03‏/10‏/2021

نحن والحياة

أ. م. د. سامي محمود ابراهيم

كلية الآداب/ جامعة الموصل - العراق 

? بحكم الطبيعة، حيث نعيش نشعر بانتمائنا العميق والوثيق بأرضنا، فلا مكان للوطن.. ولا مكان كالوطن.. والأرض تتحدث لغة أبينا آدم.. وهذا ما يفسـر فداء الإنسان لأرض وطنه.. فوجودنا – بأبعاده - متشبث بالأرض، متمسك بها.. مستمد منها.. منذ الطينة الأولى التي خلق منها أبونا آدم - عليه السلام – بجبلتها، وفطرتها.. هي كالأمّ، أتينا منها، وسنعود إليها لأحضانها.. إننا متمسكون بها، ونشعر بانتمائنا إليها، رغم ما فيها من ظلم، وما عليها من ظلام.. رغم ما فيها  من مآسٍ وأحزان.. رغم ما فيها من قهر وعدوان.. رغم ما فيها من نفاق يجعلنا نشعر بالغثيان.. فالأرض تحكي قصة العدوان.. قصة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. تحكي قصة شياطين السياسة

المعاصـرة، وكيف فتتوا وقسموا الأوطان.. تحكي قصة الخراب والدمار المتأصل في شهوانية الإنسان، وإشباع رغباته الحيوانية.. تحكي قصة الدماء التي سالت على ظهرها، لا لسبب إلّا لأنه إنسان.. أيعقل أن نكون من طينة واحدة؛ منها خلقنا، وعليها عشنا.. ومنها سوف ننتقل إلى العالم الآخر.. فمنها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى.. بعد ذلك.. بعد نفخة يغيب الناس جميعاً عن مسـرح الأحداث، ويسدل الستار على حيرة القوم، وعجزهم، ليرفع من جديد {لمن الملك اليوم..؟}، لله الواحد القهار.. الله أكبر.. إنها خاتمة تلخص رحلة الحياة القصيرة، التي ما إن دخلناها من باب حتى خرجنا من الآخر.. نسأل الله حسن الخاتمة، فذاك مشهد عسير، متحرك، ناطق، ترسمه قصة الوجود.. ومهما أحببنا الأرض، فإننا لا بد من أن نتطلع إلى سمائها.. نطوف بأطرافها.. أحياناً بشـيء من اللاوعي يأخذنا إلى أعماقها المخيفة، ثم يصدمنا الوعي، فنقع في النهاية على ترابها الطري الناعم الدافئ، فننعم بالأمن والأمان..

 وهكذا يتكرر المشهد، إلى أن يطوينا الموت إلى غير رجعة.. لنعرج معاً إلى عالم النور والسماء.. عالم الحياة الخالدة، التي نتعطش جميعاً للوصول إليها.. فلنصنع لأنفسنا وسط هذا الجدب السياسي (الشيطاني) الأرضي المتدني الدنيوي.. فلنصنع لأنفسنا واحة نضيرة، نستظل بها كلما أحرقتنا شهب السياسة العالمية الظالمة، والتي هدفها إخفاء نور الحقيقة.. اللهم أنت الأول والآخر، ونحن منحة من منحك الكثيرة التي لا تحصيها الأقلام.. اجعلنا ومضة خير، لا نزعة شـر، فوق تراب أمّنا الأرض.. فما أضيق الدنيا إذا أقفرت من المحبة والرحمة والعدل..

 ألا يجب علينا أن نتصور أعماق وجودنا البشـري والإنساني، كي تتلاشى الحدود والمسافات المصطنعة من حولنا.. وأرضنا واحدة.. فما أرخص الكلمة التي لا تقوّم سلوك صاحبها.. قد تحفى أقدامنا ونحن نبحث عن إنسان قلبه ولسانه سواء، وهذا شـرط الإيمان.. فما أقل الأشياء التي يحتاجها الإنسان لكي يسعد، لكنه يأبى إلا أن يركض وراء أمجاد وهمية..  ترى هل أنا أطلب مستحيلاً.. وأن آمالي هذه لا تتعدى حدود مساحة هذا النص الذي أكتبه؟!

يقول توفيق الحكيم: لو بعث نبي من أنبياء الأرض اليوم، ونظر إلى هذه الحضارة الورقية الهشه المزيفة الفارغة المادية.. لو بعث، وسألنا: ماذا أعطتكم هذه الحضارة من روح، من قيم، من أخلاق، من مبادئ؟  فماذا نجيب؟! هل علمتنا القناعة، لا الطمع؟ هل عودتنا الزهد، لا الجشع؟. هل حببت إلينا الإيثار، لا الأنانية؟  بعد هذه الأسئلة سيقول لنا النبي المبعوث: إنكم بحاجة إلى أنبياء أكثر من عاد، وثمود، وقوم فرعون.

فالأمم والحضارات، كما الإنسان، بروحها لا بجسدها تقوم وتحيا.

ومستقبل اليوم ترسمه خصومات الأمس..

ومن ثم فهو كالأمس يتشكل من دون معالم..

وحياتنا فيه لا تحدد على نحو واضح..

فالصـراع هو الحاكم.. ومن يخطب الحسناء، لم يغله المهر..

وترتبط الأشياء والأشخاص بشبكة خفية من القوانين والأنظمة المعقدة (سقوط ورقة التوت مثلاً)، سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه {فلا أقسم بما تبصـرون وما لا تبصـرون}، فالعالم الذي نعيش فيه يتحدث لنا بلغة الصمت، وينكشف لنا لكن بلعبة التخفي، كما أن مبدأ ترابط الموجودات لا يتحقق إلا وفق قاعدة لا ضـرر ولا ضـرار، بينما مبدأ ترابط البشرية الإنسانية يخصع لقاعدة الرحمة: «ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء»، الرحمة حتى في القول (الكلام)، خاصة أن الكلمات التي تصدر منا لا تختفي، بل تضل في الفضاء اللانهائي، وستعود إلينا يوماً ما لنسعد أو نحزن، فالكلمة الطيبة صدقة ، والجزاء من جنس العمل، فمعاناة إنسان واحد تؤذينا جميعاً، وسعادة إنسان آخر تجعلنا ننعم بالسعادة.

والإنسان مقامر كبير، يلعب على ورق المستحيل، يؤثر الوجود العابر على الوجود الباقي، بغية إرضاء الأنا الفارغة التي لم تسمع لحن الوجود، ولم تفهم لغة العالم.

ألم يحن إثبات وجوهنا (وجودنا) في التراب الزائل؟

فمنها خلقنا، وإليها نعود، ومنها سنخرج تارة أخرى.

 فأساس كل خير أن نعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.. فلو عرف الإنسان الحقيقة، لعلم أن مصالح النفوس في مكروهاتها.. إنه القدر؛ معه تبدأ رحلة الحياة، ومعه تنتهي، في محيط من الأماني والأمنيات والآمال والطموح، والسعادة والحزن.. فهو يسير دونما رجعة، بصمت مخيف، يطرق زجاج أعيننا ليغسلها المطر.. ولو تركت قلوبنا تمزق حجبها، لبكت بلغة أفصح من لغة العيون.. فالرحلة طويلة، والمطلب عظيم جليل.

كل هذا في معادلة رائعة، ينتظم وفقها الوجود.

قال الشاعر:

كن عن همومك معرضا        وَكِلِ الأمور إلى القضا

وانعم بطول سلامة              تسليك عما قد مضى

فلربما اتسع المضيق            ولربما ضاق الفضا

ولرب أمر مسخط              لك في عواقبه رضا

الله يفعل ما يشا                فلا تكن معترضا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق