د. أكرم فتاح سليم - جامعة دهوك
نتحدث في الجزء الثاني عن عقائد الأفلاطونية الحديثة، ومنها ما جعل الخلق والوجود المادي منبثقاً وصادراً عن الأول، وهو الله تعالى. إذ قال (فيلون اليهودي) "بفكرة الوسيط بين المبدع الأول، وهو الله، وبين الخلق"(1). واعتقاده هذا شركي فاسد، يجعل مع الله سبحانه شركاء في الخلق. ويقصد بفكرة الوسيط أن خارج الله توجد المادة، وهي لا شكل لها في حالة لا تكون، وجوهرها شر. ولا يمكن لله الكائن الكامل – تعالى الله عن ذلك - أن يوجد ويخلق في صلة مباشر مع الفساد، وعدم الإحساس، وهي المادة، لذلك فهو لم يخلق العالم بشكل
مباشر. ومن هنا جاءت فكرة المبدأ المتوسط بين الله والمادة – العقل الإلهي -، الذي تتضمن فيه كل الأشياء المحدودة، والذي خلق العالم المحسوس بأن جعل هذه الأفكار تتخلل المادة، وتنفذ فيها. أثرت الأفلاطونية في تفكير كثير من فلاسفة
المسلمين، أمثال (ابن سينا، والفارابي)، الذين أخذوا عنها نظرية الفيض الإلهي،
التي تدعي أن العالم يجيء صدوراً عن الله في صورة فيض، فمرتبة تفيض عن مرتبة،
وهكذا حتى تصل إلى أدنى المراتب. وأثرّت في أولئك المتصوفة المتأثرين بالفلسفة، ثم
فشا تأثيرها في طرق التصوف، وخاصة فيما يتعلق بعملية التطهير أو التزكية للوصول
إلى المعرفة الكاملة أو الإيمان الكامل، وهي سعي الإنسان جاهداً للوصول إلى المصدر
الذي صدر عنه، والفناء فيه، وما يحتاج إليه ذلك من مجاهدة شديدة الصلابة لإماتة
نوازع الجسد المفطور عليها. وأن طريق الوصول إلى المبدأ، والحصول على التمتع
الأبدي، هو تطهير النفس السفلية، عن طريق التجرد من الشهوات الجسمانية، والميول
الحسية، وممارسة الفضائل الأربع؛ وهي: (العفة، العدل، الشجاعة، الحكمة).
هذه بعض آراء الفلسفة الأفلاطونية، التي وفق
المسلمون بينها وبين الشرع الإسلامي. وإذا دققنا في آراء هذا المذهب، وجدنا أن
الصوفي الزاهد الذي غض الطرف عن الدنيا وما فيها، بحكم أنها فانية، وتعلق خاطره
بما هو خالد، يشعر بلذة الرضا في فلسفة أفلوطين. بل يحصل على منتهى غايته في تلك
الآراء. وموضوع وحدة الوجود في هذه الفلسفة جذب أنظار الصوفية أكثر من أي شيء آخر؛
لأن الذين يؤمنون بهذه العقيدة يرون أن العالم كله مرآة لقدرة الحق تعالى، وكل
موجود بمثابة مرآة تتجلى ذات الله فيها، إلا أن المرايا كلها ظاهرة، والوجود
المطلق، والموجود الحقيقي، هو الله. وينبغي على الإنسان أن يسعى حتى يمزق الحجب،
ويجعل نفسه محلاً لتجلي جمال الحق الكامل، ويبلغ السعادة الأبدية(2).
ذهب المستشرقون إلى أن الأفلاطونية من أهم
مصادر التصوف، وخاصة التصوف المتأخر عن القرون الأولى، وبحث المستشرق الأنجليزي
(نيكلسون) هذا الأمر في مقالاته، فأرجع نشأته إلى عوامل خارجة عن الإسلام، عملت
عملها ابتداء من القرن الثالث الهجري، وأهم هذه العوامل وأبرزها - في نظره - هو
الأفلاطونية المتأخرة، التي كانت شائعة في مصر والشام إلى عهد (ذي النون المصري)
و(معروف الكرخي). فأتى بكثير من الأسانيد التاريخية عن حياة ذي النون ونشأته،
يستدل بها على أنه كان على علم بالحكمة اليونانية الشائعة في عصره. ويتتبع حركة
الثقافة اليونانية المتأخرة، وطرق وصولها إلى المسلمين، وينتهي إلى أن التصوف في
ناحيته النظرية مأخوذ من الأفلاطونية، موافقاً في ذلك رأي (ميركس)، الذي شـرح هذه
النظرية في كتابه (التاريخ العام للتصوف ومعالمه) (هيدلبرغ سنة 1893م)، وهما
البلدان اللذان ظهر التصوف فيهما لأول مرة. وذو النون المصري أحد أولئك الذين
نهلوا من منهل الثقافة اليونانية(3).
الصحيح أن نقول إن التصوف الإسلامي الحقيقي
مبناه على الكتاب والسنة وعلى أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن تعرجت
مؤخراً تعاليم التصوف، وتلونت بعض فروعه بألوان عدة، واتجهت تلك الفروع اتجاهات
مختلفة، بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام؛ من هنود وفرس وإسرائيليين
ومسيحيين، ولا سيما في عصر الترجمة، الذي دعمها المأمون وشجع عليها، وسار على نهجه
الخلفاء العباسيون بعده، فترجم المسلمون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني
والفارسي، وطعمت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص – من
الفلسفة الخالصة – بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو
القديمة، وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف، كنظرية الحلول والاتحاد
والتقمص والتناسخ. ومع ذلك ظل التصوف الإسلامي الصميم، الذي مصدره الكتاب والسنة،
قائماً على حاله، وفي الكتب الإسلامية، كتواليف (الحسن البصري، والقشيري، وأبي
طالب المكي، والسراج، والغزالي). ولا يبعد أن التصوف الإسلامي قد تأثر إلى حد كبير
بالتصوف الهندي والأديان الأخرى المجاورة للعرب، كالمسيحية في الشام، واليهودية في
اليمن، والزرادشتية في العراق وبلاد الفرس، وغيرها، إذ تم الاختلاط بين العرب وبين
معتنقي هذه الديانات في القرن الثاني والثالث الهجري، وترجمت تلك الفلسفة، كما
ترجمت الثقافات الأخرى التي كانت موجودة عند أهل هذه البلاد المفتوحة قبل دخولهم
في الدين الإسلامي(4).
ومن عقائد الأفلاطونية، التي تماثل عقائد المسيحيين،
نظرية الأقانيم الثلاثة، التي هي على الشكل الآتي:
1.
الواحد، أو الموجود الأول، ينعت بعدة أسماء على نحو متنوع: المطلق الخير،
اللامتناهي، الأب، (أول الأقانيم الثلاثة)، وهو الغاية أو الهدف الذي يطمح إليه
الكل، ومن هذا الواحد يكون الفيض الأول: الفكر الإلهي.
2.
الفكر الإلهي هو العقل، يترجم إلى أكثر من معنى، عقل إلهي، فكر، وهو واسطة بيننا
وبين الواحد الذي معرفته فوق قدرتنا على المعرفة، عقل كلي يتضمن جميع العقول
الجزئية، والوحدة الكاملة للعقول الإلهية، المعرفة في لغة أفلاطون، إنها المثل،
والمثل هي العلل القديمة أو الصور العقلية لكل ما هو محسوس.
3.
العقل تصدر النفس الكلية، أو روح الكل، كذلك العقل الإلهي له فعلان: إلى أعلى تأمل
الواحد، وإلى أسفل التكوين أو الإيجاد، لذلك النفس الكلية بواسطة جزئها الإلهي،
وتتأمل العقل الإلهي بواسطة جزئها الهابط، ويتكون الكون أو العالم المدرك المحسوس
على غرار النماذج المعقولة، إنها النفس الكلية تكون كل النفوس، ونفس الإنسان تكون
نفس الكل(5).
نرى أن الغموض الذي دخل في المسيحية في
تفسيرها للتوحيد، حيث تقول: إن الأب والابن والروح القدس أقانيم ثلاثة، كما قال الأفلاطونيون
أن (واحدًا هو الأب)، وتقول المسيحية: إن الابن انبثق من الأب، والروح القدس انبثق
من الأب، أو من الابن، وإذا علم أن الأقنوم يعني ذاتًا مستقلة، بصفات إلهية
مستقلة؛ لظهر أمامنا الغموض الذي دخل في المسيحية من خلال فلسفة الإغريق، وفكر
أفلوطين. فالذي يقارن بين الأقانيم الثلاثة، وبين الواحد والعقل والنفس في
الأفلوطونية - يرى وحدة الفكر والتصور بلا فرق، إلا أن المسيحية ترى أن الأقانيم
متساوية في الجوهر والرتبة، بينما الأفلاطونية لا تساوي بين الواحد والعقل والنفس؛
وترى أنها منبثقة عن بعضها كما ذكرنا، وإنها تمثل ثلاث درجات روحية متفاوتة. ولا
يمكن القول بأن العقل البشري، الذي هو صانع أديان اليونان، كان يتحرك إلى الأمام،
ويتطور إلى العلا؛ لأن الآلهة يومًا كانت في (زيوس)، وأسرته، وكانت تزداد عددًا،
وتقل قدرًا، ولم يحط بها رقي أو سمو إلا في جانب التصوير الأدبي، ولما انتقلت
قيادة الفكر إلى فلاسفة الإغريق لم يحققوا تطورًا؛ لأنهم أخذوا يبحثون في الأصل
الواحد للكائنات، وأخذ كل منهم يهدم ما قال به غيره؛ (فطاليس) قال بالماء، وقال
(إنكسمينث) بالهواء، و(الفيثاغوري) بالعدد، واستمر الأمر على هذا حتى جاء أفلاطون
وأرسطو، فزادوا الأمر تعقيدًا وغموضًا، بل إن أفلوطين قال بالتعدد والكثرة في
الآلهة، وهذا يدل على عجز العقل البشري في مجال الدين، وعدم تمكنه أن يتطور به، وأن
يكون حقاً في الوقت نفسه(6).
عملت مبادئ رئيسة في الأفلاطونية الحديثة للعالم
اللاهوتي المسيحي (أوغسطين)، وذلك في فترة انتقاله من المانوية الثنوية إلى
المسيحية، وكرجل مانوي فقد أصر على فكرة أن الشر كائن جوهري، وأن الإله مخلوق من
المادة - تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً - وكأفلاطوني محدث، وبعد ذلك كمسيحي، فقد
آمن أن الشر هو فقدان الخير، وأن الإله ليس مادة. وظلت مسيحية أوغسطين ممزوجة
بالأفلاطونية الحديثة عند كتابة مقالته (على الدين الصحيح)، وذلك بعد عدة سنوات من
معموديته. ويُعد (أوريجانوس) أيضاً من المسيحيين الذين تأثروا بذلك، إذ تتلمذ على
يد (أموينوس السقاص)، وكاتب القرن الخامس المعروف بـ (بسيدو ديونيسيوس الأريوباغي).
وقد رفض الأفلاطونيون ما تقوم به الطائفة الغنوصية من تشوية للفكر والفهم
الأفلاطوني عن الإله خالق الكون، وتعتبر الأفلاطونية الحديثة فلسفة أرثوذكسية
أفلاطونية، وفقاً لما بيّنه الدكتور (جون تورنر). وبرغم تأثير هذه الفلسفة الوثنية
في المسيحية، فقد أضر (جستينيان الأول) بالأفلاطونية الحديثة عندما أمر بإغلاق
مدرسة أثينا، واستمرت بعد الإغلاق الدراسات الفلسفية في المدرسة الممولة من القطاع
العام في الإسكندرية. وفي بدايات القرن السابع الميلادي جلب (ستيفانوس)، أحد أتباع
الأفلاطونية الحديثة، التقليد الإسكندراني للقسطنطينية، حيث بقي مؤثرًا، وحافظت
المدرسة على مزيج حي من التقاليد الأفلاطونية والأرسطية، مع كونها أطول مدرسة
أفلاطونية بقاءً، بقيت لما يقارب الألفي عام حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وأثرت
أفكارها في القرون الوسطى على المفكرين اليهود، كـ(القبلاني إسحاق بلايند)،
و(سلمان ابن جابيرول). وفي عصر النهضة عُرف الأفلاطونيون على أنهم من أشهر الطلاب
اليونانيين في إيطاليا، ممن يدرسون في فلورنسا وضواحيها، وكان عصر النهضة في
إيطاليا إحياءً للعصور القديمة الكلاسيكية، التي بدأت فور سقوط الإمبراطورية
البيزنطية، التي كانت تعد آنذاك (أمناء المكتبات في العالم)، بسبب مجموعاتهم
الكبيرة من المخطوطات الكلاسيكية، وعددًا من العلماء الإنسانيين الذين نشأوا في
القسطنطينة. وكان (جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا 1463–1494م)
أفلاطونياً حديثاً متفوقاً خلال النهضة الإيطالية، ولم يكن باستطاعته التحدث
والكتابة باللاتينية والإغريقية فحسب، بل حظي بالمعرفة الهائلة باللغتين العبرية
والعربية، وقد حظر بابا الفاتيكان أعماله، حيث كان يُنظر إليها على أنها مُنْشقّة،
على عكس (فيكينو) الذي تمكن من البقاء في الجانب الصحيح من الكنيسة. وقد جهد كل من
(فيكينو) و(جيوفاني) لمعرفة المذاهب الأفلاطونية في تعاليم الكنيسة الكاثولوكية
الرومانية، التي تم تقييمها مؤخراً من خلال محاولة (الإصلاح المحكم).
وفي القرن السابع عشر في إنجلترا، كانت
الأفلاطونية الحديثة أساسية لمدرسة جماعة الأفلاطونيين بـ(كامبريدج)، وكان من
أشخاصها اللامعين: (هنري مور)، و(رالف كدوورث)، و(بنجامين)، و(يشكوت)، و(جون سميث)،
وكانوا جميعهم من خريجي جامعة كامبريدج، ولكن (صامويل كولريدج) زعم بأنهم ليسوا
أفلاطونيين، ولكنهم (أفلوطين إلهيين) كما سماهم (هنري مور). فيما بعد أصبح (توماس
تايلور)، أول من قام بترجمة أعمال أفلوطين إلى اللغة الإنجليزية(7).
نقول في نهاية المقال إن الأفلاطونية الحديثة
مأخوذة أغلب عقائدها من الأفلاطونية القديمة الفاسدة، وأثرت على التصوف الاسلامي
بشكل خاطئ، بعيد عن تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، وكذلك أخذت المسيحية من
الوثنية الأفلاطونية الأقانيم الثلاثة، كما ذكرنا سابقاً. وليس هناك الفكر إلهي،
أو العقل الإلهي؛ لأن الله ليس مثل البشر له عقل وفكر، بل ليس كمثله شيء.
الهوامش:
1)
سعود بن عبد العزيز الخلف، دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، مكتبة أضواء
السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الرابعة، 1425هـ = 2004م، ص363.
2)
الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب
المعاصرة، ج2، ص794.
3)
إحسان إلهي ظهير الباكستاني (ت 1407هـ)، التَّصَوُّفُ، المنشَأ وَالمَصَادر، ص
128.
4)
مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف، موسوعة الفرق
المنتسبة للإسلام، ربيع الأول 1433 هـ، موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net،
ج7، ص51.
5)
الأفلاطونية المحدثة نظرية الفيض الأقانيم الثلاثة، إحسان طالب، الحوار المتمدن، 26-3-2014م،
.http://www.m.ahewar.org.
6)
مناهج جامعة المدينة العالمية، الأديان والمذاهب، جامعة المدينة العالمية، ص411.
7)
ويكيبيديا الموسوعة الحرة، 5-2-2019م، https://ar.wikipedia.org.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق