03‏/10‏/2021

قصة قصيرة/ أنا لست كافر.. بل الجوع كافر

قصة وترجمة : عبد الخالق البرزنجي

?       في فجر يومٍ شتائي، كان المطر يهطل بغزارة.. أفاق سـردار من النوم مضطرباً، وأسرع بغسل وجهه بحفنتين من الماء البارد. وبدون ان يتناول الفطور مضـى الى ارتداء معطفه المهترئ، وأمسك مظلته بيده، ثم توجه صوب الشارع الرئيس.

     وقف على الرصيف منتظراً.. لمح من بُعد سيارة موحلة  من نوع (البيكاب)،  وصلت إلى جواره بالقعقعة والخشخشة. وقفت بجوار الرصيف، وإذا بأحد العمال من داخل  السيارة يناديه بصوت عالٍ قائلا: أخي، هيا اركب بسرعة.

     ركب السيارة بسـرعة البرق. رأى سـردار خلفية السيارة ممتلئة بالعمال المرهقين ذوي العيون الناعسة الذين أخرجتهم آلام الزمن من بيوتهم في هذا الطقس البارد والمصقع بهدف الحصول على قوتهم اليومي. حشـر نفسه بين الحشد المكتظ وجلس بهدوء.

     بالإضافة إلى الطقس القارص، لقد أربكه حشد العمال هناك. كل فرد منهم كان منشغلاً مع رفيقه بالهمهمة والحديث غير المفهوم.

     حين بلغت السيارة العلوة، ترجل هو من السيارة مثل العمال الآخرين. عقب تمشٍ قليل جلس هناك على الشارع العام فوق صخرة وتمتم قائلاً:

آهٍ يا ربي العظيم لِمَ استوت هذه الحياة على هذه الشاكلة؟! ترى فرداً جائعاً وفرداً آخراً شبعاناً" ألم يقولوا: اليد المرهقة تغفو على بطنٍ شبعة"، نحن أيضاً مُرهقون من وراء العمل، ولم نقف مكتوفي الأيدي، بينما نحن نلهث في الحصول على هذا القوت وجائعون دوماً.

على غفلة وضع شخصٌ ما يده على كتفه وفاجأه بالقول:

أخي .. ألا تعمل؟

نعم.

إذن، انقل لي هذه الصناديق إلى صندوق سيارتي.

شرع بالعمل إلى أن وضع آخر صندوق في خلفية السيارة، ثم نفض الغبار العالق من جسده قليلاً وقال:

    -سيدي، ها قد أكملتُ العمل كما أمرت.

    -سلمت يداك، تفضل خذ أجرتك.

    -شكراً سيدي.

 مضى الوقت شيئاً فشيئاً حتى أنهى أعمال ذلك اليوم. وفي طريق عودته نظر إلى جيبه وتمتم قائلاً:

حسناً.. كيف أصرف هذه العملات القليلة! أأصرفها على الخبز.. أم على الأدوية لأمي! على أية حال، حمداً لله الذي جعلني أكسب هذا القدر من النقود، فالحياة أصبحت صعبة جداً، لِمَ أصبح ناكر الجميل.

على غفلة، وفي طريقه التي سلكها صوب البيت، سمع صرخات وأصوات عالية من الناس في محيطه، وهم يهرولون صوب حديقة مجاورة لبيته، وهم يقولون:

ياناس .. ياعالم .. اُنظروا.. ها قد أحرق نفسه.. النجدة يا ناس، لقد أشعل في جسده النار..أسعفوه.. النجدة.. لقد أحرق نفسه...

     ركض سـردار مع الناس نحو الحديقة، هنالك رأى شاباً تتصاعد منه ألسنة النار..  كيفما كان، تم إخماد النار بهمة الناس الأخيار المحتشدين هناك، لكن بعد ماذا؟! كان الشاب في حال الاحتضار، ووجدت هناك شنطة سوداء يدوية مرمية بجانبه، وفي هذه الأثناء شـرع شخص ما داخل الحشد بالحديث قائلاً:

-أتصور إن هذه الشنطة تعود إلى هذا المنكوب.

-فلنفتحها، ونعلم ماذا يوجد في داخلها.. قال واحد آخر.

-وآخر قال: يا ترى ابن أي نحس يكون هذا؟

- حسناً، لِمَ أقدم هذا البائس على هذه الفعلة الشنيعة بنفسه؟!

ذلك الرجل الذي كان بجوار المنكوب التقط الشنطة قبل الكل، وبادر بفتحها.. أخرج منها ورقة مكتوبة، وقرأ محتواها على مسامع المحتشدين، ثم رفع يده من مكانه صارخاً في وجههم:

-الجوع ! الجوع! ياناس.. يا عالم..

حين تسلموا منه الورقة، قرأوا  فيها هذه العبارة:

(أيها الإخوة في كل مكان: أنا لستُ كافراً..بل الجوع كافرٌ)

حين سمع سـردار هذه العبارة، اقتحم الحشد، وتقدم إلى أمام.. وحين دقق النظر في وجه الشاب المتفحم بفعل الحريق، تذكر في الحال وجه رفيقه الذي التقاه قبل أيام، والذي حدَّثه عن هموم الفقر والفاقة التي دبت في كيان أسـرتهم. وهو بدوره شاطره همومه، ووعده أن يعثر على عمل له مهما كلف الثمن ليعملا سوية. لكن مصيره كما يبدو من هذا المنظر الشنيع وصل إلى هذه الحال التي أقدم فيها على الانتحار. اضطر أخيراً أن يجعل نفسه ولي أمره، وبادر بنقله عبر سيارة تاكسي إلى المشفى.

     وصل سردار إلى البيت وقت الأصيل.. ما إن رأته زوجته أمام الباب حتى احتضنته وأطلقت الزغردات قائلة: شكراً لله.. لقد عدت إلى البيت سالماً معافى. كان سـردار صامتاً صمت الأخرس، فاغر الفم، استغرب من إطلاق هذه الزغاريد.. لم يك يعلم لماذا استقبلته زوجته بهذه الطريقة!!

     قالت له زوجته: الشكر لله، عدتَ سالماً إلينا! تفتح فم سردار وقال: ألا تقولين لي ماذا حدث، أيتها الزوجة العزيزة؟!

     أجابته زوجته ببكاء حار، قائلة: عزيزي، اليوم عندما سمعنا خبر انتحار شاب ما في هذه الأرجاء، تصورنا أن المنتحر هو أنت!

     احتضن سردار زوجته بقوة مرة أخرى، وانزاحت عبرات الفرح فوق وجنتيه.. ثم انحنى على ركبتيه فوق ابنته الصغيرة الواقفة بجوار والدتها، ورفعها بعيون ممتلئة بالدموع، واحتضن ثلاثتهم بعضهم.. ثم تحدث مع نفسه مغمغماً: قسماً بالله، فعلاً أنا كنتُ أفكر بأمر شبيه بهذه الفعلة، لكن بعد هذا الاستقبال الحافل من قبل زوجتي والعيون المتألقة لابنتي (نازه)، ندمتُ على هذه الفكرة، وأحسستُ بأنه: (لولا الأمل لما وجدت الحياة)، ولا يجوز أن أقدم على مثل هذه الأفعال المنبوذة التي حرمها الله على البشـر، بل عليّ أن أقتحم عاديات هذه الحياة، كي أُنقذ أسرتي من هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيش فيها.

 

                                                                       كانون الثاني 2021/ أربيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق