03‏/10‏/2021

أهلاً وسهلاً..!

بكر أبو بكر - فلسطين

?  من الممكن أن نفتتح الدورة التنظيمية، أو الإدارية، أو السياسية.. أو الورشة، في عملنا بالتدريب والتعبئة، بعملية التعارف بين المشاركين في الدورة، وهي العملية المسماة أجنبياً (كسـر الجليد)، وليس لدينا جليد! أو كسـر الجمود. وهو مصطلح، كعشـرات مثله، قد لا يتلاءم - صيغةً - مع البيئة العربية. فعلى سبيل المثال، يقول العربي: أثلجت أو برّدت قلبي، أو صدري، أو حرّتي، أو كبدي،  بينما يقابله بالأجنبية (الإنجليزية أساساً): أدفأت صدري، وهما مصطلحان مقبولان في الثقافتين، وذلك لاختلاف البيئة الجغرافية، مما ينعكس على المصطلحات واستخدامها.

وفي عادات التعارف والترحيب عالميًا، يكتب د.محمد الجويلي، في (صحيفة العرب): أن عادة أهل اليابان – مثلًا- عندما يحيون أحداً، أن ينزعوا أحذيتهم من أرجلهم، بينما يرتمي الهندوسي على الأرض،

أمام من هم أرفع منزلة منه، تحية لهم. ومن عادات بعض أهالي الهند أن يقبضوا بأيديهم على لحى بعضهم. ويقوم الناس في الموزمبيق بالتحية من خلال التصفيق بالأيدي ثلاث مرات، قبل قول كلمة (مرحباً). أما الأوروبيون، فيرفعون القبعات عن رؤوسهم، عند التحية. وفي بعض جزر المحيط الجنوبية، يرمي الصديق صديقه بجرة مملوءة بالماء، تحية له. وأغرب أنواع التحية عند بعض جزر الفلبين، عندما يرفعون قدم من يحيونه إلى وجوههم، ويمرغونها بها. وأمّا التحية التي يعتبرها الآخرون سلوكاً سيئاً، فهي عند قبائل التبت - في آسيا، شمال جبال الهيمالايا -، وهي عبارة عن إخراج اللسان للضيف، تعبيراً عن الترحيب به، وهو تقليد يتبعونه منذ القرن التاسع في عهد الملك التبتي المعروف باسم (دراما لانغ)، الذي كان له لسان أسود.

وفي التأصيل العربي للبرودة في المقولة، أو المثل العربي الدارج (أبردت قلبي، كبدي...) التي تعني الراحة والاطمئنان، يقول الشاعر بشار بن برد:

إنْ بردت عن كبدي لوعةٌ        طالت على القلب فلم تبرد

 ويقول جمال الدين بن مطروح، من شعراء العصـر العباسي:

برّدت حرارة قلبك المشتاق          لما دعوك وأسعفوا بتلاقِ

سكنَ الهوى بعد الخفوقِ وأخفقتْ    سبلُ الأسى من قلبك الخفاق

ويقول د.غازي قهوجي، في مقاله (ثلج ونار)، مؤكداً ما ذهبنا إليه بالتحية بردًا أم جليدًا أم دِفئًا: يتداول الناس في شمال أوروبا، وسيبيريا، عبارات توهم السامع والقائل بالحرارة الساخنة؛ فيقال: (لقد أدفأ مجيئك صدري)، و(أدفأت أخبارك صدري)، بدل (أثلج وأثلجت)! والبلاد التي يندر فيها سطوع الشمس، بفعل الضباب والغيوم، كما في أوروبا بشكل عام، وخصوصاً بريطانيا، و(لندن) بالذات، فإننا نلحظ أن العديد من الأغاني الرومانسية الإنكليزية تقول: You are my sunshine، أي أنتِ وهج شمسي! وذلك مقابل أثلجت صدري عند العرب.

  ومن هنا نقول: إن التعارف المرحاب هي الفكرة الأوضح للتعبير عن التخلص من حالة التوجس أو الخوف أو الترقب أو التردد أو القلق حين التقاء الأغراب، أو غير المتعارفين. وعليه، فإن العرب استخدمت البشاشة والترحيب والضيافة قولًا وفعلًا، ولم يكن هناك جليد ليكسـروه! بمعنى أن الضيافة لدى العرب هي ما كانت بديل ما يسمونه غربيًا كسـر الجليد عندهم.

الضيافة العربية، أو الترحاب: (أهلا وسهلًا)، هي مدخل العربي الأصيل للتخلص من توتر اللقاء مع الأغراب (ولنا أن نفعل ذلك في دوراتنا، ولقاءاتنا)، وعبر إظهار الكرم، وحُسن الضيافة (كرم البشاشة، والضيافة بالطعام والشـراب، والإقامة والقهوة...)، فظهر مصطلح عربي قصير للترحيب والتقدير معًا هو: أهلاً ومرحبًا، أو أهلًا وسهلًا، المأخوذ من عبارة: حللتَ أهلًا ووطِئت سهلًا.

أهلاً: أي صادفتَ أهلاً، لا غُرباء.. فهم أهلك، وتعرفهم ويعرفونك، وهم سعداء برؤيتك.

وسهلاً: أي وطئتَ موطئاً سهلاً؛ كنايةً عن الترحاب، أي دخلت مكاناً مُرحبٌ بك فيه.

ومرحباً: أي صادفتَ سَعةً؛ لأن معنى الرحب: السعة.

ومن عبارات الترحيب بالضيوف، السائدة عند العرب اليوم، خاصة في الجزيرة العربية: قولهم: (يا هلا بكم، من ممشاكم إلى ملقاكم)، و(حيّاكم الله، وحيّا من حضـر، حيّاكم عداد الشجر والحجر)، و(أسفرت وأنورت، واستهلت وأمطرت)، و(بالسنة عيدين، وهذا الثالث)، و(يا هلا، ويا غلا، عداد ما بين الأرض والسما)... إلخ.

وفي النموذج الثقافي الإسلامي الحضاري، ولغرض التقريب بين القلوب، وتحسين التواصل والتعارف والترحاب، كان السلام، أو الترحيب، هو بعبارة: السلام عليكم، أو: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لما للعبارة من تأثير نفسي بردم هوة التوجس، وبالمحبة والقرب. والسلام أصل التحية، وما أصبحت تسمى به.

وللتحية أحكام وآداب في الثقافة العربية والإسلامية، إذ يكون الأفضل في الابتداء بالسلام أن يسلم الصغير على الكبير، والماشي على الجالس، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير.

ونحن (في دوراتنا) كنموذج للتعارف وحسن الاستقبال، وبعث شعور التقارب والمودة، ولنقل الدفء؛ اقتباسًا من معنى الدفء ضد البرد هنا (وليس السخونة أو الحرّ)، نقول: أهلًا بكم وسهلًا، فالافتراض هو ذلك، لا الافتراض بوجود جمود، أو جليد، أو صعوبة!

وقد تكون لنا آلية بسيطة (والآليات كثيرة) مثل: اذكر اسمك وعملك (دراستك)، وهدف إلى ثلاثة ستحققها حتى آخر العام هذا، ولونك المفضل، وأفضل صِفة فيك، وآخر كتاب قرأته، وأجمل بيت شعر تحبه.. مثلاً، ونجعل المشاركين يقومون بالحوارات والنقاشات وبعض التمارين النفسية، أو الذهنية، أو حتى الجسدية، كل هذا لغاية إحداث التقارب والتواصل.

الفكرة التي نود تكريسها، من كل ما سبق، هي أن الكثير مما نتلقاه من أفكار وقيم ثقافية مختلفة، قد لا تكون دقيقة في التعبير عن البيئة الجغرافية التي نعيشها، ناهيك عن البيئة الحضارية في سياقات أخرى، مضافًا لذلك أهمية الارتباط الثقافي الحضاري، والاعتزاز بلغتنا وبموروثنا وحضارتنا، مع الاحترام للحضارات الأخرى، وأهلًا وسهلًا بكم دومًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق