03‏/10‏/2021

مصطلح (الإبراهيمية) بين سيرتين

د. سنان أحمد

?   في بدايات التسعينيات من القرن الماضي ظهر مصطلح (الإبراهيمية)، أو (الديانة الإبراهيمية)، بين الأوساط الثقافية والدينية في الغرب، وخصوصاً في (الولايات المتحدة الأمريكية)، تدعو لاستغلال القيم الروحية المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام لدعم السلام وحل الاختلافات التي تؤدي للصـراع وتفاقم المشاكل، ضمن رؤى معينة، وذلك بالاستناد الى فكرة بسيطة، وهي كون إبراهيم (ع) هو أصل هذه الديانات، ورسولها الرئيسي!.

وتعتمد العملية - بالأساس - على إعادة تفسير النصوص الواردة في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، والقرآن الكريم. وهي عملية غامضة، وغير واضحة، فيما يتعلق بما تدل علية عملية (إعادة تفسير النصوص).

وقد سارت العملية بشكل منظم ورعاية جهات عليا، سواءً على مستوى الدولة، ممثلة بوزارة الخارجية الأمريكية، ومستوى الجامعات الراقية، مثل (هارفارد)، و(بنسلفانيا)، من خلال مراكز أبحاث متخصصة، فتم استدعاء وجمع رجال دين من كل الطوائف، مع رجال سياسة بمختلف الاتجاهات، وكان العمل على وضع كتاب يحضـى بالقدسية لدي الجميع، وإهمال كل ما جاء في الكتب السابقة، وكل ما يثير الاختلافات - على حد زعمهم-. وتقول الباحثة هدى جمال الدين بأن رجال الطرق الصوفية، من كل الطوائف، كانوا المفضلين للدعوة في كل الاجتماعات  واللقاءات والنقاشات الدائرة.

وقد تم إنشاء مراكز لتدريب الشباب - خصوصاً في أمريكا والمانيا، وبعض الدول الأوروبية- على بعض الشعائر الجديدة، وأهمها الصلاة المشتركة بين كل الطوائف، على أسس روحية جديدة. وكما عبر عن ذلك المفكر الأمريكي الشهير (فوكوياما)، عام (2010م)، وسمى العملية بـ(صهر الأديان)، في حين صـرح الرئيس الأمريكي الأسبق (أوباما)، عام (2013م)، عند زيارته لبعض الدول في الشـرق الأوسط، فقال "بأن الدين الإبراهيمي دين عالمي واحد"، في حين صـرح الرئيس السابق (ترامب) بأن عملية التطبيع بين إسـرائيل والدول العربية تدخل ضمن المفاهيم الإبراهيمية!.

إن التركيز على منطقتنا هذه يكمن وراءه هدف سياسي، ألا وهو تدويل المناطق الواقعة ضمن حدود إسـرائيل الكبرى، ثم ربطها باتحاد فيدرالي واحد، تكون إسـرائيل أهم قطب فيه، ذلك أن إبراهيم (ع) يلعب دوراً أساسياً في المعتقد الإسـرائيلي – اليهودي، كونه أول من بشـّر بحدود إسـرائيل الكبرى، كما سنرى!، (علماً أن لا حدود لإسـرائيل الحالية، في الدستور الإسـرائيلي).

وتقوم العملية على إعادة كتابة التاريخ بما يضمن قبول إسـرائيل، خصوصاً عند الشعوب العربية، ولهذا يركز العاملون في المشـروع على أنه صـراع هوية بين طوائف مختلفة، على حد زعمهم، وليس صـراعاً سياسياً، كما عبر عن ذلك السيد (كوشنر)، مستشار الرئيس الأمريكي السابق (ترامب)، وصهره، وأن الموارد الأساسية، وهي: الأرض، والماء، والثروات المعدنية، ستكون تحت أيدي الجميع، ومتاحة لهم!.

والآن لنرجع إلى سيرة إبراهيم (ع) في كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم، لنرى أن كل هذه الأفكار تصب في ما روته التوراة عن إبراهيم (ع)، وإهمال الرواية القرآنية بصورة شبه كاملة، وأن الاستناد إلى فكرة (التوحيد) المشتركة مجرد سـراب تستتر خلفه مجمل العملية، إما عن سوء فهم، وهو احتمال ضعيف، والاحتمال الأقوى، هو خدمه الغرض السياسي، الذي نوهنا إليه آنفاً.

ولا يعتقد القارئ أننا بتوجهنا هذا نرمي إلى زرع الخلاف والضغينة بين أتباع الديانات الثلاث، فالدعوة الإسلامية بعد اكتمالها تقوم على أسس متينة، مثل {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(الكافرون)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(١٧/ الحج).

فالنهج العقائدي المعادي للآخر ليس له وجود في القرآن {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(١٩٠/ البقرة)، وأما ما جاء عن الاختلافات العقائدية، فهو أمر حتمي لبيان الفكر التوحيدي ضمن التصور الإسلامي، بعيداً عن العنصـرية، أو اللغة والانتماء القومي.

والآن لنرجع إلى تباين سيرة إبراهيم في الكتاب المقدس عما هي عليه في القرآن الكريم، لنرى أن مصطلح الإبراهيمية غير واقعي، ولا يمكن الخلط بين السيرتين. ولن نخوض في مصداقية النصوص التوراتية، فذلك شأن آخر.

تبدأ سيرة إبراهيم (ع) في (سفر التكوين)، وقد كان اسمه (أبرام) في رحلة مع أبيه تارح، وزوجته ساراي، وابن أخيه لوطاً، تجاه (حران) (جنوب تركيا الحالية)، ثم إلى أرض كنعان (فلسطين)، "وأخذ تارح أبرام ابنه، ولوطاً بن هاران، من أور الكلدانية (جنوب العراق) حفيده، وساراي كنته امراة أبرام ابنه، فخرج معهم من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فجاؤوا إلى حران، وأقاموا هناك"(31/11، التكوين)، ولا تقدم التوراة أي تبرير لهذه الرحلة، عقائدياً أم مادياً، أو لهذا المسار المتعرج!، ويبدو أن تارح إما توفي في (حران)، أو بقي هناك.

وبعدها يقول الرب لأبرام: "ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض"(21-3، 2 التكوين)، أي إنه مكث في (حران)، ثم اتجه بعدها إلى أرض كنعان، وبعد الوصول "تراءى الرب لأبرام وقال: لنسلك أَهَبُ هذه الأرض"(12/ 7، التكوين).

وإلى هذه المرحلة تبقى العلاقة ثنائية بين أبرام والرب، حيث يبني أبرام مذبحاً (رمزاً لترضية الرب)، ولا توجد أدنى إشارة لدعوة أهل كنعان للتوحيد، وترك عبادة الأصنام، وعبادة الله الواحد.

ثم تتركز فكرة الأرض الموعودة، وتختفي فكرة دعوة التوحيد بالكامل، أو نبذ الأصنام، حتى تصل العلاقة إلى قول الرب "لنسلك أهب هذه الأرض، من نهر مصـر إلى النهر الكبير، نهر الفرات"(15/ 18، التكوين)، وهي أرض يسكنها عشـرة أقوام، تعددهم التوراة.

ثم يتحول اسم أبرام إلى إبراهيم، ويفرض الرب عهداً بينه وبين إبراهيم ونسله، فيقول الرب: "احفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك جيلاً بعد جيل، وهذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: أن يُختن كل ذكر منكم"( 9-10، 17، التكوين)!.

ولم نذكر كل تفاصيل قصة إبراهيم (ع) كما وردت في (سفر التكوين)، وركزنا على الجانب المتعلق بالمسألة مدار البحث (الإبراهيمية)، وعن العلاقة الثنائية بين الرب وإبراهيم، ووعد بأرض الغير يتكفله عهد ختان الرجال ولا غير!.

والمسيحية التي تؤمن بالتوراة، لا تروي في الأناجيل شيئاً عن إبراهيم (ع)، سوى أن "يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح"( 16، متى)، يتصل نسبه بإبراهيم، أي أنها تقر بالقصة التوراتية مع بعض التحويرات بشأن الربوبية.

وأما سيرة إبراهيم (ع) في القرآن، فتختلف عن سيرته في التوراة، في الهدف، ومعظم التفاصيل. فقد ورد ذكر إبراهيم (ع) موزعاً على أربع وعشـرين سورة، وفي خمسة وثلاثين موضعاً، وشأنها شأن كل قصص الأنبياء في القران، لا تعير أهمية للظرفين الزماني والمكاني، حيث المغزى من قصص الأنبياء هو نشـر التوحيد، ومحاربة الشـر والفساد، والتفكير بقدرة الله وعزته وجلاله الذي ليس كمثله شيء.

فأساساً كانت دعوته بين قومه لمحاربة الوثنية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(٧٤/ الانعام)، وتصل الحالة إلى التبرؤ من قومه، لأنهم لم يتبعوا رسالته في التوحيد، ومن ضمنهم أبيه، وهنا تتبلور فكرة الهجرة نحو أمكنة أخرى لنشـر رسالة التوحيد {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(٤/ الممتحنة).

بعدها ينتقل إبراهيم (ع) إلى مرحلة تحطيم الأصنام: {وَتَاللَّـهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴿٥٧﴾ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}(٥٨/ الأنبياء)، مما يعرّضه لعقوبة الحرق بالنار، التي أنجاه الله منها.

 وعلى ما يبدو فهذه الأحداث كانت في موطنه الأصلي، ثم نجاه الله إلى أرض كنعان، وهو ما لا تشير إليه التوراة. وبعدها اتجه إلى أرض فلسطين، كما جاء في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}(٥٨/ الأنبياء)، وقبلها تبدأ دعوته لأحد ملوك المنطقة الذي يطلق عليه معظم أهل التفسير اسم (النمرود)، وقد حاججه إبراهيم (ع) في القصة المعروضة في القرآن. (وهذا الاسم (نمرود)، هو خطأ تاريخي لا أساس له من الصحة). ثم يذهب إلى أرض أجداده في الحجاز (مكة)، مع ابنه البكر إسماعيل (ع)، حيث يعمل على إسكانه هناك، مع والدته (هاجر)، وهو ما جاء في قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(٣٧/ إبراهيم)، أي إن الإسكان كان مقصوداً، وليس تركهما هناك إرضاءً لزوجته سارة. فكانت الرسالة هناك نشـر التوحيد، وبناء الكعبة، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(١٢٧/البقرة). ولا توجد أدنى إشارة إلى ذهابه إلى (مصـر)، ومقابلته لفرعون، الذي يعجب بجمال زوجته (سارة)، وعندما يخبره إبراهيم (ع) - حسب ادعاء التوراة - أنها أخته، يتركهما ليرجعا إلى أرض كنعان (12/12، التكوين)، حيث تحدث نفس القصة مع ملك الفلسطينيين (12/20، التكوين)، الذي يؤكد له أن (سارة) أخته من أبيه. كما لا توجد أدنى إشارة توراتية إلى ذهابه إلى أرض أجداده، وبناء البيت الحرام.

من هذا المختصـر القرآني، لا نلحظ أي دعوة لامتلاك أرض محددة بين النيل والفرات، أو أي مكان آخر، له ولذريته. وإنما هي دعوة عقائدية بالتسليم لرب العالمين، ونشـر التوحيد، بقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(١٢٨/البقرة).

وعليه، فإن الخلط بين السيرتين، والخروج بسيرة جديدة، تمثل إبراهيم (ع) وفكره، مجرد خطل فكري، وخلط غير متجانس عقائدياً، يكمن خلفه هدف سياسي، أو التمهيد لقبول بعض الأفكار السياسية بغطاء عقائدي.

وكما ذكرنا، فإن الاختلاف في السيرتين لا يدعو إلى تعميق الخلافات الاجتماعية بين أتباع الديانات الثلاث، ولا علاقة له بإثارة المشاكل السياسية، كما يدعي البعض، ولا يمنع من أن يحيا كل على دينه،. فسيدنا عمر (رض)، سمح لليهود بالسكن في (أورشليم = القدس) بعد فتحها (16هـ)، كما رحب النصارى به. وكذلك، فإن (صلاح الدين الأيوبي)، عندما فتح بيت المقدس (583هـ)، سمح لليهود بالإقامة بها مع سكانها الأصليين من المسلمين والنصارى، ولم يتعرض لهم بسوء. والأمثلة كثيرة جداً.

 إن الدعوة الإبراهيمية - بصورتها المطروحة - لن تعمل على التقريب بين أصحاب الأديان الثلاث، لأنها دعوة غير متجانسة. وإلغاء موروث فكري كامل، عملية فاشلة تماماً، لأنها ستؤدي إلى نقاشات، وإحياء خصومات، ستزيد من تفاقم الخلافات السياسية، ولا تؤدي إلى حلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق