03‏/10‏/2021

من الوحي إلى العصر

عمار وجيه 

? بهدف الانتفاع من آيات القرآن، وتوظيف النصوص، لفهم واقعنا المعاصـر، سنقدم  سلسلة تندرج تحت عنوان التدبر لكتاب الله، نعرضها بما يلائم عصـرنا، راجين أن ننتفع بما نقول.

أولاً: من سورة الملك:

 ﴿وَقالوا لَو كُنّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ ما كُنّا في أَصحابِ السَّعيرِ﴾ [الملك: ١٠]

من منطلقات يصفونها (إنسانية)، يُشفق بعض المسلمين على غيرهم، ويتساءلون: لماذا سيكون مصيرهم النار؟.

وفي كل مرة يقال: هل يعقل أن يكون مكتشف الكهرباء، ومحركات السيارات، والطائرات، والسليكون، الذين قلبوا العالم رأساً على عقب، هل يُعقل أن يكونوا في النار، بعد كل تلك الخدمات الجليلة؟

الجواب:

١. لا نحن يحق لنا أن ندعي أنهم في النار، ولا غيرنا يمكنه أن يدخلهم الجنة: ﴿… وَإِنّا أَو إِيّاكُم لَعَلى هُدًى أَو في ضَلالٍ مُبينٍ. قُل لا تُسأَلونَ عَمّا أَجرَمنا وَلا نُسأَلُ عَمّا تَعمَلونَ. قُل يَجمَعُ بَينَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفتَحُ بَينَنا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتّاحُ العَليمُ﴾ [سبأ: ٢٤-٢٦]

٢. إنما الأعمال بالنيات. فمن خدم أهل الدنيا للدنيا كوفيء فيها. وما دام لم يؤمن بالآخرة، فلماذا يستغرب إن حرم من خيرها، وعوقب على كفره بمن خلقه؟

من لا يصغي لتحذير الخبراء من التماس الكهربائي، ويصـرّ على أن يحمّل أجهزته فوق طاقتها، لا يحق له أن يلوم غيره إن احترقت غرفته وهو يلعب ألعاب الكومبيوتر.

٣. المطلوب من كل إنسان أن يسمع ويعقل. فما دام هناك من يحذرك في كل حين، ويقول لك حذارِ من السقوط في الهاوية،

- فلماذا لا تسمع؟ ﴿…وَإِن يَكُ كاذِبًا فَعَلَيهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادِقًا يُصِبكُم بَعضُ الَّذي يَعِدُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدي مَن هُوَ مُسرِفٌ كَذّابٌ﴾ [غافر: ٢٨]

 ما الذي يضـرّك إن أصغيت واستمعت؟

- وإن لم تقتنع بالاستماع للدعاة، ففي الأقل استخدم عقلك وتفكر.

وإلا فما معنى أن تنتفع من كيمياء التصوير، والعدسات، وتقنيات الكاميرة، وتجوب أعماق الغابات، وقعور البحور، لتصور تلك الكائنات العجيبة، وتنتج برامج عظيمة، مثل:(Planet Earth ، Life ، The blue Planet ،  Life on Earth،

National Geographic ، Deep Sea ، Life of Birds) ، ثم تتغافل عمن يسـر لك كل ذلك، لتشكره وتعبده، لكنك في نهاية المطاف تعبد هواك ومصالحك الذاتية؟

كان ينبغي لكل غربي وشـرقي ينتج تلك البرامج الرائعة، أو يشاهدها، أن يسجد لخالق الكون والكائنات، والأفلام والعدسات.. لا أن يكتفي بالقول:  Wow… Amazing، ثم يأوي الى فراشه كالدواب، أعزكم الله، بلا سجود.

(سورة الملك) تجسد قدرة القدير، ورحمته..

أولها: ينبوع لا نفاد له، تبارك من فجّره في كل حين: ﴿تَبارَكَ الَّذي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [الملك: ١]

وآخرها: تهديد بتجفيف ذلك النبع: ﴿قُل أَرَأَيتُم إِن أَصبَحَ ماؤُكُم غَورًا فَمَن يَأتيكُم بِماءٍ مَعينٍ﴾ [الملك: ٣٠]

وما بين الحياة والموت.. وما بين الرِيّ والجفاف، مسيرة نسيرها لهدف معلوم: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها وَكُلوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشورُ﴾ [الملك: ١٥]

فهل سمعنا وعقلنا؟

ثانياً: من سورة القلم :

{وّدوا لو تدهن فيدهنون}!

في الحلقة الأولى أردنا أن نوصل رسالة مختصـرة أن من أهم مقاصد (سورة الملك) الاهتمام بمخرجات السمع؛ الإصغاء للوحي، والنصح والإرشاد، ومخرجات العقل؛ التفكر والتدبر والتأمل في نواميس الكون وسنن الحياة.

وإذا كانت (سورة الملك) تتحدث عن الذات الإلهية، فتنقلنا من دلائل الربوبية؛ الملك الذي لا حدود له، والقدرة المطلقة، إلى الإنقياد لله تعالى، والالتزام بأوامره ونواهيه، التي فيها خيرنا وصلاحنا ﴿قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين﴾ [الملك: ٢٩]،

فإن (سورة القلم) تسلط الضوء على الذات المحمدية، الموصوفة بكمال الأخلاق: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [القلم: ٤] 

فسيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - المتربع على عرش القيم، بعث ليتمم مكارم الأخلاق. وأقصـى ما يتمنى أعداؤه، وخصومه السياسيون، أن يقدم التنازلات، لينزل من القمة إلى السفح، فيستدرجوه إلى مراتع عبثهم! لكن هيهات، فهو الذي يدعو الناس لارتقاء ربوة الخلق، لا العكس، فمن شاء ارتقى، ومن شاء مكث في أسفل وادي المجون يرتع ويلعب.

وخصوم سيدنا محمد صنفان؛

الأول: أصحاب الفكر العبثي المفتقر للدليل، المنكرون للوحي، وهؤلاء سياسيون مداهنون، يسعون لاستمالة الدعاة، وتوريطهم، ليصلوا - في بادئ الأمر - إلى بقعة السـراب في منتصف الطريق بين الحق والباطل، ثم ينزلقون إلى الباطل، بعد أن يتنازلوا عن مكارم الأخلاق: ﴿فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون﴾ [القلم: ٨-٩]

وحقيقة هؤلاء الملأ أنهم لا يريدون التعايش السلمي، واحترام خصوصية كل فريق، بل الخضوع التام، ولسان حالهم يقول باطناً: إن لم تكن معي، فأنت ضدي.

والثاني: أصحاب السلوك الرديء الغليظ الجافي الفاحش:

 ﴿ولا تطع كل:

١. حلاف،

٢. مهين،

٣. هماز،

٤. مشاء بنميم.

٥. مناع للخير،

٦. معتد،

٧. أثيم.

٨. عتل،

٩. بعد ذلك زنيم. أن كان ذا مال وبنين.

١٠.  إذا تتلى عليه آياتنا، قال أساطير الأولين﴾ [القلم: ١٠-١٥]

- وإذا كان الصنف الأول هم النخبة؛ أصحاب الفكر المناوئ، الذين يخططون لإجهاض مشـروع الإصلاح، فإن الصنف الثاني - في الغالب - هم الأدوات التي تستخدم للضغط على دعاة الإصلاح.

- وإذا كان الصنف الأول مكذّبين أو ملحدين، فإن الصنف الثاني هو البوق المروج للإشاعات، باستخدام الحرب النفسية ﴿إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين﴾ [القلم: ١٥].

وبذا يتكامل جيش الظالمين؛ قائد خبيث مأزوم يخطط، وجندي غليظ ينفذ.

وكي لا تختلط الأمور على المواطنين في بلاد الإسلام، فإن (سورة القلم) تعلن الفرز الواضح بين أتباع صاحب الخلق العظيم، وبين أعدائه المجرمين: ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون﴾ [القلم: ٣٥-٣٦]

ذلك لنفهم جيداً أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن السياسة التي تجند كل عتل معتدٍ أثيم، لتنفيذ جرائمها ضد حركات التحرر والاصلاح، سياسة مجرمة آثمة، ليست من الإسلام في شيء.

وكي تكتمل الصورة، فإن خاتمة السورة ترسم صورة ذهنية تعبر عن عمق الأزمة النفسية التي يعاني منها هؤلاء: ﴿وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين﴾ [القلم: ٥١-٥٢].

لنفهم مدى ضحالة عقول التيارات السياسية التي تعادي نهج الإسلام، ورسول الإسلام، القائم على الإيمان والقيم والأخلاق العظيمة.

ثالثاً: من سورة الحاقة:

{ولا يحض على طعام المسكين}

مفردة (طعام)، في القرآن، وردت ٢٦ مرة بهذه الصيغة، وبمثل ذلك العدد بصيغ الفعل، أو المصدر، أو اسم الفاعل، ونحو ذلك. وفي اثنتي عشـرة مرة يأتي الأمر بالإطعام، أو الحضّ عليه.

  ومن المعلوم أن الطعام والشـراب من الحاجات الضـرورية، التي هي أساس في حفظ النفس، وهي الضـرورة الثانية من الضـروريات الخمسة؛ حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

وفي هرم ماسلو تأتي الضـروريات في قاعدة الهرم؛ التنفس والماء والطعام (الغذاء) والنوم والإخراج والجنس..

ولأننا نسلط الضوء على السورة الثالثة من جزء تبارك، وهي (الحاقة)، التي نصّت على سبب أو علة تعذيب الظالم أشد العذاب،إذ جاء فيها: ﴿إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين﴾ [الحاقة: ٣٣-٣٤] أي إن هذا التنكيل نتيجة حتمية للكفر والجحود من جهة، والظلم والطبقية، من جهة أخرى.

 نقول ذلك كي يفهم الشباب والناشئة أن الإسلام حرص، أشد الحرص، على العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، ورتب كل ذلك العذاب على من يعبث بأقوات الشعوب.

وليدرك زعماء الشـرق والغرب ما ينتظرهم من عذاب محتوم، حين يتخذ ساستهم، ورؤساء الشـركات الكبرى فيهم، موضوع التلاعب بالقوت والضـروريات مادة أساسية لتوسيع نفوذهم، وإدامته، وهم يحاكون تلك المقولة الآثمة لأحد القساة من ملوك حمير في اليمن: (جوّع كلبَك يتبعْك).

والحقيقة أني ربما لم أجد سورة فيها مشاهد ذعر ورعب مثل (سورة الحاقة). وإذا كانت (سورة الملك) (تبارك) تجسّد اسم الله القدير، فإن (سورة الحاقة) تجسد اسم (الجبار).

تأملوا الآيات الثمانية الأولى:

﴿الحاقة،  ما الحاقة.  وما أدراك ما الحاقة.  كذبت ثمود وعاد بالقارعة.  فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية.  وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية.  سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.  فهل ترى لهم من باقية﴾ [الحاقة: ١-٨]

  واسألوا أهل البلاغة عن دلالة كل مفردة فيها. أي هول! وأي ذعر، ترتجف له القلوب؟ الحاقة، القارعة، الهلاك، الطاغية، الريح الصـرصـر العاتية، القوم الصـرعى، أيام العذاب ولياليها، أعجاز النخل الخاوية، الإفناء..

بل إن الآيات تترى وتتوالى، وإلى الآية ٣٧، وتستمر في إيقاعها المدوي، فيما عدا الآيات التي تتحدث عن نعيم أصحاب اليمين.

حتى إن الشهيد سيد قطب يصفها في (الظلال) بقوله: "هذه سورة هائلة رهيبة، قلَّ أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة، وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس، وتطالعه بالهول القاصم، والجد الصارم، والمشهد تلو المشهد، كله إيقاع ملحّ على الحس، بالهول آناً، وبالجلال آناً، وبالعذاب آناً، وبالحركة القوية في كل آن!".

ومقصد تلك السورة المرعبة هو ما ذكرنا في أول المقال.. إنه جزاء من لا يأمر، ولا يدعو إلى إطعام المسكين.

ترى كم سيتحمل الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرهما، من مسؤولية عن كل نفس جاعت في أفريقيا، وغيرها، نتيجة الجهل، والمرض، أو الحروب المفتعلة، وكان بإمكانهم أن يحولوا دون ذلك؟

للأسف.. ذلك هو الوجه الآخر القبيح للحضارة (العوراء)، الذي يسميه أحد الأساتذة العرب في (كاليفورنيا): ديمقراطية الترفيه.. على حساب ملايين الخلق، ممن كان قدرهم أن يخلقوا في بيئات ظلمها الإنسان ذاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق