أ. د. فرست مرعي
الملخص
لا شك أن القصص إحدى الأساليب الرسالية التي
تضمنها القرآن الكريم من أجل الوصول إلى عقل الإنسان وشعوره حتى يؤمن – عن اقتناع – بالفكرة الحق
التي ترتبط بالله وبالطريق المستقيم الذي يصل بالإنسان إلى حب الإيمان بالله – عز وجل-.
وتعتبر قصة نبي الله نوح - عليه السلام - من القصص الديني المشترك في كل من التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي، فهي تكوّن جزءاً من قصة الخلق في الديانات التوحيدية، واستناداً إليها بنت
هذه الديانات نظرتها إلى الإنسان، من حيث طبيعته، وعلاقته بالكون والطبيعة، وعلاقته أيضاً بخالقه.وعلى
الرغم من اتفاق الديانات التوحيدية الثلاثة على البناء العام لقصة نبي الله نوح -عليه
السلام- وعمره الطويل، وحدوث الفيضان العام في عهده، وقصة الفلك (= السفينة)
واستقرارها على الجبل، إلا أن هناك بعض الاختلافات في التفاصيل، حول هل عم الفيضان
الكرة الأرضية بأجمعها؟، أو جزء منها؟، أي المنطقة المحيطة بجبل الجودي، فضلاً عن
مكان استقرار السفينة في جبل الجودي، وفق نص القرآن الكريم في (سورة هود/ الآية 44)،
و(جبال آرارات)، وفق نصوص العهد القديم من الكتاب المقدس، وتحديداً (سفر التكوين،
الإصحاح الثامن – العدد4)، بالإضافة إلى الإشارة إلى القرى والمدن
والمساجد والأديرة المنبثة حول جبل الجودي، على سبيل المثال: قرية الثماني – هشتيان.
تمهيد:
يعد جبل الجودي، محل نبوءة نوح، أو (مكان النسب)،
المكان الذي استقر فيه الفُلك - السفينة بعد الطوفان
العظيم، وَفْقًا للتقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية
المبكرة جدًا، واستناداً إلى ما ورد في الكتاب المقدس - سفر التكوين: (واستقر
الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشـر من الشهر، على جبال أراراط)، (الإصحاح
الثامن، العدد4)، وبناءً على ما ورد في القرآن
الكريم: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي
وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ
بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ،(سورة هود، الآية 44).
وردت قصة جبل
الجودي في القرآن دون تحديد مكانه في (سورة هود)، كما جاء ذكره
في كتاب الحسن بن أحمد الهمداني (المتوفى سنة 360هـ/970م)، قال: "إن أردت بعد أرض الموصل، مررت بتكريت، وكان الثرثار عن
يمينك، وأكثر أهل الموصل مذحج، وهي ربيعة، فإن تياسرت منها، وقعت في الجبل المسمى
بالجودي، يسكنه ربيعة، وخلفه الأكراد، وخلف
الأكراد الأرمن. وإن تيامنت من
الموصل تريد بغداد، لقيتك الحديثة، وجبل بارما (يسمى
اليوم حمرين)"([1]).
وقد عرف
البلدانيون (= الجغرافيون) المسلمون جبل الجودي بالقول: "...هو جبل مطل على
جزيرة ابن عمر، في الجانب الشـرقي من دجلة، من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح
-عليـه السلام-، لما نضب الماء. وفي التوراة: أمر الله - عز وجل-، نوحاً - عليه
السلام - أن يعمل سفينة طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وسمكها ثلاثون
ذراعاً، وكانت من خشب الشمشاد، مقيرة بالقار. وجاء الطوفان في سنة الستمائة من عمر
نوح، في الشهر الثاني في اليوم السابع عشـر منه، وأقام المطر أربعين يوماً وأربعين
ليلة، وأقام الماء على الأرض مائة وخمسين يوماً، واستقرت السفينة على (الجودي) في
الشهر السابع، في اليوم السابع عشـر منه. ولما كان في سنة إحدى وستمائة من عمر نوح،
في اليوم الأول من الشهر الأول، خف الماء من الأرض، وفي الشهر الثاني، في اليوم
السابع والعشـرين منه، جفت الأرض، وخرج نوح ومن معه من السفينة، وبنى مسجداً،
ومذبحاً، لله تعالى، وقرب قرباناً. هذا لفظ تعريب التوراة حرفاً حرفاً؛ ومسجد نوح
- عليه السلام - موجود إلى الآن بالجودي"([2]).
ويرى من
جزيرة ابن عمر (= الجزيرة)، من شرقيها، جبل الجودي. وفي قمته مسجد نوح، وتحت الجبل
قرية الثمانين، وهو الجبل الذي يتفق موضعه في الجزيرة وما حددته الروايات
الإسلامية([3]).
وقد عرف
البلداني - الجغرافي (الاصطخري) (المتوفى سنة 340هـ) قرية الثمانين([4]) بأنها
قرية تقع أسفل جبل الجودي. قيل إن جميع من كانوا مع النبي نوح في سفينة النجاة،
التي استوت على الجودي، ثمانون رجلاً، إذ بنوا تلك القرية، ولم يعقب منهم أحد. غير
أن بلدانياً آخر أشار إلى جبل الجودي بشكل مختلف، بقوله: "ودمشق هي إرمُ ذات
العِمادِ، وكانت قبل دار نوح – عليه السلام -.
ومن جبل لبنان كان مبتدأ سفينته، واستوت على الجُوديّ، جبل قَردَى (= قردي). ولما
كثر ولد نوح، نزلوا بابل السواد، في ملك نمرود بن كوش، وهو أول ملك كان في الأرض"([5]).
فيما جاء
تعريف قرية الثمانين (= هشتيان، باللغة الكوردية) عند البلداني ابن حوقل النصيبي
(المتوفى بعد سنة377هـ) بقوله: "وجبل الجودي بقرب الجزيرة، وفيه القرية
المعروفة بثمنين، التي يقال إن سفينة نوح - عليه السلم -(= هكذا ورد في النص)
استقرت عليه، لقوله تعالى: واستوت على الجوديّ، (ويتصل هذا الجبل، كما ذكرت،
بالثغور باللكام. ويقال إنّ جميع من كان مع نوح عليه السلم في السفينة ثمانون
رجلاً، فبنوا هذه القرية، ولم يعقب منهم أحد، فسُميّت باسم عددهم"([6]).
وقد تطورت
هذه القرية إلى مدينة، فقد وصفها المقدسي، في المائة الرابعة الهجرية/ العاشر
الميلادي، بأنها مدينة تقع على نهر غزير، يقبل من أرمينية، تحت الجودي([7]). وأضاف: "لما
خرج نوح من السفينة بنى قرية وسمّاها ثمانين، وكانت أول قرية بعد الطوفان بناها
نوح بعددهم؛ لكل رجل ممّن معه بيتاً، فهي أول مدينة بنيت بالجزيرة([8]). وهي تقع
على مرحلة شمال الحَسَنية (= زاخو الحالية)([9]). وسماها
المستوفي القزويني بـ(سوق ثمانين)، وقال إن الخراب كان مستحوذاً عليها في أيامه
(القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي)([10]).
فيما عرفها ياقوت الحموي، في القرن السابع
الهجري/ الثالث عشر الميلادي، بالقول: بليدة عند جبل الجودي، قرب جزيرة ابن عمر
التغلبي، فوق الموصل. كان أول من نزله نوح - عليه السلام - لما خرج من السفينة،
ومعه ثمانون إنساناً، فبنوا لهم مساكن بهذا الموضع، وأقاموا به، فسمي الموضع بهم،
ثم أصابهم وباء فمات الثمانون غير نوح - عليه السلام - وولده، فهو أبو البشر
كلهم..."([11]).
ويعد
القزويني (المتوفى سنة682هـ) أول بلداني أشار إلى وجود دير على قمة جبل الجودي،
مبني منذ أيام نوح، ولم تتجدد عمارته إلى أيامه([12]).
وبخصوص
مدينة (شـرناخ)، فلا تتوفر عنها معلومات في المصادر الإسلامية. ويمكن أن تكون قد
بنيت على أنقاض مدينة الثمانين (= هشتيان)، والدليل على ذلك قربها - أي الأخيرة - من
مدينة شرناخ الحالية، عاصمة الولاية التركية.
المبحث الأول
قصة النبي نوح في القرآن الكريم والمصادر الإسلامية، حتى
استقرار السفينة على جبل الجودي
وردت قصة طوفان نبي الله نوح الشهيرة في الكتب
السماوية الثلاث (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم)، حيث ذكرت الكتب السماوية
جميعها قصة طوفان عظيم حدث لقوم سيدنا نوح - عليه السلام -، وأدى إلى إغراق الكفار
والعاصين من البشـر، عدا المؤمنين الذين ركبوا مع نوح في سفينة النجاة، تلك
السفينة التي صنعها نوح بنفسه، وبوحي من الله تعالى، وتحت رعايته.
وكان
الناس يعتقدون، حتى أواخر القرن التاسع عشـر، أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة
الطوفان، لكن في عام 1853م عثر على نسخة من رواية الطوفان البابلية. وفي الفترة
بين 1889 و1900م اكتشفت بعثة أثرية أمريكية اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة
السومرية للطوفان، في مدينة نيبور (نفر)، في جنوب العراق. ويبدو من طابع الكتابة
التي كتبت بها القصة السومرية أنها تعود إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف عام قبل
الميلاد([13]).
وجدير
بالذكر أنه – تقريباً - لم تخل ذاكرة شعب من الشعوب من قصة الطوفان؛
حيث إننا نجد أكثر من 500 أسطورة حول الطوفان، تنحدر من ذاكرة شعوب مختلفة، تتحدث
عن هذا الحدث العالمي، مثل: البابليين، السومريين، الآشوريين، الفرس، اليونان،
البرازيل، الهند، الصين، تايلاند، وحتى في استراليا عند السكان الأصليين، ومعظم
جزر المحيط الهادي، وحتى بين الهنود الحمر السكان الأصليين للأمريكيتين، وأوروبا،
وأفريقيا. وجميع قصص الطوفان التي وردت، سواء في الديانات السماوية، أو في
الأساطير العراقية القديمة، أو غيرها، تتفق - أغلبها - على أن الإهلاك تمّ بطغيان
الماء، وأن نجاة الناجين قد تمت في سفينة رست على قمة جبل. وجميع الكتب السماوية
اتفقت على حدوث الطوفان في عهد سيدنا نوح - عليه السلام([14]).
قصة
الطوفان في القرآن الكريم:
جاء ذكر الطوفان في القرآن الكريم في كثير من
السور والآيات، في مواضع متعددة. وطبقاً للقرآن الكريم تتلخص قصة الطوفان في
عدة مراحل: دعوة سيدنا نوح لقومه فترة طويلة (950 عاماً)، وعدم استجابتهم له، إلا
قليلاً منهم، ثم توجه نوح إلى الله بالدعاء على قومه، ثم أمر الله تعالى سيدنا نوح
بصناعة السفينة، وما تلاها من حدوث الطوفان. واستناداً إلى القرآن الكريم، فإن
الطوفان عندما حدث مر بمراحل متتالية ومتنامية: فبعد أن بنى نوح السفينة، بوحي من
ربه، وتحت عينه ورعايته، أعطاه الله علامة يعرف بها بداية الطوفان، حتى يتمكن أن
يحمل من معه، وما لديه، في تلك السفينة، في الوقت المناسب.
وبخصوص
موضوع بحثنا، فإننا سوف ندرج الآيات القرآنية في (سورة هود)، لأنها تفي بالغرض، لا
سيما وأن سفينة نوح استقرت في الأخير على جبل الجودي:
{وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَـرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ
عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا
تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصـُرُنِي
مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ
اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا
فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا
يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ
أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ
رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا
بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ
فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
(36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي
فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
(37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ
سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا
قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا
بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ
مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ
(42) قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ
فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ
الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ(44)}([15]).
وذكر الطبري في تفسيره أثراً غريباً
يتعلق بسفينة نوح، من جهة حجمها وطولها، والمدة التي صُنعت فيها،
والمادة التي تكونت منها، والمخلوقات التي كانت عليها... ونقل تلك التفصيلات السيوطي
في تفسيره (الدر المنثور) أيضاً، وهي من الإسرائيليات التي اختلقها اليهود،
وأضرابهم، على مر العصور، وكانت شائعة مشهورة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام نشـرها
أهل الكتاب الذين أسلموا بين المسلمين، وهؤلاء رووها بحسن نية، ولم يزيفوا،
اعتماداً على أن ظاهرها البطلان. وقد أشار ابن كثير إلى غرابة ما
رواه الطبري في تفسيره (تفسير القرآن العظيم)، رغم أن تفسيره هو الآخر لا
يخلو من إسرائيليات. وقال الرازي بعد أن ذكر هذه الأقوال: "واعلم
أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني؛ لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق
بمعرفتها فائدة أصلاً، وكان الخوض فيها من باب الفضول، ولا سيما مع القطع بأنه ليس
ههنا ما يدل على الجانب الصحيح". وما قاله الرازي هو الذي ينبغي
المصير إليه، والتعويل عليه، في مثل هذه الأخبار.
يقول
السيد محمد رشيد رضا (المتوفى سنة1935م)، في تفسيره (تفسير المنار)، بخصوص قصة نبي
الله نوح -عليه السلام-، وحادثة الطوفان، ما نصه: "...أن أحداث التاريخ، وضبط
وقائعه، وأزمنتها، وأمكنتها، ليس من مقاصد القرآن، وأن ما فيه من قصص الرسل مع
أقوامهم، فإنما هو بيان لسنّة الله فيهم، وما تتضمنه من أصول الدين والإصلاح، التي
أجملناها في بيان حكمة التحدي بعشـر سور منه، من تفسير هذه السورة، بعشـر جمل
جامعة لأنواع المعارف والفوائد والعبر والمواعظ والنذر المتفرقة، وبيّنا أن قصة
نوح - عليه السلام - جاءت في عدة سور، في كل سورة منها ما ليس في سائرها من ذلك،
ولهذا لم يذكر فيها من حادثه الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة المقصودة بالذات
منها، فذكرت في بعضها بآية، وفي بعضها بآيتين فما فوقها من جمع القلة، وما في هذه
السورة هو أطولها وأجمعها"([16]).
ويطرح
السيد رشيد رضا سؤالاً مفاده: هل كان الطوفان عمّ الأرض كلها، أم كان خاصاً بمنطقة
ما؟، فكان جوابه: "نص التوراة – أو سفر التكوين
– أن الطوفان كان عاماً مهلكاً لجميع البشـر، إلا ذرية
نوح من أبنائه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، فإنه لم يكن في الأرض غيرهم، بحسب ما
سبق فيه خبره من خلق السموات والأرض وآدم وذريته كما تقدم، والله تعالى يقول: {ما
أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم}. أما قوله في نوح - عليه السلام - بعد
ذكر تنجيته وأهله: {77 : 37 وجعلنا ذريته هم الباقين}، فالحصـر فيهم يجوز أن يكون إضافياً،
أي الباقين دون غيرهم من قومه. وأما قوله: {٢٦ : ٧١ وقال نوح رب لا تذر على الأرض
من الكافرين دياراً}، فليس نصاً في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها، فإن المعروف
في كلام الأنبياء والأقوام، وفي أخبارهم، أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم،
كقوله تعالى، حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون: {۱۱ : ٨٧ وتكون لكما الكبرياء في الأرض}،
يعني أرض مصـر، وقوله: {76 : 17 وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها}، والمراد
بها مكة، وقوله: {17 : 4 وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين}،
والمراد بها الأرض التي كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة، ولكن ظواهر الآيات تدل،
بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب، على أنه لم يكن في الأرض كلها،
في زمن نوح، إلا قومه، وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان، ولم يبق بعده فيها غير ذريته.
وهذا يقتضـي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض؛ سهلها وجبالها،
لا في الأرض كلها، إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة، لقرب المهد
بالتكوين، وبوجود البشـر عليها، فإن علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجية)
يقولون: إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة، ثم صارت كرة مائية،
ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج([17]).
ويشير
السيد رشيد رضا إلى أن (سفر التكوين) ليس من توراة موسى، وسفر التكوين هذا ليس حجة
قطعية فيما ذكر فيه، فضلاً عما سكت عنه، فإن التوراة التي كتبها موسى - عليه
السلام -، ووضعها بجانب تابوت العهد، كما ذكر في (سفر التثنية)، قد فقدت هي
والتابوت بحريق الهيكل. وهذه الأسفار المعتمدة عند اليهود، قد كتبت كلها بعد
الرجوع من سبي بابل، في سنة 536 قبل ميلاد المسيح عليه السلام([18]).
ويقولون إن (عزرا) (= العزير، في القرآن الكريم)، هو الذي كتبها وجمعها، وليس لها
سند متصل إليه، دع اتصالها بمن قبله. وقد اشتهر أن الأستاذ (جبر ضومط)، مدرس
البلاغة في الجامعة الأمريكانية ببيروت، ألّف رسالة رجح فيهـا أن (سفر التكوين)
مأثور عن يوسف - عليه السلام -، ولما نطلع عليه. وجملة القول إنه ليس له سند إلى
من كتبه، ولا يقوم دليل على أنه وحي من الله تعالى، ولكنه على كل حال أثر تاريخي
قديم، له قيمته. وأما القرآن، فقد قامت البراهين على أنه كلام الله ووحيه إلى محمد
رسول الله وخاتم النبيين، كما فصلناه في مواضع كثيرة، أجمعها كتاب (الوحي المحمدي)([19]).
الإسرائيليات
في تفسير قصة نوح:
وقد ورد
في تواريخ أكثر الأمم القديمة ذكر للطوفان، منها الموافق لخبر (سفر التكوين)، إلا
قليلاً، ومنها المخالف له إلا قليلاً. وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين، وهم
الذين وقع الطوفان في بلادهم، فقد نقل عنهم (برهوشع) و(يوسيفوس) أن (زيزستروس) رأى
في الحلم بعد موت والده (أو تيرت) أن المياه تطغى وتغرق جميع البشـر، وأمره ببناء
سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته، وخاصة أصدقائه، ففعل. وهو يوافق (سفر التكوين) في
أنه كان في الأرض جيل من الجبارين، طغوا فيها، وأكثروا الفساد، فعاقبهم الله
بالطوفان. وقد عثر بعض الإنكليز على ألواح من الآجر، نقشت فيها هذه الرواية
بالحروف المسمارية، في عصـر (آشوربانيبال)، من نحو 660 سنة قبل ميلاد المسيح، وأنها
منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشـر قبل المسيح، أو قبله، فهي أقدم من سفر
التكوين. وروى اليونان خبراً عن الطوفان، أورده (أفلاطون)، وهو أن كهنة المصـريين
قالوا لـ(سولون) (الحكيم اليوناني) أن السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض، فهلك
البشـر مراراً بطرق مختلفة، فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار من قبله، ومعارفهم.
وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس الأول)، الذي كان بعد (ميناس الأول)،
وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً([20]).
واستطرد
السيد رشيد رضا بالقول، حول خبر عموم الطوفان بالأرض: "وروي عن قدماء اليونان
خبر طوفان عمّ الأرض كلها، إلا (دوكاليون)، وامرأته (بيرا)، فقد نجوا منه. وروي عن
قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشـر فيها من الفساد والشـرور، بفعل
(اهريمان) إله الشر، وقالوا إن هذا الطوفان فار أولاً من تنور العجوز (زول كوفه)،
إذ كانت مخبز خبزها فيه. ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان، وقالوا إنه كان خاصاً بإقليم
العراق، وانتهى إلى حدود كوردستان. وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع
مرات، في شكل خرافي آخر، هو أن ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة، أمره بصنعها
إلهه (فشنو)، وشدّها بالدسر حتى استوت على جبل جيافات (هملايا). ولكن البراهمة
كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها. ويروى تمدداً للطوفان عن اليابان
والصين، وعن البرازيل والمكسيك، وغيرهما، وكل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك
عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم([21]).
ومن جانبه،
يهاجم السيد رشيد رضا المفسـرين القدماء الذين حشوا تفاسيرهم بالإسرائيليات، نقلاً
عن الصحابة والتابعين، ولم يرفع منه شيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند
صحيح ولا حسن، وجاء بأمثلة منها، ليس مجال سردها الآن([22]).
وقد نقل
معظم المفسـرين المعاصرين معلوماتهم بخصوص الطوفان من تفسير المنار للسيد محمد
رشيد رضا، وأضافوا إليها المعلومات المستجدة في عصـرهم. يقول السيد محمد جمال
الدين القاسمي (المتوفى سنة1914م)، في تفسيره (محاسن التأويل)، بشأن حادثة
الطوفان: "ذهب العلماء في الطوفان مذاهب شتى، فالأكثرون على أنه عم الأرض
بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض
المأهولة وقتئذ بالبشـر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها، ولم يهلك البشـر كلهم،
ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه. قال تقي الدين المقريزي في (الخطط): إن جميع أهل
الشـرائع، أتباع الأنبياء، من المسلمين واليهود والنصارى، قد أجمعوا على أن نوحاً
هو الأب الثاني للبشـر، وأن العقب من آدم - عليه السلام – انحصـر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من
بني آدم إلا وهو من أولاد نوح. وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا
الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل، وما وراءه من البلاد
الغربية فقط، وأن أولاد (كيومرت)، الذي هو عندهم (الإنسان الأول)([23])، كانوا
بالبلاد الشـرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين. والحق ما
عليه أهل الشـرائع، وأن نوحاً عليه السلام، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل
بهم، وهم ثمانون رجلاً، سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من
نوح في أولاده الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: {وجعلنا ذريته هم
الباقين}[الصافات: ۷۷].
ومن جهة
أخرى، يذهب ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ)، وابن خلدون في كتابه (تاريخ
العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، إلى أن الطوفان الذي كان
في زمن نوح وبدعوته، ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين
ركبوا معه في السفينة، ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أباً ثانياً
للخليقة([24]).
وبخصوص آثار الطوفان، ونتائجه، ينقل القاسمي عن
البعض، دون الإشارة إليهم: "قال بعضهم (في تقرير عموم الطوفان، مبرهناً عليه)
إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن
رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا
حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على
مقربة منه. واكتشف في الكهوف على عظام بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية،
وآثار بشـرية، مما يثبت حيوانية متخالفة الطباع أن طوفاناً قادها إلى ذاك المكان،
وجمعها قسراً، فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت، وظلت شهادة على ما كان،
بأمر الخالق تعالى"([25]).
وقد
استفتى مفتي الديار المصـرية، الأستاذ الإمام محمد عبده (المتوفى سنة1905م)، في
هذه المسألة، فأفتى بما ننقله من الجزء الأول من تاريخه، وهو: فتوى الأستاذ الإمام
في طوفان نوح، جواباً على سؤال ورد على الأستاذ الإمام مفتي الديار المصـرية، من
حضـرة الأستاذ الشيخ عبد الله القدومي، خادم العلم الشـريف بمدينة نابلس، وفيه نص
السؤال: وصلنا مكتوبكم المؤرخ في 4 شوال سنة 1317، الذي نهيم به أنه ظهر في بلدكم
نشء جديد من الطلبة، ديدنهم البحث في العلوم والرياضة، والخوض في توهين الأدلة
القرآنية، وقد سمع من مقالتهم الآن أن الطوفان لم يكن عاماً لأنحاء الأرض، بل هو
خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح -عليه السلام-، وأنه بقي ناس في أرض الصين لم
يصبهم الغرق، وأن دعاء نوح -عليه السلام- بهلاك الكافرين لم يكن عاماً، بل هو خاص
بكفار قومه، لأنه لم يكن مرسلاً إلا إلى قومه، بدليل ما صح: (وكان كل نبي يبعث إلى
قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)، فإذا قيل لهم: إن الآيات الكريمة ناطقة بخلاف
ذلك، كقوله تعالى حكاية عن نوح -عليه السلام- {رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا}، وكقوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين}، وقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من
أمر الله إلا من رحم}، قالوا هي قابلة للتأويل، ولا حجة فيها. وإذا قيل لهم: إن
جهابذة المحدثين أجابوا بأنه صح في أحاديث الشفاعة أن نوحاً -عليه السلام- أول
رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وأنه يتعين أن يكون قومه أهل الأرض، ويكون عموم
بعثته أمراً اتفاقياً، لعدم وجود أحد غير قومه، ولو وجد غيره لم يكن مرسلاً إليهم،
سخروا من المحدثين، واستندوا إلى حكايات منسوبة إلى أهل الصين، ورغبتم منا بذلك
المكتوب كشف الغطاء عن سر هذا الحادث العظيم، والإفادة بما يقتضيه الحق، و يطمئن إليه
القلب.
والجواب
على ذلك، والحمد لله: "أما القرآن الكريم، فلم يرد فيه نص قاطع على عـموم
الطـوفان، ولا عموم رسالة نوح -عليه السلام-. وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة
سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا
الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ، ومريد الاطلاع، فله أن يحصل
من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون
والمفسـرون، في هذه المسألة، لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا
يتخذ دليلاً قطعياً على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع
نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم:
فأهل الكتاب، وعلماء الأمة الإسلامية، على أن الطوفان كان عاماً لكل الأرض،
ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك
المتحجرة في أعالي الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر، فظهورها في
رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد
عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاماً، ولهم على
ذلك شواهد يطول شرحها. غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان
عاماً لمجرد حكايات عن أهل الصين، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز.
بل على كل من يعتقد بالدين، ألا ينفي شيئاً مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث
التي صح سندها، وينصـرف عنها إلى التأويل، إلا بديل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد.
والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل، وعناء شديد، وعلم غزير في
طبقات الأرض، وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدى
برأيه بدون علم يقيني، فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته،
والله سبحانه وتعالى أعلم"([26])..
ويستطرد
السيد القاسمي الحديث حول شمول الطوفان لكل الأرض، بالقول: "واستظهر بعضهم أن
الطوفان كان عاماً، إذ لم يكن العمران قائماً إلا بقوم نوح، فكان عاماً لهم، وإن
كان من جهة خاصاً بهم، إذ ليس ثم غيرهم، قال: هبط آدم إلى الأرض، وهو ليس بأمة إذا مضت عليها قرون
ولدت أمماً، بل هو واحد تمضـي عليه السنون، بل القرون، ونمو عشيرته لا يكاد يكون
إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً، من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية
آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام، وينشـروا
العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين! أما
تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من
المكان الخاص الذي سبق به البيان، فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم
يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام، إلى تلك
الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره، مما لا يغيب عن الأفهام، تعلم أن الطوفان
خاص عام: خاص بمكان، عام سائر المكان"([27]).
وفي
السياق نفسه، أشار السيد سعيد حوى (المتوفى سنة1889م)، في تفسيره (الأساس في
التفسير)، إلى بعض النقاط التي تضفي مزيداً من المعلومات إلى قصة نبي الله نوح
والطوفان، ومن أهمها:
۱ - بسبب من
الصراع العنيف بين الكنيسة والفكر العلماني عند الغربيين، فقد تتبع الكثيرون من
الغربيين ما له علاقة بقصة نوح - عليه السلام -، وكتبوا في ذلك الكتب الكثيرة. وقد
وجد المتتبعون لحفريات ما بين النهرين الكثير مما له علاقة بقصة نوح، كانت بمثابة
رد على الفكر الإلحادي الذي غلب عليه الإنكار. وقد تبين من خلال الحفريات، أن قصة الطوفان
كانت مشتهرة على مدى العصور القديمة عند أهل المنطقة، ولعل من أبرز الآثار التي
أشارت إليها ما اشتهر باسم ملحمة (كلكامش)، هذه الملحمة الأسطورية التي كتبت -
فيما يبدو - بعد الطوفان بقرون كثيرة، وفيها كلام واضح عن الطوفان، وعن نوح -عليه
السلام-. وهذه الملحمة واحدة من آثار كثيرة عثر عليها، تشير إلى الطوفان، وإلى نوح
- عليه السلام -.
٢ - وقف الكثيرون من أئمة البلاغة عند قوله تعالى:
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي...}، ومما قاله الآلوسي فيها: "هذا
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت واحدة من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستذلت
مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من
سمهري البلاغة مكان السنان"([28]).
2 -ما هو
الجودي الذي ورد ذكره في القرآن؟ قال مجاهد: هو جبل في الجزيرة. وقال قتادة: قد
أبقى الله سفينة نوح -عليه السلام- على الجودي، من أرض الجزيرة، عبرة وآية، حتى
رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رماداً . ويذكر (سفر
التكوين) أنه جبل أرارات. وقد استطاعت الأقمار الصناعية – ومن قبل ذلك أحد الذين تتبعوا هذا الأمر – أن يحددوا مكان بقاياها، التي لا زالت موجودة حتى الآن،
معجزة دائمة على الدهر، وهي في المنطقة السوفياتية من أرمينيا حالياً، هكذا نقلت
إذاعة إسرائيل في إحدى نشـراتها، والله أعلم([29]).
المبحث الثاني
قصة النبي نوح في العهد القديم، حتى استقرار السفينة على
جبل آرارات
قبل التطرق إلى الكتابات اليهودية، لا بد من
الإشارة إلى أن غالبية من تطرق إلى سيرة النبي نوح وقصة الفيضان تطرقوا إلى
الإصحاحات العديدة؛ من نهاية الخامس وانتهاءً بالتاسع من سفر التكوين، ففيها القول
الفصل في هذا المضمار، وتجري أحداثها على النحو الآتي:
.1 وحدث لما
ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، 2 أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء
من كل ما اختاروا. 3 فقال
الرب: «لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه، هو بشـر. وتكون أيامه مئة
وعشرين سنة». 4 كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضاً إذا
دخل بنو الله على بنات الناس، وولدن لهم أولاداً، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ
الدهر ذوو اسم".
5 . ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار
قلبه إنما هو شرير كل يوم. 6 فحزن الرب
أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه. 7 فقال
الرب: «امحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور
السماء، لأني حزنت أني عملتهم». 8 وأما نوح
فوجد نعمة في عيني الرب.
9 هذه مواليد نوح:
كان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله. وسار نوح مع الله. 10 وولد نوح ثلاثة بنين:
ساماً، وحاماً، ويافث. 11 وفسدت الأرض أمام
الله، وامتلات الأرض ظلماً. 12 ورأى الله الأرض،
فإذا هي قد فسدت، إذ كان كل بشـر قد أفسد طريقه على الأرض.
13 فقال الله لنوح:
«نهاية كل بشـر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلات ظلماً منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. 14 اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه
من داخل ومن خارج بالقار. 15 وهكذا تصنعه: ثلاث
مئة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعاً عرضه، وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. 16 وتصنع كوىً للفلك، وتكمله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب
الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. 17 فها أنا آت بطوفان
الماء على الأرض، لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. 18 ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك
ونساء بنيك معك. 19 ومن كل حي من كل
ذي جسد، اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكراً وأنثى. 20 من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل
دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها. 21 وأنت، فخذ لنفسك
من كل طعام يؤكل، واجمعه عندك، فيكون لك ولها طعاماً». 22 ففعل نوح حسب كل
ما أمره به الله. هكذا فعل.
1 وقال الرب لنوح: «ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك، لأني إياك
رأيت باراً لدي في هذا الجيل. 2 من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة، ذكراً وأنثى.
ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكراً وأنثى. 3 ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة: ذكراً وأنثى. لاستبقاء
نسل على وجه كل الأرض. 4 لأني بعد سبعة أيام أمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين
ليلة، وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته». 5 ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
6 ولما كان نوح ابن ست مئة سنة، صار طوفان الماء على الأرض، 7 فدخل نوح وبنوه
وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. 8 ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن
الطيور وكل ما يدب على الأرض: 9 دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك، ذكراً وأنثى، كما أمر
الله نوحاً.
10 وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض. 11 في سنة ست مئة من
حياة نوح، في الشهر الثاني، في اليوم السابع عشـر من الشهر في ذلك اليوم، انفجرت
كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء. 12 وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. 13 في ذلك اليوم عينه
دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. 14 هم وكل الوحوش
كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها، وكل
الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح. 15 ودخلت إلى نوح إلى الفلك، اثنين اثنين من كل جسد فيه روح
حياة. 16 والداخلات دخلت
ذكراً وأنثى، من كل ذي جسد، كما أمره الله. وأغلق الرب عليه.
17 وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه،
ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض. 18 وتعاظمت المياه، وتكاثرت جداً على الأرض، فكان الفلك
يسير على وجه المياه. 19 وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض، فتغطت جميع
الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. 20 خمس عشـرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت
الجبال. 21 فمات كل ذي جسد
كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض،
وجميع الناس. 22 كل ما في أنفه
نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. 23 فمحا الله كل قائم
كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء. فانمحت من الأرض.
وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. 24 وتعاظمت المياه
على الأرض مئة وخمسين يوماً.
1 ثم ذكر الله نوحاً، وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في
الفلك. وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. 2 وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من
السماء. 3 ورجعت المياه عن الأرض
رجوعاً متوالياً. وبعد مئة وخمسين يوماً نقصت المياه، 4 واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشـر من
الشهر، على جبال أراراط. 5 وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر. وفي
العاشر في أول الشهر، ظهرت رؤوس الجبال.
6 وحدث من بعد أربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة الفلك التي
كان قد عملها 7 وأرسل الغراب، فخرج متردداً حتى نشفت المياه عن الأرض. 8 ثم أرسل الحمامة
من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض، 9 فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها، فرجعت إليه إلى الفلك، لأن
مياهاً كانت على وجه كل الأرض. فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. 10 فلبث أيضاً سبعة أيام
أخر، وعاد فأرسل الحمامة من الفلك، 11 فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضـراء
في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض. 12 فلبث أيضاً سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة، فلم تعد ترجع إليه
أيضاً.
13 وكان في السنة الواحدة والست مئة، في الشهر الأول في أول
الشهر، أن المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر، فإذا وجه الأرض
قد نشف. 14 وفي الشهر الثاني،
في اليوم السابع والعشرين من الشهر، جفت الأرض.
15 وكلم الله نوحاً قائلا: 16 «اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. 17 وكل الحيوانات
التي معك من كل ذي جسد: الطيور، والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الأرض،
اخرجها معك. ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض». 18 فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه. 19 وكل الحيوانات، كل
الدبابات، وكل الطيور، كل ما يدب على الأرض، كأنواعها خرجت من الفلك".
20 وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن
كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، 21 فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: «لا أعود ألعن
الأرض أيضاً من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضاً
أميت كل حي كما فعلت. 22 مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء،
ونهار وليل، لا تزال".
1 وبارك الله نوحاً وبنيه وقال لهم: «اثمروا واكثروا
واملأوا الأرض. 2 ولتكن خشيتكم
ورهبتكم على كل حيوانات الأرض، وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك
البحر. قد دفعت إلى أيديكم. 3 كل دابة حية تكون لكم طعاماً. كالعشب الأخضـر دفعت إليكم
الجميع. 4 غير أن لحماً
بحياته، دمه، لا تأكلوه. 5 وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط. من يد كل حيوان أطلبه. ومن
يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه. 6 سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، لأن الله على صورته
عمل الإنسان. 7 فأثمروا أنتم وأكثروا
وتوالدوا في الأرض، وتكاثروا فيها".
8 وكلم الله نوحاً وبنيه معه قائلاً: 9 «وها أنا مقيم ميثاقي معكم، ومع نسلكم من بعدكم، 10 ومع كل ذوات الأنفس
الحية التي معكم: الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم، من جميع الخارجين من
الفلك حتى كل حيوان الأرض. 11 أقيم ميثاقي معكم، فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بمياه
الطوفان. ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض». 12 وقال الله: «هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني
وبينكم، وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر: 13 وضعت قوسي في
السحاب، فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض. 14 فيكون متى أنشـر سحاباً على الأرض، وتظهر القوس في
السحاب، 15 أني أذكر ميثاقي
الذي بيني وبينكم، وبين كل نفس حية في كل جسد، فلا تكون أيضاً المياه طوفاناً
لتهلك كل ذي جسد. 16 فمتى كانت القوس في السحاب، أبصـرها لأذكر ميثاقاً أبدياً
بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض». 17 وقال الله لنوح: «هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني
وبين كل ذي جسد على الأرض". 18وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث. وحام هو
أبو كنعان. 19 هؤلاء الثلاثة هم
بنو نوح. ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض. 20وابتدأ نوح يكون فلاحاً، وغرس كرماً. 21 وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. 22 فأبصـر حام أبو
كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً. 23 فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى
الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصـرا عورة أبيهما. 24 فلما استيقظ نوح
من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، 25 فقال: «ملعون
كنعان! عبد العبيد يكون لإخوته". 26 وقال: «مبارك الرب
إله سام. وليكن كنعان عبداً لهم. 27 ليفتح الله ليافث
فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم. 28وعاش نوح بعد الطوفان ثلاث مئة
وخمسين سنة. 29 فكانت كل أيام نوح تسع مئة وخمسين سنة، ومات.
حينئذ - طبقاً
للتوراة - تيقن نوح أنه، ومن معه، يستطيعون النزول إلى الأرض. وبعد خروج نوح من
السفينة، أو (التابوت)، كما تسميه التوراة، يقوم بجمع الأحجار، ويبني مذبحاً، يحرق
فوقه بضع حيوانات، فتتصاعد رائحة القربان المشوية، لينتشقها الإله، الذي سيبارك
نوحا ونسله، حيث سيعمرون الأرض.
أما عن سبب الطوفان في التوراة، فهو أن الله رأى
الناس قد ظلمت وفسدت وامتلأت الأرض فساداً وظلماً، طبقاً للتوراة. وهكذا، فإن
الزمن الذي بقي فيه نوح، ومن معه، داخل السفينة، طبقاً للتوراة، نستنتج بعد حسابه
أنه كان أشهراً، وربما سنة، وهذا غير معقول لأسباب كثيرة.
قصة نوح
في سفر التكوين:
وأما قصة
نوح في سفر التكوين، وهو السفر الأول من الأسفار التي يسمونها التوراة، فهي قصة
تاريخية وردت في سياق أنساب ذرية آدم، وتسلسلها في السنين المعدودة، إلى أن تتصل
ببني إسرائيل المقصودين بالذات لمؤلفه دون غيرهم من البشـر، وهذا التاريخ نقضه من
أساسه علم الجيولوجيا، وما كشف من آثار الإنسان المتحجرة وغيرها.
وفي الفصل
الأول من سفر التكوين بيان خلق السماوات والأرض في ستة أيام، في سادسها خلق آدم،
وفي الفصل الثاني تفصيل لما خلق الله في الأرض، ومنه أنه غرس جنة في عدن شرفاً،
ووضع فيها آدم، وفي آخره ذكر خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم اليسـرى. وفي الفصل
الثالث خبر معصية آدم بأكله من شجرة الحياة طاعة لامرأته، التي أغوتها الحية،
وحملتها على الأكل منها. وفي الفصل الرابع، تناسل آدم وحواء. وفي الخامس: مواليد
آدم إلى نوح، وهو البطن التاسع من ذريته، وكان بين خلق آدم وولادة نوح 1056 سنة،
منها 930 سنة مدة حياة آدم عليه السلام. وأما قصة نوح عليه السلام، فاستغرقت فيه
أربعة فصول، من 6 - 9 ، في آخر التاسع منها أن نوحاً عاش 950 سنة. وفي أول السادس
بيان سبب الطوفان، وهو بمعنى ما في القرآن، إلا أنه بأسلوب تلك الكتب التي تشبه
الله تعالى بالإنسان في الصورة والمعنى، أو ما تكرر فيه من أنه خلق آدم على صورته
(١ : ٢٦) وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر، وعلى
طير السماء و... ۲۷ فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه؛ ذكراً وأنثى).
وهذا ما يعنينا في هذا السفر من قصة نوح (5: 6 ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض.
وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم 6 فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض،
وتأسف في قلبه، فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم
ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت عليهم أني عملتهم 8 وأما نوح، فوجد نعمة في عيني
الرب 9 هذه مواليد نوح : كان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله. وسار نوح مع الله
10 وولد نوح ثلاثة بنين: ساماً وحاماً ويافث 11 وفسدت الأرض أمام الله، وامتلأت
ظلها ١٢ ورأى الله الأرض، فإذا هي قد فسدت، إذ كان كل بشـر قد أفسد طريقه على الأرض
13 فقال الله لنوح: نهاية كل بشـر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلماً منهم، فها
أنا أمهلتهم مع الأرض 14 اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر... إلخ). وهنا وصف طول
الفلاك وعرضه وارتفاعه، وبابه في جانبه، وطبقاته الثلاث، ومن يدخل فيه معه، وهم
امرأته، وبنوه الثلاثة، وأزواجهم الثلاث، ومن كل حي من كل ذي جسد زوجين اثنين، وكل
من يبقى في الأرض وتحت السماء يهلك. وقد كرر ذكر من يدخل الفلك، وذكر تاريخ دخول
الفلك من عمر نوح، ومدة المطر، وهو أربعون يوماً، ومقدار ارتفاع الفلك فوق الجبال..
وكل ذلك في الفصلين السادس والسابع.. وذكر في الفصل الثامن رجوع المياه عن الأرض
بالتدريج، واستقرار الفلك على جبال أراراط، وما كان من خروج نوح ومن معه من
السفينة. وفي الفصل التاسع مباركة الله لنوح، وبنيه، وإكثارهم لملء الأرض،
وتأمينهم من عودة الطوفان، بإعطائهم ميثاقه، وهو قوس السحاب، بل جعلها أماناً لكل
الأحياء.. وقال في أبناء نوح (19 ، 9) هؤلاء الثلاثة بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض).
وفيه أن الرب لعن كنعان بن يافث، وجعله وذريته عبيداً لذرية سام وحام، لأنه نظر إلى
عورة جده نوح، إذ تعرى وهو سكران.
هذه خلاصة قصة نوح في (سفر التكوين)، وليس فيها أنه
كان رسولاً، ولا أنه دعا قومه إلى الله، ولا أنه آمن معه أحد، ولا أنه كان له ولد
كافر غرق مع قومه، ولا امرأة كافرة، ولا ندري أكان كفرها قبل الطوفان فغرقت، أم
بعده. ولكنه يوافق القرآن في أن سبب الطوفان هو غضب الله على البشـر لفسادهم
وظلمهم، ولكن بأسلوبه الذي يشبّه الله سبحانه بالإنسان في صفاته الباطنة كصورته
الظاهرة([30]).
التعريف
بنوح في التوراة:
وتم
التعريف بنبي الله نوح على أنه اسم سامي، معناه: راحة، وهو ابن لـ(أمك ابن متوشالح
بن اخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان ابن انوش بن شيث بن آدم). سماه أبوه نوحاً
قائلاً: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها
الرب"[31].
وكان نوح رجلاً باراً وکاملاً. وسار مع الرب مثل اخنوخ، وأعلن إيمانه المطلق بالله،
وکرز به [32].
إلا أن البشـر كانوا قد فسدوا وخرجوا عن الطريق القويم، واقترفوا الآثام، وعملوا
الشـر، حتى حزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وقرر أن يمحوه من العالم، ولكن
الله استثنی نوحاً، لأنه كان يجد نسمة في عيني الرب. فأخبره الله عن نيته بمحو
البشـر، وأمره أن يصنع لنفسه فلكاً من خشب ليحتمي به وينجو بنفسه ومعه عائلته وبعض
الحيوانات. فصنع نوح الفلك. (تكوين ،6). ودخله ومعه امرأته وبنوه الثلاثة ونسائهم
وزوج من كل نوع من البهائم النجسة، ومن الطيور، وسبعة أزواج من البهائم والطيور
الطاهرة. وبعد سبعة أيام نزل طوفان على الأرض، واستمر المطر ينزل لمدة أربعين يوماً
وليلة، وغرق به كل من كان على الأرض من شر، ومن حيوانات (تكوين، ۷) وكف المطر بعد
الأربعين يوماً وليلة، وابتدأت المياه تنحسـر. وأطلق نوح غراباً، ثم حمامة، عدة
مرات، حتى لم تعد الحمامة، وأدرك أن الماء قد انحسـر، ولكن نوحاً لم يخرج من الفلك
مع عائلته والحيوانات التي كانت معه، إلا بعد أن دعاه الله إلى ذلك. وبنى نوح
مذبحاً للرب، وقدم فوقه بعض الحيوانات الطاهرة.. ولما تنسم الله رائحة الرضا، قرر
ألا يلعن الأرض بعد، ولا يميت كل حي (تك، ۸). وجعل الله قوس القزح علامة لوعده.
وبارك الرب نوحاً وبنيه، وقال لهم: "أثمروا، وأكثروا، واملأوا الأرض".
ويعني هذا أن نوحاً هو الأب الثاني عشـر بعد آدم. وأوصى الرب نوحاً ألا يأكل
الحيوانات التي بدمها، أو الميتة بمرض، وبأن يقاصَّ القاتل بالقتل[33].
وقد استقر فلك نوح بعد طوفان الماء فوق جبال أراراط (= آرارات)([34]).
واشتغل
نوح في الزراعة. وزرع مع ما زرع من نبات كرمة، فأثمرت عنباً، وصنع منه مسكراً،
وشربه، وسكر، فسخر ابنه الصغير حام منه، وكشف عورته. ولكن أخوي حام وضعا الرداء
على أبيهما. فلما استفاق نوح وعرف ما فعله حام، آمن کنعان (ابن حام)، وقال إنه
سيكون عبداً لإخوته، وبارك سام ويافث. ثم مات نوح عن عمر بلغ تسع مئة وخمسين سنة
(تك: ۲۹). ومع الأيام أصبح الساميون العائلة المتزعمة على باقي بني نوح. وشبه
المسيح حالة الناس عند مجيئه الثاني المنتظر، حالة الشـر أیام نوح عند مجيء
الطوفان([35]).
وكثيراً ما أشار الأنبياء والرسل إلى نوح، وإلى الطوفان([36]).
والجدير بالذكر أن هناك أساطير عن الطوفان شبيهة بطوفان نوح موجودة في تراث بعض
الأمم، وأقدمها أسطورة الطوفان عند البابليين، وهناك أساطير مشابهة لها عند
اليونان والرومان. والقصة البابلية عن الطوفان جزء من ملحمة جلجامش. وأما الرجل
الذي أنقذ نفسه وعائلته والبهائم في فلك، كما جاء في القصة البابلية، فكان اسمه: (اوتنافشتيم)([37]).
وأوجه الشبه في القصتين: العبرية والبابلية، تثبت صحة قصة الطوفان في الكتاب
المقدس([38]).
المبحث الثالث
قصة النبي نوح، وموقع ضريحه في المصادر المسيحية
قليلة هي المراجع المسيحية التي تشير إلى مكان
استقرار سفينة نبي الله نوح - عليه السلام -، أو إلى موضع ضريحه، ولكن مع ذلك يذكر
أحد الباحثين الكنسيين المختصين بالأديرة المسيحية في شمال العراق (كوردستان
العراق) (جان موريس فييه)، الدومنيكي الفرنسـي (المتوفى سنة1995م)، بخصوص (دير آبون)
(ديربون، في المصادر العراقية والكوردية)، بقوله: "نعثر على دير بهذا الاسم
في نصوص المؤلفين العرب. فياقوت، من القرن السابع الهجري/ الثالث عشـر الميلادي،
يحدثنا عن دير أبونا"، أو بالأحرى أبيون، الذي يجعل موقعه في (قردو) بين
جزيرة ابن عمر وقرية ثمانين، قرب باسورين. ثم يضيف: هو دير جليل عند المسيحيين،
فيه الكثير من الرهبان. يزعمون أن فيه قبر نوح المنقور في الصخور، تضلله قبة فخمة،
تشهد لنفسها بالقدم. أقوال (ياقوت) الحموي تأخذنا إلى فضاءات أخرى مغايرة لفضاءات (أوكين)
وجماعة الرهبان. هنا نحن الآن في خضم نصوص لروايات باللغتين العربية والسـريانية،
تتعلق بقبر نوح الموجود في جبل جودي. إلى هذا الموقع ينسب الدير المعروف بدير الفلك، الواقع
في (باكيويلا)، والمبني على قمة الجبل نفسه (= الجودي)، هذا المكان يشير إلى
الموقع الذي فيه وقف فلك نوح. إحدى ألواح الفلك كانت محفوظة في هذا الدير، وينسب
اكتشافه إلى (مار أفرام)، أو مار يعقوب النصيبيني، الظاهر أنه حتى أيامنا هذه لا
زال الزوار للموقع يعثرون على مسامير، وبعض القير، حول المكان(؟)([39]).
ويذكر
الجغرافيون العرب (= المسلمون) (دير الفلك) تحت اسم (دير الجودي). ووصفته السياسية
البريطانية (غير ترود بیل) (المتوفية سنة 1926م)، في كتابها (من آموراث إلى
آموراث). وقد تم تدمير هذا الدير بفعل صاعقة أصابته في عام 765 – 766م، وكان ذلك في اليوم نفسه الذي كان يحتفل فيه بعيد
الفلك.
ويجادل
الدومنيكي الفرنسـي (فييه) بالقول: "يبادل المؤرخون العرب الدير بقرية
ثمانين، وهي بليدة عند ياقوت الحموي([40]).
وثمانين إشارة لعدد النفوس الناجية من الطوفان، والذين ماتوا جميعًا بالطاعون، ما
عدا نوح، بينما تتحدث المصادر السـريانية عن ثمانية فقط (= هيسثانا بالسـريانية-
هشتيان الكوردية). وهنا يظهر التباين في أقوال المؤرخين المسلمين، سواء كان ذلك
بالنسبة إلى الموقع، أو إلى عدد نفوس الأشخاص([41]).
وأغلب
أسماء المواقع في سهل الجودي معان لها صلة مع نوح وفلكه الشهير. فـ(قبيسين) هي
(بيثسبينتا)، أي مكان وقوف الفلك، و(جمعا): مكان اجتماع نوح وعائلته. و(دادار):
المحل الذي تدفقت منه مياه الطوفان، أو حسب ادعاءات أخرى: المكان الذي فيه خرج نوح
من الفلك. و(شیرناخ) "تعني: نوح الرئيس"، و(دورناخ) تعني: مكان بيت نوح،
وخاصة کرمه. في هذا الموقع كانت تجتمع الجماهير كل عام في اليوم الرابع عشـر من
شهر أيلول/ سبتمبر (= 27 من شهر أيار/ مايو)، للاحتفال بعيد هذا الموقع الكبير،
الجماهير على مختلف دياناتها، وتعدد مذاهبها، كانت تأتي إلى هذا المزار للاحتفال
بالعيد. إنه أمر ليس
بالغريب إذا ما علمنا أن المنطقة تضم أيضاً قبر نوح. المصادر التقليدية تخبرنا أن
القبر موجود في (تخيتشيفان)، الواقعة في أرمينيا، التابعة لـ (كاراك)، من أعمال
البعلبيك. وأخرى تخبرنا أن القبر موجود في مدينة (الخليل)، المعروفة أيضاً (حبرون)
(= فلسطين)، إلى جانب قبر آدم وسام وإبرامیم([42]).
ويستطرد (فييه)
بالقول: ”بعد زيارة الحاج لموقع دير أبون، يكون قد كمل زيارة كل
المواقع المفروضة، ذات العلاقة بنوح، والموجودة في منطقة جبل الجودي، والتي يرغب
الحجاج تأديتها، طالما القبر موجود في المنطقة، ومن السهل زيارته. لكن، هل يا ترى
في استطاعتنا أن نقول: " أن نوح الذي له قبر هنا، هو الشخص المشار إليه بـ(اون)،
أي (أبونا)، والمساوي لصاحب الدير ذي الاسم نفسه، والمتمتع بالإعفاء منذ القرن
السادس الميلادي؟ لم يكن من عادة الكلدان (تسمية الكلدان هنا لم تكن تطلق على
المسيحيين في بلاد ما بين النهرين حينذاك – المترجم) إطلاق تسمية (أبونا) على هكذا تسمية أطلقوها
فقط على آدم، وأيضاً على إبراهيم. إذن، هذا الواقع الفعلي يجعلنا في مواجهة
استعمال تسمية خاصة، وفي منطقة محدودة، له مبرراته المعتمدة على حقيقة أن نوح هو
الأب التالي للجنس البشـري، أليس هذا هو الواقع بعينه؟ ألا يمكن أن يكون احتمال أن
هناك راهب هو الربان موضوع دراستنا هذه، وصف بـ(آوون – أبونا)، استخدم شهرة نوح، الذي هو النبي الوحيد المدفون
في أحد أديرة الكلدان في هذه الربوع، وهذا هو سبب استحقاق الموقع الأخير الذي
التجأ إليه، التمتع بامتياز الإعفاء؟!.
ما نعلمه
هو أن التقليد في كنيسة المشـرق، كان يلغي دوماً سلطة مطران الأبرشية على الأديرة
الموجودة ضمن حدود أبرشيته الجغرافية، والتي سبق أن دفن فيها جاثليق أو بطريرك.
مرجع السلطة على هكذا أديرة كان البطريرك المقيم في الغرب (المقصود مدينة أنطاكية)،
أو الجاثليق المقيم في الشـرق (قطیسفون – طيسفون – المدائن – جنوب شرق
بغداد). إذن، قد نستطيع الآن أن نقول: إن إقحام نوح في الموضوع كان سبب منح
الإعفاء للدير الذي فيه قبره. بقي (دير آبون، أو دیر آو ون)، أي دير أبونا نوح،
مستمراً يعيش حياة رخية مع توالي الأجيال والقرون. كان عدد الرهبان العاملين تحت
ظل رئاسته خلال القرنين الثالث عشـر والرابع عشـر، عدداً كبيراً وذا شأن.
لكن هناك
نقطة تبعث على الأسف، تلك هي ملاحظتنا وجود تفاصيل جغرافية أوردها المؤلفون العرب
(= المسلمون) تخص موضوع تحديد موقع الدير([43])،
بعض نقاط تلك التفاصيل قد تتوافق عند اقتضاء الحاجة مع مواقع قرية ديرابون الحديثة
وديرها، بينما تفاصيل أخرى لا تتفق قطعاً مع ذلك. سبق أن رأينا، المؤرخ والرحالة ياقوت يجعل
موقع (دير أبون) في منطقة (قردو)، بين جزيرة ابن عمر وقرية ثمانين قرب باسورين([44]).
بعض من هذه المعطيات قابلة التوافق، عند قبولها، ستكون في مواجهة مانع هو نهر
الخابور الفاصل بين الاثنين.. من الممكن القول إن قرية دير أبون الحديثة تقع قرب
باسورين. التي لم تكن تبعد عنها سوى 10 كم، وفي الاتجاه الشمالي الغربي. على نفس
الوتيرة يمكننا قبول الرأي القائل باحتمال وقوع قرية ديرابون الحديثة ضمن منطقة
قردو، التي حددها الجغرافيون العرب من أبناء القرن الثالث عشـر، فقالوا عنها “أنها كانت (باسورين)، مركزاً لمحافظة قردو"[45].
من هذا القول، قد نستنتج أن هذه المحافظة (= الأصح الولاية) ضمت قسماً كبيراً من
إقليم نوهدرا المسيحي، الواقع في الجهة الجنوبية من نهر الخابور.. واقعياً، نشاهد
على الضفة الأخرى من نهر دجلة قرية زمار، الواقعة في مكان أدنى كثيراً في اتجاه
الجنوب، والتي كانت - حسب قول ياقوت - هي أيضاً جزءاً من محافظة قردو([46]).
لكن،
النقاط التي لا تتفق مع وضعية موقع الدير القديم، وموقع القرية الحديثة، أكثر عدداً
وأكبر أهمية، حيث لا يمكننا بالتأكيد القول إن موقع القرية الحالي يقع بين جزيرة ابن
عمر وقرية الثمانين، لأن هذا القول سيعني - ضرورةً - وقوعها في السهل الجنوبي
الواقع جنوب جبل الجودي، وشمالي نهر الخابور، بينما نجدها واقعياً في الجهة
الجنوبية منه.. كذلك سيكون من الصعب التوفيق بين معلومة البلداني فضل الله العمري
(المتوفى سنة 749هـ/1348م)، المتعلقة بديره، في القرن الرابع عشـر([47]).
المعلومة تفيد أنه كان في هذا الدير خزان ماء، مصدر مياهه، هو جبل الجودي. ثم يضيف
الادعاء أن تلك المياه كانت تجلب بأنابيب نحاسية صفراء اللون، هذا في الوقت الذي
نجد فيه أن (دير ابون) الحالية تقع على بعد قد يجاوز العشـرين كيلو متراً، عن أقرب
خاصرة من جبل الجودي، التي يجري نهر الخابور عند أقدامها.. هذا من جهة، أما من
الجهة الثانية، فلدير أبون الحالية عين ماء خاصة بها تقع قربها.. إضافة إلى ما جاء
أعلاه نقول: "تقليد قرية دير أبون المحلي، المتصل بدير (آباني ديري) لم يحتفظ
بأي ذكرى لنوح، ولا لقبره.. علماً أن المعلومات تفيد أن القبر موجود عند أقدام جبل
الجودي، قرب قرية حساني، "الواقعة في الجهة الغربية من أكيولا، وأن موقع
الدير لم يعد يسمى (ديرآبون)!([48]).
بعدها
يحاول السيد (فييه) الدومنيكي التنصل من محاولة ربط قبر نبي الله نوح بقرية (ديرآبون)،
الواقعة في الجانب العراقي من الحدود غربي مدينة زاخو قرب قرية فيشخابور المطلة
على نهر دجلة، بعد أن لم تسعفه المصادر، لا سيما ياقوت الحموي، في التعريف بدير
أبون، فيقرر الآتي: "لا زال لدينا الكثير من الأسرار الغامضة التي يجب علينا
أن نجد لها تفسيراً منطقياً ومقنعاً. هذا ما سبق لنا أن بيناه، لما قلنا: إن الدير
الموجود إلى جانب قرية دیرآبون الحالية ليس هو: دیرآبون كما قد يظن، وذلك لأن هذا
الدير يقع فعلياً على الضفة الأخرى من نهر الخابور، وفي ناحية أبعد شمالاً عن
أقدام جبل الجودي. الديران لا معلومات لدينا حولهما. (الواقع قرب قرية دير أبون
الحالية هو بكل تأكيد دير مار ساوا). الذي علينا أن نقول عنه الآن سيكون السؤال:
لماذا نسمي القرية الحالية دير أبون. حملت هذه القرية اسمها منذ أن سكنها
اليزيديون([49])،
الذين خلفوا المسيحيين، عندما كان موقع بناء بيوتها في جهات أبعد شرقاً من موقع
البيوت الحالية. بالتأكيد، لم يكن اليزيديون هم من اخترع هذا الاسم للقرية، إنما
قد ورثوه من سكانها المسيحيين القدماء، الذين سبق لهم أن قدموا من قرية ديرآبون
الأصلية حاملين اسمها معهم ليطلقونه على القرية الحديثة. ما يؤسف له، أن النسيان آفة تلازم الناس في
كل مكان وزمان، غالباً ما يكون هذا النسيان، البؤس الذي عاشه المسيحيون بعد طردهم
من موطنهم الأصلي"([50]).
أما
المستشرقان الاسكتلنديان (دبليو. أي. ويغرام) و(إدغار. تي. أي ويغرام)، فيشيران إلى
موضوع نبي الله نوح، ومكان استقرار سفينته، من وجهة نظر أخرى.. وهي "أن الشعب
الأرمني هو الوحيد الذي يعتبر قمة (أرارات) (تعرف محلياً باسم أكري داغ) هي الموضع
الذي أرسى عليه (فلك نوح)، وقد وردت في التوراة بتعبير (جبال أرارات)، أو
(أورارتو)، واللفظة تطلق على كل سلسلة جبال حكاري، وفيها هضبة ذات أهمية ثانوية
تعرف باسم جبل جودي (جودي داغ)، والهضبة تعد بقعة الرسو الحقيقية عند كل الأقوام
التي تسكن تلك البقاع"([51]).
المبحث الرابع
تحليل قصة النبي نوح، ومقارنتها في المصادر الإسلامية
والمسيحية واليهودية
مما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى يقرر في
كتابه الكريم، تقريراً واضحاً جازماً، أن
آدم - عليه السلام -، وهو أول البشـر، عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة
التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة لله وحده، باتباع ما
يتلقى منه وحده. كما أنه عرّف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ
البشـرية لا تعرف إلا الإسلام ديناً، وإلا التوحيد عقيدة. وأنه لما طال الأمد على
الأجيال المتتابعة من ذرية آدم، انحرفت عن التوحيد.. ربما إلى التثنية، وربما إلى
التعدد.. ودانت لشتى الأرباب الزائفة.. حتى جاءها نوح - عليه السلام - بالتوحيد من
جديد.. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعاً، ولم ينج إلا المسلمون
الموحدون الذين يعرفون (نزاهة التوحيد)، وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب
والعبادات الجاهلية. ولنا أن نجزم أن أجيالاً من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك
بالإسلام القائم على التوحيد المطلق، قبل أن يطول عليهم الأمد، ويعودوا إلى
الانحراف عن التوحيد من جديد. وأنه هكذا كان شأن كل رسول. {وما أرسلنا من قبلك من
رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.
والذي لا شك فيه أن هذا شيء، والذي يقرره علماء
الأديان المقارنة، ويتابعهم فيه مؤلف كتاب (الله)، شيء آخر. وبينهما تقابل تام في
منهج النظر والنتائج التي ينتهي إليها. وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى
نظريات يعارض بعضها بعضاً، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين:
وما من شك أنه حين
يقرر الله – سبحانه –، آمراً نبيه في
كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمراً آخر مغايراً له تمام المغايرة،
فإن قول الله يكون أولى بالاتباع، وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام، ويكتبون ما
يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه، وعن أصل الدين جملة.. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض
قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء وحياً من عند الله، ولم يبتدعه البشـر من عند
أنفسهم، وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور، ولم يجيء بغير التوحيد في أي فترة من
فترات التاريخ، ولا في أية رسالة. كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات
علماء الأديان المقارنة، وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه
لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله، أنه وحي من الله، وليس من وحي الفكر البشـري
المترقي المتطور، وليس وقفاً على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة
التجريبية.
وبعد.. أكان
الطوفان عاماً في الأرض؟ أم أنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت
هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم، وفي العالم الحديث؟ أسئلة لا جواب عليها
إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، إلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل
صحيح.. وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل.
ولكن هذا لا يمنع
من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشـرية في
ذلك الزمان، وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين، وأن
الطوفان قد عم هذه الرقعة، وقضـى على جميع الخلائق التي تقطنها - فيما عدا ركب
السفينة الناجين.
وهذا حسبنا في
إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك
العهد السحيق، الذي لا يعرف (التاريخ) عنه شيئاً، وإلا فيومها أين كان (التاريخ)؟!
إن التاريخ مولود حدث، لم يسجل من أحداث البشـرية إلا القليل! وكل ما سجله قابل
للخطأ والصواب، والصدق والكذب، والتجريح والتعديل! وما ينبغي قط أن يستفتى ذات يوم
في شأن جاءنا به الخبر الصادق، ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع،
وانتكاسة للعقل.
ولقد حفلت
أساطير شتى الشعوب، وذكرياتها الغامضة، بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم
مجهول، بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير.. وأساطير بني إسرائيل
المدونة فيما يسمونه (العهد القديم)، تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح، ولكن هذا كله شيء
لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان، ولا ينبغي أن يخلط الخبر
الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة، وهذه الأساطير المجهولة المصدر
والأسانيد، وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عند شعوب شتى، دلالته في أن الطوفان
قد كان في أرض هذه الأقوام؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين، حين
تفرقوا في الأرض بعد ذلك، وعمروا الأرض من جديد.
وينبغي أن
نذكر أن ما یسمی عند الله بـ(الكتاب المقدس) - سواء في ذلك (العهد القديم)،
المحتوي على كتب اليهود، أو (العهد الجديد) المحتوي على أناجيل النصارى - ليس هو
الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرفت نسخها الأصلية
على يد البابليين عند اليهود، ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة – قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون –، وقد كتبها عزرا – وقد يكون هو عزير([52])
–، وجمع فيها بقايا من التوراة، أما سائرها فهو مجرد
تأليف. وكذلك الأناجيل، فهي جميعاً لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح،
وتلامذتهم، بعد نحو قرن من وفاة المسيح - عليه السلام -، ثم خلطت حكايات كثيرة
وأساطير.. ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها، يقين في أمر من الأمور.
وفي
السياق نفسه، فإن سفر التكوين، وهو أحد الأسفار الخمسة التي تشكل التوراة الحالية،
ويسمونها أسفار موسى الخمسة، وقد ذكرنا في (سورة الأعراف) أن هذه الأسفار الخمسة
لا يمكن أن تكون هي التوراة، وقد نقل مالك بن نبي في كتاب (الظاهرة القرآنية)، عن
النقاد الغربيين، أنه لم يثبت سفر من أسفار العهد القديم للنقد إلا (سفر أرميا)..
ومن قرأ الإصحاحات: الخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والتاسع، من (سفر التكوين)،
وهي التي تحدثت عن قصة نوح، عرف من خلال قراءته ومطالعته المجردة سخف كثير من
الكلام الموجود فيها، مما يدل على أنه موضوع مكذوب، لا يليق أن يذكر في كتاب ينسب
إلى الله.. من ذلك مثلاً في الكلام عن الله: (فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض،
وتأسف في قلبه).. وأبرز ما يدلنا على الكذب في هذه الأسفار، أن هذه الإصحاحات تذكر
رقم (٩٥٠) سنة، وتجعلها عمر نوح كله، فتجعل بقاء نوح في قومه قبل الطوفان (600)
سنة، وتجعل (350) سنة بعد الطوفان؛ مع أن النص القرآني - الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه - يذكر: {فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فأخذهم
الطوفان وهم ظالمون}([53]).
والغريب
أن بعض البلدانيين المسلمين يشير إلى هذا العدد، فيذكر ياقوت الحموي: "...
وجاء الطوفان في سنة الستمائة من عمر نوح - عليه السلام - في الشهر الثاني، في
اليوم السابع عشـر منه، وأقام المطر أربعين يوماً وأربعين ليلة، وأقام الماء على الأرض
مائة وخمسين يوماً، واستقرت السفينة على الجودي في الشهر السابع في اليوم السابع
عشـر منه. ولما كان في سنة إحدى وستمائة من عمر نوح، في اليوم الأول من الشهر
الأول، خف الماء من الأرض..."([54]).
فإذا وضح
هذا الذي ذكرناه في معرفتنا لقيمة الروايات المذكورة في كتب العهد القديم، فلننقل
من هذه الإصحاحات بعض المعاني، مادام علماؤنا قد نقلوا عمن نقل عنها، فالنقل منها
مباشرة أولى: ففي الإصحاح السادس من سفر التكوين من العهد القديم: (فقال الله لنوح:
نهاية كل بشـر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلماً منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض.
اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار.
وهكذا تصنعه ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعاً عرضه، وثلاثين ذراعاً
ارتفاعه. وتصنع كوى للفلك، وتكمله إلى حد ذراع من فوق، وتضع باب الفلك في جانبه،
مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله، فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض، لأهلك كل
جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. ولكن أقيم عهدي معك. فتدخل
الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل
إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكراً وأنثى؛ من الطيور كأجناسها، ومن البهائم
كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها، وأنت
فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل، واجمعه عندك، فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كل
ما أمره به الله. هكذا فعل).
وفي
الإصحاح السابع: (وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت
الفلك. فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه. وتكاثرت جداً على الأرض، فتغطت جميع
الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمسة عشـر ذراعاً في الارتفاع. تعاظمت المياه.
فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض، من الطيور والبهائم والوحوش، وكل
الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من
كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض، من الناس والبهائم
والدبابات وطيور السماء.. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت على الأرض
مئة وخمسين يوماً).
وفي
الإصحاح الثامن: (وأجاز الله ريحاً على الأرض، فهدأت المياه، وانسدت ينابيع الغمر
وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً. وبعد مئة
وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشـر من
الشهر على جبال أراراط (= آرارات). وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر
العاشر. وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال متوالياً. وحدث بعد أربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة
الفلك التي كان قد عملها. وأرسل الغراب. فخرج متردداً الأرض. ثم أرسل الحمامة ليرى
هل قلت المياه عن وجه الأرض، فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها. فرجعت إليه إلى الفلك.
فلبث أيضاً سبعة أيام أخر، وعاد فأرسل الفلك، فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا
ورقة زيتون خضـراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض... فلبث أيضاً سبع
أيام أخر، وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضاً).
وفي
الإصحاح التاسع: (وبارك الله نوحاً وبنيه، وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض).
والشـيء
الهام الذي لا بد من عرضه هو التناقض الموجود في الرواية التوراتية للطوفان؛ ففي (سفر
التكوين 7: 23): (خذ معك من كل نوع من الحيوانات الطاهرة سبعة ذكور وسبع إناث،
وزوجين ذكراً وأنثى من كل نوع من الحيوانات النجسة). أما (التكوين 6 / 19): (تأخذ
معك في الفلك زوجين ذكراً وأنثى من كل كائن حي ذي جسد، واثنين من كل صنف من أصناف
الطيور والبهائم والزواحف على الأرض).
أما عن
ارتفاع الماء، ففي رواية: استمر الماء أربعين يوماً، كما سلف ذكره: (ودام الطوفان
أربعين يوماً على الأرض... وأغرقن جميع الجبال العالية التي تحت السماء كلها) (سفر
التكوين: 19)، بينما في رواية أخرى استمر 150 يوماً: (ولم يبق سوی نوح ومن معه على
الفلك، وظلت المياه طافية على الأرض مدة مائة وخمسين يوماً). ومن هنا نجد تناقضات
واضحة، فإذا كانت التوراة مقدسة لأنها كلام موسى وحياً من الله تعالى، فهل لا
يستطيع الله في التوراة إعطاء معلومات محددة عن أزواج الحيوانات، أو عن مدة دوام
الطوفان على الأرض؟ حاشا وكلا، فالله تعالى عليم بكل شيء، وعنده مقادير كل شيء
مهما صغر أو كبر، ولكن هي تحريفات أدخلها كتّاب التوراة، لأنهم كتبوا التوراة بعد
نزولها بقرون طويلة.
كذلك نجد
أن سبب العقاب بالطوفان، طبقاً للتوراة، أن الله ندم لأنه صنع الإنسان: (ورأى الرب
أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن
الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الذي
خلقته: الإنسان مع البهائم والدبابات وطيور الأرض، لأني حزنت أني عملتهم). وجاء
كذلك: (رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، فحزن أنه عمل الإنسان في الأرض،
وتأسف في قلبه، وعزم على أن يمحو الإنسان والبهائم والدواب والطيور عن وجه الأرض).
وهذا
الكلام الذي تذكره التوراة يتنافى مع حكمة رب العزة وعلمه المطلق بما سيئول إليه
حال الإنسان: فكيف لرب العزة أن يندم على فعل فعله، وهذا يتنافى مع علمه وحكمته تعالى،
فلا يعقل أن الله تعالى، وحاشاه، أنه لم يكن يعلم ما سيصنعه الإنسان، كما أن
استئصال قوم نوح كان استئصالاً مستحقاً، بسبب كفرهم وعنادهم وإصرارهم على هذا
الكفر، رغم ما بذله نوح معهم طيلة قرون؛ يعظهم ويرشدهم وهم يستكبرون، ويضعون
أصابعهم في آذانهم، كما سلف القول. وحيث إن البشـرية كانت في بدايتها أثناء عهد
نوح، فكان يجب ترسيخ مفهوم التوحيد، واستئصال الكفرة المستكبرين، كي يكونوا عبرة.
ومن ذلك،
فإن أي قارئ للتوراة يلاحظ أن التوراة تتحدث بأسلوب بشـري، بل بأسلوب إنسان ساذج
وليس حصيف، ولیست بأسلوب إله خالق قاهر قادر حكيم عليم له مشيئة مطلقة، بل هي
تتحدث بأسلوب اليهود، وندمهم على كل شيء، وتحسـرهم في سنوات الضياع والتيه.
وبالتالي، فهذه التوراة التي بين أيدينا ليست هي كما أنزلها الله على موسى، وإنما
هي بعد تحريفها تحريفاً كبيراً، وذلك بسبب كتابتها بعد مئات من السنين من نزولها.
ولأن التوراة الحالية صياغة بشـرية، فإنها تذكر أن الله - حاشاه تعالی - فقد
الاتصال مع سفينة نوح، فأرسل ريحاً على الأرض لتجفف المياه، وتسد مزاريب السماء،
كي يتراجع الطوفان.
(ثم افتقد
الله نوحاً وما معه في الفلك؛ من وحوش وبهائم، فأرسل ريحاً على الأرض، فتقلصت
المياه، وانسدت ينابيع اللجج، ومزاريب السماء، واحتبس المطر، وتراجعت المياه عن الأرض
تدريجياً) (سفرالتكوين 3. 8 / 1).
ولكي لا
ينسـى الله فيعذب الأرض مرة ثانية، فقد ذكرت التوراة أن الله وضع علامة تذكّره
عندما يراها كي لا يهلك الأرض ثانية بالطوفان، لذلك فهو يرسم قوس قزح على صفحة
السماء، كي لا تتحول الأمطار إلى فيضان مدمر مرة أخرى: (وقال الرب: وهذه علامة
الميثاق الأبدي الذي أقيمه بيني وبينكم وبين المخلوقات الحية التي معكم، أضع قوسي
في السحاب، فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون عندما أخيم بالسحاب فوق الأرض
وتظهر القوس أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل المخلوقات الحية من ذوات
الجسد، فلا تتحول المياه إلى طوفان يبيد كل حياة، وتكون القوس في السحاب، فأبصـرها
وأذكر الميثاق الأبدي المبرم بيني وبين جميع المخلوقات الحية على الأرض)، (
سفرالتكوين 8 / 12. 16. 66).
هل هذا
تدبير خالق عظيم عليم حكيم، يضع كالبشـر رسماً مرئياً يذكّره كي لا ينسـى؟! كل هذا
يوضح أن التوراة كتبت بأسلوب بشـري، مبتدئ في ممارسة شؤون الدنيا ومعرفة قوانين
الطبيعة. بينما - كما رأينا - نجد القرآن الكريم يقدم لنا قصة الطوفان بكل جلال
وجمال وبلاغة، وبأسلوب إلهي يأخذ العقول والإحساس: فليس الإهلاك بالطوفان في
القرآن إهلاكاً عشوائياً، ولكن هو إهلاك بحق، وفي موضعه، كما سلف القول.
الخاتمة
والاستنتاجات:
مما تقدم نستدل
على أن سفينة نوح رست على جبل الجودي، وفق ما يلي:
1- قوله تعالى:
{يا نوحٌ اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك}(سورة هود: 48)، فإذا علمنا
أن جبل الجودي يتبع بلاد الشام تضاريسياً، قبل أن يتم ضمه للجمهورية التركية كحدود
سياسية بموجب (اتفاقية لوزان)، وأن الله تعالى قد جعل بلاد الشام بلاداً مباركة في
القرآن الكريم: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصـى
الذي باركنا حوله}(الإسراء: 1). وبناء عليه يكون الجودي مرشحاً قوياً لرسو سفينة
نوح([55]).
2- أن القرآن
الكريم يقول عن سفينة نوح أنها رست على الجودي: {واستوت على الجودي}(هود: 44)
ونفهم من هذا أن هذا الجبل له قمة مستطيلة، وانحدار لطيف، يجعل السفينة الضخمة
مستوية على سطحه وموازية، وليس جبلاً بقمّة ضيقة، وانحدار شديد، يجعل السفينة تميل
ولا تستوي. وبالفعل، فإن جبل الجودي له قمة مستطيلة، ومن هنا فهو مرشح جغرافياً،
وبشكل قوي.
3- وجد
بالقرب من جبل الجودي عدد من مراسي السفينة، وهي مراسٍ كبيره جداً، تناسب سفينة
ضخمة تحمل حمولة كبيرة. مثلما جاء في القرآن الكريم، الذي وصفها بـ {الفلك المشحون}.
4 - كما
أن العلماء قالوا بأنهم قاموا بتحليل ما رأوه أنه مادة من هيكل السفينة على الجودي
بالكربون المشع، وقالوا إن النتائج أعطتهم زمن السفينة متقارباً من الزمن الذي عاش
فيه نوح - عليه السلام -.
5- إشارات
العديد من الباحثين الغربيين تشير إلى أن جبل الجودي هو مرسى سفينة نوح، فالجودي
هو أول جبل يرتفع فوق مستوى السهل العظيم (= سهل شنعار).. فإذا كانت كل أرض ما بين
النهرين قد غمرت بالمياه (وهي كل العالم المعمور في نظر السكان)، وإذا كان الطوفان
العظيم قد شملها، فإن هذا الجبل (= الجودي) هو النقطة الأولى التي قد تجنح إليها
أية سفينة جرفها التيار([56]).
6- إنكار
بعض الباحثين المسيحيين فرضية رسو سفينة نوح على جبل آرارات، بحجة أنها منطقة
مكسوة بالثلوج، ومن المحال بقاء خشب السفينة على حاله بعد آلاف السنين([57]).
وذكرت
التوراة (سفر التكوين 8 / 4) أن سفينة نوح رست على (أراراط): (واستقر الفلك في
الشهر السابع، في اليوم السابع عشـر من الشهر، على جبل أراراط)، وقد قال بعض
الباحثين أن (أراراط) هي كلمة عبرية توراتية تعني (أرمينية) نفسها (أراراط في
المعجم العبري: هملون هخداش لتناخ)، وبالتالي - حسب هذا الرأي - فإن (سفر التكوين)
لم يسم جبلاً بعينه لمرسى سفينة نوح، وإنما قال إنها رست على (جبال أرمينية)، ولكن
الناس تناسوا هذا، أو نسوه، فتوهموا أن هناك جبلاً بعينه اسمه (آراراط) قد رست
عليه السفينة، وأن رحالة عثروا في قمته على حطام رجحوا أنه حطام سفينة نوح. ولكن
التسمية ثبتت منذ ذلك، وأصبحنا نجدها في المعاجم الأوروبية، عَلَماً على جبل بعينه
في أرمينية شرقي تركيا، قرب حدود أرمينية المشتركة مع إيران، ويبلغ ارتفاع إحدى
قمتيه حوالي 5128 متراً. ومن هنا قال بعض المستشـرقين، بدون علم دقيق، أن القرآن
قال (الجودي)، وقالت التوراة (أراراط).. ولكن التوراة لم تقل (أراراط) - كما ذكرنا
-، وإنما قالت: (جبل من جبال أراراط)، أي جبل من جبال أرمينية، ولم تذكر له اسماً،
أمّا القرآن فذكره بالاسم.. وعلى ذلك، ومن وجهة نظر هذا الرأي، لا خلاف بين
التوراة والقرآن في تسمية مرسى نوح، لا لأنهما تطابقا، وإنما لأن التوراة عممت،
وخصص القرآن الجودي([58]).
وقد حدث
ولع وشغف لبعض أصحاب الديانات السماوية في البحث عن سفينة نوح، حيث تجد أن بعض
البروتستانت المسيحيين، منذ أواخر القرن التاسع عشـر، الذين كانوا أكثر شغفاً في
إثبات حرفية القصة المذكورة في التوراة، فزعم بعضهم العثور عليها في تركيا على جبل
آرارات، وهو أعلى قمة جبلية بتركيا. وفي القرن الواحد والعشـرين استمر الشغف
القديم بموقع سفينة نوح، وخاصة بعد انتشار صور تم التقاطها عبر الأقمار الصناعية
لنتوء في قمة جبل آرارات، حيث بدأ الولع القديم يأخذ اتجاهاً جديداً، بعد أن أعلن
رجل أعمال ثري، اسمه (دانيال مك كيفرن Dimiel
McGrvern)، عن منحه
مبلغ مالي قدره 900000 دولار لأي فريق علمي يقوم بالبحث عن السفينة.. ولكن مجلة (ناشيونال
جغرافيك) استبعدت أن تكون الصورة الجديدة صورة حقيقية. وفي
الثمانينيات قام رائد الفضاء السابق (جيمس ایرونJames
Irwin )([59])
بحملة جديدة، لكنه لم يعثر على شيء. وفي 17 يونيو/ حزيران عام 2004 أعلنت إحدى
البعثات أنهم اكتشفوا السفينة، وقدمت المجموعة صوراً ومخططات عن بعثتهم، إلا أن
نتائج هذه البعثة لا تزال مرفوضة من قبل المجتمع العلمي. وهناك من يحاول أن يثبت
بالأدلة التاريخية وجود سفينة نوح - عليه السلام - في مدينة (مكة) المكرمة، على
جبل الجودي (جودا). وقالوا بأن الجودي في (مكة)، وليس في شمال الموصل قرب الحدود
التركية - العراقية. وهذا الرأي ينفي نفياً قاطعاً أن السفينة رست على جبل أراراط،
لأنه جبل السخط واللعنة باللغة الآرامية، وباللغة الأرمينية جبل النار، ويرون أن
هذا يتعارض مع طلب نوح - عليه السلام - من رب العزة: {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً
وأنت خير المنزلين}(المؤمنون: 29).
وهكذا،
فإننا مازلنا نحتاج لاكتشافات أثرية أخرى، تنير لنا أكثر طريق البحث عن الطوفان،
وسفينة نوح.
[1] - الهمداني، صفة جزيرة العرب، (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة
والنشر، 2008م)، ص75.
[2] - ياقوت الحموي، معجم البلدان، (بيروت، دار صادر، 1986م)، ج2، ص179
-180.73.
[3]- كي لسترنج، بُلدان الخلافة الشـرقية، ترجمة: بشير فرنسيس
وكوركيس عواد، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1405هـ - 1985م)، ص123.
[4]- الثمانين: لا تزال هذه القرية باقية وتقع إلى الشـرق من مدينة
شرنخ عاصمة الولاية، تعرف حالياً باسم هشتيان.
[5]- ابن خرداذبه، أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله، المسالك
والممالك، (بيروت: مطبعة بريل – دار صادر، 1889م)، ص76 – 77؛ في اعتقاد الباحث أن
الفقرة الأخيرة من باب الأساطير والخرافات التي كثيراً ما حشيت بها كتب المؤرخين
والبلدانيين.
[6] - كتاب صورة الأرض، (ليدن
– بيروت: مطبعة بريل – دار صادر، 1928م)، ص229.
[7] - المقدسي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، أحسن
التقاسيم في معرفة الأقاليم، علق عليه ووضع حواشيه: محمد أمين الضناوي، (بيروت:
دار الكتب العلمية،2003م – 1424هـ)، ص126.
[8]- المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص127.
[9] - المقدسي، المصدر السابق، ص134.
[10] - لسترنج، بُلدان الخلافة الشرقية، ص123 – 124 نقلاً عن ابن
المستوفي في كتابه.
[11] - ياقوت الحموي، معجم البلدان، المصدر السابق، ج2، ص84.
[12]- آثار البلاد وأخبار العباد، (بيروت: دار صادر، د، ت)، ص369. 2018م)، ص54.
[13]- خزعل الماجدي، أنبياء سومريون، (الدار البيضاء: المركز الثقافي
للكتاب، 2018م)، ص432.
[14]- حسين محمد ربيع، سيميائية الصورة في الخطاب
الصحفي للتنظيمات المتطرفة:
دراسة
تحليلية سمبولوجية لعينة من الرسائل البصـرية لمجلة دابق وفقًا لمقاربة رولان بارت، مجلة البحوث الإعلامية- جامعة الأزهر،
العدد الثامن والأربعون، محرم 1439هـ - أكتوبر 2017م، ص313.
[15] - سورة هود، الآيات 25 – 44.
[16] - محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار،
(بيروت: دار المعرفة، ط2، د، ت)، مج12، ص101.
[17] - محمد رشيد رضا، تفسير المنار، المرجع السابق، مج12، ص106.
[18] - يقصد السيد رشيد رضا عندما أحرق الملك البابلي الكلداني نبوخذ نصـر
مدينة أورشليم (القدس) ونفى سكانها إلى بابل عام586- 587ق.م، في وسط العراق، فيما
عرف بالسبي البابلي.
[19] - المرجع نفسه، مج12، ص104. وللسيد رشيد رضا كتاب مطبوع تحت الاسم
المنوه عنه آنفاً.
[20]- المرجع نفسه، مج12، ص105.
[21] - المرجع نفسه، مج12، ص105 – 106.
[22] - المرجع نفسه، مج12، ص104 – 105؛ ولمزيد من المعلومات ينظر: وحيد
السعفي، العجيب والغريب في كتب تفسير القرآن، (دمشق: صفحات للدراسات والنشر،
2009م)، ص208 – 211.
[23] - عند الفرس الإيرانيين يعد كيومرت أو كيومرث بمثابة آدم عليه
السلام.
[24] - القاسمي، محاسن التأويل، (القاهرة: دار الحديث، 1424هـ - 2003م)،
مج6، ص107.
[25] - القاسمي، محاسن التأويل، مج6، ص107.
[26] - محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، (القاهرة:
الهيئة المصرية العامة للكتاب،2012م)، ج1، ص666
[27]- القاسمي، تفسير محاسن التأويل، مج6، ص108.
[28]- سعيد حوى، الأساس في التفسير، (القاهرة: دار السلام للطباعة
والنشـر والتوزيع والترجمة، ط6، 2003م – 1424هـ)، مج5، ص2560 – 2561.
[29]- سعيد حوى، الأساس في التفسير، المرجع السابق، مج5، ص2561.
[30] - المرجع نفسه، مج12، ص103.
[31]- سفر التكوين5، الإصحاح29.
[32]- رسالة بطرس الثانية، الإصحاح5؛ رسالة العبرانيون، الإصحاح 11، العدد 7.
[33] - سفر التكوين ۱، الإصحاح 1 -7.
[34]- في الحقيقة أن تسمية جبل آرارات تنسب إلى الدولة الآورارتية التي حكمت شرقي تركيا الحالية
قبل منتصف الألف الأول، وكانوا معاصرين للإمبراطورية الآشورية الحديثة.، وكانت
عاصمتهم مدينة توشيبا، التي بنيت مدينة (وان – فان) على أنقاضها.
[35]- انجيل متى، الإصحاح24، العدد 38.
[36]- سفر اشعيا، الإصحاح54، العدد 9؛ سفر حزقيال، الإصحاح 14، العدد
14؛ رسالة بطرس الأول، الإصحاح 3، العدد 20؛ ب رسالة بطرس الثانية، الإصحاح2،
العدد 5.
[37] - يعتقد كثير من مؤرخي التاريخ القديم بأن أوتونابشتم، الذي ورد
ذكره في ملحمة كلكامش، في تاريخ العراق القديم، هو نفسه نبي الله نوح (عليه
السلام).
[38]- بطرس عبد الملك وزملائه،
قاموس الكتاب المقدس،
(القاهرة: دار الثقافة، ط
7، 1991م)، ص 982 – 983.
[39] - جان فييه الدومنيكي، آشور المسيحية إسهام في دراسة التاريخ
والجغرافية الكنسية والرهبانية في شمال العراق، ترجمة: نافع توسا، مراجعة وتدقيق:
يوسف توما، ((بغداد – العراق: (د، م، 2013م)، ج2، ص782.
[40]- معجم البلدان، ج2، ص84.
[41] - جان فييه الدومنيكي، آشور المسيحية إسهام في دراسة التاريخ والجغرافية
الكنسية والرهبانية في شمال العراق، ج2، ص782، هامش (1391).
[42] - الهروي، الإشارات إلى معرفة الزيارات، تحقيق: علي عمر، (القاهرة:
مكتبة الثقافة الدينية،1423هـ - 2002م)، ص35.
[43]- هناك دير قريب من موقع الحدث يقع شرقه يسمى ( دير الزعفران)، وفق
التقليد الشعبي، وهو غير الدير المشهور الواقع بالقرب من مدينة ماردين في تركيا،
والتابع للكنيسة السـريانية الارثوذكسية غير الخلقدونية، ويقع في سفح جبل بيخير،
غرب مضيق كلي زاخو، المطل على دشت السليفاني، لا يشير إليه ( فييه) لا من قريب ولا
من بعيد، يبدو بسبب الخلاف المذهبي، لأن (موريس) يتبع الطقس الكاثوليكي. ومؤسس هذا الدير هو
الراهب (افنيمارن)، من (كرخ سلوخ)، ولد في نهاية القرن السادس الميلادي. عاش راهباً
في (دير عابي)، تم غادر هذا الدير، واختار
سفح جبل بيخير، وبنى فيه ديراً واسعاً جميلاً، فاجتمع حوله عدد كبير من الرهبان
التابعين لكنيسة المشرق. وسطع بريق نجم الدير، بحيث نزل فيه الخليفة العباسي
المعتضد بالله (279-289هــ/892-901م ) عام
282هـ/895 م، حينما كان يمرّ بهذه المنطقة. وبعد وفاة (افنيمارن)
جاء بعده رؤساء بارزون، أغنوا الدير بالإنتاج الروحي والديني. ويذكر ياقوت الحموي
بأن الدير كان عامراً وثرياً برهبانه وأراضيه.
[44]- معجم البلدان، ج2، ص496؛
و(باسورين): قرية تقع ضمن أعمال الموصل، تقع شرقي دجلة، ج2، ص322؛ وهي الآن تقع
ضمن الأراضي التركية، وهي في الوقت عينه (برز مهران القديمة). ينظر: جان فييه
الدومنيكي، آشور المسيحية إسهام في دراسة التاريخ والجغرافية الكنسية والرهبانية
في شمال العراق، ج2، ص783، هامش (1397).
[45] - يقصد فييه الدومنيكي، البلداني العربي ياقوت الحموي، حيث يعرف (دير
أبونَّ) بقوله:" ويقال ابيون، وهو الصحيح: بقَردَى بين جزيرة ابن عمر ( =
جزيرة بوتان) وقرية ثمانين( = هشتيان – شرق مدينة شرنخ)، قرب باسُورين، وهو دير
جليل، عندهم فيه رهبان كثيرة، ويزعمون أن به قبر نوح، عليه السلام، تحت أزج عظيم
لاطىءٍ بالأرض يشهد لنفسه بالقِدَم، وفي جوفه قبر عظيم في صخر، زعموا أنه لنوح،
عليه السلام...". معجم البلدان، ج2، ص496.
[46] - جان فييه الدومنيكي، آشور المسيحية إسهام في دراسة التاريخ
والجغرافية الكنسية والرهبانية في شمال العراق، ج2، ص782 – 783؛ يبدو أن قرية –
ناحية زمار هي بعيدة نوعاً ما عن موضوع الحدث، لأنها قريبة من أسكي الموصل – مدينة
بلد التاريخية الواقعة شمال الموصل.
[47]- صاحب كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.
[48]- جان فييه الدومنيكي، آشور المسيحية، ج2، ص784.
[49]- لم يحدد الباحث الدومنيكي ( جان موريس فييه) من هم هؤلاء
اليزيديون الذين حلوا محل المسيحيين في السكنى في قرية ديرأبون – ديربون، ومن أين جاؤوا.
ويعتقد الباحث أن هؤلاء اليزيدية ربما كانوا من عشيرة الهويريين الضاربة، التي
كانت ديارها تقع في الجانب الآخر من الحدود العراقية التركية، وأنهم نزحوا من
منطقة سلوبي، الواقعة حذاء جبل الجودي، أي أسفل الجبل من الجهة الجنوبية، ولا
زالوا مستقرين حتى الوقت الحاضر.
[50]- جان فييه الدومنيكي، المرجع السابق، ج2، ص781 – 782.
[51] - دبليو ويغرام وإدغار ويغرام، مهد البشـرية الحياة في شرق
كردستان، ترجمة: جرجيس فتح الله، (أربيل – بغداد: دار آراس – منشورات الجمل،
2012م)، ص347.
[52]- هناك في التقليد الشعبي يعتقد أن قبر العزير موجود في منطقة
العمارة جنوب شرق العراق.
[53] - المرجع نفسه، مج5، ص2561 – 2562.
[54]- ياقوت الحموي، معجم البلدان، المصدر السابق، ج2، ص179.
[55] - محمود رفاعي النخيلي، بحث كامل عن سفينة وطوفان نوح، موقع سيفجردز
للتاريخ والآثار،
https://www.civgrds.com/archaeology/15/story-of-flood-of-noah
[56] - ويغرام، مهد البشرية، ص347.
[57]- بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم،
(بيروت: المكتبة البولسية، ط2، 2009م)، ص657.
[58] - محمود رفاعي النخيلي، بحث كامل عن سفينة وطوفان نوح، موقع سيفجردز للتاريخ
والآثار، المرجع
السابق.
[59]- محمود رفاعي النخيلي،
بحث كامل عن سفينة وطوفان نوح، موقع سيفجردز
للتاريخ والآثار،
المرجع
السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق