أ. م. د. سامي محمود إبراهيم
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل
الوعي هو
إعمال العقل في جميع شوؤن الحياة، بل هو غائية الوجود. فهذا (ديكارت) يثبت الوجود الإنساني
بمقولة (أنا أفكر إذن أنا موجود). أمّا إنسان العصـر فيقول: (أنا أستهلك، إذن أنا
موجود)، وشتّان بين الوجودين.
فلا يشك عاقل في أن
التحلّي بالوعي بات ضرورة ملحة، فالكوارث التي نحياها، والهزائم التي نكتوي بنارها،
إنما هي بسبب غياب الوعي المناسب للتحديات المفروضة والآمال المعلقة.
فنحن اليوم نعيش
حالة من التأزم، على مختلف المستويات؛ سياسيها واجتماعيها واقتصاديها وفكريها، إلا
أن أقلّ الأزمات عناية بها: أزمتنا على مستوى الفكر والوعي. فبلد كالعراق - بضخامة
موارده، واستراتيجية موقعه - يستغرب المرء من تأزّم حاله، وتردّي أوضاعه، كما أن
أغلب الحلول تتجه إلى معالجة أعراض الداء دون أصله. فسبب وصولنا
لهذه الحالة من
التزعزع والاختلال ليس الصـراع على السلطة، وإنما سببه قلّة الوعي.
ولذا شكا الغزالي من
غياب الوعي عند الأمّة، فقال: الضمير المعتل، والفكر المختل، ليسا من الإسلام في
شيء، إذ الغباء في ديننا معصية.
ولكي يباع الغباء،
ويسوّق الشقاء، يكفي أن نجد لذلك صيغة. هكذا غنّى الغرب سمفونية الحداثة على وجه
القمر.
والشمس التي رافقت
ابن رشد إلى أن تجاوز وادي الشرق الكبير، تركته في مغيب الغرب يغرق في التنوير،
ويتمتع بنعومة الحداثة السائلة.. جعلته يحاور الوجود بلغة الوعي، ولذلك يتعين
علينا استعادة هذه اللغة، ومنحها الكلمة من أجل الشهادة على جرائم التيار الظلامي،
الذي قام بتخريب روح العصر. فقد ظلّ سؤال الوعي مقلوباً، لأن العدمية مزّقت
الكينونة، ولم يعد الوجود سوى مصدر للوهم والفزع.
ففي عالم مشحون بظواهر الظلم التي تمزّق كبد
العاقل، كما يتمزّق قلب المؤمن من دلالات الفسوق، والتفريط في المقدسات على مذابح
الشهوات، يستهلك الضمير، ويصبح العري الفكري والأخلاقي سمة العصـر بامتياز.
تحوّل العالم إلى
لعبة كونية خطيرة، تحكمها القوانين السائلة، ونهايات اللايقين. بيع الضمير العالمي
في العلن، وحين سرق رغيف الجوع، أجمع الساسة على استباحة طينه، وأجزموا بمصيره إلى
سجون العذاب.
وها هي الأرض تفرش
عناءها على منصة الزمن، تتقصى خطى الضمائر، وتحمّل الإنسان فينا أمانة.
فحين رمى عقل
الحداثة الغربية موقفه من الوجود، استيقظ (نيتشة) قائلاً:
أين الإله؟ أنا
سأقول لكم ذلك! لقد قتلناه؛ أنتم وأنا!! لكن كيف فعلنا ذلك؟ ألم نندفع في منحدر لا
قرار له؟ ألسنا نتيه صوب عدم لا نهائي؟
لذلك تبدو العودة
إلى مراجعة الوعي بالذات ضرورة ملحة، لبحث جذور الأزمة التي نعانيها.
فمعظم الرؤى
والتصورات التي يتبناها خطابنا الفكري متطرفة وغير مكتملة، بل ومثيرة للسخرية..
لذلك بقيت إنسانيتنا مهدورة من قبل الطاغية المتسلط.
وهذا كله تحرّكه الخلفية المعرفية للغرب، بكافة أبعادها
السلطوية، وتغذيها النزعة الأمريكية العابرة للقارات.
وهكذا نتيجة الشعور
باليأس يحاول وعينا المؤدلج أن يخضع حياتنا للمصادفة، وينفي لدينا الشعور
بالمسوؤلية والوعي بحقيقة الوجود.
كل هذا أدى إلى
انهيار المستقبل، ذلك البعد الإنساني المهم، وأصبحنا نحكم الظن والاحتمال.. وهذا
ما يفسّر عداواتنا، وحروبنا الطائفية، وقلّة وعينا وحيلتنا، وهواننا على العالم.
هكذا تنتصر العقلية
الأمريكية، وآيديولوجياتها... أما نحن، فبقينا نجترّ نفايات الفكر الغربي، ونعمل
على تسويق بضاعته المستهلكة. ولو تمّ رفع هذه الوسائل والتقنيات، لأنكرنا الزمن
ذاته، ولثبت شرعاً وعقلاً أننا لا نستحق العيش.
فمن دموع ضحايا
القتل والتهجير، تغتسل الحرية، لتصلّي صلاة الغائب على العقل الشرقي..
من دماء الشهداء
والمعذبين، ترسم خارطة العرب والمسلمين.. من حيرة المثقف الناظر في وجه السياسة
البغيض، يكتب مستقبل الأمّة..
كما أن واقعنا
الغائب اللاجيء إلى الغرب، مرجعيتنا فيه: جحافل النازية، وخليفتها الفاشية، نتقمص
على أسواره بشاعة الشوفينية، ووضاعة الليبرالية الصهيو أمريكية..
ونحن في وسط هذا
التيار العنيف، نتنفس الألم من بشاعة الكوارث التي سبّبتها أسطورة اللاوعي
المدمر.. فمن الصعب أن نعقل في حضارة الجنون الوحشي المستعر.
ونحن أمام المسرح
العالمي المخيف، نشاهد على خشبته الأحداث المرعبة من تطرف وعنف وإرهاب.. جماعات
وعصابات منظمة، وممولة، لإثارة الفتن والمشاكل. شركات احتكارية عابرة للقارات.
شعوب مهددة بالإبادة والتهجير.
وهكذا تتبدد أوهامنا
في قصة الحضارة، حتى النظام الأخلاقي والروحي تزيحه فوضى اللاحتمية، فالكون عقلاني
بنسبة ضئيلة جداً.
أمّا التقنية
والتكنولوجيا المعاصرة، والتي أفلتت من كل السلطات، بدأت تستهدف جينات الإنسان
الحقيقي، تستهدف كل ما هو أخضر وجميل..
وليس مستغرباً أن
يكون التكبر والتجبر والظلم، شعار الآخر، لكن المستغرب والأغرب وعينا المعطل
بحقيقة الواقع. نغنّي الحرية وصدورنا تتشظى أنيناً من أعظم أنواع القهر والأسر
والعبودية. تنهشنا وحشية الإيديولوجيات بأفكارها الهدامة المحظورة إنسانياً. والتي
لا يمكن النيل منها، وكشف أسرارها وأبعادها ومخططاتها، إلا عندما نحمل شعار:
فلنتفكر بمداد العقل والإيمان، الوعي والإنسان.
إذاً، نحن بحاجة إلى
الوعي روحياً ومادياً، لنتمكن من آليات النهوض، نستثمر الذات الإنسانية في الوجود،
فنتوسع داخل فلك الحضارة، وبذلك نتخلص من حتمية السقوط والانحدار، إلى حتمية
النهوض في مسار الحياة العالمية.
هذا التحوّل يتزامن
مع رؤية عقلية عالمية، تمتلك بصـراً حاداً، يغوص في الأعماق لينتشل سـرّ كينونتنا
الغامض..
خاصة أن الوعي حالة من الاستنفار العقلي، والذهنية الثائرة،
التي تتجاوز الاعتبارات الظرفية إلى رحاب المسائل الكلية..
إن الوعي الحقيقي هو ذلك المرتكز على الشمولية والعمق التفسيري.
إنه ذلك الذي يبحث عن النواميس والسنن الناظمة لهذا الكون، ويربط بين العلل
ومعلولاتها.
نعم، العقل الواعي القادح لزناد فكره، لا يملك تجاهل دهشته،
ومناهضة حب الفضول، المغري باقتحام المجاهيل، ومقاومة التوق الجِبِلّي نحو سبر
أغوار الأشياء. لكن إن لم يضبط ويقنن، فمصيره إلى التيه والتخبط، فطعم الحقيقة
المطلقة، أسعد وألذّ من طعم الحيرة المعذبة، مهما طرأ على الحيرة من التمجيد.
إنها دعوة للخروج
بالعقل الغربي من أزمة اللاوعي، حين يكون العقل انتقائياً، حين يكون عقلاً
للاحتلال، والبحثِ الدؤوبِ عن عقلنة التوسّع من أجل السيطرة والأسواق، بل حين يتحوّر
العقل إلى ملكة وأداة باعثة على التدمير والتخريب.
ولهذا، فإن علينا أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا، وقراءة
أحوالنا، وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا ومع العالم.
لنقلب
صفحات العالم، ونقرأها من جديد، علّنا ننتج في قاموس الحضارة انبعاثاً ونهضة تحتضن
الحياة، وتجعل من الإنسان وعياً جديداً يحتمل سعة العالم اللاواعي اللامنتمي وثقله
المطرد.. لا بد من تحديد بعدنا الذاتي في أرض الواقع، وننسـى أثرنا المعكوس تحت
الوصاية سنين طويلة.
لنتذكر أن مصادر طاقتنا موجودة في منظومتنا
الفكرية، فنشهد عندئذ وعياً وانسجاماً تامّين مع سائر مفردات الحياة.
لنتذكر أخيراً، أننا أمّة واعية، قادرة على النهوض رغماً
عن جميع ما يعتريها من عارض المحنة الحاضـرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق