06‏/07‏/2023

نقاط الالتقاء والاختلاف بين النازية والصهيونية في فكر الإبادة­­­­­­­­­­­­

د. سعد سعيد الديوەجي 

   نقصد بالإبادة في هذا الموضع، الممارسة التي تصاحب قتل أعداد هائلة من المدنيين بشتى الطرق، أو تهجيرهم، ولأسباب مصاحبة للنزاعات الحربية أو العنصرية، واقتلاعهم من أراضيهم، واستبدالهم بأقوام من جنسيات أخرى.

ويقترن مصطلح الإبادة في الغرب عادة بالنازية، وهي فكر الحزب القومي الاشتراكي الألماني، الذي قاده (هتلر) في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي (بين 1933-1945م)، حيث تم إبادة أعداد هائلة من اليهود

خصوصاً، وكل المعادين لنظام الحزب القومي الاشتراكي الألماني، وما صاحب العملية من استعمال أفران الغاز لحرق الضحايا.

والنازية وليدة الحضارة الغربية، شأنها شأن كل الحركات العنصـرية؛ كالفاشية والصهيونية، التي تتبنى الإبادة بصورة وأخرى، وبأشكال مختلفة.

وللنازية فلاسفتها ومنظروها، ولكن أغرب ما في الأمر تأثرها بالحركة الصهيونية، التي ولدت أيضاً في أحضان الحضارة الغربية، ومن أشهر منظريها (تيودور هرتزل) (ت1904م)، صاحب كتاب (دولة اليهود)، الذي يدعو فيه للتخلص من سكان فلسطين لإقامة دولة اليهود (إسرائيل)، ويقول في كتابه هذا: "إذا حصلنا يوماً على مدينة القدس، وبقيتُ حياً وقادراً على القيام بأي عمل، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسوف أحرق جميع الآثار الموجودة، ولو مرت عليها قرون"، وهو تصميم على الإبادة ولا غير.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945م)، وأثناء محاكمة القادة الألمان في (نورمبرج)، أصر النازيون، الواحد تلو الآخر، على أنهم تعلموا كثيراً من أفكار الإبادة من الأدبيات الصهيونية، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري - رحمه الله -، في كتابه (النازية والصهيونية ونهاية التاريخ)، والحقيقة أن كلا الحركتين، والغرب عموماً، يختزن في عقليته كراهية عميقة للعرب والمسلمين، حيث يقول المؤرخ (ايرسكين تشايلدز): "لقد أحس العالم الغربي بالعرب والمسلمين إحساساً قائماً على الكراهية العميقة منذ أكثر من ألف ومائتي عام، وهي مدة أطول من إحساس الغرب بأي ثقافة أخرى في العالم".

وقد وضعت النازية قواعد للإبادة، فلم يكن مسموحاً للجنود الألمان بإساءة معاملة الضحايا (اليهود)، وهم في طريقهم إلى أفران الغاز!، لأن ذلك يعني انفعالاً يتنافى مع (الحياد العلمي)، والتجرد من العواطف والقيم أمر أساسي ومطلوب.

والغريب أن أحد أسباب كراهية النازية لليهود، أنها تعتبرهم ساميين، أي ذوي أصول شـرقية، وهناك أسباب أخرى، كالأسباب الاقتصادية، وهي خارج مدار المقال هذا.

وللإبادة قوانينها وقيمها العلمية، كما ظهر أخيراً في حالات انتزاع الأطفال من بين عوائلهم المسلمة في (ألمانيا) و(السويد)، على أُسس (علمية) مزيفة، وبعيداً عن كل المشاعر الإنسانية. وانتزاع العاطفة من العلاقات الإنسانية أمر مرفوض، يحول الإنسان إلى آلة جامدة، ورقم معين. وهذه العلمية المزيفة لها جذور أخرى، إن كان مع اليهود أو مع المسلمين، وهي - كما بيّنا - تكمن في الكراهية الشديدة التي تختزنها بعض التيارات النازية والصهيونية ضد العرب والمسلمين.

فالنازية التي تضع العرق الآري فوق الجميع، تشترك مع الصهيونية التي تضع اليهود فوق الجميع، على أساس أنهم الشعب المختار الذي يحق له معاملة الجميع بدونية.. فالحبر (إسحق كينسبرغ) له كتاب عن الثواب والجنة الموعودة التي سوف ينعم بها (جولد شتاين)، قاتل المصلين داخل المسجد الأقصـى عام (1969م)، حيث يقول: "إن كل خلية في جسم اليهودي جزء من الله الذي منح الكون والأرض كلها لليهود، وإن إسـرائيل هي جزء من هذه الأرض، وإن العرب الذين يعيشون فيها مجرد لصوص"!.

ويقول الحاخام (شلوم أفينر): "علينا أن نعيش على هذه الأرض (فلسطين) بأي طريقة، ولو كانت الحرب والقتل، وحتى لو كانت هنالك معاهدات سلام، فإن علينا أن نحرص على قيام الحروب لتحرير أرضنا من المغتصبين العرب"!.

من هذه المقارنة السـريعة، فإن مسألة تأثر النازية بالفكر الصهيوني، بصورة أو بأخرى، هي أمر أكيد، وإن النازية تعتقد بأن الشعب الألماني متفوق عرقياً على كل شعوب أوروبا، وشعوب أوروبا على كل شعوب العالم. وقد رفض هتلر فكرة المساواة بين البشـر، كما رفضتها الصهيونية، ولكن هتلر وفكره النازي اعتبر الصهيونية (حيلة يهودية مسيحية)، ونوعاً من التنويم المغناطيسـي تمارسه اليهودية الغازية للعالم، بمساعدة الكنائس المسيحية.

فإذا كان للنازية غرف الغاز الشهيرة، والتفنن في الإعدامات، فإن ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين يومياً، هو القتل والتشـريد، وبأعصاب باردة جداً، والذي سبقه عند تأسيس إسرائيل إبادة مئات الألوف من الفلسطينيين، وتهجيرهم الى بلدان العالم كافة، وإلى حد الآن!

ثم تحولت الإبادة تدريجياً في قتل أهل فلسطين، أو سجنهم لأتفه الأسباب، ناهيك عن هدم منازلهم، وتجريف بساتينهم، ناهيك عن الإبادة اليومية بواسطة الاغتيالات والسجون.

وعلى كل حال، فالتاريخ الاستعماري يتفنن في إبادة الشعوب المُستعمرة، فقد تكون غير الإبادة الجسدية، إبادة من نوع آخر، اجتماعية وثقافية، حيث يكون التوجه نحو تغيير عقائد وعادات الشعوب المقهورة، لتتماشى مع فكر وممارسات الانحلال الغربي.

ولعل أغرب ما لاحظه المرحوم المسيري، أثناء كتابته (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)، تكرار كلمة (مسلم) في مقال عن معسكرات الإبادة بالحرق في أفران الغاز في (أوشفيتس)، وهي مدينة بولندية احتلها الألمان، والتي بلغ عدد الضحايا فيها بين ثلاثة إلى أربعة ملايين. فقد تبين بعد قراءة عدة مراجع، أن الضحايا كانوا يُسمون (ميزلمان Muselman)، أي (مسلم) بالألمانية، وهي إشارة للمساجين الذين كانوا على حافة الموت. وكما يقول المسيري - رحمه الله -، فإن العقل الغربي حينما يدمر ضحاياه، كان يرى فيهم الآخر، الذي هو (المسلم)، منذ الحروب الصليبية.

ومن المعروف أن تاريخ العصور الوسطى كان يربط بين المسلمين واليهود، وهناك لوحات لتعذيب المسيح تصور الرسول ﷺ وهو يقوم بضرب المسيح بالسياط.

والغريب أن سبب تسمية الضحايا، وهم على حافة الموت بالمسلمين، وذلك بسبب طريقة مشيهم وحركتهم، فقد كانوا يجلسون القرفصاء، وقد ثنيت أرجلهم بطريقة (شـرقية)، والكاتب غيّر كلمة (شـرقيين) العامة، ووضع محلها كلمة (مسلمين) المحدودة.

والغريب أن تلتقي النازية والصهيونية على إرث واحد في العداء للمسلمين، حتى أن الرئيس الأمريكي السابق (ترامب) اتهم المسلمين بصلب المسيح، وهو الذي ولد قبل الإسلام بحوالي ستة قرون!.

وفي الحقيقة، إن عمليات الإبادة قد لا تقترن بنظرية أو فكر معين، ولكنها نابعة من مشاعر الكراهية ضد الآخر، والتغني بشعارات الديمقراطية والحرية.

ففي هذا الصدد يقول (نعوم تشومسكي) في كتابه (501 سنة، الغزو مستمر)، بأن الجنرال الأمريكي سباتز (spaatz)، وبعد قصف (هيروشيما) و(ناغازاكي)، في (آب 1945)، وإبادة مئات الألوف من المدنيين، أراد استخدام قنبلة ذرية ثالثة ضد (طوكيو)، للحصول على الختام الكبير، لكنه توصل إلى أن الدمار الكبير لهذه المدينة الممزقة لن يعطي الأثر المرغوب. فقد كان الطيارون الأمريكان يشتمون رائحة أجسام اليابانيين المشوية والمشتعلة هنا وهناك، وبعد (ناغازاكي) تم استخدام ألف طائرة ضد ما تبقى من مدن اليابان الكبرى، ليكون النصـر أكبر ختام ممكن، وتدفقت مع القنابل مناشير تعلن لليابانيين (لقد استسلمت حكومتكم. انتهت الحرب)، وكانت هذه الكراهية نابعة من أُسس استعمارية وإمبريالية.

ويقول كذلك بأن القصف الجوي الذي قاده (نورمان شوارتسكوف)، القائد الأمريكي لقوات التحالف في حرب الخليج عام (1991م)، كان أكبر عملية قصف جوي شامل تقوم به الطائرات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وخلّف مئات الآلاف من القتلى العراقيين، وتدميراً شبه تام للبنى التحتية في العراق، وهو ما تكرر عام (2003م).

والحقيقة أن عمليات الإبادة في هذا الزمن، التي تشمل المسلمين وأهل الشـرق، كانت قد جرت في روسيا القيصـرية، ومن بعدها وريثها: الاتحاد السوفيتي، حيث تم تجريد مساحات شاسعة من آسيا الوسطى من سكانها الأصليين بالقتل والتهجير. واستمرت العملية بشكل بشع في تسعينات القرن الماضي في (البوسنة والهرسك).

إن عمليات الإبادة لم تقتصـر على العقلية الغربية، فهي موجودة في الشـرق أيضاً، بأشكال وألوان مختلفة، وذلك حديث ذو شجون، فكثير من الأنظمة الشـرقية، التي تتمسح بالعلمانية تارةً، أو بشعارات الإسلام تارةً أخرى، وهي في حقيقتها غير ذلك، تطبق وسائل وطرق للإبادة لم تخطر حتى على بال الشياطين، وتلك لنا وقفة أخرى عندها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق