالح بن عبد القدوس، متحدثاً عن إجبار محمد لزيد وزينب بالفرقة، وزواجه بالإكراه من زينب بنت جحش، وقد استشهد شهيداً لكلمته على يد جلاد الخليفة الرشيد" .

    أقول: واضح من قوله أنه وافق على قول الزنديق، وأعجبه وأثنى عليه، وسمّاه شهيداً. فهو لا يبحث عن الحقيقة، ولا تهمّه، وإنما همه هو الطعن في الإسلام ونبيه، لإشباع تعصبه وضلاله وإلحاده. ولو كان موضوعياً نزيهاً، ويبحث عن الحقيقة، لرد على ذلك الزنديق، وبيّن خطأه وكذبه، أو على الأقل يُشير إلى أن الأمر فيه خلاف. لكنه انتصـر للزنديق، ولم ينتصـر للحق، ولا بحث عنه، فعل ذلك وهو يعلم أن قول الزنديق باطل قطعاً بدليل القرآن الكريم، الذي سجل الحادثة، وبيّن حقيقتها، فقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا  مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}الأحزاب:37- 38.

    ذلك هو حقيقة ما حدث، فالنبي عليه الصلاة والسلام، لم يأمر زيداً بطلاق زوجته، وإنما كان يأمره بإمساكها بعدما ساءت العلاقة بينه وبين زوجته، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يأمره بطلاقها ليتزوجها هو، ليس أنه كان يريد ذلك، كما زعم ذلك المُحرف، وإنما الله تعالى أمره به لتشريع حكم جواز التزوج بزوجة المتبنى بعد طلاقها. فأين العيب هنا؟ وأليس قول ذلك المريض باطل وكذب وافتراء؟ ولماذا سكت ذلك الكاتب عن الحقيقة، وانتصـر بالباطل للزنديق؟.  انتصـر له مع علمه أن (ابن عبد القدوس) كان زنديقاً مانوياً ثنوياً يؤمن بإلهي النور والظلام: اهورامزدا، وأهريمن، ولم يكن ملحداً لا يؤمن بالله، كما حال ذلك الكاتب الملحد. لكنه مع ذلك سكت عن كذبه، وأثنى عليه، وجعله شهيداً، لأنه طعن في الإسلام ونبيه. فهل كاتب كهذا يبحث عن الحقيقة، ويدرس الإسلام بموضوعية ونزاهة وحياد؟ كلا ، وألف كلا، إنه لا يبحث عن الحقيقة، وسيملأ كتابه بالأباطيل والشبهات انتصاراً لإلحاده، ولا يذكر الحق إلا إذا وافق هواه، وربما لا يذكره ويكتمه تعصباً للباطل.

     ومنها أيضا أنه قال: "إن كل دين من الأديان كخرافة كان ولا زال له آثاره السلبية الرجعية على نشـر الخرافات والعادات المؤذية الضارة، لكن لعل الإسلام أحد أكثر الأديان إضراراً بالبشرية منذ نشأ وحتى اليوم، حتى الهندوسية لا تضاهيه في ذلك، لأن أغلب أضـرارها على مجتمعها الهندي فقط، على عكس الإسلام الذي يأمر أتباعه بأنهم يجب عليهم احتلال الدول الأخرى، وفرض الجزية عليها، فإن لم تستسلم فقتل الآلاف من رجالها ومواطنيها وسبي واستعباد الأطفال والنساء. إن كل عملية إرهابية في العالم يقوم بها مسلمون متبعون لأصول هذه التعاليم، رغم متغيرات العصـر الحديث، يكون الإسلام بنصوصه مسؤولاً أولًا عنها، وكل زيجة لطفلة، بما يشكل انتهاكاً للبراءة، سببه نصوص الإسلام من قرآن وحديث.. وكل امرأة تتعرض لضـرب وعنف وقمع، في مجتمع  ذكوري بطريركي (أبويّ)، من أب أو أخ أو زوج، فسببه تعاليم الإسلام التي تسمح وتشـرعن لذلك.. تأخر التعليم، ومنع نشـر وتدريس النظريات العلمية والعقلانية، كنظرية التطور وغيرها، سببه الإسلام.. استسلام الشعوب لقادتها الظالمين، وأصحاب العمل والمال الناهبين البخلاء، مصدره تعاليم الإسلام، الذي يأمر بالاستسلام للقهر والفقر والظلم.. العنف الأسـري، والمدرسـي، وعنف رجال الشـرطة، سببه الإسلام، لأنه ينص على الحدود الإسلامية، وكلها عنف وأذى جسدي، وليس سجناً، بما يتنافى مع روح القانون المدني، وهي تنص على التدخل في حريات الأشخاص الإنسانية، بما يتنافى مع أي معنى جوهري للتشـريع القانوني الحديث، من أن الجريمة هي ما ضـر الآخرين ضـررًا فعلياً ذاتياً. واعتقادهم أن الله الخرافي المزعوم نفسه يمارس التعذيب في القبر، وجهنم الخرافية، ويأمر به الحكام والقضاة وأولي الأمر...".

    أقول: تلك المزاعم معظمها باطل، وفيها تحريف وغش، وجهل وخداع، وافتراء كبير على الإسلام، وبُعد عن الموضوعية والحياد العلمي. وكشفت ما يكنه ذلك الكاتب من حقد وكره للإسلام وأهله، ولله تعالى، الذي خلقه مع كفره به.

وإبطالاً لمزاعمه، وكشفاً لضلاله وانحرافه وجهله، أقول:

   أولاً: إن دين الإسلام ليس كما زعم ذلك المريض الذي صـرعته الشكوك والشبهات والشهوات، فاستعبدته وأردته كافراً بخالقه؛ وإنما هو دين الله تعالى الذي ارتضاه لبني آدم {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}آل عمران:19. وقد أَرسل الله به خاتم أنبيائه محمداً - عليه الصلاة والسلام- وجعله رحمة للعالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}الأنبياء:107، ولم يجعله عقاباً ولا عذاباً ولا شـراً للعالمين، كما زعم ذلك الكاتب المريض.. فالأصل في رسالة الإسلام أنها رحمة بالبشـر، لكن أكثر بني آدم يرفضون الإيمان بدين الله، والالتزام بشـريعته، انتصاراً لأهوائهم ومصالحهم وأديانهم ومذاهبهم الزائفة. وهنا يُناصبون الله ودينه العداء، وعليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم، لأن الله سبحانه خلقنا وفرض علينا عبادته بشـريعته، ولم يفرض دينه على الناس بالقوة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}البقرة: 256، و{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}الكهف:29. فمن آمن أدخله الجنة، ومن كفر أدخله النار. ولا يحق لأحد أن يقرر لماذا خلقنا الله، إلا هو سبحانه وتعالى.

    علماً بأن الله تعالى أمرنا أن نطبق دينه كله بحق وعدل وحكمة، ونهانا عن الظلم والاعتداء. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}النحل: 125، و{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}سورة البقرة: 190، و{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}النساء: 58. وأمرنا أيضاً بالتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الناس، وفعل الخيرات، والمسارعة إليها: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}المائدة: 2، و{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}الحج: 77، و{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}المائدة: 87 .

    ثانياً: إن من يريد فهم الإسلام فهماً صحيحاً، ويدرك عظمته وحكمته، عليه أن يفهمه من الإسلام نفسه، فيتركه يشـرح نفسه بنفسه، ولا يفهمه بأهوائه وظنونه ومصالحه وخلفيته الفكرية. فينظر إلى الإسلام ويفهمه فهماً كاملاً وشاملاً، بإرجاع الفروع إلى الأصول، والنظر إليه أيضاً بمقاصد الشـريعة وحكمتها الجزئية والكلية. وبهذا الفهم يصل إلى الفهم الصحيح والشامل لدين الإسلام، ولا يكون فهمه له فهماً جزئياً، لأن هذا الفهم لا يكفي وحده للوصول إلى الفهم والتطبيق الصحيحين للإسلام. وبما أن الأمر كذلك، فإن كل من يطبق الإسلام بذلك الفهم فسيسعد به، ويكون خيراً للبشرية كلها، ولا تحدث فيه الأخطاء التي حدثت عندما طُبق الإسلام تطبيقاً جزئياً وانتقائياً بعد الخلافة الراشدة وإلى اليوم. وبذلك يتضح أن الزعم بأن الإسلام شـر، ولا يصلح للبشرية، كما زعم الكاتب، هو زعم باطل، ويشهد عليه بأنه جاهل، أو صاحب هوى جاحد معاند أغفل ذلك طعناً في الإسلام، وانتصاراً لهواه وإلحاده.

    ثالثاً: إن ذلك الكاتب أصـر على عدم التفريق بين الإسلام كدين كامل شامل صالح لكل زمان ومكان، وبين اجتهادات العلماء في فهمهم له، وتطبيق المسلمين له عبر تاريخهم الطويل. إنه أصـر على ذلك ليطعن في الإسلام، ويُحمّله أخطاء المسلمين في تطبيقهم لدين الإسلام. ثم بعد ذلك ادعى أن الإسلام لا يصلح للبشـر، وأنه شـر عليهم، وأنه سبب كل المصائب والأخطاء التي وقع فيها المسلمون طوال تاريخهم الإسلامي. وموقفه هذا باطل قطعاً، ويشهد عليه بالتحريف والافتراء، والغش والخداع فيما قاله عن الإسلام، إشباعاً لضلاله وإلحاده.

   رابعاً:  إن ذلك الكاتب لم يفرق بين الإسلام كما هو في القرآن والحديث الصحيح، وبين اجتهادات العلماء وتطبيق المسلمين له في تجربتهم التاريخية المعروفة، حسب فُهومهم وظروفهم. وتجربتهم هذه ليست هي التطبيق النموذجي الوحيد للإسلام، بدليل أن المسلمين لهم نموذجان تاريخيان مشهوران في تطبيق الإسلام، هما: نموذج الحُكم الشوري، ونموذج الحُكم الوراثي، والفرق كبير جداً بيّن النموذجين. وعليه، فيُمكن للمسلمين اليوم أن يُوجدوا في تطبيقهم للإسلام أكثر من نموذج إسلامي صحيح. وهذا الأمر قائم على أساس التفريق بين الإسلام كدين رباني تولى الله حفظه، وبين اجتهادات المسلمين في تطبيقهم له، وهم الذين يتحملون نتائج أعمالهم. لكن ذلك الكاتب المحرف الحاقد على الإسلام لم يُفرق بينهما، وحَمّله انحرافات وأخطاء المسلمين في تطبيقهم له، وسماها إسلاما تعمداً ليُدين الإسلام ويطعن فيه ظلماً وعدواناً. فعل ذلك لأنه لم يكن يبحث عن الحق، وإنما كان يبحث عن أي شيء يطعن به في الإسلام، ويُشكك المسلمين في دينهم، ويُبرر طعنه في الإسلام، وكفره به.

     خامساً: إن وصف ذلك الكاتب للأديان بأنها خرافية، هو وصف لا يصدق على الأديان الباطلة فقط، وإنما يصدق على الإلحاد أيضاً، لأنه هو نفسه دين أرضي قائم بذاته، ومملوء بالخرافات والأباطيل، كالأديان الأخرى الزائفة. ويكفي أن نذكر أن الإلحاد يقوم على ثالوث خرافي يشهد بنفسه على بطلانه، هو: خرافة خلق الكون لنفسه من عدم، وخرافة نشأة الحياة بالصدفة، وخرافة التطور العضوي. هذه الخرافات لا تختلف في صميمها عن خرافات الأديان الباطلة المتعلقة بالآلهة، وظهور الكون، وغيره. ولا ينفع خرافات الملاحدة تستّرها بالعلم، فهو ستار زائف يُمكن إسقاطه بسـرعة لتنكشف على حقيقتها. ولذلك، فإن الإلحاد المعاصـر هو خرافة كبيرة مُتسترة بالعلم، ليس هنا موضع تفصيل ذلك. والملاحدة هم من أكثر الناس مخالفة للعقل والعلم، واتباعاً لأهوائهم وظنونهم، وممارسةً للتحريف والغش والخداع. يفعلون ذلك وأكثر، لفساد الإلحاد وبطلانه، وعدم وجود الأدلة الصحيحة التي تؤيد خرافة الإلحاد، فيجعل أتباعه من أكثر الناس كذباً وتحريفاً وممارسة للإرهاب الفكري، وانحرافاً عن الموضوعية والحياد العلمي، شعارهم: الغاية تُبرر الوسيلة. وهذا الأمر فصّلتُه ووثّقتُه بعشـرات الأدلة العلمية، ليس هنا موضع عرضه.

   سادساً: إن قول ذلك الكاتب بأن الإسلام فرض على المسلمين احتلال الشعوب الأخرى، وفرض الجزية عليهم، وسبيهم، واستعبادهم، هو زعم باطل، والأمر ليس كذلك. وإنما الإسلام أمرنا أن ننشـره، وندعو إليه بالحق والعدل وعدم الاعتداء، وبالحكمة والموعظة الحسنة من جهة؛ ولم يفرض على الناس اعتناقه بالقوة، من جهة أخرى، وإنما أعطى لهم الحرية الكاملة في اعتناقه أو رفضه، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم. وبما أن الأمر كذلك، فلم يفرض علينا الإسلام أن ننشره بوسيلة واحدة، وإنما أمرنا إن ننشـره بحق وعدل وحكمة بمختلف الوسائل الشـرعية والممكنة حسب الظروف المحيطة بنا، كالدعوة الفردية والجماعية، والمعاملة الحسنة، والمناظرات، والملتقيات، ووسائل الإعلام على تنوعها. وأما استخدام القوة، فهي وسيلة من الوسائل تُستخدم في مكانها الصحيح حين يتطلب الأمر ذلك، حسب الظروف زماناً ومكاناً. والشعوب التي ترفض اعتناق الإسلام، ولم تظلمنا ولا حاربتنا، ولا منعت الناس من اعتناقه، فإن الإسلام لم يأمرنا بغزوها وإجبارها على اعتناق الإسلام، ولا فرض الجزية عليها. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشّـَرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}الكهف:29، و{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}الحجرات: 13. وهذا كما ينطبق على الأفراد، فإنه ينطبق أيضاً على الجماعات والشعوب والدول. وعليه، فتكون علاقات المسلمين معهم سلمية، وحسب الظروف والمصالح والمواثيق والمعاهدات التي بينهم. قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}الأنفال: 61، {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}النساء: 90.

    والإسلام لا يفرض علينا اليوم إعادة نموذج الفتوحات الإسلامية بالطريقة التي تمت بها، وإنما يأمرنا بالدعوة إلى الإسلام بالحق والعدل والحكمة وعدم الاعتداء، حسب ظروفنا وقدراتنا. ولا يأمرنا في وقتنا الحاضـر بسبي أسرى الحروب واستعبادهم، إذا كانت كل الدول لا تفعل ذلك فيما بينها، وفي تعاملها معنا. لا يأمرنا بذلك، لأن الإسلام هو الذي جاء بتحرير العبيد، وحث على عتقهم وحسن معاملتهم، بل وجعل لهم نصيباً من الزكاة، وأمر بمكاتبتهم إن هموا طلبوا ذلك وكانوا أهلاً له، وجعل العتق كفارة لكثير من المخالفات الشـرعية. كما أن الإسلام لم يفرض علينا السبي في الحروب، فيُمكن وضع حل لأسـرى الحروب دون سبيهم واستعبادهم، بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَـرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}محمد: 6. فالله تعالى لم يفرض علينا السبي والاستعباد، وخيّرنا بين المن أو الفداء. وفي وقتنا الحاضـر يوجد الأسـر، وتبادل الأسـرى، وهذا من الإسلام. وأما السبي والاستعباد الذي حدث في الغزوات والفتوحات الإسلامية، فهو أمر كان عالمياً، تمارسه كل الدول والشعوب، وليس من الحكمة، ولا من العدل، ولا من المصلحة، أن يُحرّمه الإسلام وتُمارسه الدول والشعوب الأخرى في حروبها مع المسلمين. فأصبحت المعاملة بالمثل أمراً ضـرورياً. كما أنه ليس من الحق، ولا من العدل، ولا من الحكمة، ممارسة السبي في وقتنا الحاضر، وهذا من الإسلام من دون شك .

     سابعاً: إن قول ذلك الكاتب بأن الإسلام هو سبب تأخر التعليم عند المسلمين، هو زعم باطل قطعاً؛ ويشهد عليه بأنه كاذب ومُحرف ومُغالط ومُتعصب لهواه، لأن الثابت والمعروف من دين الإسلام بالضـرورة أنه دين علم وعقل، لا دين أهواء وظنون وخرافات. والشواهد التي تُثبت ذلك كثيرة جداً، ليس هنا موضع ذكرها. والقرآن الكريم كله علم من بدايته إلى نهايته. وعليه، فلا يُمكن أن يكون الإسلام هو سبب تأخر المسلمين من الناحية العلمية، وإنما يرجع ذلك أساساً إلى أسباب وعوامل سياسية واجتماعية وخارجية. وكيف يكون الإسلام هو السبب في تأخر المسلمين علمياً، وهم لا يُطبقونه في حياتهم السياسية، ولا العلمية، ولا الاجتماعية، ولا الاقتصادية، ولا الخارجية، ولا يُطبق منه إلا القليل في الأحوال الشخصية؟. وكيف يكون الإسلام هو السبب في تأخرهم علمياً، والنُظم التي تحكمهم وتُعلمهم علمانية؟!

      كما أنه ليس صحيحاً أن الإسلام يمنع تدريس (نظرية التطور العضوي)، فهو لم يمنع دراستها، ولا تدريسها، ومن الثابت أن معظم الدول الإسلامية تدرسها في برامجها التعليمية؛ وإنما يسمح بدراسة كل الأديان والمذاهب، منها التطورية، شـريطة أن تُدرس بميزان الوحي والعقل والعلم، لا بميزان الأهواء والظنون. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ  ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}الحج: 8-9، و{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}النمل: 64، و{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}النجم: 23.

      وأما وصفه للتطورية العضوية بأنها نظرية علمية وعقلانية، فهو وصف باطل قطعاً، وهي ليست من العلم في شيء، بل ولم تصل بعد إلى درجة النظرية. وإنما هي رأي وظن ووهم لا يُمكن إثباته بالمشاهدة، ولا بالتأمل النظري، ولا بالتجارب المخبرية، ولا بالحفريات. وقولي هذا ليس رغبة ولا أمنية، وإنما هو كلام علمي مؤكد، بعدما درستُ التطورية العضوية مدة طويلة، وألفت فيها كُتباً، وتبيّنتُ أنها خرافة مُتسترة بالعلم، كما سنبينه لاحقاً. وأما انتشارها في الدول الغربية، فسببه تبني تلك الدول لها، انتصاراً للمادية والعلمانية في معارضتها للأديان عامة، والنصـرانية وكنيستها خاصة. وهي قد فرضتها في التعليم على شعوبها بالقوة، ومكنت التطوريين من الهيمنة على معظم الجامعات والمتاحف العالمية الكبرى. وقد مارس هؤلاء التطوريون مختلف أشكال الإرهاب الفكري لنشـر التطورية، وقمع الرافضين لها والقائلين بالخلق. وقد وصل بهم الأمر إلى طرد مخالفيهم من وظائفهم، وتهديدهم بسحب شهاداتهم العلمية، وملاحقتهم قضائياً، بل وحتى تهديدهم بالقتل. وفكرة أو نظرية ذلك حالها، لا يُمكن أن تكون صحيحة، لأن الفكر الصحيح ينتصـر بأدلته الصحيحة، ولا يستخدم أصلاً التحريف والإرهاب لينتصـر، ولا يسمح لنفسه بفعل ذلك أبداً.

     وأخيراً:  إن استهزاء ذلك الكاتب المريض بالله تعالى، وبالمعاد الأخروي، هو شاهد على مرضه وحيرته، وحقده وقلة أدبه، وعدم احترامه لخالقه الذي خلقه، ولمعظم البشـر الذين هم يؤمنون بالله تعالى. واعتراضه على الله تعالى في المعاد الأخروي، ورفضه له، هو موقف باطل، لأن الله سبحانه هو خالقنا، وهو الوحيد الذي يقرر لماذا خلقنا. وبما أنه سبحانه أخبرنا أنه خلقنا لعبادته عن كمال وحكمة، لا عن نقص وعبث، فمن آمن وأطاعه أدخله الجنة، ومن كفر وعصاه أدخله النار. فأصبح وجود الجزاء والعقاب والمعاد الأخروي أمراً ضـرورياً، ولا يصح عقلاً ولا شرعاً ولا أخلاقاً، الاعتراض على الله تعالى في ذلك. ومن يعترض عليه، فهو جاهل، أو صاحب هوى جاحد معاند، ولا قيمة لموقفه هذا. كما أنه يجب أن لا يغيب عنا أن مبدأ الجزاء والعقاب هو مبدأ ضروري في حياة البشـر، فلا يستقيم مجتمع ولا دولة إلا به. فهو مُطبق في أُسرنا، ومؤسساتنا، وبين الدول، ولا توجد دولة بلا قانون الجزاء والعقاب. فالأمر ليس خرافة، وإنما الإلحاد هو الخرافة، بل هو أكبر خرافة يؤمن بها الإنسان بعدما يُعطل العقل والعلم ويتخذ هواه إلهاً من دون الله!!

      واضح مما ذكرناه، أن هذا الكاتب، وأمثاله، رغم تظاهره بالعقلانية والعلمية، فهو بعيد جداً عن النقد العلمي الصحيح القائم على الموضوعية والنزاهة العلمية. وغارق في ذاتيته وعبادته لهواه وتعصبه للباطل. ولا يستطيع أن يتخلص من ذلك، لأنه لا يريد أن يتخلى عنه.  فهو بذلك لن يكون ناقداً نزيهاً مُحايداً ينتصـر للعلم حتى وإن كان ضده. وقد تأكد ذلك بشكل قطعي من دحضٍ لمزاعمه بوجود أخطاء تاريخية وعلمية في القرآن الكريم.

*  الأستاذ (خالد كبير علاَّل) من مواليد سنة 1961 بالجزائر، وتحصل على شهادة الماجستير سنة 1996، من جامعة الجزائر، وكان موضوع الرسالة: (الحركة الحنبلية وأثرها في بغداد ( ق: 3-5هـ) ، وحاز على شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي سنة 2003 من جامعة الجزائر أيضاً، وكان موضوعها: (الحركة العلمية الحنبلية و أثرها في المشـرق الإسلامي، خلال القرنين السادس والسابع الهجريين)، وهو الآن يشغل منصب أستاذ محاضر ودائم بالمدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية بالجزائر العاصمة، وأستاذ مؤقت بقسم التاريخ بجامعة الجزائر.

 وهذا الموضوع هو مقدمة لكتاب له تحت عنوان (لا وجود لأخطاء تاريخية في القرآن الكريم).

 

هناك 3 تعليقات:

  1. دراسة القرآن بالقرآن هو تخدير للعقل والضمير وإلغاء للأخلاق الحقيقية الإنسانية ليصير الإنسان آلةً دينية معدومة العقل والضمير والتفكير والإنسانية، بدون الاستنارة بنور العلوم وقيم الإنسانية والحق والعدالة وكل ما هو ضمير وعلم ونور بالاقتصار على دائرة الوهم الدينية التي تحصُر نفسك فيها تتحول أيها المتدين إلى مسخ إنسان يعيش في عالم مصطنع مختزل ووهمي منتزَع منه الحقائق والصدق والشرف والعلوم عالم من الظلام ظلام الجهل والأوهام والتطرف. تحياتي. لؤي عشري.

    ردحذف
  2. وجملتك معظم البشر يؤمنون بالله غير صحيحة! فسدسا البشر بين بوديين أتباع البودية وملحدين، فالمقولة غير دقيقة. وحوالي سدس آخر هم هندوس. فالمقولة تحتاج مراجعة. أهل العلوم كالأحياء لم يهددوا أحدا بقتل لأنه أولا وأخير علم وليس إسلام كما تعلم :) أصحكتني بمزاعمك الخزعبلية! لسنا نحن أهل التعصب الديني بكافة نكهاته وتنوعاته من إسلامي ويهودي ومسيحي وشيوعي وغير ذلك. هل أنت قريب هيثم طلعت؟!! مستوى ذكاء ادعائك بنفس مستوى ذكاء ادعاءته.

    ردحذف
  3. أما افتتاحي كتبي بمقولات تنويرية لملحدين عرب وغربيين قدماء ومحدثين فأمر شريف نبيل وجليل لا غبار عليه. هو افتتاح تنويري واعتزازٌ بالتنوير العقلاني وتراثه العريق القديم والحديث وليس استشهادًا بشيءٍ. وهو خيرٌ ممن يفتتح كلامه أو يومه بنص إرهابي أو خزعبلي كالقرآن والكتاب المقدس، تخيل من يفتتح يومه بنص إرهابي من سورة كسورة التوبة أو نص توراتي إرهابي ما عن قتل أطفال الفلسطيين ونسائهم ومواشيهم بحسب أسفار موسى مثلا! ويشرفني دعوة القراء لتحميل الكتب العلمية والفكرية من كل المجالات من مكتبتي على الإنترنت (مكتبة الإلحاد العالمية) ويتوفر بها كتب باللغة العربية والإنجليزية على نحو أساسي وبعض الكتب بلغات أخرى كذلك. http://atheismlibrary.blogspot.com/

    ردحذف